عربي
Wednesday 8th of May 2024
0
نفر 0

في العهد الاموي

 

في العهد الاموي:

كان عبء التشيع في العهد الاُموي الاول عبئاً ثقيلاً يقتضي مواجهة طغاة أمثال زياد والحجّاج، وتحمّل القتل والتشريد والتجويع فصمد الشيعة صمود الابطال، وقارعوا الظلم وحرّكوا الهمم وأيقظوا العزائم.

وبعد مقتل الحسين آلت زعامة التشيع إلى ولده زين العابدين علي بن الحسين، فنهج منهجاً هو الغاية في الحكمة وبُعد النظر.

فقد كان استشهاد الحسين هو النور الذي انبلج في آفاق النفس الاسلامية، فلم يعد مستطاعاً للامويين تحويل الاسلام عن مجراه الصحيح تحويلاً كاملاً بعد أن انكشف الامويون لعامة المسلمين انكشافاً تاماً وغدت النفوس تغلي نقمةً عليهم. ولم يعد الموقف الكفاحي يقتضي صداماً دموياً اذ كلّ صدام يهون بعد صِدام الحسين، بل أصبح الامر أمر تنظيم دقيق في التوجيه والتنبيه، وهذا ما تولاه زين العابدين علي بن الحسين.

لقد استأنف زين العابدين إنشاء مدرسة جدّه علي بن أبي طالب، فأنقذت هذه المدرسة الفكر الاسلامي من الاندثار، ومهدت لظهور المدارس بعدها، وأعدّت الاساتذة لتلك المدارس، ولولا مدرسة زين العابدين وما أوجدته من تيار علمي دفّاق ومجرىً فكري خلاّق، لكان الحكم الاسلامي والفتح الاسلامي مجرّد تسلّط على الشعوب وتَحكّم بالناس.

إذ ليس مظهر حضارة الاسلام الفتح الطاغي الغشوم، وبُناة هذه الحضارة ليسوا أولئك المتحكّمين بالشعوب المتعسفين بالامم.

ان مظهر حضارة الاسلام هو الفكر والقلم والكتاب، وهذا ما ركّزته مدرسة زين العابدين([1]).

وهكذا نستطيع القول إن تاريخ التشيع في هذه الفترة هو تاريخ الاعداد العلمي المنظم والتحضير الفكري السليم.

وتلا محمد الباقر زينَ العابدين، فكانت مدرسته امتداداً لمدرسة أبيه. وقد عملت المدرستان في ظلّ حكم إرهابي مخيف يُحصي عليهما الانفاس ويضيّق عليهما كلّ تضييق، ولكنّهما استطاعتا النفاذ بحكمة وتدبير.

عصر الصادق:

التضييق الذي عانته كل من مدرسة زين العابدين ومدرسة محمد الباقر، والسور المحكم من الرقابة العاتية الذي كان يحول بينهما وبين التدفق إلى أبعد الاماد ; هذا التضييق الذي مارسته الدولة الاموية بكل أجهزتها لتحول دون انتشار العلم ; هذا التضييق العنيف ; بدأت قبضتاه الحديديتان تتراخيان قليلاً بحكم المصير الرهيب الذي أخذ ينتظر الامويين.

فالحكم الذي قام على سفك الدم واضطهاد الامة وإذلال الشعوب، والذي كان شعاره ما أعلنه معاوية في تعليماته لعميليه: بسر بن أرطاة وسفيان الغامدي حين قال للاُول: « اطرد الناس وأخِفْ كلّ من مررت به وانهب أموال كلّ من أصبت له مالا »([2]).

وحين قال للثاني: « اقتل كلّ من ليس هو على مثل رأيك، وأخرب ما مررت به من القرى »([3]).

هذا الحكم كان لابد له من أن يستقطب النقمة العارمة فتهزّه من اُسسه، وكان لابد للامة معه من أن تستجيب لاول داع للثورة عليه، حتى ولو كان هذا الداعي من صنف أبي مسلم والسفاح والمنصور.

وهكذا بدأت الطغمة المتسلّطة تتزلزل منذ عصر هشام بن عبدالملك الذي واجه تضحية شيعية اُخرى بذلت في ميدان البطولات ما كان مترقباً من مثلها أن تبذل. تلك هي تضحية زيد بن علي([4]) حفيد الحسين وتلميذه الروحي.

وكعادتهم كان الامويون غير كرام في انتصاراتهم، فبدلاً من أن يواروا الشهيد ويحترموا الموت، عمدوا إلى نبش قبر زيد وصلب جثته، وتركوها مصلوبة أربع سنين، وبعد السنين الاربع أحرقوها وذروا رمادها([5]) ; متجاهلين أبسط المبادىء الانسانية فضلاً عن القواعد الاسلامية.

ولم يكونوا يدرون أنهم وهم ينبشون قبر زيد، إنما كانوا يحفرون قبورهم بأيديهم، ويذكّرون الناس بمالم ينسوه من وحشيتهم في معاملة المغلوبين، لا سيما إذا كان هؤلاء المغلوبون أبطالاً وأحفاداً للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

ومشت الدولة إلى الانهيار، ثم انهارت وقامت مقامها دولة جديدة([6])، كان عليها أن تلتقط أنفاسها قبل أن تسير في الطريق الذي سارت فيه الدولة القديمة.

بين بدء انهيار الدولة القديمة وانشغالها بنفسها، وبدء قيام الدولة الجديدة وانشغالها بتركيز أقدامها، نشأ إمام فريد([7])، شاء الله أن يكون تجديد الاسلام على يديه، وأن يشق ظلمات الجهل بعبقرية نادرة فيفتح الابصار على شيء جديد لا عهد للناس به من قبل.

الحرية النسبية التي اُتيحت لجعفر الصادق بسبب ضعف الدولتين في عصره جعلته ينطلق في ميدان رحيب جعل منه قائد الثقافة الاسلامية.

ولعلّ من خير ما قيل في وصف هذه الفترة وأثر الصادق فيها ما قاله المؤرخ الهندي مير علي: « ولا مشاحة في أن انتشار العلم في ذلك الحين قد ساعد على فك الفكر من عقاله ; فأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الاسلامي، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الذي تزعّم تلك الحركة هو حفيد علي بن أبي طالب المسمّى جعفر، والملقّب بالصادق، وهو رجلٌ رحبُ اُفقِ التفكير، بعيدُ أغوارِ العقل، مُلمٌّ كلّ الالمام بعلوم عصره، ويعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الاسلام ولم يكن يحضر حلقته العلمية اُوليك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة من الانحاء القاصية »([8]).

على أن متحدثاً قديماً أعطانا صورة اُخرى عن أثر الصادق، ذلك هو الحسين بن علي الوشاء حين قال: « أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ، كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد »([9]).

وحين يقول هذا القائل إنه أدرك تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يلقون إلى طلابهم ما ألقاه اليهم جعفر الصادق من علم، فإن ذلك يعني أن تسعمائة مدرسة كانت تنعقد حلقاتها في المسجد الجامع مشتملة على طلاب من أقطار شتى، وافدين إلى الجامعة الكبرى للتزوّد بالعلم الغزير والمعرفة الواسعة. ويوم نعلم أن رجلاً هو مصدر التثقيف لتسعمائة مدرسة فاننا ندرك ما كان عليه هذا الرجل من الاحاطة والشمول والحنكة.

على أن جامعة الكوفة كانت في الحقيقة فرعاً من الجامعة المركزية في المدينة، تلك الجامعة التي كان يشرف عليها ويديرها جعفر الصادق نفسه ; والتي بلغ عدد المنتمين اليها الاربعة آلاف([10]) من جميع الاقطار الاسلامية، وفيهم من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين الذين أصبحوا أئمّة ومؤسسين لمذاهب اسلامية([11]).

كما كان فيهم الشعراء والادباء والحكماء([12]).

على أن قيمة ما فعله الصادق هو أنه كان الداعية الاول في الاسلام إلى التدوين والتأليف.

فحتى عصر الصادق لم يكن التدوين هو الاصل بل كان نادر الحدوث، وفي كل العصور التي سبقت الصادق لا نرى من المؤلفات ما يمكن أن يعدّ تأليفاً، أو أخذاً بمبدأ التأليف([13]) فجاء الصادق يدعو إلى التدوين والتأليف، وكان شعاره الذي يهتف به لتلاميذه هو قوله لهم: « اكتبوا فانكم لاتحفظون حتى تكتبوا »([14]).

وقال للمفضل بن عمر: « اكتب، وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فورّث كتبك لبنيك »([15]).

وكان يقول لاصحابه: احتفظوا بكتبكم فانكم سوف تحتاجون اليها([16]).

هذه الدعوة الصارخة التي كان ينادي بها جعفر الصادق بين أربعة آلاف طالب مجدّ ; أتت ثمارها فاندفع العلماء إلى الكتاب والتأليف.

اندفعوا بحماسة المؤمن وعقيدة المجاهد وشجاعة البطل، فإذا بنا نرى هذه الدعوة تعم العالم الاسلامي كلّه ; وإذا بها منفَتَحا لعهد جديد من عهود الثقافة الاسلامية لم يكن مألوفاً من قبل.

ومن العجيب أنّ هذه الحركة لم تقتصر على الفقه والحديث والتفسير ; مما يمكن أن يتبادر إلى الاذهان أنها هي وحدها موضوعات مدرسة الصادق.

بل تجاوزت حركة التأليف بين تلاميذ الصادق إلى شتّى العلوم النظرية والعلمية.

وإذا كان المجال لا يتسع لتعداد جلّ ما ألّفوه في تلك الفترة، فأننا نكتفي بالقول: إن ما ألّفه تلاميذ الصادق بلغ أربعمائة كتاب في شتى المعارف والفنون([17]). ونكتفي بان نعدد نماذج من تلك المؤلفات: هي (كتاب التوحيد) للمفضل بن عمر، و (كتاب معاني القرآن) لابان بن تغلب و (كتاب الكيمياء) لجابر بن حيان.

على أنني وأنا أذكر جعفر الصادق لا يمكن أن يفوتني أن اُشير إلى المبدأ الانساني العظيم الذي كان الشعار الاول له ولمناهجه ومخططاته، هذا المبدأ الذي لو أخذ به المسلمون في عصره وبعد عصره لنجوا من كثير من الشرور ; والذي لو أخذت به الانسانية في كلّ عصورها لنجت هي الاخرى من الشرور.

ذلك هو قوله: « ليس من العصبية أن تحبّ أخاً لك، ولكن العصبية أن ترى شرار قومك خيراً من خيار غيرهم »([18]).

ولم يكن أحد أولى من الصادق في تطبيق هذا المبدأ على نفسه، فقد أحبّ إخوته، ولكنه أبداً لم ير شرار قومه خيراً من خيار غيرهم.

وبهذه الروح استطاع أن ينفذ إلى أعماق المسلمين، فينجح كل النجاح.

وظل الائمة بعد الصادق يقودون الركب بقدر ما يسمح لهم الظرف، وظلت حركة التدريس والتأليف مستمرة حتى بلغ ما ألفّه علماء الشيعة في عهد الائمّة، أي حتى سنة 260 هـ ما يزيد على ستّة آلاف وستمائة كتاب. وامتاز من بين هذه الكتب أربعمائة كتاب عرفت بالاصول الاربعمائة.

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الله سبحانه وتعالى و إحياء قتيل بني إسرائيل
التقويم التاريخي لأهم حوادث العالم الإسلامي ...
اوقاف بيروت في العهد العثماني
مكانة المرأة في التاريخ الأسلامي و البشري‏
التقويم التاريخي لأهم حوادث العالم الإسلامي ...
موقف ابن تيمية من حديث خلق الله آدم على صورته ق(5)
حديث رايات خراسان إلى القدس:
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
ما بعد صفين
محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ...

 
user comment