البحث السادس
فاطمة عليها السلام
وحديث الكساء الشريف
يعتبر حديث الكساء من الأحاديث النورانية الولائية والذي عبّر عن مدى ارتباط أهل البيت عليهم السلام بالسماء وذلك من خلال المضامين العالية التي وردت في طياته ، فما أدراك ما حديث الكساء وهل أتاك نبأه ! أنه الحديث المتصل بين الأرض والسماء ، فقد وعته كواكب الكون ونجوم السماوات السبع ومازال الإنسان في ريب من أمره ذلك إن الإنسان كان جهولا . لقد وعته قلوب المؤمنين وإفتدتهم قبل أن تعيه أسماعهم لذا سوف نعيش في رحابه ونقف مع حلقاته ونستضيء من نوره ونستجلي حقائقه ونحيا مع بركاته كي نصل الي شاطي نور العلم والمعرفة تلكم هي معرفة نورانية أهل البيت عليهم السلام ، فحديث الكساء الشريف يعتبر مرسوم رباني قد قلده الله تبارك وتعالى لنبيه الشريف محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولآله الطيبين الطاهرين حيث جاء موضحاً لإرادة رب العالمين التي وسمت قوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) كل ذلك حرصاً ومحبتاً من الله تعالى للرسول ولأهل بيته عليهم السلام ولكي لا يشرق الناس أو يغربوا ولا تأخذهم الاهواء والميول والرغبات يميناً وشمالاً وحتى لا يحرف المغرضون هذه الآية المباركة العظيمة عن أهلها وأصحابها الحقيقين الذي أرادهم رب العالمين أطهاراً مطهرين يتولون قيادة الأمة ويوضحون معالم طريقها بعد رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم . إن هذا الحديث يستحق منا أن نقف عنده وقفة متأمله لكي ننفذ إلى الأبعاد الانسانية والحقائق العلمية والمسائل العقائدية التي يرمي اليها والنتائج الرائعة التي تترتب عليه فهو ليس مجرد حديث يروى لأجل أن نأخذ معلومة جامدة تتوقف عند حدود الحديث وظاهر الالفاظ بل يجب أن نستشف المرامي الحضارية الكامنة خلف ألفاظه وكلماته ، لا سيما أن الله سبحانه وتعالى
قد ميزنا عن سائر المخلوقات الاخرى بأن وهب لنا عقلاً والهمنا كيف نستخدمه ونوظفه لخدمة المجتمع والانسانية جمعاء لا أن نكون مجرد مخلوقات تأكل وتنام وتضاجع دون أن نعي ما كان ويكون حولها .
وسيكون حديثنا حول هذا الحديث المبارك في ثلاث وقفات :
الوقفة الأولى : ارتباط هذا الحديث بآية التطهير .
الوقفةالثانية : سند هذا الحديث الشريف .
الوقفة الثالثة : مضامين هذا الحديث المختلفة .
الوقفة الأولى
« حديث الكساء وآية التطهير »
ارتبط حديث الكساء الشريف بنزول آية التطهير ارتباطاً وثيقاً حيث جاءت هذه الآية المباركة « إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » لتؤكد على مسألة عصمة أهل البيت عليهم السلام جميعاً بما فيهم فاطمة الزهراء عليها السلام ، والذي يهمنا في المقام هو عصمة فاطمة الزهراء عليها السلام ، أمّا مسألة البحث حول هذه الآية المباركة ودلالتها على عصمة أهل البيت عليهم السلام فهذا موكول إلى الكتب الكلامية الخاصة بهذا الموضوع ، أمّا دلالة هذه الآية على عصمة فاطمة الزهراء عليها السلام فهذا ما تجده من خلال الروايات التي بينت من هم أهل البيت الذين عنتهم الآية المباركة وكيفية اشتراك الزهراء مع أهل البيت في طهارتهم وعصمتهم ، أمّا الروايات فسنذكر بعضها بعدما أن نقف مع مفهوم أهل البيت ، ومن المراد بهم فلربما يقول قائل إنّنا لا نؤمن بالروايات أو لا نقبل هذه الروايات فنقول له تعال معنا لنقف سوية على مفهوم أهل البيت ومن المراد بهم ؟ . إن التعرف على مفهوم أهل البيت لغة والمقصود منه في هذه الآية المباركة يعد من الأبحاث الضرورية في فهم مفاد هذه الآية فلقد ضلّ
الكثير في تفسير هذه الآية والمراد فيها من أهل البيت ولأجل ذلك نبحث اولا وقبل كل شيء هذا المفهوم لغة على وجه يرفع الستار عن وجه الحقيقة .
قد ورد لفظ أهل البيت في القرآن الكريم مرتين أحداهما في هذه الآية المرتبطة بحديث الكساء الشريف والأخرى في قوله تعالى ( قولوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) (1) . ويمكن تحديد مفهوم الأهل من موارد استعماله فيقال :
1 ـ أهل الأمر والنهي . |
2 ـ أهل الأنجيل . |
3 ـ أهل الكتاب . |
4 ـ أهل الأسلام . |
5 ـ أهل الرجل . |
6 ـ أهل الماء . |
وهذه الموارد توقفنا على أن كلمة أهل تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أضيف إليه ، فأهل الأمر والنهى هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الأنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام .
وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أن الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد قال ابن منظور : آل الرجل : أهله وآل الله وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها أهل ثم بدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل فلما توالت الهمزمان أبدلوا الثانية ألفاً . كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر . وقد انشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال :
وانصر على آل الصليب
وعابديه اليوم آلك
وعلى ما ذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف الى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة
____________
(1) هود : آية 73 .
خاصة بالمضاف إليه ، فأهل الرجل مثلاً أخص الناس به ، وأهل المسجد المترددون كثيراً إليه ، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد استعمال هذه الكلمة لانترود في شمولها للزوجة والأولاد وبل غيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية هذه هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة ولنأتي ببعض نصوص أئمة اللغة .
قال ابن منظور : أهل البيت سكانه وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت أزواجه وبناته وصهره أعني علياً عليه السلام ، وقيل نساء النبي والرجال الذين هم أهله (1) .
فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم ، أولاً ، وتوضيح معناه في القرآن الكريم كما أشار بقوله : قيل : الى ضعف القول الآخر لأنه نسبه الى القيل .
وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل ابن أحمد : أهل الرجل زوجه والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الأسلام من يدين به (2) .
وعلى ماذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف الى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه فأهل الرجل مثلاً أخص الناس به فاذا لا حظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردد في شمولها للزوجة والأولاد بل وغيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة البيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج .
اذن هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام اللغة كلها تعرب عن أن مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت وأهل الرجل من له صلة به ينسب أو سبب أو غيرهما ، وهناك إشكال من بعض المفسرين الذين قالوا ان لفظ أهل البيت يطلق فقط على الزوجة ويستعمل في الأولاد والأقارب تجوزاً أي يكون استعماله حقيقة في الزوجة ومجازاً في الأولاد والأقارب وقد استدل هذا الذي أثار هذا الإشكال على ذلك عن طريق اثباته ذلك من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة ـ أهل البيت ـ في قصة أبراهيم بالبشرى حيث قال الله تعالى ( وامراته قائمة فضحكت فبشرناها
____________
(1) لسان العرب : 11 | 29 « أهل » .
(2) معجم مقاييس اللغة : 1 | 150 .
بأسحاق من وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب ، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) (1) . وفي قصة موسى عليه السلام أيضاً : ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله إمكثوا اني آنست ناراً ) (2) . فالمستشكل قال : إن الله استعمل هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم عليه السلام لا غير كما في الآية الأولى الخاصة بالبشرى واستعمل الأهل في زوجة موسى عليه السلام وهي بنت شعيب ما في الآية ، إذن فالمستشكل قال إن الأهل تطلق على الزوجة حقيقة ، وهذا مردود من عدة جهات :
أولاّ : تقدم على لسان أهل اللغة أن لفظة أهل تطلق على أخص الناس بالزوج وهم الأولاد .
ثانياً : ان كلامه غير صحيح من كون الأهل تطلق حقيقة على الزوجة ومجازاً على الأولاد فنحن نقول له من أين إستظهرت هذا ، فاذا قلت من آية البشرى وآية موسى فإنه مردود لأنه الأطلاق هنا على كلمة الأهل ليس دليلاً على الأنحصار ـ أي إنحصار اللفظة على الزوجة فقط ..
ثالثاً : إنّ الآية في قصة إبراهيم قالت عليكم أهل البيت ولم تقول الآية المباركة عليك تكون ظاهرة في زوجته فقط كلمة أهل .
أمّا السؤال المهم في هذا المقام هو هل أنّ مفهوم ولفظ أهل البيت يطلق على الزوجة أو على الزوجة والأولاد ؟ وفيما نحن فيه هل هناك قرائن في آية التطهير أو قبلها أو بعدها تصرف هذا اللفظ خاصة الى أهل البيت الذين يقصد بهم على وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، أم لا توجد قرائن ؟ والجواب على ذلك : إن بعض من وقف مع هذه الآية المباركة ومدلولاتها قال ان المراد من أهل البيت هم أزواجه ونسائه صلى الله عليه وآله وسلم والبعض الآخر قال إنّ لفظ أهل البيت خاصة يطلق على بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم و صهره وولداهما الحسن والحسين عليهم السلام .
____________
(1) هود : آية 73 .
(2) القصص : آية 30 .
والحق مع من ذهب الى القول الثاني ـ على وفاطمة والحسن والحسين ـ بدلالة عدة شواهد وقرائن حفت بالآية المباركة سواء كانت قرائن حالية أو مقامية وإليك هذه القرائن .
1 ـ القرينة الأولى اللام في أهل البيت للعهد وبيان ذلك : إنّ اللام قد يراد منها الجنس المدخول عليه مثل قوله تعالى « إن الإنسان لفي خسر » ، وقد يراد من اللام الإستغراق مثل قوله تعالى « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم » وقد يراد منها بأعتبار معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب ، أمّا الأول والثاني من الأقوال لا يمكن أن نحمل اللام عليهما أما القول الثالث فهو الحق لأنّ الله تعالى إنما يريد إذهاب الرجس عن أهل بيت معهودين بين المتكلم والمخاطب ، وفمن هم هؤلاء أهل البيت ؟!!
2 ـ القرينة الثانية على أن المراد من أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين هو تذكير الضمائر في الآية خلاف الضمائر الاخرى التي وردة في الآية المباركة حيث جاءت مؤنثة مثل وقلن ، اتقيتن . فلا تخضعن ... الخ .
3 ـ القرينة الثالثة : ـ هي ان الإرادة وكما أثبتتها الكتب الكلامية هي الارادة التكوينية .. إنما يريد الله ـ لا التشريعية فلا يصح حمل مفهوم أهل البيت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يدع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب مطهرات من الزلل فلا مناص من تطبيقه على جماعة خاصه من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقق فيهم تعلقهم بالاسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلا على الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
وأضف الى ذلك الى أن المراد من أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب الكساء الخمسة هو وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر على باب فاطمة ويناديهم بقوله تعالى ـ « إنما يريد الله ... » ليوقضهم للصلاة وليؤكد على حرمة أهل هذا البيت عليهم السلام ، وكذلك نزول آية التطهير في بيت فاطمة عليها السلام حيث قالت دخل علي أبي وفيه دلالة على أن حديث الكساء كان في بيت فاطمة عليها السلام خلاف ما يدعيه البعض أن حديث الكساء كان في بيت أم سلمة وكما سيأتينا هذا البحث .
إذن كان للنبي العناية الوافرة بتعريف أهل البيت لم يرّ مثلها إلا في أقل الموارد حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة كما كان المحدثين والمفسرين وأهل السيّر والتأريخ لهم العناية الكاملة بتعريف أهل البيت عليهم السلام في مواضع مختلفة وحسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة وكذلك الشعراء المخلصين الاسلاميين الذين كان لهم العناية البارزة ببيان فضائل أهل البيت وتعريفهم للناس والتصريح بأسمائهم على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة .
أما الروايات الواردة في بيان من هم أهل البيت عليهم السلام فنروي لك شاهدين الشاهد الأول : ما روي عن أم سلمة انها قالت : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتي فاستدعى علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ؛ وجللهم بعباءةٍ خيبرية ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً فقالت أم سلمة : قلت يا رسول الله أنا من أهل بيتك ؟ قال لا : ولكنك إلى خير (1) .
أما الشاهد الثاني : ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في إحتجاجه على أبي بكر حيث قال له أخبرني عن وقول الله عزّ وجلّ « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » أفينا نزلت أو في غيرنا نزلت ؟ قال : فيكم : فأخبرني لو أنّ شاهدين من المسلمين شهداً على فاطمة عليها السلام بفاحشة ما كنت صانعاً ؟ قال :
كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين !! قال الإمام عليه السلام كنت إذن عند الله من الكافرين قال : ولم ؟ قال : لأنك رددت شهادتها وقبلت شهادة غيرها كنت عند الله من الكافرين قال : فبكى الناس وتفرقوا ودمدموا (2) .
وعلى هذا يكون الشاهدين فيهما دلالة على أن فاطمة كانت من أهل بيت العصمة فهي معصومة من الزلل والخطأ والعصمة هنا لها هي العصمة الذاتية وليس الفعلية ، ومما يؤكد العصمة فيها كذلك الأقوال والأحاديث الواردة من خلال استقراء كتب الحديث حيث روت لنا هذه الكتب إن الرسول كان دائماً يقول : فاطمة بضعة مني
____________
(1) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي : 8 | 339 .
(2) علل الشرائع : 191 باب 151 .
يغضبني من أغضبها ويسرني من أسرها وإن الله ليغضب لغضبها ويرض لرضاها .
فان هذا كاشف عن إناطة رضاها بما فيه مرضاة الرب جلّ شأنه وغضبه بغضبها حتى إنها لو غضبت أو رضيت على أمر مباح لابد أن تكون له جهة شرعية تدخله في الراجحات لم تكن حالة الرضا والغضب فيها منبعثة عن جهة نفسانية وهذا مثل العصمة الثابتة لها عليها السلام (1) وقد قال الشيخ المفيد طاب ثراه (2) في إثبات الحكم بكون فاطمة معصومة من الزلل والخطأ ما نصه : قد ثبت عصمة فاطمة عليها السلام بإجماع الأمة على ذلك فتياً مطلقة ، وإجماعهم على إنّه لو شهد شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة ، لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ، ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم ، فإنّ الله تعالى قد دل على ذلك بقوله : « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » .
ولا خلاف بين نقلة الآثار إن فاطمة عليها السلام كانت من أهل هذه الآية ، وقد بيّنا فيما سلف إنّ ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولأجماع الأمة ايضاً على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل » . فلولا أنّ فاطمة عليها السلام كانت معصومة من الخطأ ، مبرأة من الزلل ، لجاز منها وقوع ما يجب آذاها بالأدب والعقوبة ولو وجب ذلك لوجب آذاها ولو جاز وجوب آذاها لجاز آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأذى لله عزوجل فلمّا بطل ذلك دلّ على أنها عليها السلام كانت معصومة حسب ما ذكرناه ، وإذا ثبت عصمة فاطمة عليها السلام وجب القطع بقولها ، واستغنت عن الشهود في دعواها ـ في قضية فدك ـ لأن المدعي إنمّا افتقر للشهود لارتفاع العصمة عنه وجواز ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود وعلى قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم ، وجحد الحقوق الواجبة عليهم وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع على قول فاطمة عليها السلام وعلى ظلم ما نعها فدكاً ومطالبتها بالبينة عليها .
ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع جواز
____________
(1) وفاة الصديقة الزهراء : 55 للمقرم .
(2) الفصول المختارة من العيون المحاسن : 88 .
أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به ، وليس يصح الإستظهار على قول من قد أمن من الكذب بقول من لا يؤمن عليه ، ذلك كيما لا يصح الاستظهار على قول المؤمن بقول الكافر ، وعلى قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر . ويدل أيضاً على ذلك : إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشهد على قوله فشهد خزيمة بن ثابت في ناقة نازعه فيها منازع ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أين علمت يا خزيمة ، أنّ هذه الناقة لي ؟ أشهدت شرائي لها ؟ فقال : لا ولكني علمت أنّها لك من حيث إنّك رسول الله ، فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله فلو لا أن العصمة دليل الصدق وتعني عن الاستشهاد ، لما حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول خزيمة من ثابت وحده وصوّبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره ، بأستدلاله عليه بدليل نبوته وصدقه على الله سبحانه فيما أراده الى بريته ، وإذا وجب قبول قول فاطمة عليها السلام بدلائل صدقها ، واستغنت عن الشهود لها ثبت ان من قطع حقها وأوجب الشهود على صحة قولها ، قد جار في حكمه وظلم في فعله ، وآذى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأيذائه لفاطمة عليها السلام وقد قال الله عزّوجلّ : ( إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهينا ) (1) . اذن لاشك في عصمة فاطمة عليها السلام ، أمّا عندنا فللإجماع القطعي المتواتر والأخبار المتواترة في فضائلها ومناقبها .
وأمّا الحجة على المخالفين :
1 ـ فبآية التطهير الدالة على عصمتها ، وكما بيّنا في إثبات نزول هذه الآية في جماعة كانت داخلة فيهم بل هي قطب الرحى الذي يدور فيه أهل البيت عليهم السلام .
2 ـ وبالأخبار المتواترة الدّالة على أنّ إيذائها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ الله تعالى يغضب لغضبها ويرضى لرضاها : ووجه الإستدلال بالروايات على عصمتها صلوات الله عليها : أنّه كانت فاطمة عليها السلام ممن تقارق الذنوب وتركتبها ، لجاز إيذاؤها ، بل إقامة الحد عليها ، لو فعلت معصية ، وارتكبت ما يوجب حداً ، لم يكن رضاها رضى الله
____________
(1) الأحزاب : آية 57 .
سبحانه إذا رضيت بالمعصية ، ولا من سرها في معصية ساراً لله سبحانه ، ومن أغضبها بمنعها عن ارتكابها مغضباً له جل شأنه ، فإن قيل : لعل المراد ، من آذاها ظلماً فقد آذاني ، ومن سرّها في طاعة الله فقد سرّني ، وأمثال ذلك ، لشيوع التخصيص في العمومات قلنا :
أولاً : التخصيص خلاف الأصل ، ولايصار إليه إلا بدليل فمن أراد التخصيص فعليه إقامة الدليل .
ثانياً : إن فاطمة صلوات الله عليها تكون حينئذ كسائر المسلمين ، لم تثبت لها خصوصية ومزية في تلك الأخبار ، ولا كان لها فيها تشريف وحدمة ؛ وذلك باطل بوجوه :
1 ـ إنّه لا معنى حينئذ لتفريع كون إيذائها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على كونها بضعة منه كما يصرح بذلك صحيح البخاري ومسلم في رواياته .
2 ـ إنّ كثيراً من الأخبار السالفة المتضمنة لأنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على بني هاشم ، في أن ينكحوا إبنتهم علي بن ابي طالب عليه السلام ، أو النكاح بنت أبي جهل ، ليس من المشتركات بين المسلمين فإنّ ذلك النكاح كان مما أباحه الله سبحانه ، بل ممّا رغّب فيه وحث عليه لولا كان كونه إيذاء لسيدة النساء ، وقد علل رسول صلى الله عليه وآله وسلم عدم الإذن بكونها بضعة منه يؤذيها ما آذاها ويربيه ما يريبها تظهر بطلان القول بعموم الحكم لكافة المسلمين ، على إنه لو ثبت هذا القول بأن علي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أو أراد أن يتزوج من المتقدمي الذكر .
3 ـ إنّ القول بذلك يوجب إلقاء كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وخلّوه من الفائدة ، إذ مدلوله حينئذ أنّ بضعته كسائر المسلمين ولا يقول ذلك من أوتي حظاً من الفهم والفطانة ، أو أتصف بشيء من الانصاف والأمانة ، وقد أطبق محدثوهم على إيراد تلك الروايات في باب مناقبها صلوات الله عليها .
فإن قيل : أقصى ما يدل عليه الأخبار ، هو أنّ إيذاؤها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن جوّز صدور الذنب عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يأبى عن إيذائه إذا فعل ما يستحق به الإيذاء .
قلنا : بعد مامر من الدلائل على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، قال الله تعالى ( والذين
يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) (1) . وقال سبحانه : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) (2) . وقال تعالى : ( إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً معيناً ) (3) . فالقول بجواز ايذائه صلى الله عليه وآله وسلم ردّ لصريح القرآن ، ولا يرضى به أحد من أهل الإيمان ، فإن قيل : إنّما دلّت الأخبار على عدم عدم جواز إيذائها ، وهو إنما ينافي صدور الذنب منها يمكن للناس الاطلاع عليه ، حتى يؤذيها نهياً عن المنكر ، ولا ينافي صدور معصية عنها خفيّة فلا يدل على عصمتها مطلقاً .
قلنا : نتمسك في دفع هذا الاحتمال بالإجماع المركب أن ماجرى في قصة فدك وصدر عنها من الانكار على أبي بكر ومجاهرتها بالحكم بكفره وكفر طائفة من الصحابة وفسقهم تصريحاً وتلويحاً ، وتظلمها وغضبها على أبي بكر ، وهجرتها وترك كلامها حتى ماتت ، لو كانت معصية لكانت من المعاصي الظاهرة التي قد أعلنت بها على رؤوس الاشهاد ، وأي ذنب أظهر وأفحش من مثل هذا الردّ والانكار على الخليفة المفترض الطاعة على العالمين ؟ بزعمهم فلا محيص لهم عن القول ببطلان خلافة خليفتهم العظمى تحرزاً عن إسناد هذه المعصية الكبرى إلى سيدة النساء .
3 ـ ونحتج أيضاً في عصمتها عليها السلام بالاخبار الدالة على وجوب التمسك بأهل البيت عليهم السلام وعدم جواز التخلف عنهم ، وما يقرّب هذا المعنى ، ولا ريب في ذلك لا يكون ثابتاً لأحد ، إلاّ إذا كان معصوماً إذ لو كان ممّن يصدر عنه الذنوب لما جاز إتباعه عند إرتكابها ، بل يجب ردعه ومنعه وايذاؤه واقامة الحد عليه وإنكاره بالقلب واللسان وكل ذلك ينافي ماحث عليه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وأوصى به الأمة في شأنهم ، ويكفي في ذلك ماروه المخالفون لنا عن الترمذي عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا ، أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترتا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فلا يهولنّك ما يقرع سمعك من الطنين آخذاً
____________
(1) التوبة : آية 61 .
(2) الأحزاب : آية 53 .
(3) الأحزاب : آية 57 .
من الميول والأهواء المردية بأن العصمة الثابتة لمن شاركها في الكساء لأجل تحملهم الحجية من رسالة أو إمامة ، وقد تخلت الزهراء عليها السلام عنها ـ النبوة والإمامة ـ فلا تجب عصمتها ، الجواب إنّا لم نقل بتحقق العصمة فيهم عليهم السلام لاجل تبليغ الاحكام حتى يقال بعدم عصمة الصديقة لعدم توقف التبليغ عليها ، وإنما تمسّكنا بعصمتهم بعد نص الكتاب العزيز بإقتضاء الطبيعة المتكونة من النور الالهي المستحيل فيمن اشتقت منه مقارفة إثم أو تلوث بما لا يلائم ذلك النور الأرفع حتى في ترك الاولى (1) .
وإلى ذلك يشير المرحوم الشيخ الاصفهاني في إجوزته :
تــبتلت عــن دنس الطـبيعة |
* |
فــيالها مــن رتـبة رفـــيعة |
مــرفوعة الهـمة والعــزيمة |
* |
عـــن نشأة الزخـارف الذمـيمة |
في افـق المجد هــي الزهـراء |
* |
للشمس مـن زهــرتها الضــياء |
بــل هي نـور عــالم الأنوار |
* |
ومـطلع الشـــموس والاقــمار |
رضـيعة الوحي مــن الجـليل |
* |
حـــليفة لمــحكم التـــنزيل |
مـفطومة مـن زلل الأهـــواء |
* |
معصومة مــن وصـمة الخـطاء |
إذن في النتيجة النهائية نصل إلى أن حديث الكساء إرتباط إرتباط وثيق بنزول آية التطهير والتي تمثل الأساس المتين لإثبات عصمة أهل البيت عليهم السلام وبما فيهم فاطمة الزهراء عليها السلام ولذلك جاءت الآية المباركة للتطهير لتكون نور من أنوار حديث الكساء حيث كلما ذكرت ذكر حديث الكساء ليكون من الأهمية البارزة في حياتنا العقائدية والروحانية والدعائية ، ونختم الكلام في عصمة فاطمة عليها السلام فيما قاله الأستاذ العلامة حسن زاده آملي حيث يقول : ـ كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذات عصمة بلا دغدغة ووسوسة ، وقد نص كبار العلماء كالمفيد والمرتضى وغيرهما بعصمتها عليها السلام بالآيات والروايات والحق معهم والمكابر محجوج مفلوج ، وكانت عليها السلام جوهره قدسية في تعين إنسيّ ، فهي إنسية حوراء وعصمة الله الكبرى وحقيقة العصمة أنها قوة نورّية ملكوتية تعصم صاحبها عن كل ما يشينه من رجس الذنوب
____________
(1) وفاة الصديقة الزهراء : 54 .
والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية ... فاعلم أن العترة وفاطمة منهم معصومة كما نص به الوصي الإمام علي عليه السلام في النهج : « وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين والسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطشان » .
ونطق ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه بالصواب حيث قال : « فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن تحته سرّ عظيم وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجرو العترة في إجلالها وإعظامها والإنقياد لها والطاعة لإوامرها مجرى القرآن » .
ثم قال : « فإن قلت : فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم ـ يعني القائلين بمذهب الإعتزال ـ في ذلك ؟
قلت : نصّ أبو محمّد بن متويه في كتاب الكفاية على ان علياً عليه السلام معصوم وأدلّة النصوص قد دلّت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأن ذلك أمر إختص هو به دون غيره من الصحابة » فتدّبر .
وإذا دريت أن بقية النبوة وعقيلة الرسالة ووديعة المصطفى وزوجة ولي الله وكلمة الله والتامة فاطمة عليها السلام ذات عصمة فلا بأس بأن تشهد في فصول الآذان والإقامة بعصمتها وتقول مثلاً : « أشهد أن فاطمة بنت رسول الله عصمة الله الكبرى أو نحوها (1) .