1 - التقية في القرآن:
يقول الله تعالى: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) * (1).
ويقول الله تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * (4).
____________
<=
وقد ولد الزمخشري يوم الأربعاء 27 رجب عام 467 هـ، وتوفي ليلة عرفة عام 538 هـ.
وانظر ترجمته في (وفيات الأعيان 5 / 168 - 174، طبقات المعتزلة ص 20، لسان الميزان 2 / 160، عبر الذهبي 4 / 106، إنباه الرواة 3 / 265، شذرات الذهب 4 / 118 - 121).
(1) أنظر: الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص 74 (النجف 1355 هـ/ 1936 م)، الزمخشري: الكشاف 1 / 300 (بولاق 1318 هـ)، كامل الشيبي: التقية - مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية - العدد 16 عام 1963 ص 233 - 234.
(2) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 111.
(3) سورة آل عمران: آية 28.
(4) سورة النحل: آية 106.
|
الصفحة 209 |
|
وقد قدم لنا العلامة المفسر القرطبي معظم آراء العلماء في تفسير الآية الكريمة، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه، قال ابن عباس: أخذه المشركون، وأخذوا أباه وأمه سمية، وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم، و ربطت سمية بين بعيرين، ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين (شهيدين) في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟، قال: مطمئن بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد.
وروى الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير عمار بين أمرين، إلا اختار أرشدهما، وفي هذا دليل على أن التقية التي اختارها عمار كانت أرشد هنا.
ويقول القرطبي: لما سمح الله عز وجل بالكفر به - وهو أصل الشريعة - عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها، لم يؤاخذ به، ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
هذا وقد أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر، حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه، إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، وهذا ما قال به مالك والكوفيون والشافعي - غير محمد بن الحسن (1) - بدليل قول الله تعالى: * (إلا من أكره) * وقوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (2)، وقوله تعالى: * (إلا المستضعفين من
____________
(1) تفسير القرطبي ص 3796 - 3798.
(2) سورة آل عمران: آية 28، وانظر: تفسير الطبري 6 / 313 - 317، تفسير ابن كثير 1 / 535، تفسير النسفي 1 / 152 - 153، تفسير الزمخشري 1 / 140، تفسير القرطبي ص 1299 - 1300،
=>
|
الصفحة 210 |
|
الرجال والنساء والولدان) * (1) فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به - قاله البخاري.
هذا وقد ذهبت طائفة من العلماء - كالحسن البصري والأوزاعي وسحنون - إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة.
وقد احتج من قصر الرخصة على القول، بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلماً به فقصر الرخصة على القول، ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل للكلام مثالاً، وهو يريد: أن الفعل في حكمه.
على أن فريقاً آخر من العلماء قال إن الإكراه في القول والفعل سواء، إذا أسر الإيمان، روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك، وطائفة من أهل العراق، فلقد روى ابن القاسم عن مالك: أن من أكره على شرب الخمر، وترك الصلاة، أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع (2).
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن العلماء يجمعون على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل، إنما هو أعظم أجراً عند الله، ممن اختار الرخصة، واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة في ذلك، واختيار القتل والضرب، أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة.
وروى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلت: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لي: قد كان
____________
<=
تفسير المنار 3 / 227 - 233، أحمد أمين: فجر الإسلام ص 274، ضحى الإسلام 3 / 246 - 247.
(1) سورة النساء: آية 97.
(2) تفسير القرطبي ص 3798 - 3799.
|
الصفحة 211 |
|
من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون (1).
وعن يونس بن عبيد عن الحسن (البصري): أن عيوناً لمسيلمة (الكذاب) أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لأحدهما:
أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال:
نعم، فخلى سبيله، وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال:
وتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه، فجاء هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، قال: وما أهلكك، فذكر الحديث، قال: أما صاحبك فأخذ بالثقة، وأما أنت فأخذت بالرخصة، على ما أنت عليه الساعة؟ قال: أشهد أنك رسول الله، قال: أنت على ما أنت عليه (2).
وعن المسيب بن شريك عن أبي شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه؟ فقال: نعم، ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث، أحب إلي أن أدل على مسلم.
وكان الوليد بن عبد الملك الأموي (86 هـ/ 705 م - 96 هـ/ 715 م) يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالأخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوه فسمع بعضهم يقول في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء، اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير، فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قال: الله الذي لا إله إلا هو، قال: الله الذي لا إله إلا هو، فأمر
____________
(1) تفسير القرطبي ص 3804.
(2) تفسير الزمخشري / 536، تفسير المنار 3 / 231، تفسير القرطبي ص 3805.
|
الصفحة 212 |
|
الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء بك يسقى المطر، وسبعون سوطاً في ظهري، فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك، خير لك من أن يقتل رجل مسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمناً على نفسه، إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته، وقال ابن مسعود: ما كان يدرأ عني سوطين، إلا كنت متكلماً به.
وقال الحسن البصري: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تعالى ليس يجعل في القتل تقية.
وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه، وهذا قول الإمام مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره، وإكراه السلطان وغيره عن مالك إكراه.
وقال سحنون (1) (عبد السلام بن سعيد التنوخي قاضي القيروان 160 هـ/ 776 م - 240 هـ/ 854 م): وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، مما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس، وذهب الإمام مالك (90 أو 97 - 179 هـ) إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب، أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الأئمة: الشافعي (150 هـ/ 767 م - 204 هـ/ 820 م) وابن حنبل (164 هـ/ 780 م - 241 هـ/ 855 م) وأبي ثور (ت 240 هـ/ 854 م) وأكثر العلماء.
____________
(1) سحنون: وهو والد ابن سحنون (محمد بن سحنون بن عبد السلام بن سعيد التنوخي، الذي ولد بالقيروان عام 202 هـ/ 817 م، وتعلم فيها على يد والده سحنون وغيره، حتى صار في مكانة أكبر من مكانة والده، ثم توفي عام 256 هـ/ 870 م).
|
الصفحة 213 |
|
هذا وقد ثبت أن من المعاريض المندوحة عن الكذب، روى الأعمش عن إبراهيم النخعي (50 هـ/ 670 م - 96 هـ/ 715 م) أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شئ أن تقول: والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شئ، قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه، ولا كذب عليه في كلامه.
وقال النخعي: كان لهم كلام من ألغاز الإيمان يدرأون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث، قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر، ولا خديعة في حق، وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه، جلس في مسجد بيته، وقال لجاريته: قولي له: هو والله في المسجد (1).
2 - التقية في السنة:
تظهر التقية - بأجلى معانيها - في قصة الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله عليه، روى الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: روى العوفي عن ابن عباس أن آية * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (2)، نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.
وروى ابن جرير بسنده عن أبي عبيد محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد.
____________
(1) تفسير القرطبي ص 3805 - 3807.
(2) سورة النحل: آية 106.
|
الصفحة 214 |
|
ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما تركت حتى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: إن عادوا فعد، وفي ذلك أنزل الله * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته (1).
هذا وقد خرج عن هذه الآية الكريمة (النحل: 106) رأي مدرسة الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (80 هـ/ 669 م - 148 هـ/ 765 م) مع الإمام أبي حنيفة (80 هـ/ 669 م - 150 هـ/ 767 م) والإمام مالك، في فتواهما المشتركة للناس:
ليس على مكره يمين، حينما سئلا عن بيعتهما للخليفة العباسي المنصور (136 هـ/ 754 م - 158 هـ/ 775 م) وخروجهما عليه بعد البيعة (2).
وأما الإمام أبو حنيفة، فلقد أرسل له الإمام زيد بن علي زين العابدين (79 هـ/ 698 م - 122 هـ/ 740 م) الفضيل بن الزبير يدعوه إليه، غير أنه لم يستطع الخروج، وقال للرسول: إبسط عذري إليه، ومع ذلك فقد كان يحث الناس على نصرة الإمام زيد، كما أمده بمعونة مالية، - بلغت ثلاثين ألف درهم - يستعين بها على عدوه، ويروى أن أبا حنيفة قال لما بلغه خروج زيد - ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بدر، فقيل له: لم تخلف عنه؟
قال: حبسني عنه ودائع الناس، عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلاً.
وقال الزمخشري في الكشاف: وكان أبو حنيفة يفتي سراً، بوجوب نصرة
____________
(1) تفسير ابن كثير 2 / 911 - 912 (دار الكتب العلمية - بيروت 1406 هـ/ 1986).
(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة ص 177.
|
الصفحة 215 |
|
زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب، المسمى بالإمام أو الخليفة.
وروى أن محمد بن جعفر الصادق قال: رحم الله أبا حنيفة، لقد تحققت مودته لنا في نصرته زيد بن علي (1).
وفي أثناء ثورة الإمام محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي المنصور في عام 145 هـ، أفتى الإمام أبو حنيفة بالخروج مع إبراهيم، وكان المحدث الفقيه شعبة بن الحجاج (82 هـ/ 701 م - 160 هـ/ 776 م) يحث الناس على اتباعه، ويقول: ما يقعدكم؟ هي بدر الكبرى، كما أمده الإمام أبو حنيفة بأربعة آلاف درهم، وكتب إليه أنه لم يكن عنده غيرها (2).
وروى أن امرأة أتت أبا حنيفة فقالت: إنك أفتيت ابني بالخروج مع إبراهيم، فخرج فقتل، فقال لها: ليتني كنت مكان ابنك.
وكتب أبو حنيفة إلى إبراهيم يقول: أما بعد، فإني جهزت إليك أربعة آلاف درهم، ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات للناس عندي للحقت بك، فإذا لقيت القوم، وظفرت بهم، فافعل كما فعل أبوك (يعني الإمام علي بن أبي طالب) في أهل صفين، أقتل مدبرهم، وأجهز على جريحهم، ولا تفعل كما فعل أبوك في أهل الجمل، فإن القوم لهم فئة، ويقال إن هذا الكتاب وقع إلى الدوانيقي (يعني أبو جعفر المنصور)، وكان سبب تغيره على أبي حنيفة (3).
وأما الإمام مالك، فلقد أفتى الناس أيضاً بالخروج مع محمد النفس الزكية،
____________
(1) تفسير الكشاف 1 / 64، شذرات الذهب 1 / 159، ابن البزار: مناقب الإمام أبي حنيفة 1 / 55 (حيدر الدكن 1321 هـ)، الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 146، المحلى: الحدائق الوردية 1 / 144.
(2) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130، وانظر: مقاتل الطالبيين ص 361، 364، 365، 367، 369.
(3) ابن عنبة: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص 130 (دار مكتبة الحياة - بيروت).
|
الصفحة 216 |
|
وبايعه، ولهذا فقد تغير المنصور عليه، فقيل: إنه خلع أكتافه (1).
وروى ابن الأثير في كامله: وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد (النفس الزكية) وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته (2).
قال صاحب الجواهر - كما جاء في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق - الاجتماع على ذلك، مضافاً إلى النصوص العامة، مثل رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه، ورواية زرارة عن الإمام أبي جعفر الصادق: ليس طلاق المكره بطلاق، ولا عتقه بعتق (3).
ولقد اختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي وأصحابه لا يلزمه شئ، وذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئاً، وكذا رأي ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن البصري وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور، وأجازت طائفة طلاقه كالشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهري وقتادة، وقال أبو حنيفة طلاق المكره يلزم (4).
وفي تفسير ابن كثير: روى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم، وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان.
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 126.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 532.
(3) محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق - الجزء السادس ص 6 (دار الجواد - بيروت 1404 هـ/ 1984 م).
(4) تفسير القرطبي ص 3800.
|
الصفحة 217 |
|
وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة (1).
وروى الإمام مالك في الموطأ عن عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت.
استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ابن العشيرة، ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله، قلت فيه ما قلت، ثم لم تنشب أن ضحكت معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره (2).
وروى البخاري في صحيحه (باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب) قال: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا ابن عيينة سمعت ابن المنذر، سمع عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته، قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إئذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام، قال: أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس - أو ودعه الناس - إتقاء فحشه (3).
وفيه من حديث أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم وفي رواية الكشميهني وإن قلوبنا لتقليهم أي تبغضهم، ويقول صاحب تفسير المنار: وأما المداراة - فيما لا يهدم حقاً، ولا يبني باطلاً - فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة، ما لم تنته إلى حد النفاق، ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء، تصوناً من سفههم، واتقاء لفحشهم (4).
____________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 535 (بيروت 1986).
(2) الإمام مالك بن أنس: الموطأ - صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه - محمد فؤاد عبد الباقي ص 563 - 564 (ط كتاب الشعب 1970).
(3) صحيح البخاري 8 / 20 - 21.
(4) تفسير المنار 3 / 231 - 232 (الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1973).
|
الصفحة 218 |
|
وفي مسند الإمام علي بن أبي طالب عن أبي مريم عن علي قال:
انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا الكعبة، فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إجلس، وصعد على منكبي فنفضته، فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إصعد على منكبي، قال: فنهض بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ليخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تماثيل صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله يميناً وشمالاً، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقذف به، فقذفت به، فتكسر، كما تكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس (1).
ويقول الطبري (2): وما يهمنا هنا في هذا الخبر: أن علياً رحمه الله، أخبر أنه حين رمى بالصنم من فوق الكعبة فتكسر، نزل فانطلق هو و رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسعيان حتى استترا بالبيوت، خشية أن يعلم بهما أحد، ولا شك أنهما لم يخشيا أن يعلم ما كان منهما من الفعل بالصنم أحد من المشركين، إلا كراهة أذاهم على أنفسهما، وأن يلحقهما منهم مكروه، لما كان فعلا بصنمهم.
وكذلك القول على كل خائف على نفسه من فرط أذى من لا طاقة له به، أن يناله به في نفسه، إذا هو غير هيئة بعض ما وجده معه، أو مع بعض أشيائه من الأشياء التي لا تصلح إلا لأن يعصى الله به، وهو بهيئته، في أنه في سعة من ترك تغييره عن هيئته، حتى يأمن ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة عن هيئته، حتى يأمن من ذلك على نفسه، فإذا أمن على نفسه، كان له تغييره من الهيئة المكروهة إلى غيرها من الهيئات التي تصلح لغير معصية الله.
____________
(1) أبو جعفر الطبري: تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار - مسند الإمام علي بن أبي طالب - قرأه وخرج أحاديثه محمود محمد شاكر - ص 237 (ط جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية بالرياض).
(2) نفس المرجع السابق ص 242 - 243.
|
الصفحة 219 |
|
وفيه دلالة واضحة على صحة ما نقول من أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إنما يلزم فرضهما المرء المسلم على قدر طاقته، وعند أمانه على نفسه، أن ينال منها ما لا قبل لها به، فأما مع الخوف عليها أن تنال بما لا قبل لها به، فموضوع عنها فرض ذلك، إلا النكير بالقلب.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تحين لكسر الصنم الذي كان فوق الكعبة، وقت الخلوة من عبدته، ومن يحضره لتعظيمه، كراهة أن ينالوه بمكروه في نفسه، لو حاول كسره بمحضر منهم، أو أن يحولوا بينه وبين ما يحاول من ذلك، ثم لم يقف بعد كسره إياه بموضعه، ولكنه أسرع السعي منه إلى حيث يأمن على نفسه أذاهم، وأن يعملوا أنه الذي ولى كسره، أو كان الذي سبب كسره (1).