قبس من أخلاق سيدنا الإمام جعفر الصادق×
عن النوفلي قال: سمعت مالك بن أنس الفقيه يقول: والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد× زاهداً وفضلاً وعبادة ورعاً، وكنت أقصده فيكرمني ويُقبل علي فقلت له يوماً: يا ابن رسول الله ما ثواب من صام يوماً من رجب إيماناً واحتساباً؟ فقال: ـ وكان والله إذا قال صدق ـ حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله’: من صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً غفر له، يا ابن رسول الله فما ثواب من صام يوماً من شعبان؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله’: من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غفر له([1]).
وعن معلى بن خنيس قال: خرج أبو عبد الله× في ليلة قد رشت السماء وهو يريد ظلة بني ساعدة، فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء فقال: بسم الله اللهم رده علينا قال: فأتيته فسلمت عليه فقال: معلى؟ قلت: نعم جعلت فداك فقال لي: التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إلى، قال: فإذا أنا بخبز منتشر، فجعلت أدفع إليه ما وجدت فإذا أنا بجراب من خبز فقلت: جعلت فداك أحمله علي عنك فقال: لا أنا أولى به منكن ولكن امض معي قال: فأتينا ظلة بني ساعدة، فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدس الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم حتى أتى على آخرهم ثم انصرفنا فقلت: جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق؟ فقال: لو عرفوا لو اسيناهم بالدقة، والدقة هي الملح.
عن معاوية بن وهب قال: كنت مع أبي عبد الله× بالمدينة وهو راكب حماره، فنزل وقد كنا صرنا إلى السوق أو قريباً من السوق قال: فنزل وسجد وأطال السجود وأنا أنتظره، ثم رفع رأسه.
قال: قلت: جعلت فداك رأيتك نزلت فسجدت؟! إني ذكرت نعمة الله علي قال: قلت: قرب السوق، والناس يجيئون ويذهبون؟! قال: إنه لم يرني أحد.
وقال أبو جعفر الخثعمي قال: أعطاني الصادق× صرة فقال لي: ادفعها إلى رجل من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً، قال: فأتيته قال: جزاه الله خيراً، ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش به إلى قابل، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله.
وفي >كتاب الفنون< نام رجل من الحاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق فخرج فرأى جعفر الصادق× مصليا ولم يعرفه، فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني قال: ما كان فيه؟ قال: ألف دينار قال: فحمله إلى داره ووزن له ألف دينار وعاد إلى منزله، ووجد هميانه، فعاد إلى جعفر× معتذراً بالمال، فأبى قبوله.
وقال: شيء خرج من يدي لا يعود إلي قال: فسأل الرجل عنه فقيل: هذا جعفر الصادق× قال: لا جرم هذا فعال مثله.
ودخل الأشجع السلمي على الصادق× فوجده عليلاً فجلس وسأل (عن علّة مزاجه) فقال له الصادق×: تعد عن العلة واذكر ما جئت له فقال:
ألبسك الله منه عافية |
|
في نومك المعتري وفي أرقك |
تخرج من جسمك السقام كما |
|
أخرج ذل الفعال من عنقك |
فقال: يا غلام إيش معك؟ قال: أربع مائة قال: أعطها للأشجع.
وأن سائلاً ساله حاجة، فاسعفها فجعل السائل يشكره فقال×:
إذا ما طلبت خصال الندى |
|
وقد عضك الدهر من جهده |
فلا تطلبن إلى كالح |
|
أصاب اليسارة من كده |
ولكن عليك بأهل العلى |
|
ومن ورث المجد عن جده |
فذاك إذا جئته طالبا |
|
تحب اليسارة من جده |
كتاب الروضة: إنه دخل سفيان الثوري على الصادق× فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك فقال: كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما تغير لوني لموت الصبي وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، وكان× قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك ـ مرتين.
روي عن الصادق×:
تعصي الا له وأنت تظهر حبه |
|
هذا لعمرك في الفعال بديع |
لو كان حبك صادقا لأطعته |
|
إن المحب لمن يحب مطيع |
وعن جرير بن مرازم قال: قلت لأبي عبدالله× إنّي أُريد العمرة فأوصني فقال: أتّق الله ولا تعجل، فقلت: فقلت: أوصني! فلم يزدني على هذا، فخرجت من عنده من المدينة فلقيني رجل شاميُّ يريد مكّة فصحبني، وكان معي سُفرة فأخرجتها وأخرج سفرته وجعلنا نأكل، فذكر أهل البصرة فشتمهم، ثمَّ ذكر أهل الكوفة فشتمهم ثمَّ ذكر الصادق× فوقع فيه، فأردت أن أرفع يدي فأُهشّم أنفه وأُحدِّث نفسي بقتله أحياناً، فجعلت أتذكّر قوله: اتّق الله ولا تعجل، وأنا أسمع شتمه، فلم أعدُ (أتجاوز) ما أمرني([2]).
عن مفضّل بن قيس بن رمّانة قال: دخلت على أبي عبدالله× فشكوت إليه بعض حالي وسألته الدعاء فقال: يا جارية هاتي الكيس الذي وَصَلنا به أبو جعفر، فجاءت بكيس فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار، فاستعن به قال: قلت: والله جعلت فداك، ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء لي فقال لي: ولا أدَعُ الدعاء، ولكن لا تخبر النّاس بكلِّ ما أنت فيه فتهون عليهم.
عن ابن أبي يعفور قال: رأيت عند أبي عبدالله× ضيفاً، فقام يوماً في بعض الحوائج، فنهاه عن ذلك وقام بنفسه إلى تلك الحاجة، وقال: نهى رسول الله’ عن أن يُستخدم الضّيف.
وعن عبدة الواسطي عن عجلان قال: تعشّيت مع أبي عبدالله× بعد عتمة، وكان يتعشّى بعد عتمة فأُتي بخلّ وزيت ولحم بارد، فجعل ينتف اللّحم فيطعمنيه، ويأكل هو الخلّ والزيت ويدع اللّحم فقال: إنَّ هذا طعامنا وطعام الأنبياء.
51 ـ كا: محمد بن يحيى عن ابن عيسى، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب عن عبدالأعلى قال: أكلت مع أبي عبدالله× فقال: يا جارية ائتينا بطعامنا المعروف فأُتي بقصعة فيها خلّ وزيت، فأكلنا.
عن الحسن بن عليٍّ بن النّعمان عن رجل قال: شكوت إلى أبي عبدالله× الوجع فقال: إذا أويت إلى فراشك فكل سكّرتين قال: ففعلت ذلك فبرأت، فخبّرت بعض المتطبّبين وكان أفره أهل بلادنا فقال: من أين عرف أبو عبدالله× هذا؟ هذا من مخزون علمنا، أما إنّه صاحب كتب، فينبغي أن يكون أصابه في بعض كتبه.
عن محمّد بن الحسين بن كثير الخزّار، عن أبيه قال: رأيت أبا عبدالله× وعليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه، وفوقه جبّة صوف، وفوقها قميص غليظ فمسستها فقلت: جعلت فداك إنَّ النّاس يكرهون لباس الصّوف فقال: كلاّ كان أبي محمّد بن عليّ‘ يلبسها، وكان عليُّ بن الحسين صلوات الله عليه يلبسها، وكانوا^ يلبسون أغلظ ثيابهم إذا قاموا إلى الصّلاة ونحن نفعل ذلك.
66 ـ كا: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمد بن سنان، عن سجيم عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبدالله× يقول وهو رافع يده إلى السماء: ربِّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً لا أقلّ من ذلك، ولا أكثر، قال: فما كان بأسرع من أن تحدّر الدموع من جوانب لحتيه ثمَّ أقبل عليَّ فقال: يا ابن أبي يعفور إنَّ يونس بن متّى وكله الله عزّ وجلّ إلى نفسه أقلّ من طرفة عين، فأحدث ذلك الذنب، قلت: فبلغ به كفراً؟ أصلحك الله قال: لا، ولكنَّ الموت على تلك الحال هلاك.
عن قتيبة الأعشى قال: أتيت أبا عبدالله× أعود أبناً له، فوجدته على الباب، فإذا هو مهتم حزين فقلت: جعلت فداك كيف الصبيُّ؟ فقال: والله إنّه لما به ثمَّ دخل فمكث ساعة ثمَّ خرج إلينا وقد أسفر وجهه، وذهب التغيّر والحزن قال: فطمعت أن يكون قد صلح الصبيُّ فقلت: كيف الصّبيُّ جعلت فداك؟ فقال: لقد مضى لسبيله، فقلت: جعلت فداك لقد كنت وهو حيُّ مهتماً حزيناً، وقد رأيت حالك الساعة، وقد مات، غير تلك الحال فكيف هذا؟ فقال: إنّا أهل بيت إنّما نجزع قبل المصيبة، فإذا وقع أمر الله رضينا بقضائه، وسلّمنا لأمره.
عن العلا بن كامل قال: كنت جالساً عند أبي عبدالله× فصرخت الصارخة من الدار، فقام أبو عبدالله× ثمَّ جلس، فاسترجع، وعاد في حديثه، حتّى فرغ منه ثمَّ قال: إنّا لنحبُّ أن نعافى في أنفسنا وأولادنا وأموالنا، فإذا وقع القضاء فليس لنا أن نحبَّ ما لم يحبّ الله لنا.
عن أبي بصير، عن أبي عبدالله× قال: مرَّ بي أبي وأنا بالطواف، وأنا حَدث (يافع) وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً فقال لي: يا جعفر بُنيَّ إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً أدخله الجنّة، ورضي منه باليسير.
عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختريّ وغيره عن أبي عبدالله× قال: اجتهدت في العبادة وأنا شابٌّ، فقال لي أبي: يا بُنيّ دون ما أراك تصنع، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحب عبداً رضي منه باليسير.
عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبدالله× في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحرِّ فقلت: جعلت فداك، حالك عندالله عزَّ وجلّ وقرابتك من رسول الله’ وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم!! فقال: يا عبدالأعلى خرجت في طلب الرزق.
وعن حفص بن أبي عايشة قال: بعث أبو عبدالله× غلاماً له في حاجة، فأبطأ فخرج أبو عبدالله× على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّحه حتى انتبه فلمّا انتبه قال له أبو عبدالله×: يا فلان، والله ما ذالك لك. تنام الليل والنهار؟ لك الليل، ولنا منك النهار([3]).
عن إسماعيل ابن جابر قال: أتيت أبا عبدالله× وإذا هو في حائط له، بيده مسحاة، وهو يفتح بها الماء، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه([4]).
عن محمد بن عذافر، عن أبيه قال: أعطى أبو عبدالله× أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتّجر لي بها، ثمَّ قال: أما إنّه ليس لي رغبة في ربحها وإن كان الربح مرغوباً فيه ولكنّي أحببت أن يراني الله عزّ وجل متعرّضاً لفوائده، قال: فربحت له فيه مائة دينار، ثمّ لقيته فقلت له: قد ربحت لك فيها مائة دينار قال: ففرح أبو عبدالله× بذلك فرحاً شديداً، ثمّ قال لي: اثبتها في رأس مالي قال: فمات ابي والمال عنده، فأرسل إليّ أبو عبدالله’ وكتب: عافانا الله وإيّاك، إنّ لي عند أبي محمد ألفاً وثمان مائة دينار، أعطيته يتّجر بها فادفعها إلى عمر بن يزيد، قال: فنظرت في كتاب أبي فإذا فيه: >لأبي موسى عندي ألف وسبعمائة دينار، واتّجر له فيها مائة دينار، عبدالله بن سنان، وعمر بن يزيد يعرفانه<([5]).
عن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبدالله× وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصابُّ عن ظهره فقلت: جعلت فداك اعطني أكفك، فقال لي: إنّي أُحبُّ أن يتأذّى الرّجل بحرِّ الشمس في طلب المعيشة([6]).
عن داود بن سرحان قال: رأيت أبا عبدالله× يكيل تمراً بيده فقلت: جعلت فداك لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك فيكفيك([7]).
عن صفوان بن يحيى عن عبدالحميد بن سعيد قال: سألت أبا إبراهيم× عن عظام الفيل يحلُّ بيعه أو شراؤه، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: لا بأس، قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط([8]).
عن حنان بن شعيب قال: تكارينا لأبي عبدالله× قوماً يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر فلمّا فرغوا قال لمعتّب: أعطهم أُجورهم قبل أن يجفّ عرقهم([9]).
عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن أبي حنيفة سائق الحاجّ قال: مرَّ المفضّل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثمَّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعمائة درهم، فدفعها إلينا، حتى إذا استوثق كل منّا من صاحبه قال: أما أنها ليست من مالي، ولكن أبو عبدالله× أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما، وافتديهما من ماله فهذا من مال أبي عبدالله×.
عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا ابو عبدالله× مولى له يقال له مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال له:تجهّز حتّى تخرج إلى مصر، فإنّ عيالي قد كثروا قال: فتجهّز بمتاع، وخرج مع التجّار إلى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة فأخبروهم أنّ÷ ليس بمصر منه شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبدالله× ومعه كيسان في كلِّ واحد ألف دينار فقال: جعلت فداك هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح فقال: إنَّ هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع؟ فحدَّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا، فقال: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً؟ ثمّ أخذ أحد الكيسين فقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح، ثمَّ قال: يا مصادف مجالدة السيوف، أهون من طلب الحلال([10]).
112 ـ كا: محمد بن يحيى، عن علي بن إسماعيل، عن علي بن الحكم، عن جهم بن أبي جهم، عن معتّب قال: قال لي أبو عبدالله× وقد تزيد السعر بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة قال: أخرجه وبعه قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام؟! قال×: > بعه فلما بعته. قال: اشتر مع الناس يوماً بيوم وقال: يا معتب أجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة، فإن الله يعلم أني واجد (قادر) أن أطعمهم الحنطة على وجهها (خالصة) ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة.
وقال له الثوري (سفيان): يا ابن رسول الله اعتزلت الناس؟!
فقال: يا سفيان فسد الزمان، وتغيّر الأخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد.
كان أبو الحسن موسى× أعبد أهل زمانه، وأفقههم وأسخاهم كفّا، وأكرمهم نفسا، وروي أنه× كان يصلي نوافل الليل، ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجود والتحميد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: >اللهم إنّي أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب، ويكرِّر ذلك، وكان من دعائه×: >عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضلُّ لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يفتقد فقراء المدينة في الليل، فيحمل إليهم الزبيل فيه العين والوَرق والأدقّة والتمور، فيوصل إليهم ذلك، ولا يعلمون من أيِّ جهة هو([11]).
عن محمد بن عبدالله البركي قال: قدمت المدينة أطلب بها ديناً فأعياني فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن× فشكوت غليه، فأتيته بنَقمَى في ضيعته، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف (ما ينفض فيه الحب) فيه قديد مجزّع (مقطع) ليس معه غيره، فأكل فأكلت معه، ثمّ سألني عن حاجتي فذكرت له قصتي فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليّ فقال لغلامه: اذهب ثمّ مدّ يده إليَّ فناوليني صرّة فيها ثلاثمائة دينار ثمَّ قام فولّى فقمت فركبت دابتي وانصرفت([12]).
وجاء في سيرته أن رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى× ويسبّه إذا رآه، ويشتم علياً فقال له بعض حاشيته يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدَّ النهي، وزجرهم، وسأل عن العمري فذكر أنّه يزرع بناحيةِ المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري: لا توطيء زرعنا، فتوطأه× بالحمار، حتّى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب قال له: إنّما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيء مائتا دينار.
قال فأخرج له أبو الحسن× صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو قال: فقام العمريُّ فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن (ما فرط في حقه) فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمريَّ جالساً فلمّا نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا له: ما قضيتك؟ قد كنت تقول غير هذا قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن. وجعل يدعو لأبي الحسن× فخاصموه وخاصمهم، فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: إيّما كان خيراً ما أردتم؟ أم ما أردت؟ إنّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكفيت به شرّه، وذكر جماعة من أهل العلم أنّ أبا الحسن× كان يصل بالمأتي دينار إلى الثلاثمائة وكان>صرار موسى< مثلاً ([13]).
وذكر ابن عمارة وغيره من الرواة أنّه لما خرج الرشيد إلى الحجّ وقرب من المدينة استقبله الوجوه من أهلها يقدمهم موسى بن جعفر× على بغلة، فقال له الربيع: ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أمير المؤمنين؟ وأنت إن تطلب عليها لم تلحق وإن طلبت عليها لم تفت فقال: إنّها تطأطأت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلّة العير، وخير الأُمور أوساطها.
قالوا: ولما دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيِّ× ومعه الناس فتقدّم الرشيد إلى قبر رسول الله’ وقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابن عمّ مفتخراً بذلك فتقدم أبو الحسن× فقال: السلام عليك أبتاه، فتغير وجه الرشيد، وتبيّن الغيظ فيه([14]).
وقدر روى الناس عن أبي الحسن× فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه
وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأه يحزن ويبكي السامعون بتلاوته، وكان الناس في المدينة المنورة يسمونه زين المجتهدين وقد سمي بالكاظم لما كظمه من الغيظ، وصبر عليه من فعل الظالمين، ولما اعتقل وسجن كان يقول في دعائه: اللهم أنك تعلم انني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللهمَّ وقد فعلت فلك الحمد<.
وكان× يقول في سجوده: >قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو والتجاوز من عندك<.
ومن دعائه×: >اللهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب<.
وكان× يتفقد فقراء أهل المدينة يحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أيِّ جهة هو، وكان× يصل بالمائة دينار إلى الثلاثمائة دينار، فكانت صرار موسى مثلاً، وشكا محمد البكري إليه فمدّ يده إليه فرجع إلى صرّة فيها ثلاثمائة دينار.
وحكي أنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر× بالجلوس للتهنية في يوم النيروز وقبض ما يُحمل إليه فقال×: إني قد فتّشت الأخبار عن جدّي رسول الله× فلم أجد لهذا العيد خبراً وإنّه سنّة للفرس ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام.
فقال المنصور: إنّما نفعل هذا سياسة للجند، فسألتك بالله العظيم إلاّ جلست فجلس ودخلت عليه الأُمراء والأجناد يهنؤونه، ويحملون إليه الهدايا والتحف، وعلى رأسه خادم المنصور يُحصي ما يُحمل، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنِّ فقال له: يا ابن بنت رسول الله إنّني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي×:
عجبت لمصقولٍ علاك فرنده |
|
يوم الهياج وقد علاك غبار |
ولأسهم نفذتك دون حرائر |
|
يدعون جدَّك والدّموع غزار |
ألاّ تغضغضت السّهام وعاقها |
|
عن جسمك الإجلال والإكبار |
قال: قبلت هديّتك، اجلس بارك الله فيك، ورفع رأسه إلى الخادم وقال: امض إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال، وما يصنع به، فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلّها هبة منّي له، يفعل به ما أراد؛ فقال موسى للشيخ: اقبض جميع هذا فهو هبة مني لك.