وأمّا الأخبار التي تدلّ على اشتراط جواز النظر بإرادة التزويج ، ففيه أوّلاً : إنّ سياقه الشرط فيها ليس مفيداً للتعليق ، كما يظهر بالتأمّل فيها ، مع أنّه لو سلّم ثبوت المفهوم ، فقد عرفت أنّ الجواز هناك غير مشروط بما يشترط هنا من عدم قصد اختيار حسن المرأة خلقة ، ولون وجهها وقبحها وقابليتها للمعاشرة والمباشرة وعدمها ، ولاشكّ أنّ النظر بهذا القصد معلّق على إرادة التزويج ، مع أنّ الجواز هناك أُريد به الإباحة بالمعنى الأعم ، وهو معلّق على إرادة التزويج ، هذا كلّه مع أنّ في الأخبار التي ذكرناها كفاية في الخروج عن ظاهر المفهوم ، بحمل البأس على الكراهة .
3ـ وأمّا فيما دلّ على أنّ النظر سهم من سهام إبليس ، فلإنّه ظاهر فيما كان عن شهوة كما لا يخفى ، وكذا ما دلّ على أنّ ( زنى العين النظر ) ، ويشهد له قوله (عليه السلام) : ( وزنا الفم القبلة ) ، فإنّها لا تكون إلاّ عن شهوة .
4ـ أمّا قوله : ( ربّ نظرة أورثت حسرة ) فلأنّه على وجه الإيجاب الجزئي ، ولا يجدي في ما نحن فيه .
5ـ وأمّا في المكاتبة ، فلعدم وجوب التنقّب أوّلاً ، واحتمال كون الأمر بالتنقّب من جهة اباء المرأة عن التكشّف لكونها متستّرة مستحية عن أن تبرز
____________
1- وسائل الشيعة 20 / 200 .
|
الصفحة 272 |
|
للرجال ، فإنّ ذلك ممّا يشقّ على كثير من النساء ، وإن كان جائزاً ، إذ ربّ جائز يشقّ من جهة الغيرة والمروءة .
6ـ وأمّا جريان السيرة على المنع ، فإنّه لا يخفى أنّ هذا المنع ليس بآكد من منع تكشّفهن لمن يريد تزويجهن ، بل هذا آكد بمراتب شتّى ، ومع ذلك فالثابت أنّه فعل جائز ، وما الإنكار في المقامين إلاّ لأجل الغيرة والاستحياء ، إذا كانت المرأة من أولي الأخطار وذوات الأستار .
7ـ وأمّا فيما ذكره من أنّ النظر مظنّة الشهوة ووقوع الفتنة ، ففيه أنّ المعهود من الشارع حسم الباب في أمثال هذه المظان بالحكم بالكراهة دون التحريم ، كما يعلم بالتتبع في الأحكام الشرعيّة ، مع أنّ هذا استحسان لا نقول به .
8ـ وأمّا خبر الخثعمية ، فهو على جواز النظر أدلّ كما لا يخفى ، الخبر إنّما يصلح أن يكون دليلاً لحرمة النظر مع الريبة مطلقاً ، لأنّها بأيّ معنى كانت من الشيطان .
فالحصيلة من كلّ هذا : إنّ كلّ الأدلّة التي قيلت في عدم جواز النظر إلى الوجه ، وما يستتبعه من ستر الوجه على المرأة لا تنهض في قبال أدلّة القائلين بالجواز، فلذلك إنّ من قال بعدم جواز النظر جعل ذلك على سبيل الاحتياط .
أمّا الأخبار الواردة عن الزهراء (عليها السلام) ، والتي تدلّل على مدى محافظتها (عليها السلام) على الحجاب ، مثل قولها (عليها السلام) : ( ما من شيء خير للمرأة من أن لا ترى رجلاً ولا يراها ) (1) ، وإجابتها على سؤال النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن المرأة : ( متى تكون أدنى من ربّها ) ؟ فأجابت: ( أدنى ما تكون من ربّها أن تلزم قعر بيتها ) (2) .
والأخبار التي تنقل عنها أنّها عندما تكلّمت مع أبي بكر ، وحشر من المسلمين ، نيطت دونها ملاءة ، وإنّها (عليها السلام) كانت مرتدية لرداء على وجهها حال
____________
1- دعائم الإسلام 2 / 215 .
2- بحار الأنوار 43 / 92 .
|
الصفحة 273 |
|
زفافها لعلي (عليه السلام) ، فإنّ هذه الأخبار لا تدلّ على وجوب ستر المرأة لوجهها .
وما قالته أو عملته الزهراء (عليها السلام) ما هو إلاّ الحالة المثالية للمرأة ، وإذا كانت (عليها السلام) بهذا المستوى من الحجاب ، فلأنّها (عليها السلام) القمّة للمرأة المثالية ، التي تعمل المستحبّات ، وتنتهي عن المكروهات ، فلا يمكن أن يكتشف من فعلها وجوب ستر الوجه للمرأة .
وكذلك الحال بالنسبة لزينب (عليها السلام) ، التي استنكرت من يزيد إبداء وجوه النساء ، وإنّ أُمّ كلثوم خطبت بالناس من وراء كلّتها ، فإن تصرف تلكن النساء العظيمات لم يفهم منه الفقهاء وجوب ستر الوجه على المرأة ، بل إنّه عمل راجح للمرأة .
وأمّا أُمّهات المؤمنين ، فقد نزلت في حقّهن آية أن لا يسألوهن إلاّ من وراء حجاب ، وقد قيل : إنّ هذه الآية من مختصّاتهن .
|
الصفحة 274 |
|
( أبو علي الموسويّ . ... . ... )
ابن شهر آشوب وتوثيقه لأبي سعد الدجاجيّ :
السؤال : جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب 3 / 57 ما نصّه : ( أحمد بن حنبل ، عن عبد الرزاق ، عن المعمّر ، عن الزهري ، عن ابن المسيّب ، عن أبي هريرة وابن بطّة في الإبانة ، عن ابن عباس ، كلاهما عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في حلمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى إدريس في تمامه وكماله وجماله ، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل ) ، قال : فتطاول الناس بأعناقهم فإذا هم بعلي كأنّما ينقلب في صبب ، وينحط من جبل ) .
وكما تلاحظون فإنّ الإسناد صحيح ، وغير مطعون فيه أبداً ، لكن المشكلة هي : من أين نقل ابن شهر آشوب هذا الحديث عن أحمد ؟
ذكر في كتابه : أنّه نقل أحاديث أحمد عن طريق هذه السلسلة : عن أبي سعد بن عبد الله الدجاجيّ ، عن الحسن بن علي المذهب ، عن أبي بكر بن مالك القطيفيّ ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه .
وكلّ من في السلسلة معروف ، إلاّ أبي سعد بن عبد الله الدجاجيّ ، فمن هو ؟ وما هي ترجمته ؟ وهل صحّت روايته عن الحسن بن علي المذهب ؟
الجواب : سألت عن أبي سعد بن عبد الله الدجاجيّ ، ومدى توثيقه عند العامّة أو الخاصّة ، فنقول : إنّا لم نجد صراحةً اسم أبي سعد بن عبد الله الدجاجيّ في كتب الرجال ، بل هناك من يسمّى بالدجاجيّ ، هو محمّد بن علي الدجاجيّ ،
|
الصفحة 275 |
|
وثّقه ابن ماكولا في الإكمال بتعليقة قال : ( وكان ثقة في الحديث ) (1) .
وذكره السمعاني في الأنساب ، في باب الدال والجيم ، ولا يبعد أن يكون المشار إليه هو أبو سعد الدجاجيّ ، فإنّ كثيراً من الرواة تتعدّد أسماؤهم وكناهم ، فبعضهم يعرفونهم بالكنية ، وآخرون بالاسم الصريح .
ومهما يكن من شيءٍ ، فإنّ ابن شهر آشوب صرّح في مقدّمة كتابه المناقب : أنّ ما أورده من روايات هذا الكتاب هو ما صحّ عنده ، وهذه شهادة مهمّة على توثيقه لطرق رواياته من الخاصّة والعامّة ، ويكفينا قوله : فصحّ لي الرواية عنهم ، بأن أقول : حدّثني وأخبرني وأنبأني ، وسمعت واعترف لي بأنّه سمعه ، ورواه كما قرأته ، وناولني من طرق الخاصّة .
فقد وثّق من نقل عنه ، أو سمعه ، أو أخبره مباشرة ، وكان من هؤلاء أبو سعد الدجاجيّ ، الذي نقل عنه كتاب أحمد بن حنبل .
فإنّ شهادة ابن شهر آشوب ترقى إلى مستوى الحسّ ، من رجلٍ شهدت له الطائفة بالعلم والزهد والعبادة ، فضلاً عن معرفته بالرجال .
وقال السيّد الخوئيّ في معجمه : ( قال السيّد التفريشي في النقد : محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندرانيّ ، رشيد الدين ، شيخ هذه الطائفة ، وفقيهها ... له كتب ، منها كتاب الرجال ... ، وقال الشيخ الحرّ ... كان عالماً فاضلاً ثـقـة ) (2) .
وأثنى عليه ابن حجر العسقلانيّ ثناءً حسناً ، وقال عنه بعد مدحه : ( اشتغل بالحديث ، ولقى الرجال ، ثمّ تفقّه ، وبلغ النهاية في فقه أهل البيت ) (3) .
ممّا يشعر بأنّ الرجل كان مقبولاً حتّى عند العامّة ، فضلاً عن الخاصّة .
____________
1- الإكمال 4 / 208 .
2- معجم رجال الحديث 17 / 354 .
3- لسان الميزان 5 / 310 .
|
الصفحة 276 |
|
وأثنى عليه كذلك من العامّة الصفدي فقال : ( ووعظ على المنبر أيّام المقتفي ببغداد ، فأعجبه وخلع عليه ) (1) ، وأثنى عليه كثيراً .
وذكره كذلك الفيروز آباديّ في البلغة ، وقال عنه السيوطيّ : ( ونبغ في الأُصول حتّى صار رحلة ـ أي يقصده العلماء من كلّ مكان ـ ) (2) .
ولا ننسى أنّ ابن شهر آشوب من علماء الطائفة ، في القرن السادس الهجريّ ، فهو من جملة متقدّمي علماء الطائفة ، ممّا يعدّ توثيقه أشبه بالحسّ منه إلى الحدس ، لذا فإنّ توثيقه لأبي سعد بن عبد الله الدجاجيّ يعدّ كافياً لنا ، ولعلّه لم يقع بأيدينا مصدراً رجالياً يذكر أبو سعد الدجاجيّ ، وهذا لا يعني نفي الرجل ، بل أنّ كثيراً من الرواة ذكرهم الرجاليون ، دون أن نعثر عليهم في مكان آخر .
وبذلك توثيق أبو سعد الدجاجيّ ممّا لا ريب فيه ، استناداً إلى توثيق وشهادة ابن شهر آشوب .
( ... . ... . ... )
ذكر الأحاديث الضعاف في الكتب الأربعة :
السؤال : لماذا ذكر أصحاب الكتب الأربعة بعض الأحاديث الضعاف ؟ أو حتّى ما يمسّ العقيدة بشيء من التجريح ، وهي التي يأخذها علينا أهل السنّة ـ وإن كانت صحاحهم مملوءة بذلك ـ فسؤالي هو : لماذا ذكر هؤلاء تلك الأحاديث ؟ مع ما في ظاهرها من الباطل ؟
ثمّ إنّ ذهاب جمع من الإخباريّين إلى صحّة رواية الكتب الأربعة ، ألا يقدح بالمذهب ؟ لما ذكرته من وجود روايات غير صحيحة فيها ؟
الجواب : لا يوجد عندنا ـ نحن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ـ كتاب صحيح من
____________
1- الوافي بالوفيات 4 / 118 .
2- طبقات المفسّرين : 96 .
|
الصفحة 277 |
|
أوّله إلى آخره ، سوى القرآن الكريم ، وعلماؤنا كان همّهم بالدرجة الأُولى جمع الأحاديث في الكتب .
ويشهد بذلك ، أنّ نفس هؤلاء العلماء ـ الذين ألّفوا هذه الكتب الجامعة للأحاديث ـ عندما نرجع إلى مؤلّفاتهم في العقائد ، نرى بأنّهم يعتقدون بالعقائد الحقّة ، التي نعتقدها نحن الآن ، على خلاف ما تدلّ عليه بعض الأخبار ، التي ذكروها هم في كتبهم الحديثية ، ممّا يدلّ على أنّهم في كتبهم الحديثية ، لم يكونوا ملتزمين بالصحّة ، وأنّه لا تدلّ روايتهم لحديث على اعتقادهم بمضمون ذلك الحديث ، فكان همّهم في تلك العصور أن يجمعوا الروايات .
أمّا في خصوص الروايات المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة الفرعية ، فأكثرها مستنبطة من الكتب الأربعة المذكورة في السؤال ، وهذا لا يدلّ على أنّ كلّ حديث موجود في هذه الكتب فهو صحيح .
وأمّا أن تكون روايات هذه الكتب كلّها من الأوّل إلى الآخر صحيحة ، فلا يقول به أحد إلاّ مجموعة من الإخباريّين ، وكان هذا الرأي الضعيف قد ردّ عليه علماؤنا في كتبهم ، ولا يوجد الآن من يعتقد بهذا الرأي من علمائنا ، لذلك سمّي أُولئك بالإخباريّين ، وسمّي سائر العلماء بالأصوليّين . والإخباريّون وإن كانوا من علمائنا الذين نحترمهم ، إلاّ أنّ مدرسة الإخباريّين تميّزت بآراء لم يكن لها أُسس علميّة متينة ، ولذلك لم يكتب لها البقاء والاستمرار في الأوساط العلميّة .
( عبد الرزاق . الكويت . سنّي . 30 سنة . طالب ثانوية )