وأنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً الى سيرة رشيدة في الحكم ، واعتدال في السياسة والحياة ، ومرغمين على ذلك ، وانما اعني ان الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.
كما أني لا اريد ان اجردهما عن كل اثر في التاريخ ، وكيف يسعني شيء من ذلك وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الاسلامي كله ، وانما عنيت انهما كانا ضعيفي الاثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة وما ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.
اكتب هذا كله وبين يدي كتاب ( فاطمة والفاطميون ) للاستاذ عباس محمود العقاد ، وقد جئته بشوق بالغ لاُرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء ، وأنا على يقين من ان أيام التعبد بأعمال السالفين وتصويبها على كل تقدير قد انتهت وان الزمان الذي يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الانساني دينا كانت أو مذهبا
( 37 )
أو تاريخاً أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الاسلام بعد أن طال قروناً ، ولعل الخليفة الاُول كان هو اول من اعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الانسانية والقدر وهدده وتوعده ولكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيىء الى روح الاسلام واذن فكان لي ان اتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الاستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فاذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة وقصيرة جداً والى حد استبيح لنفسي أن أنقلها واعرضها عليك دون ان اطيل عليك فقد قال :
(والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه غير ان الصدق فيه لا مراء ان الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحق وان الصديق اجل من ان يسلبها حقها الذي تقوم به البينة عليه ، ومن اسخف ما قيل انه انما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة اليه فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع ان أحداً بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شيء من هذا في اشاعة ولا في خبر يقين وما نعلم تزكية لذمة الحكم من عهد الخليفة الاول اوضح بينة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادعاه عليه مدع وانما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ اقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم اجمعين انتهى).
ونلاحظ قبل كل شيء أن الاستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار ولا يصل الحديث فيه الى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها ، واعتقد ان في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا ، وتلاحظ أيضاً .
( 38 )
أنه بعد أن جعل مسألة فدك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه رأى ان فيها حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال (أحداهما) ان الصديقة أرفع من ان تنالها تهمة بكذب والاخرى ان الصديق أجل من ان يسلبها حقها الذي تثبته البينة. فاذا لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال ففيم الجدال الذي لا قرار له ولم لا تنتهي مسألة فدك الى مقطع للقول متفق عليه.
وانا افهم ان للكاتب الحرية في ان يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارىء مدارك ذلك الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلها في الحساب ليخرج منها بتقدير معين ولكني لا أفهم ان يقول ان المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي الا برأي مجرد عن المدارك يحتاج الى كثير من الشرح والتوضيح والى كثير من البحث والنظر فاذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها الى البينة ؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الاسلام عن ان يحكم العالم استناداً الى علمه ؟ واذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك ؟ هذه أسئلة ومعها أسئلة اخرى أيضاً في المسألة تتطلب جواباً علمياً ، وبحثاً على ضوء أساليب الاستنباط في الاسلام.
واريد ان اكون حراً واذن فاني استميح الاستاذ ان الاحظ ان تزكية موقف الخليفة والصديقة معاً أمر غير ممكن ، لأن الامر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه وانتهاء المطالبة الى هذا الحد لوسعنا ان نقول ان الزهراء طلبت حقها في نفس الامر والواقع ، وان الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ
( 39 )
المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها ، لأنها عرفت انها لا تستحق فدكا بحسب النظام القضائي وسنن الشرع ، ولكننا نعلم ان الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بلغت مبلغ الاتهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.
واذن فنحن بين اثنتين : احداهما ان نعترف بأن الزهراء قد ادعت باصرار ما ليس لها بحق في عرف القضاء الاسلامي والنظام الشرعي وان كان ملكها في واقع الامر ، والاخرى ان نلقي التبعة على الخليفة ونقول انه قد منعها حقها الذي كان يجب عليه ان يعطيها اياه أو يحكم لها بذلك على فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية ، فتنزيه الزهراء عن ان تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع والارتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان الا اذا توافق النقيضان.
ولنترك هذا الى مناقشة اخرى ، فقد اعتبر الاستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بينة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن حدود الشريعة لانه لو اعطى فدكا لفاطمة لارضاها بذلك وارضى الصحابة برضاها ، ولنفترض معه ان حدود القانون الاسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأن فدكا صدقة ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الاستاذ بأنهم يرضون بذلك ؟ .. أكان هذا محرماً في عرف الدين أيضاً ؟ أو أن أمراً ما اوحى اليه بأن لا يفعل ذلك ؟ بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته وعداً قاطعاً بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامة ؟
وأما ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما اذا كان سخيفاً حقاً.
( 40 )
اذا عرفنا ان مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً ولا جدالاً ، وأن درس مسائل السالفين ليس كفراً ولا زندقة ولا تشكيكاً في أعلام النبوة كما كانوا يقولون ، فلنا ان نتساءل عما بعث الصديقة الى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف او لم يشأ ان يعرف هيبة للسلطة المهيمنة أو جلالاً للقوة المتصرفة يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد ، وشررها المتطاير ، وبقي الحكم من اشعاعة نور متألقة تلقي ضوءاً عليه ، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار بل كانت بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الاخير ، ويومها الاخير ، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات ونتائج ، ولا تتعرض لضعف او تردد.
وما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة ، أو بالاحرى هدف الخليفة ( رضي الله عنه ) نفسه في ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط أو لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أولياته ثم يذكر بينها خصومة أهل البيت ، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه وموقفه السلبي بل الايجابي المعاكس أو انه كان منقاداً للقانون ، وملتزماً بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون ، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل وان لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة ، واعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض او اجتماع الغرضين على نقطة واحدة ، وبالاحرى ان تقوم على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها آمال بواسم ، وموجات من الاحلام ضحك لها الخليفة كثيراً وسعى في سبيلها كثيراً أيضاً.
اننا ندرك بوضوح ، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الاكبر قد توفرت له
( 41 )
كل بواعث الثورة على الاوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الاُمر.
واننا نحسن أيضاً اذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عما تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.
واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الاسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الاولى الى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح الى النقطة المستعدة في طبيعتها الى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.
أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الاول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.
والآخر موقف ينعكس فيه الاُمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.
وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده الى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري الى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان
( 42 )
الزهراء فشلت بعد ان جعلت الخليفة يبكي ويقول اقيلوني بيعتي والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنى انها لم تخرج الى حرب ولم تشق عصا طاعة.
هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والاشخاص فلماذا لا تنتهيان الى اسباب متقاربة وبواعث متشابهة.
ونحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع الى الايام الاولى في حياة علي وعائشة حينما كان المنافسة على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين زوجته وبضعته.
ومن شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتثبت مشاعراً مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الانصار والاصدقاء ، وقد اتسعت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي فلا بد ان تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل ام المؤمنين على حسابه في بيت النبي .
نعم ان انقلاب ام المؤمنين انما هو من وحي ذكريات تلك الاُيام التي نصح فيها علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن يطلقها في قصة الافك المعروفة.
وهذا النصح ان دل على شيء فانه يدل على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته وعلى ان الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل علياً وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة واطوارها.
نعرف من هذا ان الظروف كانت توحي الى الخليفة الاول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء ولا ننسى انه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم تقدم علي الى ذلك فأجابه
( 43 )
النبي الى ما أراد وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة اذا كان شخصاً طبيعياً يشعر بما يشعر به الناس ويحس كما يحسون شعوراً بالخيبة والغبطة لعلي ـ اذا احتطنا في التعبير ـ وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه.
ولنلاحظ أيضاً ان أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء الا لأن الوحي شاء ان يضع امامه مرة اخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.
ولابد انه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الاولية لدى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الابناء.
وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الاوقات ان فاطمة هي التي دفعت بأبيها الى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له ام المؤمنين التي كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً.
ان التاريخ لا يمكننا ان نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الامر الذي تجمع عليه الدلائل ان من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف وان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها ان لا تسكت اذا اراد المنافسون ان يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه.
( 44 )