عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه (عجّـل الله فرجه)

الشيخ محمد سند

 

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

السلام على صاحب هذه الليلة المباركة، السلام على العلم النور في طخياء الديجور، السلام على باب الله ورباني آياته، السلام على داعي الله وميثاقه, ووعده الذي ضمنه.

وبعد, فانّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق بعضها ربما لم يقف عليها الأخوة الأعزاء, أو لم يعطوها شيئاً من التأمّل الواسع.

من تلك النعوت التي وردت في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو النعت الوارد في خطبة الغدير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) التي وردت بطرق عديدة وبمقولات متعددة.(1) فبعض الرواة نقل بعض فقراتها, وبعض نقلها بطولها, ومن ثُمّ اختلفت الروايات أو النسخ في طول أو قصر الخطبة.

ومن الملفت للنظر أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الخطبة مع أنّها مكرّسة لنصب أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) عموماً إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بين كُلّّ فقرة وأخرى عندما يؤكد على نصب علي (عليه السلام) إماماً للمسلمين بأمر من الله تعالى ويذكر إمامة الحسنين وولد الحسين يعاود بالتنويه والتخصيص بذكر إمامة الأمام المهدي ونعوته وصفاته. ومن تلك النعوت التي ذكرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) للمهدي (عجّل الله فرجه) أنّه تاسع ولد الحسين الذين هم كلهم أئمة.(2) وعبّر (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو تاسعهم، وهو قائمهم، وهو باطنهم، وهو ظاهرهم، وهو أفضلهم, تعبير يستحق التأمل, وربما هناك إطباق أو شهرة عظيمة بين علماء الأمامية في أفضلية المهدي (عجّل الله فرجه) على الثمانية من بعد الخمسة أصحاب الكساء. وهذا نعت ـ على أيّ حال ـ يستحق التروي والتأمل والتمعن فيه.

ومن النعوت المتميزة أيضاً التي وقفت عليها ـ وكم هي كثيرة إلاّ إنّها تسترعينا لكي نتدبرها ونمعن النظر فيها ـ هو ما ورد في إحدى زيارات الحجة (عجّل الله فرجه):

(السلام عليك سلام من عرفك بما عرّفك به الله, ونعتك ببعض نعوته)(3) فنعت الله للمهدي في الآيات القرآنية الكثيرة. وورد وبتسالم عدة من مفسري الفريقين أنّ هناك آيات مخصوصة بظهور المهدي (عجّل الله فرجه), فالزيارة تشير إلى تلك النعوت مورد الشاهد.

ما نقرؤه: (سلام من عرفك بما عرّفك به الله, ونعتك ببعض نعوته التي أنت أهلها وفوقها) يدلّ ذيل الزيارة على أنّ ما ذكر من نعوت للإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) ـ سواء أكانت نعوتاً خاصة به كـ ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وما شابه ذلك، أو نعوتاً عامة له ولبقية الأئمة ـ هي دون النعت الذي هو عليه، أي إنّ ذيل الزيارة: (ونعتك ببعض نعوته التي أنت أهلها وفوقها) يدلّ على أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مقامات إلهيّة لم تذكر في ظاهر القرآن، وإن كانت قد ذكرت في باطنه.

هذا على أيّ حال إستهلال ببعض نعوت الحجة، ثُمّ نخوض في نقاط متتالية بحسب ما يسع الوقت:

النقطة الأولى: تنجز الوعد الإلهي

هناك وعد إلهي لم ينجز إلى الآن, وهو محط نظر المسلمين, حيث أنّ الله تعالى قد وعد نبي الإسلام بانتشار الدين الإسلامي على أرجاء الكرة الأرضية كافة. وهذا الوعد الإلهي لم يتحقق على يد الدولة العثمانية، ولا على يد المسلمين الآن, قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).(4) أو في آية أخرى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً).(5)

وهذا الوعد ملحمة قرآنية إعجازية ونبوءة نبّأ بها القرآن البشرية أجمع وتحداها, ولم تتحقق إلى الآن. وليس هناك من متصور لانتشار الدين الإسلامي إلاّ على يدي الإمام الثاني عشر المهدي (عليه السلام) بحسب نصوص روايات الفريقين.

وهذه ـ على أيّ حال ـ صفة ومدحة خالدة للإمام المهدي في القرآن الكريم, حيث أنّ الوعد الإلهي لم يتحقق إلاّ على يده الشريفة.

وبعبارة أخرى (بكم بدأ الله) بسيف علي تحققت المؤازرة والمناصرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وانتشر الدين الإسلامي، وأعدت قواعده وشيدت أركانه. فبأهل البيت بدأ الدين, وبهم سوف يختم, وبهم سوف ينتشر, وهذه ملحمة وقلادة تكوينية خصها الله بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم).

ومن ثُمّ يشير عدّة من المحققين من أعلام الإمامية إلى أنّ إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي بنفسها دليل مستقل مفعم ناصع على إمامة آل محمد، يعني إنّ أحد أدلة إمامة الأئمة الإثني عشر هو إمامة الإمام المهدي.

وقد قال أحد العلماء المحققين المجتهدين الماضين وهو متخصص في أمور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أيضاً:

لو أنّ قائلاً يقول: إنّ الروايات التي وردت في الإمام المهدي تضاهي ما قد ورد في إمامة الإمام أمير المؤمنين لم يكن مبالغاً. وهذا الكمّ الهائل من الآيات والروايات يدلّ على إمامة المهدي ومن ثُمّ على إمامة آبائه الأحد عشر.

ولذا ترى اليوم في الأندية العديدة العلمية والدينية في مختلف الأمكنة ـ سواء الانترنت أو الجلسات المباشرة أو الكتب التي تصدر عن الفريقين ـ سجالاً عظيماً مؤدّاه: إنّكم كيف توجهون إمامة الإمام المهدي وأنّه به يُبسط العدل, ويسدد من السماء, ويصلي خلفه النبي عيسى (عليه السلام) وما شابه ذلك, مما يدلّ على أنّ إمامة الإمام المهدي منصب إلهي وتعيين إلهي يكون عيسى (عليه السلام) تبعاً ووزيراً لمن لا يكون معصوماً, وهل يعقل هذا؟! لا يعقل.

وكثير ممن استبصر إلى المذهب الحقّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) كان أحد بواعث الجذب والبصيرة والإبصار هو تفكره في إمامة الإمام المهدي.

كتب أحد علمائنا كتاباً باسم (الأنوار القدسية) ـ غير كتاب الأنوار القدسية للمرحوم الإصفهاني في أشعار مدح أهل البيت ـ ويدور حول المهدي فقط ويحتمل أن يكون مطبوعا طباعة حجرية قد أحصى فيه إثني عشر ألف حديث وارد في إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).

والغريب أنّه ذُكر عن بعض الأخوة المشرفين على بعض المؤسسات الخاصة بموسوعات الإمام المهدي أنّه قال: غاية ما استقصيناه الآن خمسة آلاف أو ستة آلاف حديث.

ومع هذه الوفرة من الطرق يأتي كاتب من رجال الدين السوريين من أهل السنّة, ويكتب كتاباً حول المهدي في روايات أهل السنّة والشيعة, ويسوق في كتابه كثيراً من الخلط العلمي, ولكن الخبير الفطن المطلع على بحوث الرجال والحديث يلتفت إلى أنّ الكثير من مباني هذا الكاتب هشة وخاطئة منها:

إنّه يرفض أنّ الكثرة في الروايات الآحاد تؤسس تواتراً. وهذا أمر غريب جداً، لأنّ التواتر كما بيّنه علماؤنا الأعلام يتولد من عامل التراكم كيفاً وكما ـ كما هو واضح ـ وبيّن ذلك (الشهيد الصدر) في كتابه (الأسس المنطقية للإستقراء) بأنّه مبنى رياضي. طبعاً هذا المبحث أثاره الرياضيون بشكل واسع.

لا يقل قائل إنّه كيف خبر واحد وواحد النتيجة تتبع أخس المقدمتين وإنّما هذا عامل الكم غير عامل المفرد، فهذه من أوضح الأمور ومع ذلك يتنكر لها هذا الكاتب.

إنّه يقول: نعم, وردت روايات صحيحة أنّه يخرج رجل من أهل بيتي, يواطئ اسمه إسمي…, كذا وكذا, ولكن ليس في الرواية أنّه المهدي. نعم, في روايات أخرى صحيحة: المهدي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً ، لكن ما الذي يدلّ على التشابه بين الروايتين؟(6)

نقول له: مثل هذه الإشكالات سخيفة جداً، المفروض إذا كنت في صدد البحث عن حقيقة معينة عليك أن تجمع عدداً كبيراً من الروايات لتخرج بنتيجة.

على أية حال لا أطيل في هذه النقطة, وأظنّ أنّ القراء الكرام لهذا الكتاب يقفون على مواضع الضعف الشديد في أبحاثه.

النقطه الثانية: معنى الغيبة

هناك معلومة مغلوطة حول إمامة الأمام المهدي (عجّل الله فرجه) ـ ربما تسربت للأسف حتى إلى الأبحاث التخصصية والكثير من الكتابات ـ ألا وهي معنى الغيبة، ففي روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قوبلت مع الظهور ولم تقابل مع الحضور. لكن جرى في كتب علماء الأمامية أن يقابلوا بين الغيبة والحضور, وللأسف هذه المقابلة فيها غفلة شديدة، لأنّ الغيبة إذا قوبلت مع الحضور صارت بمعنى أنّه (عجّل الله فرجه) ناءٍ مجمّد نشاطه وأفعاله, بينما إذا قوبلت مع الظهور فإنّها تأخذ معنى آخر هي خفاء الهوية لا زوال وجوده بين ظهرانينا.

في الخطبة المعروفة لأمير المؤمنين (عليه السلام):(... لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته, إما ظاهراً مشهوراً, وإما خائفاً مغمورا).(7) قوبل بين الظهور والغيبة.

وعليه إنّ الغيبة إذا قوبلت مع الظهور تكون بمعنى الخفاء, أمّا إذا قوبلت مع الحضور فإنّها تكون بمعنى النأي والانسحاب عن ساحة الأمّة, وهذا مفهوم خاطئ جداً.

وعلى ضوء هذا المفهوم الخاطئ ربما يتصور ـ حتى في الأبحاث التخصصية ـ أن ممارسة الحجة (عجّل الله فرجه) الآن تعليقية. وربما يتسرب لأذهان حتى بعض أهل التخصص أنّ الولاية الآن هي ولاية الأمّة أو ولاية شورائية, لأنّ النصّ على الأئمة الإثنى عشر (عليهم السلام) الآن مجمد. ومثل هذه القناعات الشاطة عن جادة مذهب أهل البيت نشأت كلها بسبب المفهوم الخاطئ عن معنى الغيبة.

وهناك دلائل كثيرة على أنّ الإمام (عجّل الله فرجه) يمارس دوره في النظام الاجتماعي البشري أجمع، لا في خصوص المسلمين فضلاً عن الطائفة الشيعية. هناك دلائل قرآنية وروائية كثيرة على أنّ للأئمة من قبل الله تعالى منذ آدم إلى الوصي الخاتم تدبيراً في النظام الاجتماعي البشري بشكل خفي.

نلاحظ في سورة البقرة ـ مثلاًًًًًً ـ قوله تعالى:(إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً).(8)

التعبير بالخليفة هو أحد عناوين الإمامة في القرآن الكريم، لأنّ الخلافة من مفاهيم القدرة والسلطنة والسيطرة والتصرف وليست مفهوماً علمياً كالنبوة والرسالة, ولم يعبر القرآن الكريم: إنّي جاعل في الأرض نبياً أو رسولاً, ولم يقل إنّي جاعل آدم خليفة مما يعني أنّ القضية عامة وليست محدودة بزمن ولا ببرهة معينة وهذا المنصب ليس منصب نبوة ورسالة وإنّما منصب خليفة. وهذا هو الذي تعتقده الشيعة (لا تخلو الأرض من حجة).

أراد أن يعرف الملائكة بأنّ هناك طبيعة بشرية سوف تخلق على وجه الأرض, فأبرزُ خبر أنبأ به الله ملائكته هو: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) ليس نبياً ولا رسولاً, بل خليفة يعني إماماً متصرفاً ولم يحدده بآدم.

ثُمّ إن أبرز تعريف لهذا الخليفة يذكره القرآن الكريم هو: اعتراض الملائكة (قالوا) وأورده القرآن الكريم ليس اعتباطاً وإنّما للتدليل على أبرز صفة للخليفة:

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).(9)

هل أورد الباري تعالى في قرآنه في تعريف وبيان ماهية الخليفة اعتراض الملائكة ليدلل على أنّ من أبرز سمات وصفات الخليفة هو أنّه مانع عن الفساد في الأرض وسفك الدماء؟

أي فساد في الأرض يمنعه الخليفة ونحن نشاهد الفساد وسفك الدماء والحروب بين البشر منذ آدم إلى يومنا هذا.

لتنمعّن قليلاً في الآية الكريمة لنجد أنّ الملائكة عندما يوردون اعتراضاً على الباري تعالى من أنّ الخليفة أو الظاهرة الطبيعية للبشر سوف تستلزم سفك الدماء والفساد في الأرض، ليس مقصودهم الفساد ولا سفك الدماء الجزئي والا فهذه من لوازم العيش في الأرض والتضاد والتناحر. وهذا ليس بقبيح كما ذكر الفلاسفة أو الحكماء والمتكلمون.

هل في الشر القليل في مقابل النفع الكثير اعتراض؟!

كلا, فالتاجر يزاول عمل التجارة ويخسر 30% ليربح 70% فهذا ليس باعتراض عقلاً. إنّما يصحّ الاعتراض عقلاً إذا كان الفساد وسفك الدماء مطبقاً أو أكثر كما حدث في النسناس وغيره من المخلوقات البشرية, حيث أبيدوا عن بكرة أبيهم للتناحر بينهم وللفساد.

ولذا قال الله عزّوجل إنّ هذا الخليفة يمنع عن سفك الدماء والفساد الأكثري بتدبيره للنظام البشري. في الحرب العالمية الأولى أو الثانية ـ حفظ الله الجميع ـ لم يكن فيها سفك دماء مطبق ينقرض به النسل البشري.

هذا الخليفة بتدبيره في الأرض يمنع من انقراض النسل البشري، ومن انتشار الأيدز بشكل مطبق، حيث يلهم ويسدد في بعض الموارد عبر الخلايا والشبكة التي هو يديرها، ويمنع انتشار الظلم الاقتصادي الذي يفرط بالفطرة البشرية ويهدد الأنظمة الاجتماعية البشرية، لا أنّه يمنع كُلّ فساد.

إذن هذا من لوازم وجود الخليفة ـ وليس هذا خاصاً بالمهدي (عجّل الله فرجه) ـ منذ آدم إلى النبي إبراهيم وبقية الأنبياء والرسل الذين وصلوا إلى مقام الإمامة وإلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم). في الـ 25 سنة أو 40 سنة في مكة هل كان يدير المجتمع المكي فقط؟ كلا،فإنّ الكثير من الروايات دال على أنّ تدبيراته كانت تشمل كثيراً من أمور المجتمعات بشكل خفي.

وهل كان علي (عليه السلام) في الـ 25 سنة وهو جليس البيت يدير ويدبر المجتمع الإسلامي فقط؟ كلا، كان تدبيره يزيد نطاقه على ذلك. وتدبيرات أئمة أهل البيت كذلك، كما الآن تطالعنا بها حتى الأدبيات السياسية الأكاديمية العصرية إنّ حكومة المجتمعات البشرية لا تقتصر على الحكومة الظاهرية الرسمية العلنية. إذ أنّها أحد أشكال تدبير أمور المجتمعات البشرية وأحد أشكالها الآن هي المخابرات العالمية التي هي الحكومة الحقيقية في الدول العظمى. وهل هي حكومات علنية؟ كلا, وما هذه الوزارات ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهوريات إلاّ أغلفة وحكومات رسمية علنية. والحكومات الحقيقية هي بيد الأجهزة الخفية التي ليست وزارة في مقابل بقية الوزارات بل هي متشعبة ومنتشرة في كُلّ الوزارات والمؤسسات العامة. ولا تقتصر على بقعة جغرافية، بل في كُلّ البقاع.

وهذا الأسلوب البشري لإدارة المجتمعات تفطّن إليه البشر منذ قرنين أو ثلاثة، لكنّ السماء متفطنة إليه منذ خلقة البشرية. ومن ثُمّ ورد في روايات الفريقين عن شبكة الأبدال والنقباء والنجباء والسيّاح, نقرأ في دعاء أم داود:(السلام على السيّاح والأبدال).(10)

وفي دعاء رجب: (اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرك.. إلى أن يقول: وبشرك المحتجبون(11).

مرّت عليكم وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) ولابدّ أنّ الخطباء قد قرعوا مسامعكم برواية خروج الإمام موسى بن جعفر من السجن مع علي بن المسيب وذهب به بطيّ الأرض إلى المدينة المنورة, وفي رجوعه (عليه السلام) صلى فوق جبل فرأى علي بن المسيب أربعين شخصاً وراء الإمام يصلون فسأل: يا أبا إبراهيم من هؤلاء؟ قال: (هؤلاء أصفياء الله جمعهم الله ليصلّوا معي).

هذه الشبكة نفسها موجودة في حياة كُلّ الأئمة وليس أئمة أهل البيت فقط، حتى مع الأنبياء. إذا تتصفح التوراة والإنجيل تشاهد أنّ الأنبياء السابقين الذين وصلوا إلى منصة الإمامة كانوا يديرون المجتمعات البشرية بهذا الأسلوب الخفي. لست أشير إلى الأسلوب بتوسط قوى الملكوت وما شابه ذلك, وإن كان هذا أيضاً أسلوباً من أساليب الإدارة في المجتمعات البشرية ـ والدول الوضعية اليوم تستخدم التنجيم والجن والتنويم المغناطيسي والسحر يعني الملكوت النازل باصطلاح المتكلمين في الإدارة ومعادلة القوى ـ بل الأسلوب الخفي البشري الذي هو من الأسباب الطبيعية لم يفقده أئمة أهل البيت بما فيهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه). سورة الكهف أيضاً تشير إلى هذا المطلب حيث تقول:

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(12). القرآن طبعاً يخاطب النبي ـ إياك اعني واسمعي يا جارة ـ يعني أيها المسلمون, أيها المؤمنون:

لا تصيبكم حالة اليأس, إن لله في نشر الدعوة الإسلامية ثلاث طرق:

الأسلوب الأول : الأسلوب الفطري

وهو طريق أصحاب الكهف أي من دون حتى إمام، بل بتوسط الإلهام الفطري والفطرة العقلية، ونحن نشاهد في عصرنا الحديث أنّ كثيراً من المجتمعات تعترض على أنظمتها، وعلى السياسات الدولية, ففطرتها تنادي بالحقّ. هذا أسلوب من أساليب نشر الدعوة الإلهيّة, لأنّ دين الله أكثره فطري: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) .(13) أكثر تشريعات الدين الإسلامي فطرية. هذا هو الأسلوب الأول لنشر الدعوة لنشر الإسلام الذي هو دين الأنبياء.

الأسلوب الثاني: أسلوب الخضر (عليه السلام):

فالخضر في لقائه مع النبي موسى (عليه السلام) أهم شيء بيّنه للنبي موسى هو أن هناك تدبيراً إلهيّاً عبر شبكة رجال الغيب في منعطفات مسيرة المجتمعات البشرية:(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).(14) والخضر قال عنه تعالى:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).(15) القرآن لا يعرف الخضر بأنّه نبي أو رسول, بل من له رابطة غيبية بالسماء، هي قناة العلم اللدني, وعليه لا تستشكل أو تنقض سائر الفرق الإسلامية على مذهب الإمامية بأنّكم تقولون في حق أئمتكم إنّهم أنبياء يوحى لهم, إذ نقول: القرآن الكريم ينادي أنّ هناك قناة غيبية, وسبباً متصلاً بين الأرض والسماء, ليس هو نبوة ولا رسالة بل العلم اللدنّي: (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) والذي يؤتى العلم اللدنّي يدير المجتمعات البشرية, وأحد أساليبه هي الإدارة التدبيرية الخفية.

الأسلوب الثالث: الحكومة الظاهرية

وهو أسلوب ذي القرنين، إنّ سورة الكهف كلها رموز وبدايتها عنوان لمضمونها وهو كيفية نشر الديانة الإلهيّة: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (16) الأسلوب الثالث هو أسلوب الحكومة الرسمية. أسلوب حكومة ذي القرنين.

إنّ كمّاً كثيراً من الروايات الواردة عند الفريقين يدلّ على أنّ للإمام المنصوب من قبل الله وخليفة الله في أرضه تدبيراً خفياً للمجتمعات البشرية عبر شبكة خفية تسمى بالأبدال والنقباء والنجباء ورجال الغيب.

ولا يفوتني أن أنبّه إلى أنّ هؤلاء رجال غيب، وليسوا من مرتزقة الدجل, ممن يدّعون الوساطة والاتصال بالحجة (عجّل الله فرجه)، هم رجال الغيب والأبدال والأوتاد والنقباء ولا ربط لهم حتى بالنواب الأربعة كما هو الآن في مصطلح القوى الخفية في البشرية.

إنّ أيّ عنصر من العناصر الخفية إذا ظهر أمره يعدم, لأنّ مهمته تفوت ومن الخطر أن يظهر. كذلك في الأبدال والأوتاد حيث تناله رصاصة الأجل لا رصاصة الحديد. وكم ذكر في سير علمائنا أنّ كثيراً من الأبدال والأوتاد عُرفوا وما ان عُرفوا ماتوا, يصيبهم الأجل لأنّ هذه الشبكة خفية وهي موجودة في روايات الفريقين , يعني عنوان الأبدال والنقباء والنجباء والسياح هي دوائر عديدة أقرّ بها الصوفية من السنّة، ومحدثو السنّة والشيعة، ودلت عليها الآيات الكريمة كما ذكرت في سورة البقرة أو سورة الكهف وهلم جرا, فنخلص إلى هذه النتيجة وهي أنّ تدبير الحجة حقيقة ثابتة.

ومن ضمن تلك الأحاديث التي تشير إلى هذه الحقيقة ما ذكره المرحوم السيد المرعشي في كتابه (إحقاق الحق)(17) في ذيل الروايات في خمسين صفحة من طرق السنّة في رواية: (الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش).

حيث ورد عن طرقهم: (لا يزال أمر هذا الدين قائماً ما بقوا).

(لا تزال أمتي ظاهرة لا يغلبها من أراد بها كيداً ما بقوا).

انظر إلى ذيل الأحاديث مما يدلّ على أنّ ببقاء هؤلاء الأئمة يدفع الله الأعادي عن هذه الأمّة، يدفعهم عن الافتتان والشبهات في هذا الدين. مما يدلّ على أنّ لهؤلاء الأئمة تدبيراً.

إذن نستخلص وننتهي إلى هذه النتيجة: إنّ تدبير الإمام فعلي وهو وليّ الأمر والفقهاء نوابه, لا أنّ الولاية تصل إلى الفقيه أو إلى نوابه من الأمّة, فالولاية تنشعب منه (عجّل الله فرجه) الشريف, وهو وليهم بالفعل، وإمام بالفعل، ومدبر للمجتمع البشري أجمع بالفعل, فضلاً عن الأمّة الإسلامية والطائفة الشيعية.

والحمد لله رب العالمين

الهوامش:

_________________________

(1) راجع الغدير للأميني ج1: 215.

(2) راجع الخصال للصدوق ص305، ورسائل المرتضى ج3 ص209، والإمامة والتبصرة لابن بابويه ص1 و11 و111 ومصادر أخرى كثيرة.

(3) البحار للمجلسى ج99: 117.

(4) التوبة: الآية 33.

(5) الفتح: الآية 28.

(6) راجع كتاب المهدي المنتظر في روايات أهل السنّة والشيعة للدكتور عداب محمود الحمش.

(7) نهج البلاغة ج4: 37.

(8) البقرة، الآية 30.

(9) البقرة، الآية 30.

(10) البحار ج95: 401.

(11) البحار ج95: 393.

(12) الكهف، الآية 6.

(13) الروم، الآية 30.

(14) الكهف، الآية: 82.

(15) الكهف، الآية: 65.

(16) الكهف، الآية: 6.

(17) راجع شرح إحقاق الحق للمرعشي ج 2، 7، 13،19، 29...


source : http://www.alhassanain.com/arabic/show_articles.php?articles_id=795&link_articles=holy_prophet_and_ahlul_bayt_library/imam_al_mahdi/khalifato_allah_fi_ardheh
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

احاديث واقوال الامام المهدي(عج)
أصحاب المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) صفاتهم ...
المهدي العباسي:
الإنتظار عند الإسلام والمسيحية
علائم الظهور في تقييم عام
أدلة وجود الإمام المهدي (عج)-2
الملامح الشخصية للامام المهدي عليه السلام
نسب الإمام المهدي (عج)
المهدي والحسين عليه السلام الدور والتجلي
التحسس من صفات المنتظرين

 
user comment