قبسات من الكلام الفاطمي
يوم جاءت الى عدي وتيم * ومن الوجد ما أطال بكاها
تعظ القوم في أتم خطـاب * حكت المصطفى به وحكاها
( الأزري )
نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء عليها السلام لنعطيها حقها من التحليل والتوضيح ونفهمها كما هي في عالم الخلود وكما هي في واقعها الرائع قالت : ـ
« ثم قبضه اليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار فمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار ».
انظر الى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذوذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها وجنته الخالدة لانها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله وما قيمة اللذة المادية جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الانسانية كما ارتفع بها ولم يبلغ بها أحد سواه أوجهاً المحمدي ( ولم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الالهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الاخير للطواف الانساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير وتطمئن اليه الروح )(1).
فهو اذن : المربي الأكبر للروح ، والقائد الفريد الذي سجلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى المادية في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.
____________
(1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا ـ العقيدة الالهية في الاسلام ـ.
وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو ان يكون محور ذلك العالم الروحي الجبار وهذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي : فمحمّد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الابرار فهو القطب أبداً في الدنيا والآخرة غير أنه في الاولى متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الانسانية عليه على اسلوب خالد وفي الاخرى مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره فتخف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد والثناء.
وما دام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي ـ ان صح التعبير ـ واي ترف روحي أسمى من مجاورة المالك الجبار والظفر برضوان الرب الغفار.
وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فاذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.
وقالت :
وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطىء الاقدام تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي ، وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة اهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتهم ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله (ص) سيد
اولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون(1) .
ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الاسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة ـ ان صح التعبير ـ من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء والأرض وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الانسانية وشخصية اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي الاخير ـ العريش ـ وياليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الاسلام. في عرف التضحية ، في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الارض.
ولا نعرف في تاريخ الانسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الامام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحق هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الاسلام وصنعت له تاريخه الجبار.
فعلي هو المسلم الاول في اللحظة الاولى من تاريخ النبوة عندما لعلع الصوت الالهي من فم محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم هو بعد ذلك الغيور الاول والمدافع الاول الذي اسندت اليه السماء تصفية الحساب مع الانسانية الكافرة.
ان فوز الامام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من ناحيتين : ـ
( احداهما ) : انه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم
____________
(1) تعني بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.
الذي لم يكن قد فصل فيه تماماً المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.
( والاخرى ) : ان جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك اليه سبيلاً وجذوة مضطرمة بحرارة الايمان لا يجد الخمود اليها طريقاً. وهذه الجذوة المتقدة أبداً وذلك الاخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل اليه الامة حراسة معنوياتها الغالية وحماية شرفها في التاريخ.
اقرأ حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى ان علياً هو الذي أدهش الارض والسماء بمواساته(1) وان الصديق (رض) هو الذي التجأ الى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً
____________
(1) أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليه ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبدا الجمحي ، قال : ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرئيل : يارسول الله ان هذا للمواساة ، فقال رسول الله (ص) : انه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وانا منكما ، قال : فسمعوا صوتاً :
لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى الا عـــلي
ولنتأمل جواب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنلاحظ كيف انه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمّد وعلي الى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال : انه مني وأنا منه ولم يرض بأن يفصل الامام عن شخصه لانهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلاً أعلى تأتم بها الانسانية ويهتدي على ضوئها الابطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء ، وأنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمّد وبين من هو من محمّد (ص).
بعدة من أبطال الانصار لحمايته(1) حتى يطمئن بذلك من غوائل الحرب.
وهو الذي فر يوم أحد(2) كما فر الفاروق(3) ولم يبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء وبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الانصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك ارباب التاريخ(4) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالاً في ذلك الموقف مهما يكن لونه(5).
واذن فلماذا وقف مع الثائبين ان كان لم يفر ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (ص) بعدة أصابات اضطرته الى الصلاة جالساً.
ولعلنا نعلم جميعاً ان شخصاً اذا كان في وسط الصراع ومعترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه الا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصديق اذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين وقد نجا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف امام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه فهل أشفق المشركون على أبي بكر ولم يشفقوا على محمّد وعلي والزبير وأبي دجانة وسهل بن حنيف.
وليس لدي من تفسير معقول للموقف الا ان يكون قد وقف الى جوار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكسب بذلك موقفاً هو في
____________
(1) راجع عيون الاثر ج1 ص258.
(2) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.
(3) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله (ص) ـ راجع شرح النهج ج3 ص389 ، 390.
(4) صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج3 ص388. والمقريزي في الامتاع ص132.
(5) اعترف بذلك ابن أبي الحديد ج3 ص389.
طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول الله (ص). وليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق انه كان يحب ان يكون الى جانب رسول الله (ص) في الحرب لأن مركز النبي (ص) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الاسلامية على حراسته والذب عنه.
وخذ حياة الامام علي (ع) وحياة الصديق وادرسهما فهل تجد في حياة الاول خموداً في الاخلاص او ضعفاً في الاندفاع نحن التضحية أو ركوناً الى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير. لأنه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة وشخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه استعداد للخلود ما خلد محمّد استاذه الاكبر لأنه نفسه (ص)(1).
ثم حدثني عن حياة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) ايام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل تجد فيها الا تخاذلاً وضعفاً في الحياة المبدئية والحياة العسكرية يظهر تارة في التجائه الى العريش واخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين(2) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج تحت راية اُسامة
____________
(1) بنص آية المباهلة.
(2) كما في السيرة الحلبية ج3 ص123 ، اذا . حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري اذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انه قال : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فاذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله. فان هذا يوضح ان عمر كان بين المنهزمين.
للغزو(1) ومرة اخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (ص) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق ( رضي الله تعال عنه ) واذا به من طراز صاحبه(2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيام السلم التي اعتز بها الاسلام يوم اسلم كما يقولون ورجع عمر مع اصحابه يجبنهم ويجبنونه(3) فقال رسول الله (ص) اني دافع الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له(4) ويشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز بعليه العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه ا لله ورسوله(5).
يا خليفتي المسلمين ـ أو بعض المسلمين ـ رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد والمعاناة في سبيل الله ؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز عن ذلك ؟ ألم تستمعا الى القرآن الذي اسندت اليكما حراسته والتوفر على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول : ـ
____________
(1) فقد جاء في عدة من المصادر ان عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج3.
(2) راجع مسند أحمد ج5 ص253 ومستدرك الحاكم ج3 ص27 وكنز العمال ج6 ص394.
(3) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.
(4) صحيح البخاري ج5 ص18 ومسند أحمد ج5 ص353.
(5) واكبر الظن ان الجيش الذي سار الامام على رأسه لاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فر بالامس ونفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره فان علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذي كانوا يجبنون الفاروق في الحملة السابقة أبطالاً فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس والاخلاص.