من حقوق أهل البيت (عليهم السلام) : 8 - ترفيع بيوتهم
لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبِّح له بالغدوِّ والآصال في آية مباركة، وقال:(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَفِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ وَالآصال* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَاقام الصَّلاة وإيتاءِالزَّكاة يَخافُونَ يَوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالاََبْصار ).(1)
وتفسير الآية رهن دراسة أمرين:
الاَوّل: ما هو المقصود من البيوت؟
الثاني: ما هو المراد من الرفع؟
أمّا الاَوّل : فربما قيل انّ المراد من البيوت هو المساجد.
قال صاحب الكشّاف: (في بيوت ) يتعلّق بما قبله، مثل نوره كمشكاة في بعض بيوت اللّه، وهي المساجد.(2)
ولكن الظاهر أنّ التفسير غير صحيح، لاَنّ البيت هو البناء الذي يتشكَّل من
1 . النور: 36 ـ 37.
2 . الكشاف:2|389.
جدران أربعة وعليها سقف قائم، فالكعبة بيت اللّه لاَجل كونها ذات قوائم أربعة وعليها سقف، والقرآن يعزّ عن البيت بالمكان المسقَّف، ويقول:(وَلَولا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سَقْفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمعارِج عَلَيْها يَظهَرُون ).(1)
فالمستفاد من الآية أنّ البيت لا ينفك عن السقف، هذا من جانب.ومن جانب آخر: لا يشترط في المساجد وجود السقف، هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء ودون سقف يظلّله.
وقد ورد لفظ البيوت في القرآن الكريم (36 مرّة ) بصور مختلفة، واستعمل في غير المسجد، يقول سبحانه: (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفينَ وَالعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ).(2).(وَاذْكُرُن ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّه وَالحِكْمَة ). (3)
إلى غير ذلك من الآيات، فكيف يمكن تفسيره بالمساجد؟
وبما أنّ جميع المساجد ليس على هذا الوصف، التجأ صاحب الكشاف بإقحام كلمة «بعض»، وقال: في بعض بيوت اللّه وهي المساجد، وهو كما ترى، وهناك حوار دار بين قتادة فقيه البصرة وأبي جعفر الباقر (عليه السلام) يوَيد ما ذكرنا .
حضر قتادة في مجلس الاِمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فقال له الاِمام: من أنت؟
قال: أنا قتادة بن دعامة البصري.
فقال أبو جعفر: أنت فقيه أهل البصرة؟
فقال : نعم. قال قتادة: أصلحك اللّه، ولقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم، ما اضطرب قدامك!
1 . الزخرف: 33.
2 . البقرة: 125.
3 . الاَحزاب: 34.
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ما تدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَفِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ وَالآصال* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وإقام الصَّلاة وإيتاءِالزَّكاة ) ونحن أُولئك.
فقال له قتادة: صدقت، واللّه جعلني فداك، واللّه ماهي بيوت حجارة ولا طين.(1)
و يوَيّد ما رواه الصدوق في الخصال عن النبيّ ص: ان اللّه اختار في البيوتات أربعة ثم قرأ هذه الآية: (إنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً و آلَ إِبْراهِيمَ و آلَ عِمْرانَ علىالْعالَمِينَ ذُرِّيَةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ).(2)(3)
وعلى هذا الحوار فالمراد من البيت، بيت الوحي وبيت النبوَّة، ومن يعيش في هذه البيوت من رجال لهم الاَوصاف المذكورة في الآية الكريمة.
هذا كلّه حول الاَمر الاَوّل،.
وأمّا الاَمر الثاني، أعني ما هو المراد من الرفع؟ فيحتمل وجهين:
الاَوّل: أن يكون المراد الرفع المادي الظاهري الذي يتحقق بإرساء القواعد وإقامة الجدار والبناء، كما قال سبحانه:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهيمُ الْقَواعِد مِنْ البَيْت وَإِسماعيل ).(4)و على هذا تدل الآية على جواز تشييد بيوت الاَنبياء والاَولياء وتعميرها في حياتهم بعد مماتهم.
الثاني: أن يكون المراد الرفع المعنوي والعظمة المعنوية، وعلى هذا تدل الآية بتكريم تلك البيوت وتبجيلها وصيانتها وتطهيرها مما لا يليق بشأنها.
1 . البرهان في تفسير القرآن:3|138.
2 . آل عمران: 33 ـ 34 .
3 . الخصال: 1 | 107 .
4 . البقرة: 127 .
قال الرازي: المراد من رفعها، بنائها لقوله تعالى: (رَفَعَ سَمْكَها وفَسَوّاها )(1) و ثانيها ترفع ) اي تعظم.(2)
هذا كلّه حسب ما تدل عليه الآية، وأمّا بالنظر إلى الروايات فنذكر منها ما يلي:
1. روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك و بريدة، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ قوله تعالى: (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ ترفَع ).
فقام إليه رجل وقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه؟
فقال ص: بيوت الاَنبياء.
فقام إليه أبو بكر وقال: يا رسول اللّه، وهذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي و فاطمة (عليهما السلام) .
فقال النبي ص: نعم من أفاضلها. (3)
2. روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد و أبي يوسف، يعقوب بن سفين، قال ابن عباس في قوله تعالى: (وَإِذا رَأَوا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) : إنّ دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة، فنزل عند احجار الزيت، ثمّ ضرب بالطبول ليوَذن الناس بقدومه، فمضوا الناس إليه إلاّ علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) وسلمان وأبو ذر والمقداد وصهيب، وتركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائماً يخطب على المنبر، فقال النبي ص: قد نظر اللّه يوم الجمعة إلى مسجدي فلولا هوَلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لاَضرمت
1 . النازعات: 28 .
2 . تفسيرالفخرالرازي:24|3.
3 . تفسير الدر المنثور:5|50.
المدينة على أهلها ناراً، وحُصُّبوا بالحجارة كقوم لوط، ونزل فيهم رجال لا تلهيهم تجارة .(1)
وقد وصف الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) هوَلاء الرجال الذين يسبِّحون في تلك البيوت؛ عند تلاوته: (رِجالٌ لا تُلهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِاللّه ) : وإنّ للذكر لاَهلاً أخذوه من الدُّنيا بدلاًً، فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه فكأنَّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطَّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاِقامة فيه، وحقَّقت القيامة عليهم عِداتهُا، فكشفوا غطاء ذلك لاَهل الدنيا، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون.(2)
1 . البرهان في تفسير القرآن : 3 / 139 .
2 . نهج البلاغة: الخطبة 222 .
خاتمة المطاف : أهل البيت في كلام الاِمام علي (عليه السلام)
إلى هنا تمّ ما أردنا استعراضه من سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم، ولو حاول الباحث أن يستعرض أوصافهم وخصوصيّاتهم الواردة في الاَحاديث النبوية لاحتاج إلى تأليف مفرد، و بما انّ محور بحوثنا هو القرآن الكريم اقتصرنا على ذلك، وهذا لا يمنعنا أن نذكر ما روي عن علي (عليه السلام) في ذلك المجال:
1. يقول في حقّهم: «...فَإنّهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يُخبركم حُكمُهم عن علمهم، وصَمتُهم عن منطقهم، وظاهرهُم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدُ صادق، وصامت ناطق».(1)
2. وفي خطبة أُخرى: «لا يقاس بآل محمّد ص من هذه الاَُمّة أحد، ولا يُسوَّى بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساسُ الدين،وعمادُ اليقين، إليهم يفيءُ الغالي، وبهم يُلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيةوالوراثة ، الآن إذا رجع الحقّ إلى أهله، ونُقل إلى منتقله».(2)
1 . نهج البلاغة: الخطبة 147.
2 . نهج البلاغة: الخطبة 2.
3. وقال (عليه السلام) : «نحنُ الشعار والاَصحاب، والخزنة والاَبواب، ولا توَتى البيوتُ إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً».
فيهم كرائمُ القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا.(1)
4. وقال (عليه السلام) :« ألا إنّ مثل آل محمّدٍ ص ، كَمَثَلِ نجوم السَّماء: إذا خوى نجم، طَلَعَ نَجم، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون».(2)
5. وقال (عليه السلام) : «ألا و إنّ لكلِّ دمٍ ثائراً، ولكلِّ حقٍّ طالباً و إنَّ الثّائِرَ في دمائِنا كالحاكِمِ في حقِّ نفسِهِ ، وهُوَ اللّهُ الذي لا يُعجِزُهُ من طَلَبَ، ولا يفُوتُهُ من هرب». (3)
6. وقال (عليه السلام) : «أيّها الناس، خذوها عن خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّه يموت من ماتَ منّا وليس بميِّت، ويبلى من بَلي منَّا وليس ببال»، فلا تقولوا بما لا تعرِفُون، فإنّ أكثرَ الحقِّ فيما تُنكِرون، واعذِروا من لا حُجّة لكم عليه ـ و هو أنّا ـ ألم أعمل فيكم بالثَّقل الاَكبر، وأترُك فيكم الثَّقل الاَصغر، قد ركْزتُ فيكُمْ راية الاِيمانِ، ووقفتُكُم على حُدودِ الحلالِ والحرام، وألبستُكُمُ العافيةَ من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي،وأريتُكُم كرائمَ الاَخلاقِ من نفسي، فلا تستعملوا الرأيَ فيما لا يُدْرِكُ قعرَهُ البصرُ، ولا تتغلغل إليهِ الفِكر»ُ.(4)
إلى غير ذلك الكلمات الناصعة في خطبه ورسائله وقصار كلمه مما نقله
1 . نهج البلاغة: الخطبة154.
2 . نهج البلاغة: الخطبة100.
3 . نهج البلاغة: الخطبة105.
4 . نهج البلاغة: الخطبة87.
الرضي في «نهج البلاغة» وغيره في الكتب الحديثية والتاريخية، ولنقتصر على ذلك فانّ الاِفاضة في القول في هذا المضمار يوجب الاِطالة.