6 ـ التقية نوع من أنواع الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدل عليه أمران :
أحدهما : إنّ اللجاجة والمقاطعة والمخاصمة مع المخالف في دولته تعد من المنكر إذا ما أدت إلى اضعاف المؤمنين أو تضررهم ، على عكس معاشرتهم ومخالطتهم المؤدية إلى سلامة المؤمنين وحفظهم فضلاً عن اجتذاب المخالفين إلى الاِيمان ، فهذا من فعل المعروف بلا شكّ .
الآخر : تصنيف أحاديث التقية من قبل المحدثين في باب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا زيادة على ما تضمنته أحاديث أهل
____________
1) سورة النحل : 16 | 125 .
2) سورة البقرة : 2 | 83 .
3) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 1 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( 117 )
البيت عليهم السلام في هذا المعنى ، وقد مرّ بعضها وسيأتي أيضاً .
7 ـ التقية جهاد في سبيل الله عزَّ وجل ، إذ يجاهد فيها المؤمن أعداء الله تعالى في دولتهم بكتمان ايمانه ، كما فعل مؤمن آل فرعون بكتم إيمانه، وكما فعل المخلصون من أصحاب الاَئمة عليهم السلام بكتم أسرار أهل البيت خشية عليهم من الظالمين ، وقد ورد الحث على التقية بهذا الوصف أيضاً ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : «.. والمؤمن مجاهد ؛ لاَنّه يجاهد أعداء الله عزَّ وجل في دولة الباطل بالتقية ، وفي دولة الحق بالسيف» (1).
وقال عليه السلام : « نفس المهموم لنا المغتم لمظلمتنا تسبيح ، وهمه لاَمرنا عبادة ، وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله» (2).
8 ـ استخدام التقية في مواردها طاعة لله عزَّ وجل ، كما يفهم من قوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن ) ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « التي هي أحسن : التقية» (3)، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأسٍ بسيرته الشريفة وقد مرّ ما يدل عليه بأوضح صورة ، وتمسك بحبل أهل البيت عليهم السلام ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « .. من استعمل التقية في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من القرآن» (4) .
9 ـ من لوازم ما تقدم ، فالتقية إذن توجب الثواب لفاعلها ؛ لاَنّها امتثال لما أمر به الشارع المقدس ، وقد جاء في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يؤكد
____________
1) علل الشرائع | الصدوق : 467 | 22 .
2) اُصول الكافي 2 : 226 | 16 ، باب الكتمان ، وفيه (المغتم لظلمنا) . والتصويب من الوسائل 16: 249 | 10 باب 34 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 ، باب التقية .
4) معاني الاَخبار | الصدوق : 385 | 20 .
( 118 )
هذا ، ففي حديث سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام : « بشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنة ، وبشر في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار» (1) .
وقد عرف بعض الصحابة بهذا ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي الدرداء أنّه قال : «إنّا لنكشر في وجوه أقوامٍ ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» (2).
ونسب القرافي المالكي (ت | 648 هـ) هذا القول إلى أبي موسى الاَشعري أيضاً ، معلقاً عليه بقوله : «يريد : الظلمة والفسقة الذين يتقي شرهم ، ويتبسم في وجوههم» (3).
كما نُسب هذا القول أيضاً إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام في روايات شيعته ، وبلفظ : « إنّا لنبشر في وجوه قوم وان قلوبنا لتقليهم ، أولئك أعداء الله نتقيهم على اخواننا وعلى أنفسنا» (4).
10 ـ في التقية الكتمانية ، تصان الاَسرار ، ويحفظ الحق من الاندثار ، ويكون قادته واتباعه في أمان من الاخطار .
11 ـ التقية ورع يحجز الاِنسان عن معاصي الله عزَّ وجلَّ ، إذ لا معصية أكبر ـ بعد الشرك ـ من قتل المؤمن بسبب افشاء سره بضغط الاكراه وعدم التكتم عليه بالتقية ، ولهذا وصِف مذيع السر بقاتل العمد لا قاتل الخطأ ، ففي حديث الاِمام الصادق عليه السلام : « من أذاع علينا شيئاً من أمرنا فهو كمن
____________
1) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 2 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2) صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) الفروق | القرافي المالكي 4 : 236 ، الفرق الرابع والستون والمائتان .
4) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 2 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( 119 )
قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ» (1).
وواضح أن المراد بأمرهم عليهم السلام هو كل ما صدر عنهم عليهم السلام وكان مخالفاً لهوى السلطة واتباعها .
12 ـ التقية خلق رفيع في مداراة الناس وحلم عجيب مع الجهلاء ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « فو الله ، لربما سمعت من شتم عليّاً عليه السلام ، وما بيني وبينه إلاّ اسطوانة ، فاستتر بها ، فإذا فرغت من صلاتي أمرّ به فاسلم عليه وأصافحه» (2) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزَّ وجلَّ : حلم يرد به جهل الجاهل ، وحسن خُلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله عزَّ وجلَّ (3).
ولتضمن التقية لهذه الخصال الثلاث زيادة على ما فيها من طاعة وامتثال وفوائد وعوائد ، فقد حثّ عليها أمير المؤمنين علي عليه السلام ووصفها بشيمة الاَفاضل ، فقال عليه السلام : « عليك بالتقية ، فإنّها شيمة الاَفاضل» (4)، ونظراً لموقع التقية وآثارها في المنظومة الاَخلاقية فقد عدّها الاِمام الرضا عليه السلام من شعار الصالحين ودثارهم (5).
وفي المروي عن الاِمام العسكري عليه السلام : « أشرف أخلاق الاَئمة
____________
1) اُصول الكافي 2 : 371 | 9 باب الاذاعة ، وفيه أحاديث أخر بهذا المعنى ، فراجع .
2) جامع الاَخبار | السبزواري : 253 ـ 254 | 663 ـ الفصل | 53 .
3) الخصال | الصدوق 1 : 145 ـ 146 | 172 باب الثلاثة .
4) غرر الحكم | الآمدي 2 : 482 | 57 .
5) وسائل الشيعة 16 : 223 | 10 باب 28 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( 120 )
والفاضلين من شيعتنا : التقية ، وأخذ النفس بحقوق الاخوان» (1).
ومن كل ما تقدم يُعلم أن منكر التقية بقلبه ولسانه رجلٌ رذيلٌ ؛ لاَنّها ليست من شيمته ، وكافرٌ لاَنّه منكر للتشريع الثابت بنصّ القرآن والسُنّة المطهّرة ، ومتعصب جاهل ؛ لاَنّه ينكر ضرورة عقلية متفق عليها من لدن العقلاء ، بل هو أقل رتبة من الحيوان ؛ لاَنّ الحيوان يعرف كيف يسعى لنفسه ويهرب من الخطر بفطرته ، وهذا ينكر فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً ، ويكفي على اثبات حماقته أنّه مسلوب من فوائد التقية ، والتي منها ما مرّ وبعضها ما يأتي :
13 ـ في التقية تقرُّ عين المؤمن لاَنّها جُنّته ، وقد كان الاِمام الباقر عليه السلام يقول : « وأي شيء أقرُّ لعيني من التقية ، إنّ التقية جُنّة المؤمن» (2).
14 ـ التقية الكتمانية تجلب للمؤمن عزّاً في دنياه ونوراً في آخرته ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « من كتم أمرنا ولا يذيعه أعزّه الله في الدنيا وجعل له نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنّة» (3).
15 ـ التقية المداراتية وسام للمتقي بعدم التعصب ، بخلاف من يزعم الموضوعية ويجعل المداراة في حقل النفاق ، فهذا هو عين النفاق والتعصب والخروج عن الموضوعية ، بل هو الكفر بعينه بعد ثبوت مداراة
____________
1) وسائل الشيعة 16 : 223 | 7 من الباب السابق .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 14 باب التقية .
3) مشكاة الاَنوار | سبط الطبرسي : 40 ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أُخر أنظرها في : كتاب الغيبة | النعماني : 38 | 12 . وبصائر الدرجات | الصفار : 423 | 2 . ومختصر بصائر الدرجات | سعد بن عبدالله : 101 . ودعائم الاِسلام | القاضي النعمان 1 : 59 . واُنظر باب 24 في الوسائل وباب 32 في مستدركه ، من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( 121 )
أشرف الاَنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لقومه كما مرّ في صحاح القوم ومسانيدهم .
16 ـ في التقية يُميّز أولياء الله من أعدائه لعنهم الله ، ولولاها ما عرف هذا من ذاك ، قال سيد الشهداء الاِمام الحسين السبط عليه السلام : « لولا التقية ما عرف ولينا من عدونا» (1).
17 ـ ومن فوائد التقية أنّها توجب تعظيم الناس للمتقي ، نظراً لاحسانه لهم بالمداراة ، والمعاشرة الطيبة معهم وإن خالفوه في فكره وعقيدته ، وقد كان سيد الساجدين الاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، مشهوراً بمداراة أعدائه حتى عظم في عيونهم وانتزع منهم على رغم طغيانهم وعتوهم توقيره وتبجيله وفي ذلك يقول الزهري : «ما عرفت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانيّة ؛ لاَنّه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلاّ ولا يجد بداً من تعظيمه ، من شدّة مداراة علي بن الحسين عليهما السلام ، وحسن معاشرته إيّاه ، وأخذه من التقية بأحسنها وأجملها» (2).
18 ـ التقية المداراتية تغلق منافذ التشكيك التي يتسلل منها أعداء الحق لترويج الباطل بنحو أن الشيعة لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم وغير هذا من المزاعم التي ما أنزل الله بها من سلطان .
فبمعاشرتهم للمخالف ومخالطتهم إيّاه سيعرف الحق ، ولن يكون هناك مجال لاغرائه بالباطل من جديد .
ونكتفي بهذا القدر من فوائد التقية التي تكشف عن أهميتها ودورها الايجابي في حياة الفرد والمجتمع ، لننتقل إلى بيان الفرق بينها وبين النفاق .
____________
1) تفسير الاِمام العسكري عليه السلام : 321 | 165 .
2) مستدركحينما نقول : إنّ في التقية عز المؤمن ، فلا شك أن في النفاق ذل المنافق ، وحينما نقول : إنّ في التقية المداراتية يلمُّ شمل المسلمين وتأتلف قلوبهم ، فلا شكّ أن في النفاق فرقتهم وشرذمتهم وزرع العداوة والبغضاء في ما بينهم .
وهكذا حينما نرجع إلى فوائد التقية ، نعلم جيداً ، أن كل فائدة من فوائدها يشكّل نقيضها صفة للنفاق ، وحينئذ تُعلم الفروق الشاسعة بينهما، لوضوح أن النفاق ـ مع خلّوّه عن كل فائدة ـ يُعد من أخس الصفات وأسوءها ، ويكفي أن أعلن الشارع المقدس عن مصير المنافقين وشدد النكير عليهم بقوله الكريم : ( إنّ المنافقينَ في الدَّركِ الاَسفل مِنَ النّارِ وَلَن تَجِد لَهُم نصِيراً ) (1). بينما جاء وصف من استخدم التقية في موردها كما مرّ في أدلتها بأنه من المؤمنين .