التمرّد على الولاية
الولاية والتولّي في الإسلام
ثاني خصوصيات السلوك السياسي للمنافقين هي محاربة الولاية. وقبل البحث فيها نستعرض مكانة الولاية وضرورة التولّي من وجهة نظر الإسلام، ومن ثم نذکر تحليل سلوك المنافقين والشواهد القرآنية، كمقدمة وبصورة عامة.
تُعدّ الولاية وتولّي الإمام من وجهة نظر الإسلام من الاُصول العقائدية والاُصول العملية أيضاً. فهي من الاُصول العقائدية، لأن النبوة والإمامة من اُصول الدين ومن الاُسس العقائدية للإسلام([1]) . وهي من الاُصول العملية، لأنّها تعدّ من اللوازم لإثبات كونه واجب الطاعة. ولكن في الأبحاث العقائدية تتمثل في الإذعان والطاعة لأوامر الوليّ. وفي حديثٍ، يعدّ الإمام الباقر×، الاُسس العملية للإسلام، ثم يذکر أنَّ الولاية أهمّ منها جميعاً:
«بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوِلايَةِ وَلَمْ يُنادَ بِشَيءٍ مَا نُودِيَ بِالْوِلاَيَةِ»([2]).
إنَّ التولّي والتسليم للولاية في القرآن الکريم والسنّة النبوية هما أرفع من المحبة والعلاقة القلبية. إنّ اُطروحة الولاية في الإسلام تمثّل التأسيس لواحدة من أهمّ مقومات النظرية السياسية في الإسلام، حيث تعتبر بمنزلة العمود الفقري للنظام الإسلامي.
فإذا جاء في القرآن الکريم كلام حول ولاية الرسول الأكرم’ وولاية الإمام عليّ×، فهذه الولاية هي بمعنى الحاكمية. والتولّي بمعنى الطاعة العملية لأوامر الولاية. مع أنّ محبة أهل البيت^ أيضاً تحتفظ بمكانتها القيّمة:
{ النَّبِيُّ أوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ }([3]).
{ إنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ألَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }([4]).
إنَّ لازمة النبوّة والإمامة هي توفّرهم على الحاكمية والولاية والتي هي المصدر لشرعية ولايتهم، والله تعالى قد أولاهم عنايته عندما منحهم الرسالة والإمامة:
{ وَمَا أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلاّ لِيُطاعَ بِإذْنِ اللهِ }([5]).
فالتولي هو مظهر العشق والمحبة للكمال المطلق، حيث تعدّ اللازمة لقبول الحاكمية الإلهية. فكلّ شخص يؤصِّل في داخله التوحيد الخالص، وحبّ الكما ل الأصيل حتى يصبح مشتاقاً إلىٰ المحبوب الإلهي، فإنّه ومن المتيقن، ما كان ليكون إلّا من المسلّمِينَ بأمر الولاية.
{ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ }([6]).
ومن هذا الجانب فإنّ المؤمنين الحقيقيين هم الّذين يؤمنون بالتولّي. فقبول الولي المعيّن من ناحية الحقّ تعالیٰ - والتي هي من الأوامر القرآنية الصريحة - تعدّ من صفات المؤمنين:
{ أنّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا وَاُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }([7]).
فمن وجهة نظر القرآن، كان هذا المسير هو الطريق الأوحد للسعادة، والخروج عن جادة تولّي أولياء الحقّ هو بمعنى الانقلاب نحو الطاغوت والتردّي في الباطل والهلاك ؛ وذلك، لأنَّه ليس بعد الحقّ شيء سوى الباطل([8]).
{ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }([9]) .
لقد كان الأنصار البارزون للرسول الأكرم’، والأئمة^، في أوج التسليم للولاية، وكان يعد من مفاخرهم . (عبدالله بن يعفور) كان من ضمن هذه المجموعة، ومن مفسري القرآن، وله درس تفسير في الكوفة، حيث كان يحضى باحترامٍٍ وإجلال لدى الإمام الصادق× . ولقد قال الإمام بشأنه:
«مَا وَجَدْتُ أحَداً يَقْبَلُ وَصِيَّتِي وَيُطِيعُ أمْرِي إلاَّ عَبْدَاللهِ بنَ أبِي يَعْفُورٍ»([10]).
فالتولّي المطلق كان من خصوصياته. وفي أحد الأيام تحدّث إلىٰ الإمام الصادق×: أقسم بالله، لو أنَّ رمانة قُسِمَت نِصفين، وترى أن نصفاً منها حلال والنصف الآخر منها حرام، فإنّي لن أرى إلّا حلالك حلال وحرامك حرام.
ولقد قال له الإمام ـ في جوابه على هذا التسليم والطاعة ـ مرتين: «يرحمك الله»([11]).
سلوك المنافقين مع الولاية
يُستفاد من محاورات القرآن الکريم أنَّ العلامة الرئيسية للنفاق هي عدم التولّي، والتمرّد على الولاية:
{وَيَقُولُونَ آمَنّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَمَا اُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإذا دُعُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }([12]).
ينقلون فيما يختص بهذه الآيات أعلاه أنَّ أمير المؤمنين× كان بينه وبين شخص خلاف، حيث كان قد ابتاع هذا الأخير أرضاً من الإمام، وقد رأى أنَّ الأرض فيها عيب بسببٍ وجود الحجارة فيها، فكان يريد ان يفسخ المعاملة.
فاقترح الإمام عليه بأن يحكم بينهما رسول الله’، لكن الحكم بن العاص- وكان من المنافقين - قال للمشتري: لا تعمل هذا العمل، فإن ذهبت إلىٰ الرسول’ وهو ابن عمّه، فإنَّ من المسلّم أن يحكم بما ينفع عليّ ×.
فنزلت الآية أعلاه بهذا الشأن، حيث وبّخت الحكم بن العاص توبيخاً شديداً. وأضافت: فإذا كان الحقّ معهم والحكم سيتخذ طريقة لصالحهم، فإنّهم يتوجهون وبسرعة إليهم، والآن يرون الحقّ ليس معهم، وعن حكم الرسول يعرضون.
فالمنافقون وانطلاقاً من حيث إنّهم أعداء لحاكمية الحقّ وحكومة النّظام الإسلامي، وغرضهم إيجاد سلطة طاغوتية، فهم في تمرد دائم على النظام الإسلامي، وأهم ركن فيه هو الولاية، حيث يجسِّدون عداءهم وحقدهم هذا وبصيغ مختلفة.
وبالطبع، فإنّ ثمة تفاوت واسع بين التولّي الواقعي وشعار الإقرار بالتولّي، فالمنافقون لم يكونوا ليُبرِزوا علناً تمردهم على الولاية وحسب، بل إنّهم وعبر شعار التولّي كانوا يظهرون، وأكثر من أي أحد آخر، إنّهم مسلّمين للولاية، أمّا في الواقع فإنّهم كانوا منشغلين ومن دون انقطاع بفكرة ونظرية التمرّد على الولاية والإقدام العملي ضدها.
المظاهر العملية للتمرد على الولاية
وكما أنّ تولّي المؤمنين له مظهر خاص كذلك فإنّ التمرّد على الولاية من قبل المنافقين هو الآخر ينطوي على مظاهر، ومن هذا الجانب يمكن التعرف على مجرى النفاق.
فثمة عدد من الموارد الّتي تختص بنقض المنافقين للولاية، قد ذكرها القرآن، وستأتي تباعاً.
أ ــ عدم قبول الحكومة الدينية
إنّ من أهم مظاهر تمرّد المنافقين على الولاية هو امتناعهم عن قبول الحكومة الدينية، ورفضهم لحاكمية النظام الإسلامي.
ففي النظرية السياسية للإسلام، تُعدّ الولاية أهمّ ركنٍ في النظام الإسلامي، ومن دون الولاية فالنظام الإسلامي ومهما كان فإنّه يكون نظاماً طاغوتياً.
يرى القرآن أنّ معيار الإيمان هو التسليم والتولّي القلبي والعملي لأوامر الولاية: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُوْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }([13]).
ولقد ورد التصريح بهذه النقطة في الرّوايات أيضاً، حتّي في الوقت الذي لا يكون فيه النظام الإسلامي قائماً، فإنّه لا يجب على أتباع مدرسة أهل البيت^ أن يقبلوا حكومة الطاغوت، وفي هذه الحالة فإنّ ما يترتّب عليهم في زمان حكومة النظام الإسلامي، من واجب.. هو واضح وبالكامل.
يقول الإمام الصادق×: {مَنْ تَحَاكَمَ إلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أوْ بَاطِلٍ فَإنّمَا تَحَاكَمَ إلَى الطّاغُوتِ وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإنّمَا يَأخُذُ سُحْتاً وَإنْ كَانَ حَقُّهُ ثَابِتاً لأنَّهُ أخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَقَدْ أمَرَ اللهُ أنْ يُكْفَرَ بِهِ }([14]).
ومن الخصوصيات البارزة للنفاق أيضاً هي نفي الحكومة الدينية، والركون إلىٰ حكومة الآخرين وسلطتهم، فالمنافقون لا يقبلون بحاكمية الدين والرسول’. أمّا حكومة الطاغوت، فإنّهم يقبلونها بالروح والقلب:
{ ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا اُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ }([15]).
لقد جاء في التفاسير أنّ منافقاً تنازع مع يهودي، فدعاه الشخص اليهودي إلىٰ أن يحكم بينهما الرسول’، وقال: نسلّم بكل ما يحكم به الرسول’. ولكن ذلك المنافق لم يقبل بتحكيم الرسول، ورضي بتحكيم (كعب بن أشرف اليهودي). فهذه الآية المتقدمة، كانت بمقام التوبيخ لهذا التصرف السياسي القبيح([16]).
كان المنافقون دائماً يقفون بوجه أوامر الرسول’. فما كانوا يسلّمون إلیٰ الحق ويأتمرون به، ولا كانوا يسمحون للآخرين بالامتثال له:
{ إذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا إلى مَا أنْزَلَ اللهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً }([17]).
فالمنافقون ليس إنّهم لا يقبلون بسلطة الدين، ولا الركون إليه، وحسب، بل أنّهم وعلى الدوام يعملون على إضعاف سلطة النظام الإسلامي وسلطة الدين.
من الصيغ الّتي کان يستخدمها المنافقون لإضعاف حكومة الرسول هي، أنّهم كانوا يوصون بخلق المشكلات والحصار الاقتصادي والاحتکار، وهي صيغة اعتمدها الأعداء دائماً، واليوم يستفدون من هذه الحربة أيضاً، من أجل إضعاف النظام الإسلامي:
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنْفَضُّوا } ([18]).
كانت مؤامرة عبدالله بن اُبَيّ ضدّ الرسول’ تهدف الى حظر أيِّ نوع صدر التعامل مع المهاجرين أو الأشخاص المحيطين برسول الله’ ؛ كي يتفرق أنصار الرسول من حوله جرّاء المشكلات المعيشية والاقتصادية، وهو ما يماثل وبدقة ذلك السلوك الّذي كان يتبعه مشركو قريشٍ في مكة ضدّ الرسول، حيث وقّع كبار قريش على وثيقة علّقوها فوق جدار الكعبة، والتي منعوا من خلالها قيام أي علاقة اجتماعية واقتصادية مع المسلمين، وليس لأي أحد أن يزوّج أحداً من بني هاشم، ولا من الرسول’، ولا من أنصاره، ولا حتى أن يتزوج منهم. فضلاً عن أنّ الوثيقة منعت الاتّفاق على أي معاهدة دفاع مشترك مع بني هاشم. وانتهت المؤامرة، ولكن ورغم كلّ المصاعب والمشكلات الّتي وقعت أعباؤها على المسلمين بفعل إمضاء هذه الوثيقة، فإنّ خطة المشركين لم يترتب عليها أثر، بسببٍ صمود وثبات الرسول وأنصاره، كما أنّها زادت من قوة الإسلام.
وممّا يعجب له هو أنّ هذه الخطّة ومن بعد رحيل الرسول، تم إجراؤها بحقّ وصيّه بالحقّ الإمام عليٍّ×. فاغتصبوا فدكاً من السّيدة فاطمة الزهراء÷ كي يحطموا الرکن الاقتصادي لقدرة الإمام علي .
ب ــ المخالفة العملية لأوامر الولاية
والمظهر الآخر لتمرّد المنافقين على الولاية هو المخالفة العملية لأوامر الولاية.
ففي الآية 51 من سورة النور، والتي تم تناولها فيما مضى، عدّ من يلبيّ أوامر الولاية واتّباعها في ضمن المؤمنين الحقيقيين. أمّا المنافقون فهم الّذين لا يقبلون بسلطة الّدين، وإذا ادّعوا في الظاهر أنّهم تبعٌ لها، فإنّهم بالفعل کانوا يعملون خلاف أوامر الولي:
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ }([19]).
يرى القرآن الکريم أنّ واحدة من مصاديق الإيمان والنفاق هو التواجد في الساحة الاجتماعية والسياسية، وأنّ مغادرة مثل هذه السوح تکون منوطةً بإذن الرسول’:
{ إنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأذِنُوهُ إنَّ الّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ اُولئِكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ }([20]).
لقد کان حنظلة (غسيل الملائکة) واحداً من مصاديق الآية أعلاه، ففي ليلة زفافه كان المسلمون يتحركون صوب اُحد، فاستحصل حنظلة علیٰ رخصةٍ من الرسول’ كي يبقى تلک الليلة إلىٰ جانب زوجته، کي يلتحق بالمسلمين صبيحة اليوم التالي، فأجازه الرسول، وفي اليوم اللاحق التحق بالمسلمين واستعدّ للجهاد، ولقد استشهد في تلك المعركة، وبعد شهادته قال الرسول’: رأيت الملائكة تغسّل حنظلة.
و في مقابل هذا التحرّک الإيماني هناك حركة المنافقين في معركة الأحزاب، ففي هذه المعركة كان الرسول قد أوكل بحفر كلّ قسمٍ من الخندق إلىٰ عشرة أشخاص، وفي الحين الذي يلاحظ فيه المنافقون أعين المسلمين قد انصرفت عنهم، كانوا يتقاعسون عن العمل. وعندما كان المسلمون يلتفتون إليهم، فإنّهم كانوا ينشغلون في العمل. والآية الآتية تشير إلیٰ هذا العمل النفاقي:
{ قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ }([21]).
والآية الاُخرى التي تُظهر عصيان المنافقين العملي لأوامر الرسول’ هي الآية 81 من سورة التوبة، فإنّ الله جل وعلا في هذه الآية والآيات اللاحقة قد ندّد بأعمالهم وبشدّة، وتوعّدهم بعذاب شديد:
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أنْ يُجَاهِدُوا بِأمْوالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }([22]).
ومما يستشف من لحن الآية، فإنّ عدداً من المنافقين لم يكونوا ليشاركوا في معارك الرسول’، فهم لم يندموا علیٰ إتيانهم هذا العمل القبيح وحسب، بل إنّهم كانوا فرحين ومسرورين بهذا التخلّف، والأدهى من ذلك أنَّهم كانوا يحرّضون الناس ومن خلال دعاياتهم السيئة على الامتناع عن الحضور في ساحة الجهاد.
ج ــ هتك حرمة الولاية
والمظهر الآخر لتمرّد المنافقين على الولاية هو هتك حرم الولاية.
فلقد شخّص القرآن حُرُمات للولاية، وأوجب على المسلمين المحافظة عليها.
فأوّل حرمةٍ هي عندما تُصدر الولاية أمراً فيجب الامتثال لأمرها دون كيف؟ ولماذا؟ لأنّ الولي إن لم يُطَع فإنّه سوف لا يبلغ النظام الإسلامي مبلغه:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} ([23]).
فبعد صدور الأمر من الوليّ، ليس هناک مجال لإظهار الرأي والسليقة الشخصية والاستشكال. فعلاوةً على عصيان المنافقين لأوامر الولي كانوا يستهدفون هتک حرمة الولاية، فضلاً عن دعوة الآخرين إلیٰ التمرّد.
ففي الآية 81 من سورة التوبة([24])، يظهر بوضوح رضا وابتهاج المخالفين أمر الرسول’. وبالطبع فان لزوم تنفيذ أوامر الولاية ومن دون كيف؟ ولماذا؟ لا يتعارض مع قضية النصح والتشاور والتذكير.
فحتى الوقت الذي لم يُصدر فيه الولي حكماً أو أمراً فلا يكون الجميع في رخصةٍ منه وحسب، بل إنّه من الواجب ومن باب (النصيحة لأئمة المسلمين)، أن يُدلُوا بآرائهم بين يدي الولي. أمّا وعندما تكون الولاية قد وقّعت على قرارها فالجميع مكلف بالطاعة، حتى اُولئك الّذين كانوا في عداد المخالفين إبّان مرحلة الاستشارة، فليس لأي أحدٍ وتحت ذريعة مخالفته لهذا الرأي أن يهمّ بالعصيان.
اقترح ابن عباس على الإمام عليّ×، بأن يبقي معاوية في منصبه، وأن يسند ولاية البصرة والكوفة إلىٰ طلحة والزبير، وبعد أن تهدأ الأوضاع يقوم بعزلهم. ومن ضمن رفض الإمام لمقترحه قال:
«لاَ أُفْسِدُ دِينِي بِدُنْيَا غَيْرِي، لَكَ أنْ تُشِيرَ عَلَيَّ وَأرى، فَإنْ عَصَيْتُكَ فَأطِعْنِي»([25]).
هناك الكثير من الروايات في مورد (إسداء النصح والموعظة) خاصة لقياديّي المجتمع الإسلامي، واعتبَرت ذينك العملين ذات قيمة سامية، وإنّهما من الواجبات الملقاة على عواتق أبناء الاُمّة. يرى الإمام عليّ× أنّ احد حقوق القائد على الناس إسداء النصيحة والموعظة الحسنة:
«وَأمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ النَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ»([26]).
كما كان يطلب الإمام من صحابة الرسول، وأصحابه الصالحين والبارزين، بعد اعتزازه واحتفائه بهم، أن يعينوه باسداء النصح، ومن دون غلٍّ ولا غشٍّ:
«... فَأعِينُونِي بِمُناصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ»([27]).
إذن فإنّ إسداء النصح والموعظة، لا سيمّا نصح المجتمع لقياديي النظام الإسلامي، له قيمة بالغة وواجب، شريطة أن يتضمنا مصداق النصح الحقيقي. وبناءً على ذلك فإنَّ تقصّي العيب مع تغليب الحقد ليس بنصح. فما كان ليعدّ تحكيم إثارة الشغب وطرح التهم غير الصحيحة بنصح، وإصدار الأحكام المتسرّعة والشخصية ليست بنصح.
ولم يتم السكوت على هذه النقطة في أوامر الولاية، فإنّه كان يجب التسليم لها، سواء الأمر الصادر عن ولاية المعصوم، او الامر الصادر عن ولاية ولي الفقيه. وهذا هو نفس ما جاء أيضاً في القرآن. ولقد طُرِح كذلك في الفقه تحت عنوان (حرمة نقض حكم الحاكم من قبل المجتهدين الآخرين).
وبالطبع ففي حال عدم تواجد حكم إلهي أو حكم صادر عن الولاية، فإنَّ لكلّ مسلم الحقّ في التعبير عن رأيه. ولم يکن الرسول’ في أي وقتٍ يمنع التعبير عن حرية الرأي، بل إنّه كان يحفّز أيضاً مَن يريد أن يُبدي برأيه.
ففي معركة الخندق صادق الرسول’ على مشورة سلمان (رض) المبتنية على حفر الخندق. فقال سلمان للرسول’: کان في بلاد فارس، وعند كل مرة يواجه الناس فيها هجوماً خطيراً للعدو، فإنّهم يعمدون إلىٰ حفر خندقٍ حول المدينة، وبهذه الوسيلة يعملون على الحدّ من تقدم العدوّ، لذا فمن الأحسن أن نحصّن ثغور المدينة المستمكنة والتي تُستخدم بسهولة لعبور ومرور المعدات الحربية ووسائط النقل والتموين للعدو، وذلك بواسطة حفر الخندق، ونمنع من تقدم العدو في ذلك الجانب. وعبر تشييد الأبراج وإيجاد الخروق في جوانب الخندق ننشغل بالدفاع. وبتأييد الرسول لهذا الرأي، انشغل هو الآخر بحفر الخندق([28]).
وفي آيةٍ اُخرى، يصرّح القرآن الکريم بلزوم التقيّد بأوامر الولي وعدم التقدم عليها.
{ يَا أيُّها الََذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ}([29]).
التقدّم على الله والرسول يعني تفعيل السليقة الشخصية في قبالة أمر الله ورسوله الصريحين، وطرح رأي آخر مواجه قرار الله تعالیٰ والرسول’.
إنَّ التقدّم على الولاية يعني تحريف كلام وأوامر الرسول بالشكل الّذي يلائم مسار نفس الشخص. ولقد وجّه الإمام الصادق× اللعن على مثل هذا التحريف المجحف:
«قَوْمٌ يَزْعُمُونَ: أنِّي إمَامُهُم، وَالله مَا أنا بِإمَامٍ لَهُمْ، لَعَنَهُمُ اللهُ، كُلَّما سَتَرْتُ سِرّاً هَتَكُوهُ، أقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُونَ: إنَّما يَعْنِي كَذا وَكَذا. إنَّما أنا إمامُ مَنْ أطاعَنِي»([30]).
وعلى كلّ حالٍ فإنَّ واحدةً من حرمات الولاية هي لزوم اتّباع اؤامر الولي ومن دون لماذا؟ وكيف؟. بينما صيغة المنافقين تتمثل في عدم الانصياع لأوامر الرسول، والعمل على هتك حرمته. طبعاً وكما تمّ إيضاحه فإنَّ التبعية المجرّدة من التردد والاعتراض لا تتعارض مع ضرورة إسداء النصح لقياديّي المجتمع.
والحرمة الاُخرى التي يبيّنها القرآن الکريم بالنسبة للولاية هي لزوم احترام الوليّ، فإنّ الأمر الذي جاء في القرآن المجيد يوعز بخفض الصوت حين المثول بين يدي الرسول÷ ليكون ذلك بمثابة رمزٍ لأحد مصاديق رعاية احترام الوليّ:
{ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}([31]).
وفي آية اُخرى، أوصت بهذا المضمون أيضا ً:
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }([32]).
تعلِّم كلا الآيتين اعلاه المؤمنين الصيغة الصحيحة للتعامل مع الوليّ، كما تندد بسلوك المنافقين القبيح مع الرّسول’ .
والعمل الآخر من أعمال المنافقين بغية انتهاك حرمة الولاية هو اعتبار الولي مغفّلاً:
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الرَّسُولَ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ }([33]).
والصيغة الاُخرى من أجل انتهاك حرمة الولاية، وعدم احترامهم للولّي، هو الانتقاص من أعمال الرسول والاحتجاج عليها.
فقد اعترضعلى الرسول’ (حرقوص بن زهير) الّذي غدا زعيماً للخوارج فيما بعد، في تقسيم غنائم معركة حُنين، وقال: اعدل يامحمّد! فقال الرسول’: من هو أعدل منّي؟ فأراد أحد المسلمين وبسببٍ إساءة الأدب هذه أن يقتل حرقوص، فقال الرسول’: خلّوا عنه، سيكون له أعوان، لَشدّما يتعبّدون، حتى لتعدّون عبادتكم بالنسبة إلىٰ عبادتهم لا شيء، ولكن مع كل هذه العبادة، فهم ينسلّون من الدين([34]).
ولقد هلك حرقوص هذا في معركة النهروان على يد الإمام عليٍّٰ×([35]).
نزلت الآية التالية في ذمّ سلوك حرقوص وعدد من المنافقين الّذين كانوا يرومون اغتيال شخصية الرسول’:
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإنْ اُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإنْ لَمْ يُعطَوْا مِنْها إذا هُمْ يَسْخَطُونَ }([36]).
[1]. تمثل ولاية الفقيه أيضاً استمراراً لولاية وحركة الأنبياء والأئمة^.
[2]. وسائل الشيعة: ج1 / 10.
[3]. الأحزاب: الآية 6.
[4]. المائدة: الآية 55.
[5]. النساء: الآية 64.
[6]. آل عمران: الآية 31.
[7]. النور: الآية 51.
[8]. إشارة إلیٰ قوله تعالیٰ في سورة يونس: 32 {فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال}.
[9]. النور: الآية 52.
[10]. قاموس الرجال: ص241.
[11]. قاموس الرجال: ص241.
[12]. النور: الآيتان 47 - 48.
[13]. النساء: الآية 65.
[14]. وسائل الشيعة: ج18 ص3.
[15]. النسائ: الآية 60.
[16]. مواهب الرحمن: ج 8 ص253.
[17]. النساء: الآية 61.
[18]. المنافقون: الآية 7.
[19]. النساء: الآية 81.
[20]. النور: الآية 62.
[21]. النور: الآية 63.
[22]. التوبة: الآيتان 81 - 82.
[23]. الأحزاب: الآية 36.
[24]. و هي قوله تعالیٰ: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا ان يجاهدوا بأموالهم و انفسهم في سبيل الله و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم اشد حرا لو كانوا يفقهون}
[25]. نهج البلاغة: الحكمة 321. وأيضاً يراجع: تاريخ الطبري: ج6، ص 3089، وكذلك: مروج الذهب، ج2 ص365.
[26]. نهج البلاغة: الخطبة 34.
[27]. نهج البلاغة: الخطبة 118.
[28]. تاريخ الطبري: ج2: ص224. وأيضاً: فروغ ابديت (= الشعاع الأبدي): ج2 ص535.
[29]. الحجرات: الآية 1.
[30]. بحار الانوار، ج 68: ص 164.
[31]. الحجرات: الآية 2.
[32]. النور: الآية 63. يوجد لهذا القسم من الاية تفسيران: أحدهما، هو الذي جاء في النص: (النداء على الرسول باحترام)، والتفسير الثاني الذي يؤكد عليه العلّامة الطباطبائي، هو أنّ الآية تتحدث عن دعوة الرسول. فمفهوم الآية هو أنّه وعندما يدعوكم الرسول الى شيء ما، فإنّما يدعوكم من حيث انه القائد الالهي والداعية اليه. فلا يجب أن تفهموا دعوة الرسول على أنّها دعوة بسيطة وعادية.
[33]. التوبة: الآية 61
[34]. الدر المنثور: ذيل الآية 58 من سورة التوبة.
[35]. اُسد الغابة: ج1 ص474.
[36]. التوبة: 58. ثمة تفاوت ما بين معنى اللمز والنصح: فاللمز يقال لتقصي العيب مع تغليب الحقد، والذي يتمثل في هدف إسقاط الشخص.