عربي
Tuesday 7th of May 2024
0
نفر 0

الحسين ينعى نفسه لأخته

الحسين ينعى نفسه لأخته

 

لزينب(1) ـ أُخت الحسين ـ شأن مهم ودور كبير النطاق في قضية الحسين (عليه السلام) وفي نساء العرب نوادر أمثالها ممن قمن في مساعدة الرجال وشاركتهم في تاريخهم المجيد، وقد صحبت زينب أخاها في سفره الخطير صحبة من تقصد أن تشاطره في خدمة الدين وترويج أمره، فكانت تدير بيمناها ضيافة الرجال وباليسرى حوائج الأطفال، وذاك بنشاط لا يوصف.

والمرأة قد تقوم بأعمال يعجز عنها الرجل ولكن مادام منها القلب في ارتياح

____________

1) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بنتان بهذا الاسم وبكنية أم كلثوم، والكبرى هي سيدة الطف. وكان ابن عباس ينوه عنها بعقيلة بني هاشم. ولدتها الزهراء بعد شقيقها الحسين بسنتين، وتزوجها عبد الله ابن عمها جعفر بعد وفاة أختها في خلافة عثمان أومعاوية، وكانت قطب دائرة العيال في المخيم الحسيني.

وقد أفرغ لسان الملك ترجمتها في مجلد بها من موسوعته «ناسخ التواريخ».

وجاء في الخيرات الحسان وغيره: أنّ مجاعة أصابت المدينة فرحل عنها بأهل عبد الله بن جعفر الى الشام في ضيعة له هناك، وقد حمت زوجته زينب من وعثاء السفر أو ذكريات أحزان وأشجان من عهد سبي يزيد لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم توفيت على أثرها في نصف رجب سنة 65 هـ ودفنت هناك حيث المزار المشهور في القاهرة.

وقال جماعة: إنّ هذا لزينب الصغرى ـ كما هو مرسوم على صخرة القبر ـ وأنّ الكبرى توفيت بمصر ودفنت عند قناطر السباع حيث المزار المشهور بالقاهرة».


الصفحة 142


ونشاط، أما لو تصدع قلبها او جرحت منها العواطف فتراها زجاجة أو أرق وكسرها لا يجبر، ولذلك أوصى بهنّ النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: «ارفق بالقوارير» فجعلهن كزجاج القوارير تحتاج الى لطف المداراة.

فكانت ابنة علي (عليه السلام) قائمة بمهمات رحل الحسين وأهله غير مبالية بما هنالك من ضائقة عدو أو حصار أو عطش، إذ كانت تنظر في وجه الحسين (عليه السلام) تراه هشاً بشاً فتزداد به أملاً ـ وكلما ازداد الإنسان أملاً ازداد نشاطاً وعملاً، وانّ في بشاشة وجه الرئيس أثراً كبيراً في قوة آمال الأتباع ونشاط أعصابهم ـ غير أنّ زينب باغتت أخاها الحسين (عليه السلام) في خبائه ليلة مقتله فوجدته يصقل سيفاً له ويقول:

 

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والأمر في ذاك الى الجليل

 

والمعنى: يا دهر كم لك من صاحب قتيل في ممر الإشراق والأصيل، فأفٍّ لك من خليل.

ذعرت زينب عند تمثل أخيها بهذه الأبيات، وعرفت أنّ أخها قد يئس من الحياة ومن الصلح مع الأعداء، وأنّه قتيل لا محالة وإذا قتل فمن يكون لها؟ والعيال والصبية في عراء وغربة، وألد الأعداء محيط بهم ومتربص لهم الدوائر. لهذه ولتلك صرخت أُخت الحسين (عليه السلام) نادبة أخاها، وتمثل لديها ما يجري عليها وعلى أهله ورحله بعد قتله وقالت: «اليوم مات جدي وأبي وأُمي وأخي». ثم خرجت مغشية عليها إذ غابت عن نفسها ولم تعد تملك اختيارها، فأخذ أخوها الحسين (عليه السلام) رأسها في حجره وسقط على وجهها من مدامعه حتى أفاقت وسعد بصرها بنظرة من شقيقها الحسين، وأخذ يسليها ـ وبعض التسلية تورية ـ فقال: «يا


الصفحة 143


اختاه إنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، فلا يبقى إلاّ وجهه، قد مات جدي وأبي وأُمي وأخي وهم خير مني، فلا يذهبن بحلمك الشيطان» ولم يزل بها حتى أسكن بروحه روعها ونشف بطيب حديثه دمعها.

ولكن في المقام سر مكتوم: فإن زينباً تلك التي لم تستطع أن تسمع إشارة من نعي أخيها وهو حي ـ كيف تجلدت في مذبح أخيها وأهلها بمشهد منها، ورأت رأسه ورؤوسهم مرفوعة على القنا وتلعب بها الصبيان، وينكت ابن زياد ويزيد ثنايا أخيها بين الملأ بالقضيب، الى غير ذلك من مصائب لا تطيق رؤيتها الأجانب فضلاً عن أمس الأقارب.

فليت شعري! ما الذي حوّل ذلك القلب الرقيق الى قلب أصلد وأصلب من الصخر الأصم؟ نعم، كانت شقيقة الحسين (عليه السلام) أخته بتمام معاني الكلمة، فلا غرو إنّ شاطرت سيّدة الطف زينب أخاها الحسين (عليه السلام) في الكوارث وآلام الحوادث، فقد شاطرته في شرف الأبوين ومواريث الوالدين خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً.

وعليه فإنّها على رقة عواطفها وسرعة تأثّرها تمكّنت من تبديل حالتها، والاستيلاء على نفسها بنفسها، من حين ما أوحى إليها الحسين (عليه السلام) بأسرار نهضته وآثار حركته وأنّه لا بد أن يتحمل أعباء الشهادة وما يتبعها من مصائب ومصاعب في سبيل نصرة الملة وإحياء شريعة جدّه وشعائر مجده ـ لكنه سيار يطوي السرى الى حد مصرعه في كربلاء ـ ثم لابد وأن تنوب هي عن أخيها في إنجاز مهمته وإبلاغ حجته في تحمل الخطوب وإلقاء الخطب ومكابدة الآلام من كربلاء الى الكوفة ثم الى الشام قائمة بوظيفته، محافظة على أسرار نهضته، ناشرة لدعوته في كل أين وآن، منتهزة سوانح الفرص، وهو معها أينما كانت يباريها لكنه على عوالي الرماح خطيباً بلسان الحال كما هي الخطيبة بلسان المقال.


الصفحة 144


 


الصفحة 145


السباق الى الجنة

 

السباق الى النفع غريزة في الأحياء لا يحيدون عنها ولا يلامون عليها، وقد يؤول الى النزاع بين الأشخاص والأنواع ولكن التسابق الى الموت لا يرى في العقلاء إلاّ لغايات شريفة تبلغ في معتقدهم من الاهتمام مبلغاً قصياً أسمى من الحياة الحاضرة، كما إذا اعتقد الإنسان في تسابقه الى الموت نيل سعادات ولذات هي أرقى وأبقى من جميع ماله في الحياة الحاضرة.

ولهذه نظائر في تواريخ الغزاةوالمجاهدين ففي صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وتسابقوا الى القتال بين يديه، معتقدين أن ليس بينهم وبين جنان الخلد والفردوس الأعلى سوى سويعات أو تميرات يأكلونها أو حملات يحملونها، هذا من أشرف السباق، وموته أهنأ موت، وشعاره أقوى دليل على الفضيلة والإيمان.ولم يعهد التاريخ لجماعة بداراً نحو الموت وسباقاً الى الجنة والأسنة مثل ما عهدناه في صحب الحسين (عليه السلام).

وقد عجم الحسين (عليه السلام) عودهم واختبر حدودهم، وكسب منهم الثقة البليغة، وأسفرت امتحاناته كلّها عن فوزه بصحب أوفياء وأصفياء، وإخوان صدق عند اللقاء، قلّ ما فاز أو يفوز بأمثالهم ناهض، فلا نجد أدنى مبالغة في وصفه لهم عندما قال: «أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوفى


الصفحة 146


من أهل بيتي» وكان الفضل الأكبر في هذا الانتقاء يعود الى حسن انتخاب الحسين (عليه السلام) وقيامه بكل واجبات الزعامة والإمامة ـ وقيام الرئيس بالواجب يقود أتباعه الى أداء الواجب، واعتصام الزعيم بمبدئه القويم يسوق من معه الى التمسك بالمبدأ والمسلك والغاية ـ فكان سرادق الحسين (عليه السلام) بما فيه من صحب وآل ونساء وأطفال كالماء الواحد لا يفترق بعضه عن بعض، فكان كل منهم مرآة سيّده الحسين (عليه السلام) بحاله وفعاله وأقواله، وكانوا يفتدونه بأنفسهم كما كان يتمنى القتل لنفسه قبلهم، وأخيراً توفقوا الى إرضاء سيّدهم بأن يتقدموا الى جهاد أدبي في زي دفاع حربي واحداً بعد واحد يعلنون بالمبادىء العلوية، وينشرون الدعوة الحسينية، إرشاداً للجاهلين وعظة للجاحدين وايقاظاً للغافلين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول حتى لو أثرت عظاتهم المتواترة، كفى الله المؤمينن القتال. وإن قتلوا فسبيلهم سبيل من قبلهم من الأنبياء والمصلحين الى روح وريحان وجنة ورضوان، فيستريحون من آلام الحياة الدنيا الفانية، ويسعدون بحياة راقية باقية. فإذا كانت هذه الدنيا غير باقية لحي ولا حي عليها بباق فالأحرى أن يكون الهيكل الفاني قربان خير خالد ومهراً لحياة الأمة.

أجل، كانت جماعة الحسين (عليه السلام) كؤوس رؤوسها مفعمة بشعور التضحية حتى إذا أذن لهم بذلك لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون كالفراش على المصباح لتضحية الأرواح، فكلما أذن حجة الله لأحدهم وادعه وداع من لا يعود، وهم يتطايرون من مخيمه الى خصومه تطاير السهام لانفاذ الغرض المقدّس بأراجيز بليغة وحجج بالغة من شأنها ازاحة الشبهات عن البعيد والقريب وعن الشاهد والغائب. لكن المستمعين صم بكم عمي فهم لا يعقلون قد غشيت الأطماع أبصارهم وغشت المخاوف بصائرهم، فلا يفكرون بسوى دراهم ابن


الصفحة 147


زياد وعصاه ـ ومن لا يهتم إلاّ بالسيف والرغيف فلا نصح يفيده ولا دليل يحيده ـ.

بل، إنما تجدي العظات في ظل المطامع، والحجّة تهدي تحت بارقة السلاح،، لذلك لم يجد رسل الحسين (عليه السلام) من عداهم الجواب إلاّ على ألسنة الأسنة والحراب وقتلوا تقتيلاً {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أحياء بأرواحهم أحياء بتاريخهم المجيد،ولهم لسان صدق في الآخرين وأُسوة بالأولين.


الصفحة 148


 


الصفحة 149


مقتل عليّ شبه النبي (صلى الله عليه وآله)

 

لم يزل ولا يزال عرفاء الأمم من عرب وعجم يعتقدون إرث السجايا والمزايا بالتناسل والتناسب، وأنّ الولد يرث من أبويه ووالديهما مواهبهم العقلية أو سجاياهم الأخلاقية كما يرثهم أشكال الخلقة وطبائع الجسم وأمراض الأعضاء، وقد أكد الفن والحديث ذلك وأنّ التشابه في الخلقة لا ينفك عن التشابه الأخلاقي. فنجد العائلة بعد فقدان أكبرها تجمع توجهاتها في أشبه أفرادها بالفقد ـ توسماً بقيام الشبيه مقام الفقيد في إعادة آثاره لإجماع الغرائز ـ على أنّ الأعمال نتائج الأخلاق، وأنّ الطفل الشبيه بآبائه خَلقاً وخُلقاً يغلب أن يجدد مآثرهم ومفاخرهم. وكان آل محمّد (صلى الله عليه وآله) في أسف مستمر على فقدان النبي، وخسارة كل مجد في فقده حتى ولد للحسين بن علي ولد أشبه الناس بجدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، فتمركزت فيه كل آمالهم وأمانيهم، وصاروا كلّما اشتاقوا الى زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) شهدوا محضره وشاهدوا منظره. وسمّي شبيه النبي فترعرع الصبي وترعرع معه جمال النبي (صلى الله عليه وآله) ونما فيه الكمال، وأزهرت حوله الآمال وبلغ تصابي آل النبي (صلى الله عليه وآله) فيه مبلغ الوله والعشق، فكان إذ تلا آية أو روى رواية مثّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلامه ومقامه، وأضاف على شبه النبي (صلى الله عليه وآله) في الجسم شبهاً بجدّه علي (عليه السلام) في اسم كما شابهه في الشجاعة وفي تعصبه للحق،


الصفحة 150


حتى أنّه يوم قال الحسين (عليه السلام) أثناء مسيره: «كأنّي بفارس قد خطر علينا قائلاً: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم» أتاه قائلاً: «يا أبت أولسنا على الحق؟» فقال له الحسين (عليه السلام): «إي والذي إليه مرجع العباد» قال عليّ: «إذن لا نبالي بالموت» فكان في موكب الحسين (عليه السلام) مثل كوكب الفجر يزهوا بجماله وأنظار أهله دائرة حوله.

غير أنّ الحصار والحزن ضيّقا على نفسه مجرى النفس، فلم يجد مظنة للخلاص منهما إلاّ في الموت، فجاء ليستأذن أباه لكنه منكسر الطرف، إذ يعلم مبلغ تأثر الوالد من هذا الكلام. وقد شوهد سيّد الطف في أقواله وأحواله على جانب عظيم من التجلّد لكن قيام هذا الفتى ضيّع جانباً من تجلده فصار كغيره لا يملك من التجلد شيئاً فيما يقول فيولده أو عن ولده. وأيم الله إنّه أذن له مثل من يريد أن يجرح عاطفة فتاة فأسرع علي نحو الأعداء، عين أبيه تشيّعه وترسل دموعها الحارة مصحوبة بالزفرات، والنساء على أثره تولول، وتعول أُمه بشجو فاقدة الاصطبار إذ فقدت مركز آمالها والإمام ينادي بأعلى صوته: «يا ابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله».

أمّا الغلام فقد تجلّى على القوم بوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمامة رسول الله وأسلحة رسول الله وعلى فرس رسول الله ونطق بمنطق رسول الله قائلاً:

 

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

 

أي أنا المثل الأعلى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم بصورتي وسيرتي وحسبي ونسبي، فأنا تذكار جدّي علي، وأنا شبيه النبي، وأنّ أبي الحسين سبط النبي، وأنّ جدّي علياً أخو النبي ووصيه، فنحن جميعاً أولو قرباه وأهل بيته ـ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ـ


الصفحة 151


فنحن أولى بخلافة جدّنا النبي (صلى الله عليه وآله) من الأجنبي، وبعد هذا البرهان الجلي لا يسوغ أن نسلّم أزمة دين جدّنا (صلى الله عليه وآله) الى ابن الدعي ـ والدعي هو المنسوب لغير أبيه الشرعي ـ وقد كان عبيد الله بن مرجانة مستلحقاً بزياد، كما أنّ زياداً صار مستلحقاً بأبي سفيان بخلاف حكم النبي (صلى الله عليه وآله) القائل: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فهل يسوغ في شرع الشرف ودين العدل أن يخضع من يمثّل النبي (صلى الله عليه وآله) لدعي وابن دعي؟!

بارز الغلام جيش الكوفة وشدّ عليهم شدّة الليث بالأغنام، وبعدما كرّ عليهم رجع الى أبيه قائلاً: «العطش قد قتلني» فيقول له أبوه: «اصبر يا حبيبي، فإنّك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله بكأسه الأوفى» والغلام يكرّ الكرّة بعد الكرّة، فنظر اليه ابن مرّة العبدي فقال: «عليّ آثام العرب إن كرّ ومرّ بي لو لم اثكل أُمه» فبينا هو يشدّ على الجموع يرتجز إذ ضربه العبدي وصرعه فنادى: «يا أبتاه عليك مني السلام، وهذا جدّي قد سقاني بكأسه الأوفى، وهو يقرؤك السلام ويقول لك العجل العجل» ثم شهق شهقة كانت فيها نفسه فانقض إليه الحسين (عليه السلام) قائلاً: «يا بني! قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول؟! يا بني! على الدنيا بعدك العفا» ثم قال لفتيانه: «احملوا أخاكم الى المخيم» إذ كان أول قتيل من جيش الحسين، وحاذر على النساء وعقائل الرسالة أن يخرجن الى مصرعه حاسرات {إِنَّا لِلّهِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ}.


الصفحة 152


 

 


الصفحة 153


توبة الحرّ وشهادته

 

من يدرس أحوال البشر من وجهتها النفسية ويسبر غورها يجد الأخيار صنفين: صنف يتطلب مصالحه الشخصية في ظل أحياء عقيدته واحترامها ـ وهؤلاء أكثر الأخيار ـ ثم أرقى منه صنف يقّدم إحياء عقيدته حتى على حياته الشخصية. وقد كانت وضعية الحر الرياحي بادىء بدء تنزل منزلة من يحب احترام مصالحه الذاتية في ضمن احترامه لعقيدته في الحسين بن فاطمة (عليها السلام)، زعماً منه أنّ الحسين لابد وأن سيصالح أمية القوية أو يسامحونه بمغادرته بلادهم، فيكون الحر حينئذ غير آثم بقتال الحسين، وغير خاسر جوائز الولاية وترفيعاتهم. وعليه فقد كان يساير الحسين بالسماح والتساهل ويصاحبه بتأدب واحترام. غير أنّ المظاهرات القاسية التي قام بها جيش الكوفة من جهة والمظاهرات الدينية الأخلاقية التي قام بها حسين الفضيلة من جهة أخرى أنارتا فكرته وأثارتا عاطفته، فارتقى في استكمال نفسه الى العلو أو الغلو في حب السعادة والشهادة، فجاء الى ابن سعد قائلاً: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟».فأجابه: «نعم قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي» فقال الحر: «أفمالكم فيما عرضه عليكم رضىً؟». فأجابه: «أما لو كان الأمر إليّ لفعلت لكن أميرك قد أبى». فرجع الحر وهو يتمايل ويرتعد، وأخذه مثل الأفكل، إذ شعر بأنّه كان السبب لحصر الإمام.


الصفحة 154


قال له من يجاوره وهو يحاوره: «إنّ أمرك لمريب! فوالله لو سُئلت عن أشجع أهل العراق لما عدوتك، فماذا أصابك يابن يزيد؟» فأجابه الحر: «ويحك! إنّي أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا اختار على الجنة شيئاً، وإن قطعت وحرّقت» قال هذا وضرب بجواده الى الحسين (عليه السلام).

وصادف قرّة بن قيس فقال له: «يا قرّة هل سقيت فرسك؟» قال قرّة: قلت له: «لا» وظننت أنّه يريد أن يتنحى أو ينتحي القتال،كراهة أن يشهده، فوالله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه الى الحسين...

أخذ يدنو الحر من الحسين رويداً رويدً ـ وكان ذلك منه خجلاً لا وجلاً ـ حتى وقف قريباً منه فقال: «جعلت فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنّهم ينتهون بك الى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب الى الله مما صنعت، فهل ترى لي من توبة؟» فأجابه الحسين (عليه السلام): «نعم يتوب الله عليك فانزل» فقال الحر: «أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة ويصير النزول آخر أمري». فقال له الحسين: «فاصنع يرحمك الله ما بدا لك».

قابل الحر بعدئذ جيش ابن سعد وصاح بهم: «يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل! دعوتم هذا العبد الصالح لتنصروه حتى إذا جاءكم أسلمتموه، وكتبتم إليه أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه تقاتلونه، وأملكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهاهم قد صرعهم العطش،


الصفحة 155


بئس ما خلفتم محمّداً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ». فساد القوم السكوت كأنّ على رؤوسهم الطير، ثم لم يجيبوه بسوى النبال فحمل عليهم وهو يرتجز ويقول:

 

إنّي أنا الحر ومأوى الضيف

أضربكم ولا أرى من حيف

 

وقاتلهم قتالاً شديداً حتى عقروا فرسه وتكاثروا عليه، فلم يزل يحاربهم وهو راجل حتى أثخنوه بالجراح وصرعوه فنادى: السلام عليك يا أبا عبد الله وقد أبّنه الإمام (عليه السلام) عند مصرعه بقوله: «أنت كما سمتك أُمك حرّاً، حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة» فطوبى له وحسن مآب.


 


 

 

  



0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ما يستحب إتيانه في ليالي شهر رمضان
شبهة المستشرقين حول الوحي
وصايا الشهداء كلمات من نور
آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وإفرازاتها
زواج الإمام علي والسيدة فاطمة عليهما السلام
في اليقين
الجن في تعابير القرآن
خير الناس فرقة وقبيلة وبيتاً ونسباً وحسباً
في خصائصه المتعلقة بالقرآن المجيد والكلام العزيز
يقتل ذراري قتلة الحسين

 
user comment