قبس من أخلاق سيدنا الإمام زين العابدين×
موقف نبيل
جاء رجل إلى علي بن الحسين× وكان (الرجل) من أهل بيته فأسمعه (كلاماً سيئاً) وشتمه، فلم يكلّمه (الإمام×) فلما انصرف الرجل قال× لجلسائه: لقد سمعتم ما قاله هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي (تأتوا معي) إليه حتى تسمعوا مني ردّي عليه، قال (الراوي): فقالوا له (جلساؤه)، نفعل ولقد كنّا نحب أن يقول له ويقول (يردّ على الرجل الصاع صاعين) فأخذ نعليه ومشى× وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)([1])، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً.
قال (الراوي): فخرج حتى أتى منزل الرجل فقال× لمن معه: قولوا له: هذا علي بن الحسين. قال (الراوي) فخرج (الرجل) متوثباً للشرّ وهو لا يشك أنه جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه (يرد عليه بالمثل) فقال له علي بن الحسين×: يا أخي أنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً (سابقاً) فقلت وقلت، فإن كنتَ قلتَ ما فيّ (حقاً) فاستغفر الله منه، وإن كنت ما قلتَ ما ليس فيَّ فغفر الله لك، قال الراوي: فقبل الرجل بين عينيه وقال: قلتُ ما ليس فيك وأنا أحق به([2]).
قال الراوي: والرجل هو الحسن بن الحسن (ابن عمه).
وللمجذومين نصيب من الحب
عن الإمام أبي عبدالله الصادق× قال: مرّ علي بن الحسين‘ على المجذومين وهو راكب حماره وهم يتغدّون فدعوه إلى الغداء فقال: لولا أني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه فتغدّوا عنده وتغدّى معهم([3]).
الصفح الجميل
عن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي× قال: كان هشام بن إسماعيل (حاكم المدينة المنورة) يسيئ جواري (معاملتي) فلقي منه علي بن الحسين× أذىً شديداً (مضايقات شديدة)، فلما عزل (من منصبه سنة 87هـ) أمر به الوليد (الخليفة الأموي) أن يوقف للناس (يوقف في ميدان في المدينة لإذلاله والسماح للناس بالانتقام منه) قال (الراوي): فمرّ به علي بن الحسين× وقد أوقف عند دار مروان (أمام قصر مروان بن الحكم) قال (الراوي) فسلّم عليه (علي بن الحسين). قال (الراوي): وكان علي بن الحسين قد تقدّم إلى خاصّة (أهل بيته وأصحابه المقرّبين) إلاّ يعرض عليه أحد (لا يتعرّض له أحد بسوء)([4]).
الشعور بالأمن
وروي أنه دعا× مملوكه مرّتين فلم يجبه، فلما أجابه في الثالثة قال له×: يا بني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى قال×: فمالك لم تجبني؟ قال: أمنتك. قال× الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني([5]).
في قلب الليل
عن أبي حمزة الثمالي: كان علي بن الحسين× يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب في الصرر من الدنانير والدراهم، حتى يأتي (أبواب الفقراء والمعوزين) باباً باباً فيقرعه فيناول من يخرج إليه.
فلما مات علي بن الحسين× فقدوا (الفقراء) ذلك (الرجل الذي يأتيهم ليلاً) فعلموا أن علي بن الحسين الذي كان يفعل ذلك([6]).
وعنهt قال: رأيت علي بن الحسين× يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبيه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسألته عن ذلك فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟! أن العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليها منها بقلبه([7]).
عفو وإحسان
وروي أن جارية كانت تسكب عليه الماء فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه فرفع علي بن الحسين× رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ}([8]) فال×: قد كظمت غيظي قالت: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}([9]) قال× لها: قد عفوت عنك، قالت {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}([10]) قال أذهبي فأنت حرّة لوجه الله([11]).
وعن أبي حمزة عن أبيه قال: رأيت علي بن الحسين في فناء الكعبة في الليل وهو يصلي فأطال القيام، حتى جعل مرّة يتوكّأ على رجله اليمنى ومرّة على رجله اليسرى ثم سمعته يقول بصوت كأنه بالك: يا سيدي تذبني وحبّك في قلبي، أما وعزتك لئن فعلت لتجمعنّ بيني وبين قوم طالما عاديتهم فيك([12]).
عن أبي عبد الله× قال: كان بالمدينة رجل بطال يضحك الناس منه فقال: قد أعياني هذا الرّجل أن أضحكه، يعني علي بن الحسين قال: فمر علي عليه السلام وخلفه موليان له قال: فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته، ثم مضى، فلم يلتفت إليه علي×، فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاؤا به فطرحوه عليه، فقال لهم: من هذا؟ فقالوا: هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة، فقال: قولوا له: إنَّ لله يوماً يخسر فيه المبطلون.
وعن الصادق× قال: كان علي بن الحسين× لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه فقال لهم: أتدرون من هذا؟ فقالوا: لا، قال هذا علي بن الحسين× فوثبوا إليه فقبلوا يده ورجله وقالوا: يا ابن رسول الله أردت أن تصلينا نار جهنّم لو بدرت منا إليك يد أو لسان أما كنّا قد هلكنا إلى آخر الدَّهر؟ فما الّذي يحملك على هذا؟ فقال: إنّي كنت سافرت مرّة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله’ ما لا أستحقُّ، فانّي أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحبَّ إلىَّ.
وعن أبي المفضّل، بإسناده إلى شقيق البلخي عمن أخبره من أهل العلم قال: قيل لعلي بن الحسين×: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال: أصبحت مطلوباً بثمان: الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي’ بالسنة والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بإتباعه، والحافظان بصدق العمل وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب.
عن أبي عبد الله× قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما أحسن النّاس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤن يمرُّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته، وكان أبو جعفر× أحسن النّاس صوتاً.
وعن الصّادق× قال: قال علي بن الحسين× لابنه محمّد× حين حضرته الوفاة: إنّني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجة، فلم أقرعها بسوط قرعة فإذا نفقت فادفنها لا تأكل لحمها السباع، فان رسول الله’ قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة، وبارك في نسله فلما نفقت حفر لها أبو جعفر× ودفنها.
قال أبو عبد الله×: كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يمشي مشية كأنَّ على رأسه الطير لا يسبق يمينه شماله.
وهو وصف بالسكون والرقار، وأنّه لم يكن فيه طيش ولا خفّة لأنَّ الطير لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن.
عن أبي عبد الله× قال: حجَّ علي بن الحسين صلوات الله عليه على راحلة عشر حجج ما قرعها بسوط ولقد بركت به سنة من سنواته فما قرعها بسوط.
عن أبي جعفر× إنّه كان يخرج في اللّيلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره حتّى يأتي بابا بابا، فيقرعه ثمَّ يناول من كان يخرج إليه وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلاّ يعرفه.
وأنّه كان إذا جنّة اللّيل، وهدأت العيون قام إلى منزله، فجمع ما يبقى فيه عن قوت أهله، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثّم، ويفرق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب.
قال الطائي: إنَّ عليَّ بن الحسين× كان إذا ناول الصدقة السائل قبله ثمَّ ناوله.
وعن أبي عبد الله الدامغاني أنّه كان علي بن الحسين× يتصدق بالسكر واللوز فسئل عن ذلك فقرأ قوله تعالى: >لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وكان×: يحبّه.
وعن الصادق× إنّه كان علي بن الحسين× يعجب بالعنب فدخل منه إلى المدينة شيء حسن، فاشترت منه أمُّ ولده شيئاً وأتته به عند إفطاره فأعجبه، فقبل أن يمد يده وقف بالباب سائل، فقال لها: احمليه إليه، قالت: يا مولاي بعضه يكفيه قال: لا والله وأرسله إليه كلّه، فاشترت له من غد وأتت به فوقف السائل، ففعل مثل ذلك فأرسلت فاشترت له، وأتته به في اللّيلة الثالثة ولم يأت سائل فأكل وقال: ما فاتنا منه شيء والحمد لله.
وقال أبو جعفر×: إن أباه علي بن الحسين‘ قاسم الله ماله مرتين.
وقال الزهري: لمّا مات زين العابدين× فغسلوه، وجد على ظهره مجل فبلغني إنه كان يستقي لضَعَفة جيرانه بالليل.
وقال: عمرو بن ثابت: لمّا مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره وقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
وجاء في الروايات: إنّه لما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الابل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء.
وكان× إذا انقضى الشتاء تصدّق بكسوته، وإذا انقضى الصيف تصدَّق بكسوته، وكان يلبس من خز اللباس فقيل له: تعطيها من لا يعرف قيمتها ولا يليق به لباسها، فلو بعتها فتصدقت بثمنها، فقال: إنّي أكره أن أبيع ثوبا صلّيت فيه.
وممّا جاء في صومه وحجّة× معتب عن الصادق× قال: كان علي بن الحسين÷ شديد الاجتهاد في العبادة نهاره صائم وليله قائم فأضر ذلك بجسمه فقلت له: يا أبه كم هذا الدؤب؟ فقال له: أتحبّب على ربّي لعلّه يزلفني، وحجَّ× ماشيا فسار في عشرين يوماً من المدينة إلى مكة.
قال زرارة بن أعين: لقد حجَّ على ناقة عشرين حجّة فما قرعها بسوط.
وقال إبراهيم الرافعي: التاثت عليه ناقته فرفع القضيب وِأشار غليها وقال:
لو لا خوف القصاص لفعلت، وفي رواية: أه من القصاص، وردَّ يده عنها.
وقال عبد الله بن مبارك: حججت بعض السنين إلى مكة فبينما أنا سائر في عرض الحاج وإذا صبي سباعي أو ثماني؟ وهو يسير في ناحية من الحاج بلا زاد ولا راحلة فتقدمت إليه وسلّمت عليه، وقلت له: مع من قطعت البر؟ قال: مع البار فكبر في عيني، فقلت: يا ولدي أين زادك وراحلتك؟ فقال: زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي، فعظم في نفسي، فقلت: يا ولدي ممّن تكون؟ فقال: مطلبي، فقلت: أبن لي؟ فقال: هاشمي، فقلت: أبن لي، فقال: علوي فاطمي فقلت: يا سيدي هل قلت شيئاً من الشعر؟ فقال: نعم، فقلت: أنشدني شيئاً من شعرك، فأنشد:
لنحن على الحوض رواده |
|
نذود و نسقي وراده |
وما فاز من فاز إلاّ بنا |
|
وما خاب من حبّنا زاده |
ومن سرنا نال منا السرور |
|
ومن ساءنا ساء ميلاده |
ومن كان غاصبنا حقّنا |
|
فيوم القيامة ميعاده |
ثم غاب عن عيني إلى أن أتيت مكة فقضيت حجّتي ورجعت، فأتيت الأبطح فإذا بحلقة مستديرة، فاطّلعت لأنظر من بها فإذا هو صاحبي، فسألت عنه فقيل:
هذا زين العابدين×، ويروى له×:
نحن بنو المصطفى ذوو غصص |
|
يجرعها في الأنام كاظمنا |
عظيمة في الأنام محنتنا |
|
أولنا مبتلى وآخرنا |
يفرح هذا الورى بعيدهم |
|
ونحن أعيادنا مآتمنا |
والناس في الأمن والسرور وما |
|
يأمن طول الزمان خائفنا |
وما خصصنا به من الشرف |
|
الطائل بين الأنام آفتنا |
يحكم فينا والحكم فيه لنا |
|
جاحدنا حقنا وغاصبنا |
عن أبي جعفر× قال: إنَّ ابي ضرب غلاماً له قرعة واحدة بسوط، وكان بعثه في حاجة فأبطأ عليه، فبكى الغلام وقال: الله يا علي بن الحسين تبعثني في حاجتك ثم تضربني قال: فبكى أبي وقال: يا بني اذهب إلى قبر رسول الله’ فصل ركعتين ثم قل: اللهم اغفر لعلي ابن الحسين خطيئته يوم الدين، ثم قال للغلام: اذهب فأنت حر لوجه الله، قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك كأن العتق كفارة الضرب؟! فسكت
قال أبو الحسن موسى بن جعفر×: إن على بن الحسين÷ ضرب مملوكاً، ثم دخل إلى منزله فأخرج السوط ثم تجرد له ثم قال: اجلد علي بن الحسين! فأبى عليه، فأعطاه خمسين ديناراً.
وعن أبي عبد الله× قال: قال علي بن الحسين÷ك ما عرض لي قط أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة فآثرت الدنيا إلا رأيت ما أكره قبل أن أمسي.
قال نافع بن جبير لعلي بن الحسين×: إنّك تجالس أقواماً دونا؟ فقال له: إنّي أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني.
وقيل له×: إذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة؟ فقال: أكره أن آخذ برسول الله ما لا أعطي مثله.
قال نافع: قال×: ما أكلت بقرابتي من رسول الله’ شيئاً قط.
وقيل له: إنّك ابر الناس ولا تأكل مع أمّك في قصعة وهي تريد ذلك؟ فقال×: أكره أن تسبق يدي على ما سبقت إليه عينها فأكون عاقاً لها فكان بعد ذلك يغطي الغضارة بطبق ويدخل يده من تحت الطبق ويأكل وكان× يمر على المدرة في وسط الطريق فينزل عن دابته حتّى ينحيّها بيده عن الطريق.
قال الفيروز آبادي الغضارة: الطين اللازب الأخضر الحر كالغَضار والنعمة والسعة والخصب.
والمراد هنا إمّا الطعام أو ظرفه مجازاً.
وعن سفيان بن عيينة، قال: ما رؤي علي بن الحسين× قط جائزاً بيديه فخذيه وهو يمشي.
وعبد الله بن مسكان، عن علي بن الحسين إنّه كان يدعو خدمه كل شهر ويقول: فمن أراد منكن التزويج زوجتها، أو البيع بعتها. أو العتق أعتقتها، فإذا قالت إحداهن لا، قال: اللهم اشهد، حتّى يقول ثلاثاً، وإن سكتت واحدة منهن قال لنسائه: سلوها ما تريد، وعمل على مرادها.
84 ـ قب: في كرمه وصبره وبكائه× تاريخ الطبري([13]) قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين÷ في إمارته فلمّا عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس فقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين، فمر به علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلمّا مر ناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وكان الإمام زين العابدين أنفذ (أرسل) إليه وقال: انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك فطب نفساً منّا ومن كلّ من يطيعنا، فنادي هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته([14]).
واحتضر عبد الله (احد بني عمه) فاجتمع غرماؤه فطالبوه بدين لهم، فقال: لا مال عندي أعطيكم، ولكن ارضوا بمن شئتم من ابني عمي علي بن الحسين وعبد الله بن جعفر، فقال الغرماء: عبد الله بن جعفر ملي مطول، وعلي بن الحسين رجل لا مال له صدوق فهو أحب إلينا، فأرسل غليه فأخبره الخبر، فقال×: أضمن لكم المال إلى غلّة ولم تكن له غلّة، قال: فقال القوم: قد رضينا وضمنه، فلمّا أتت الغلّة أتاح الله له المال فأوفاه.
وعمد علي بن الحسين إلى عبد له كان عبد الله بن جعفر أعطاه به عشرة آلاف درهم أو ألف دينار، فأعتقه.
وخرج زين العابدين وعليه مُطرف خز فتعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه.
وقال إبراهيم بن سعد: سمع علي بن الحسين‘ واعية في بيته وعنده جماعة، فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه فقيل له: أمن حدث كانت الواعية؟ قال: نعم فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنّا أهل بيت نطيع الله عزّ وجلَّ فيما نحب ونحمده فيما نكره.
وقال العتبي قال علي بن الحسين‘: ـ وكان من أفضل بني هاشم ـ لابنه: يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الّذي مضرته عليك أكثر من منفعته له.
وبلغ عبد الملك أنَّ سيف رسول الله’ عنده، فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة، فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال، فأجابه×: أمّا بعد فإن الله ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جل ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فانظر أيّنا أولى بهذه الآية.
وشتم بعضهم زين العابدين صلوات الله عليه، فقصده غلمانه فقال: دعوه فانّ ما خفي منّا أكثر ممّا قالوا، ثمَّ قال له: ألك حاجة يا رجل؟ فخجل الرَّجل فأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرَّجل صارخا يقول: أشهد أنّك ابن رسول الله.
ونال منه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب× فلم يكلّمه، ثم أتى منزله وصرخ به، فخرج الحسن متوثّباً للشرِّ، فقال للحسن: يا أخي إن كنت قلت ما في فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في يغفر الله لك، فقبل الحسن بين عينيه وقال: بل قلت ما ليس فيك وأنا أحق به.
وشتمه آخر، فقال يا فتي إنَّ بين أيدينا عقبة كؤداً، فان جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شر ممّا تقول.
وسبّه× رجل فسكت عنه فقال: إيّاك أعني، فقال×: وعنك أغضي.
وكسرت جارية له قصعة فيها طعام فاصفر وجهها، فقال لها: اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
وقيل: إنَّ مولى لعلي بن الحسين‘ يتولّى عمارة ضيفة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً غاضه من ذلك ما رآه وغمّه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك، فلمّا انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده عارياً والسّوط بين يديه، فظن أنّه يريد عقوبته، فاشتدَّ خوفه، فأخذ علي بن الحسين السّوط ومد يده إليه وقال: يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة، فدونك السوط واقتص مني، فقال المولي: يا مولاي والله إن ظننت إلا أنّك تريد عقوبتي وأنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك؟ قال: ويحك اقتص، قال: معاذ الله أنت في حل وسعة، فكرر ذلك عليه مراراً، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلّله، فلمّا لم يره يقتص، قال له: أمّا إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك، وأعطاه إياها.
وانتهى× إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال لهم: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم.
وروي عن أبي حازم وسفيان ابن عيينة، والزهري قال: كل واحد منهم: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين، ولا أفقه منه.
وقلّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه، قال علي بن الحسين: أو قال زين العابدين.
وقد روى عنه الطبري، وابن البيع، وأحمد، وابن بطة، وأبو داود وصاحب الحلية، والأغاني، وقوت القلوب، وشرف المصطفى، وأسباب نزول القرآن والفائق، والترغيب والترهيب، عن الزهري، وسفيان بن عيينة، ونافع والا وزاعي، ومقاتل، والواقدي، ومحمّد بن إسحاق.
وقال الأصمعي: كنت بالبادية وإذا أنا بشاب منعزل عنهم في أطمار رثة، وعليه سيماء الهيبة، فقلت: لو شكوت إلى هؤلاء حالك لأصلحوا بعض شأنك فأنشأ يقول:
لِباسي للدنيا التجلد والصبر |
|
ولبسي للاخرى البشاشة والبشر |
إذا اعترني([15]) أمر لجأت إلى العز |
|
لأني من القوم الذين لهم فخر |
ألم تر أن العرف قد مات أهله |
|
وأن الندى والجود ضمهما قبر |
على العرف والجود السلام فما بقي |
|
من العرف إلا الرسم في الناس والذكر |
وقائلة لما رأتني مسهداً ([16]) |
|
كأن الحشامني يلذعها الجمر |
أباطن داء لوحوى منك ظاهراً |
|
فقلت الذي بي ضاق عن وسعه الصدر |
تغير أحوال وفقد أحبة |
|
وموت ذوي الافضال قالت كذا الدهر |
فتعرفته فإذا هو علي بن الحسين‘ فقلت أبى أن يكون هذا الفرخ إلا من ذلك العش.
وكان× إذا مشى لا يجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده، وعليه السكينة والخشوع.
وقال سفيان: جاء رجل إلى علي بن الحسين‘ فقال: إن فلاناً قد وقع فيك وآذاك، قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق معه وهو يرى أنه سينصر لنفسه، فلما أتاه، قال له: يا هذا إن كان ما قلت في حقاً، فانّه تعالى يغفره لي، وإن كان ما قلت في باطلا، فالله يغفره لك.
وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامح العيون علانيتي وتقبح عندك سريرتي، اللّهم كما أسأت وأحسنت إلي، فإذا عدتُ فعد علي.
وكان إذا أتاه السائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.
وإنّه× كان لا يحب أن يعينه على طهوره أحد وكان يستقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك، ثم توضأ ثم يأخذ في صلاته، وكان يقضي ما فاته من صلاة نافلة النهار في اللّيل، ويقول: يا بني ليس هذا عليكم بواجب، ولكن أحب لمن عود منكم نفسه عادة من الخير أن يدوم عليها وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر.
وكان× يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال لهم علي: مهلا كفّوا، ثم أقبل على ذلك الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها، فاستحيى الرجل، فألقى إليه علي خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسل.
وكان عنده× قوم أضياف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود (ما يشوي عليه اللحم) منه على رأس بني لعلي بن الحسين× تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال علي للغلام وقد تحير الغلام واضطرب: أنت حر فانّك لم تعتمده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه. وعن عبد الله بن علي بن الحسين قال: كان أبي يصلّي باللّيل حتى يزحف إلى فراشه (من شدة التعب).
88 ـ كشف: الحافظ عبد العزيز بن الأخضر، روى يوسف بن أسباط عن أبيه، قال: دخلت مسجد الكوفة، فإذا شاب يناجي ربّه وهو يقول في سجوده: >سجد وجهي متعفراً في التراب لخالقي وحق له< فقمت إليه، فإذا هو علي بن الحسن× فلما نفجر الفجر، نهضت إليه فقلت له: يا ابن رسول الله تعذب نفسك وقد فضلك الله بما فضلك؟ فبكى ثم قال: حدثني عمر وبن عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله’: كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين فقئت سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين باتت ساهرة ساجدة يباهي بها الله الملائكة ويقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي، قد جافي بدنه عن المضاجع، يدعوني خوفاً من عذابي وطمعاً في رحمتي، اشهدوا أني قد غفرت له.
وعن سفيان الثوري قال: كان علي بن الحسين‘ يحمل معه جرابا فيه خبز فيتصدق به، ويقول: إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وعنه قال: كان× يقول: ما يسرني بنصيبي من الذل حمر النعم.
وعن عبد الله بن عطا قال: أذنب غلام لعلي بن الحسين× ذنباً استحق به العقوبة فأخذ له السوط وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} فقال الغلام: وما أنا كذاك إني لأرجو رحمة الله وأخاف عذابه، فألقى السوط وقال: أنت عتيق.
وسقط له ابن في بئر فتفزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان قائماً يصلي، فما زال عن محرابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما شعرت، إني كنت أناجي رباً عظيماً.
وكان له ابن عم يأتيه بالليل متنكّراً فينا وله شيئاً من الدنانير فيقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني، لا جزاه الله عني خيراً، فيسمع ذلك ويحتمل ويصبر عليه ولا يعرفه بنفسه، فلّما مات علي× فقدها (ما يصله من الدنانير) فحينئذ علم أنّه هو كان، فجاء إلى قبره وبكى عليه.
وكان× يقول في دعائه: اللّهم من أنا حتى تغضب علي، فو عزتك ما يزين ملكك إحساني، ولا يقبحه إساءتي، ولا ينقص من خزائنك غناي، ولا يزيد فيها فقري.
وقال ابن الأعرابي: لما وجه يزيد بن معاوية عسكره لاستباحة أهل المدينة ضم علي بن الحسين× إلى نفسه أربعمائة منايعولهن إلى أن انقرض (غادر) جيش مسلم بن عقبة، وقد حكي عنه مثل ذلك عند إخراج ابن الزبير بني أمية من الحجاز، وقال× ـ وقد قيل له: ما لك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة؟ ـ فقال: أكره أن آخذ برسول الله’ مالا أعطي مثله، وقال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً (سوء لقول) فيه فأعرض الزبيري عنهن ثم دار الكلام فسب الزبيري علي بن الحسين فأعرض عنه ولم يجبه، فقال له الزبيري: ما يمنعك من جوابي؟ قال: ما يمنعك من جواب الرجل، ومات له ابن فلم يرمنه جزع، فسئل عن ذلك فقال: أمر كنا تتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
بيان: قال الفيروز آبادي قذعه كمنعه رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه.
وقال طاوس: رايت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين× فقلت له: يا ابن رسول الله رايتك على حالة كذا، ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنك ابن رسول الله، والثاني: شفاعة جدك، والثالث: رحمة الله فقال: يا طاوس أما أني ابن رسول الله’ فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} وأمّا شفاعة جدي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى}([17]). وأما رحمة الله يقول تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}([18]) ولم اعلم أني محسن.