أهل البيت في عبوديتهم لله
قال معاوية اللعين لضرار الضبابي يوماً: صف لي علياً، فقال...
كان والله المدى شديد القوى
ثم قال: فاشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: > يا دنيا يا دنيا إليك عني أبي تعرضت أم إليّ تشوقت، لا حان حينك، هيهات! غرّي غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة، فيها فعيشك قصير، وخطرك يسير وأملك حقير، آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظم المورد<([1]).
إن قلبي مثل وردة لالة ([2]) في حزنه يحترق
ليس قلبي وحده، بل بيتي وكل حياتي ولهيب شمع فراقه في ليل الهجران
أضرم النار في وجودي كفراشة تحترق وبريق حبه يغمر العالم في كل اتجاه
فاحترق الساقي والكأس والشاربون
لست وحدي الذي تداعى وهوى نصباً
في حزن هجرانه احتراق كل عاقل ومجنون ولكي أنجو من بلبلة النفس كنت في جانب الخمار
فرأيت الحانة ومن فيها في حريق
رحت أمرض قلبي في ليل الهجران
فإذا آهة منه تندّ وفي الحال احترق
وفي سويداء الفؤاد حيث أذكره دوماً
وإذا الصدر القلب والسويداء في احتراق وإذا أنا كـ >المسكين< تنبعث من فؤادي
شعلة أحرقت كل وجودي وهويت([3]) .
أهل البيت^ ومقام الغناء
جاء في الروايات التاريخية أن الإمام علي× وفي حرب أحد نبت في رجله سهم وصل إلى العظم، فكلما أراد الجرّاح نزعه منعه الإمام من شدّة الألم فأخبروا النبي’، بذلك فقال النبي، دعه يقوم للصلاة وانزع السهم فإنه لا يلتفت لأمر غير الصلاة؛ فجاءه الجراح وقت صلاته ونزع منه السهم دون أن يحس الإمام بشيء مما فعل.
وقد قام جامي وهو من علماء وأدباء أحمل السنة بنظم هذه الحادثة بشعر غاية في الجمال:
أسد الله ملك الولاية علي |
|
صيقل على الشر الخفي والجلي |
يوم أحد وقد هاجت الحرب |
|
جاء سهم أصابه في الرجل |
برعم السهم نبت في وردة |
|
فتفتحت آلاف الورود |
ولما دخل محراب العبادة والصلاة |
|
عندها لم يشعر في الحياة |
غاصت السكين في جسمه |
|
وهو لا يشعر بشيء يؤلمه |
أسفل السهم راحت السكين |
|
تنزع السهم وقد سالت دماء |
فإذا مصلاه دامياً من نزفه |
|
وهو لا يدري مشغولاً بربه |
حتى إذا انفلت والتفت |
|
ورأى بركة من حوله من دماء |
قال أقسم بالله الذي يعلم السرّ |
|
لم أشعر بشيء لابسكين ولابخنجر ولأنجنجر |
أن روحي كطائر يخفق خوفاً |
|
بجناحيه على قفص الجسم |
>جامي< أنزع عنك رداء الجسد |
|
ولتكن تراباً في خطى الطاهر الروح |
فلعل غبار منه يلوحك |
|
من ذلك الرجل الذي لا يشق له غبار([4]) |
إن أهل البيت^ في استغراقهم بالعبادة والعبودية لله عز وجل إنّما يقومون بذلك عن وعي بالحق فهم لا يستغرقون في الأوهام والخيالات، وإنما يذوبون في الحق إلى حدّ الفناء، وأهل البيت^ يعانون كثيراً في العبادة مستغرقين في عبوديتهم لله بجدّ واجتهاد، وقد روى الإمام الصادق× عن جدّ علي بن الحسين السجاد× انه طلع على كتاب الأمام علي بن أبي طالب× وعلى بعض عبادته فقال السجّاد: من يطيق هذا؟! من يطبق هذا؟!
وأثر ذلك قال الإمام الصادق: >ثم يعمل به<([5]).
وقال جابر بن عبدالله الأنصاري للإمام زين العابدين بعد أن رآه يهلك نفسه بالعبادة: يا ابن رسول الله أما علمت أن الله تعالى إنّما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟
فقال الإمام السجاد×: >يا صاحب رسول الله أما علمت جدّي رسول الله’ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد والتعبّد ـ بأبي هو وأمي ـ حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال’: أفلا أكون عبداً شكوراً<([6]).
وقال الإمام الصادق×: كان أبي يصلي في جوف الليل، فيسجد السجدة فيطيل حتى نقول أنه راقد<([7]).
وهذه هي حالة الفناء في الله عز وجل التي بلغها الأئمة من أهل البيت^ وهي حالة ونوع من التجرّد عن هذا الجسم وعن الدنيا وتصبح أرواحهم المقدسة أشدّ اتصالاً بروح الله من شعاع الشمس بالشمس<([8]).
فلقد بلغ الإمام الحسن المجتبى× الذروة في عبادته، وكان أعبد أهل زمانه وأثرهم زهداً وأفضله منزلة، وحج البيت الله مرّات ومرّات ماشياً وحافياً، فإذا ذكر الموت بكى، فإذا ذكر القبر والقيامة أشتد بكاؤه وسالت دموعه، ,إذا ذكر الصراط بكى وإذا ذكر حشر الناس يوم القيامة واجتماعهم للحساب بكى وكان يغشى عليه من خشية الله.
وإذا وقف للصلاة ارتعدت فرائصه، وإذا ذكر الجنة والجحيم كان كالسليم، أي كمن لدغته الحية يتأوه ويتلوّى من الألم وحينئذ يسأل الله أن يرزقه الجنة ويجنبه النار فإذا سمع تلاوة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هتف: >لبيك اللهم لبيك<([9]) فإذا توضأ أخذته الرعدة من خوف الله وخشيته وأصفر وجهه فقيل له في ذلك فقال: حق على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفر لونه وترتعد مفاصله وكان× إذا بلغ باب رفع رأسه ويقول: إلهي ضيفك ببابك يا محسن أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم.
وكان إذا فرغ من الفجر لم يتكلم حتى تطلع الشمس. قال الصادق× أن الحسن بن علي حج خمسة وعشرين مرّة ماشياً وقال: أني لاستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته([10]).
ودخل الإمام الباقر على والده السجاد‘ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه وقد أصفر لونه من السهر ورمضت عيناه (احترقتا واحمرتا) من البكاء ووبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود وقد ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة يقول: الإمام الباقر× فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب فا عطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يد تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب؟!<([11]).
وكان أبو الحسن موسى بن جعفر× أعبد أهل زمانه وأفقههم وأنماهم كفاً وأكرمهم نفساً وروي أنه كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجود والتحميد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: اللهم أني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب ويكرر ذلك، وكان من دعائه×: عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضّل لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزبيل فيه العين والورق (مساعدات عينية ونقدية) والأدقة (الدقيق) والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو<([12]).
وقد أمضى× سنوات طويلة في السجون العباسيين ينقلونه من سجن إلى أن اغتالوه في سجن ألسندي بن شاهك ببغداد وستشهد أثر ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من السجود في صلاته أثناء سجنه، فكان له >كل يوم سجدة بعد أبيضاض الشمس إلى وقت الزوال قال الراوي: فكان هارون (الرشيد) ربما صعد يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبا الحسن× فكان يرى أبا الحسن ساجداً، فقال للربيع (وزيره) ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! قال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال لي هارون: أما أن هذا من رهبان بني هاشم، فقلت: فمالك قد ضيقت عليه في الحبس؟! قال (هارون): هيهات لابد من ذلك<([13]).
وقد زجّ العباسيون في سامراء الإمام الحسن العسكري في السجن وأوصوا صالح بن وصيف (ضابط تركي مسؤول في السجن) أن يضيق عليه في السجن فوكل به رجلين من أشرّ الناس فوصلت تقاير إلى العباسيين بأن الأمام يعامل معاملة حسنة فأرسلوا وراءه واستجوبوه عن ذلك فقال: ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم.
ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل، فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كلّه، لا يتكلم ولا ينشغل بغير العبادة، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين<([14]).
([1]) حلية الأولياء: 1/84، مروج الذهب: 2/433، الاستيعاب: 3/209، المناقب: 2/103، نهج البلاغة: 765، كلمة 77.
([6]) الأمالي، الطوسي: 636، مجلس يوم الجمعة، حديث 1314، المناقب: 1484، بحار الأنوار: 464/60، باب 5، حديث 18.
([9]) الأمالي للصدوق: 178، المجلس الثالث والثلاثون، حديث 8، عدّة الداعي: 151، بحار الأنوار: 43/331، باب 16، حديث 1.