المستوى الثاني
المعرفة المناقبية لها عليها السلام
وذلك بالإطلاع على ماجزاها وكراماتها المحيرة للعقول والأفكار سواء في حياتها ، أو بعد شهادتها عليها السلام وما انبأت به من غيب وأسرار تعجز أكثر العقول البشرية عن الإحاطة بها والإلمام بحقائق دقائقها ، وما كانت عليه من أخلاق عالية وشرف رفيع ، وسمو أدب وكرامة نفس وسخاء طبع لامثله سخاء وعبادة لا نظير لها ، وعلى هذا الأساس سيكون كلامنا في هذا المقام في أمرين وهما :
(1) ـ معاجزها في حياتها عليها السلام :
(2) ـ أخلاقها عليها السلام .
معاجزها في حياتها عليها السلام
* روي أنّ سلمان قال : كانت فاطمة عليها السلام جالسة قدّامها رحى تطحن بها الشعير ، وعلى عمود الرحى دم سائل ، والحسين في ناحية الدار ( يتضوّر من الجوع ) .
فقلت : يا بنت رسول الله ، دبرت كفّاك ، وهذه فضّة ؛
فقالت : أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً ، فكان أمس يوم خدمتها .
قال سلمان : قلت إنّي مولى عناقة ، إمّا أنا أطحن الشعير أو اسكّت الحسين لك ؟
فقالت : أنا بتسكيته أرفق ، وأنت تطحن الشعير .
فطحنت شيئاً من الشعير ، فإذا أنا بالإقامة ، فمضيت وصلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا فرغت قلت لعليّ ما رأيت ، فبكى وخرج ، ثمّ عاد فتبسّم .
فسأله عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : دخلت على فاطمة وهي مستلقية لقفاها ،
والحسين نائم على صدرها ، وقدّامها رحى تدور من غير يد .
فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا عليّ ، أما علمت أنّ الله ملائكة سيّاره في الأرض يخدمون محمداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة (1) .
* وروي عن اسامة بن زيد ، قال :
افتقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم عليّاً ، فقال :
اطلبوا إليّ أخي في الدنيا والآخرة ، اطلبوا الي فاصل الخطوب اطلبوا إليّ المحكّم في الجنة في اليوم المشهود ، اطلبوا الي حامل لوائي في المقام المحمود .
قال اسامة : فلمّا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ، بادرت إلى باب عليّ ، فناداني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلفي : يا اسامة ، عجّل عليّ بخبره وذلك بين الظهر والعصر .
فدخلت فوجدت عليّاً كالثوب الملقى لاطياً بالأرض ، ساجداً يناجي الله تعالى ، وهو يقول : سبحان الله الدائم ، فكّاك المغارم ، رزّاق البهائم ، ليس له في ديموتمه إبتداء ، ولا زوال ولا انقضاء .
فكرهت أن أقطع عليه ما هو فيه حتى يرفع رأسه ، وسمعت أزيز الرحى فقصدت نحوها لأسلّم على فاطمة عليها السلام واخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعلها ، فوجدتها راقدة على شقّها الأيمن ، مخمرة وجهها بجلبابها ـ وكان من وبر الإبل ـ وإذا الرحى تدور بدقيقها ، وإذا كفّ يطحن عليها برفق ، وكفّ اخرى تلهي الرحى ، لها نور لا أقدر أن أملي عيني منها ، ولا أرى إلا اليدين بغير أبدان ، فامتلأت فرحاً بما رأيت من كرامة الله لفاطمة عليها السلام .
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتباشير الفرح في وجهي بادية ، وهو في نفر من أصحابه ، قلت : يا رسول الله ! انطلقت أدعو عليّاً ، فوجدته كذا وكذا ؛
وانطلقت نحو فاطمة عليها السلام فوجدتها راقدة على شقّها الأيمن ، ورأيت كذا وكذا !
فقال : يا اسامة ! أتدري من الطاحن ، ومن الملهي لفاطمة ؟
إنّ الله قد غفر لبعلها بسجدته سبعين مغفرة ، واحدة منها لذنوبه ما تقدّم منها وما
____________
(1) الخرائج والجرائح : 530 | ح 6 .
تأخّر ، وتسعة وستّين مذخورة لمحبّيه ، يغفر الله بها بها ذنوبهم يوم القيامة .
وإن الله تعالى رحم ضعف فاطمة لطول قنوتها بالليل ، ومكابدتها للرحى والخدمة في النهار ، فأمر الله تعالى وليدين من الولدان المخلّدين أن يهبطا في أسرعت من الطرف ، وإنّ أحدهما ليطحن ، والآخر ليلهي رحاها .
وإنّما أرسلتك لترى وتخبر بنعمة الله علينا ، فحدّث يا اسامة !
لو تبديا لك لذهب عقلك من حسنهما ، وإنما سألتني خادماً فمنعتها ؛
فأخدمها الله بذلك سبعين ألف ألف وليدة في الجنّة ، الذين رأيت منهنّ .
وإنّا من أهل بيت اختار الله لنا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية (1) .
* وعن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن أنس قال : سألني الحجاج بن يوسف عن حديث عائشة ، وحديث القدر التي رأت في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحركها بيدها ، قلت : نعم أصلح الله الأمير دخلت عائشة على فاطمة عليها السلام وهي تعمل للحسن والحسين عليهما السلام حريرة بدقيق ولبن وشحم ، في قدر ، والقدر على النار يغلي ( وفاطمة صلوات الله عليها ) تحرّك ما في القدر بإصبعها ، والقدر على النار يبقبق (2) .
فخرجت عائشة فزعة مذعورة ، حتى دخلت على أبيها ، فقالت : يا أبه ، إني رأيت من فاطمة الزهراء أمراً عجيباً [ عجبا ] ، رأيتها وهي تعمل في القدر ، والقدر على النار يغلي ، وهي تحرّك ما في القدر بيدها ! فقال لها : يا بنيّة ! اكتمي ، فإنّ هذا أمر عظيم .
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصعد المنبر ، وحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الناس يستعظمون ويستكثرون ما رأوا من القدر والنار ؛ والذي بعثني بالرسالة ، واصطفاني بالنبوّة ، لقد حرّم الله تعالى النار على لحم فاطمة ، ودمها ، وشعرها ، وعصبها ، [ وعظمها ] وفطم من النار ذريّتها وشيعتها . إنّ من نسل فاطمة من تطيعه النار ، والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، وتضرب الجنّ بين يديه بالسيف ، وتوافي إليه الأنبياء بعهودها ، وتسلّم إليه الأرض كنوزها ، تنزّل عليه من السماء بركات ما فيها
____________
(1) الثاقب في المناقب : 291 ح 249 .
(2) البقبقة : حكاية صوت القدر في غليانه ( تاج العروس : 6 | 297 ) .
الويل لمن شك في فضل فاطمة .
[ لعن الله من يبغضها ] لعن الله من يبغض بعلها ، ولم يرض بإمامة ولدها .
إنّ لفاطمة يوم القيامة موقفاً ، ولشيعتها موقفاً .
وإنّ فاطمة تدعى فتكسى ، وتشفع فتشفّع ، على رغم كلّ راغم (1) .
* روي عن جابر بن عبدالله قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام أيّاماً ولم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه ، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند إحداهنّ شيئاً ، فأتى فاطمة فقال : يا بنيّة ! هل عندك شيء آكله ، فإنّي جائع ؟
قالت : لا ـ والله ـ بنفسي وأمّي . فلمّا خرج عنها ، بعثت جارية لها رغيفين وبضعة لحم ، فأخذته ووضعته في جفنة وغطّت عليها ، وقال : لأوثرنّ بها بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرجع إليها فقالت : قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك ، فقال : هلمّي يا بنيّة ، فكشفت الجفنة ، هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّه من عند الله ، فحمدت الله ، وصلّت على نبيّه أبيها ، وقدّمته إليه فلمّا رآه حمد الله . وقال : من أين لك هذا ؟
قالت : هو من عند الله ، ( إنّ الله يزرق من يشاء بغير حساب ) (2) . فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي ، فدعاء وأحضره ، وأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وجميع أزواج النبّي حتى شبعوا . قالت فاطمة عليها السلام : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت منها على جميع جيراني ، جعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً (3) .
* وعن أبي الفرج محمد بن المكّي ، عن المظفر بن أحمد بن عبد الواحد ، عن محمد بن علي الحلواني ، عن كريمة بنت أحمد بن محمد الروندي :
وأخبرني أيضاً به عالياً قاضي القضاة محمد بن الحسين البغدادي ، عن الحسين ابن
____________
(1) العوالم : 1 | 198 .
(2) آل عمران : 37 .
(3) الخرائج والجرائح : 528 ح 3 ، عنه البحار ، 43 | 27 ح 30 . ورواه في الثاقب في المناقب : 295 بإسناده عن زينب ، والعرائس : 57 ، ومقتل الحسين : 1 | 57 ، وفرائد السمطين : 2 | 51 ، وابن كثير في البداية والنهاية : 6 | 111 وفي تفسيره : 2 | 222 ، والدرّ المنثور : 2 | 20 ، وروح المعاني : 3 | 124 ، عن بعضها الإحقاق : 3 | 538 ، و 10 | 314 .
محمد بن علي الزينبي ، عن الكريمة فاطمة بنت أحمد بن محمد المروزيّة بمكّة حرسها الله تعالى ، عن أبي علي زاهر بن أحد ، عن معاذ بن يوسف الجرجاني ، عن أحمد بن محمد ابن غالب ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن نمير ، عن مجالد ، عن ابن عبّاس ، قال :
خرج أعرابي من بني سليم يتبدّى في البريّة ، فإذا هو بضبّ قد نفر من بين يديه ، فسعى وراءه ، حتى اصطاده ، ثمّ جعله في كمّه ، وأقبل يزدلف نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى أن قال ـ فقال : من يزوّد الأعرابي ، وأضمن له على الله عز وجل زاد التقوى .
قال : فوثب إليه سلمان الفارسي فقال : فداك أبي وأمّي وما زاد التقوى ؟
قال : يا سلمان ، إذا كان آخر يوم من الدنيا ، لقّنك الله عزّ وجلّ قول : شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ؛ فإن أنت قلتها لقيتني ولقيتك ، وإن أنت لم تقلها لم تلقني ولم ألقك أبداً .
قال : فمضى سلمان حتى طاف تسعة أبيات من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ، يجد عندهنّ شيئاً ، فلمّا أن ولّى راجعاً نظر إلى حجرة فاطمة عليها السلام .
فقال : إن يكن خير فمن منزل فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآل وسلم ، فقرع الباب :
فأجابتة من رواه الباب : من بالباب ؟ فقال لها : أنا سلمان الفارسي .
فقالت له : يا سلمان ! وما تشاء ؟ فشرح قصّة الأعرابي والضبّ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قالت له : يا سلمان ! والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ نبيّاً إنّ لنا ثلاثاً ما طعمنا ، وإنّ الحسن والحسين قد اضطربا عليّ من شدّة الجوع، ثمّ رقداكأنّهما فرخان منتوفان ؛ ولكن لا أردّ الخير [ إذا نزل الخير ببابي ] يا سلمان ؛ خذ درعي هذا ، ثمّ امض به إلى شمعون اليهودي ، وقل له : تقول فاطمة بنت محمد : أقرضني عليه صاعاً من تمر وصاعاً من شعير أردّه عليك إن شاء الله تعالى .
قال : فأخد سلمان الدرع ، ثمّ أتى به إلى شمعون اليهودي ؛
قال : فأخذ شمعون الدرع ، ثمّ جعل يقلّبه في وعيناه تذرفان بالدموع وهو يقول : يا سلمان ! هذا هو الزهد في الدنيا ، هذا الذي أخبرنا به موسى بن عمران في التوراة ، أنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فأسلم وحسن إسلامه .
ثمّ دفع إلى سلمان صاعاً من تمر ، وصاعاً من شعير ، فأتى به سلمان إلا فاطمة عليها السلام ،
فطحنته بيدها ، وأختبزته ، ثمّ أتت به إلى سلمان ؛
فقالت له : خذه وامض به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال : فقال لها سلمان : يا فاطمة ، خذي منه قرصاً تعلّلين به الحسن والحسين . فقالت : يا سلمان ،هذا شيء أمضيناه لله عز وجل لسنا نأخذ منه شيئاً . قال : فأخذه سلمان ، فأتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سلمان قال له : يا سلمان ، من أين لك هذا ؟ قال : من منزل بنتك فاطمة . قال : وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطعم طعاماً منذ ثلاث . قال : فوثب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ورد إلى حجرة فاطمة ، فقرع الباب ، وكان إذا قرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الباب لا يفتح له الباب إلى فاطمة ؛ فلمّا أن فتحت له الباب ، نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صفار وجهها وتغيّر حدقتيها ، فقال لها : يا بنيّة ، ما الذي أراه من صفار وجهك وتغيّر حدقيت ؟ فقالت : يا أبة ، إن لنا ثلاثاً ما طعمنا طعاماً ؛ وإن الحسن والحسين قد اضطربا عليّ من شدّة الجوع ، ثمّ رقدا كأنّهما فرخان منتوفان .
قال : فأنبههما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاخذ واحداً على فخذه الأيمن ، والآخر على فخذه الأيسر ، وأجلس فاطمة عليها السلام بين يديه واعتنقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فاعتنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ورائه ، ثم رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طرفه نحو السماء فقال : إلهي وسيّدي ومولاي ، هؤلاء أهل بيتي ، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً !
قال : ثمّ وثبت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخلت إلى مخدع لها ، فصفّت قدميها ، فصلّت ركعتين ثمّ رفعت باطن كفّيها إلى السماء وقالت :
إلهي وسيدي ، هذا محمد نبيّك ، وهذا عليّ ابن عمّ نبيّك ، وهذان الحسن والحسين سبطا نبيّك ، إلهي أنزل علينا مائدة [ من السماء ] كما أنزلتها على بني إسرائيل ، أكلوا منها وكفروا بها ، اللهم أنزلها علينا فإنّا بها مؤمنون .
قال ابن عباس : ـ والله ـ ما استتمّت الدعوة ، فإذا هي بصحفة من ورائها يفور قتارها ، وإذا قتارها (1) أزكى من المسك الأذفر ، فاحتضنتها .
ثمّ أتت بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والحسن والحسين ، فلمّا أن نظر إليها علي بن أبي
____________
(1) القتار : هو ريح القدر والشواء ونحوهما ( النهاية : 4 | 12 ) .
طالب عليه السلام قال لها : يا فاطمة ، من أين لك هذا ؟ ولم يكن أجد عندك شيئاً !
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل يا أبا الحسن ، ولا تسأل ، الحمد لله الذي لم يمتني حتى رزقني ولداً ، مثلها مثل مريم بنت عمران ( كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ) (1) .
قال : فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ والحسن والحسين ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الحديث (2) .
وعن عبيد بن كثير ـ معنعنا ـ عن أبي سعيد الخدري قال : أصبح علي بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم فقال : يا فاطمة ! هل عندك شيء تغذينه ؟ قالت : لا ، والذي اكرم أبي بالنبوة ، وأكرمك بالوصية ، ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان شيء أطعمنا مذ يومين إلاّ شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين عليهما السلام . فقال علي عليه السلام : يا فاطمة ! إلاّ كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً ؟ فقالت : يا أبا الحسن ! أني لأستحي من الهي ان اكلف نفسك ما لا تقدر عليه . فخرج علي بن ابي طالب عليه السلام من عند فاطمة عليها السلام واثقا بالله بحسن الظن بالله فاستقرض دينارا ، فبينا الدينار في يد علي بن ابي طالب عليه السلام يريد ان يبتاع لعياله ما يصلحهم ، فتعرض له المقداد بن الاسود في يوم شديد الحر ، قد لوحته الشمس من فوقه وآذته من تحته ، فلما رآه علي بن أبي طالب عليه السلام انكر شأنه ، فقال : يا مقداد ! ما ازعجك هذه الساعة من رحلك ! قال : يا أبا الحسن خلي سبيلي ولاتسألني عما ورائي . فقال : يا اخي انه لا يسعني ان تجاوزني حتى اعلم علمك .
فقال : يا أبا الحسن ! رغبة إلى الله واليك ان تخلي سبيلي ولا تكشفني عن حالي . فقال
____________
(1) آل عمران : 37 .
(2) البحار : 43 | 69 ، وقد قال في البحار بعد هذه الرواية :
أقول : وجدت هذا الحديث في كتاب قديم من مؤلفات العامّة ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن علي الطرشيشي ببغداد سنة 84 ؛ قال : حدّثتنا كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي بمكّة حرسها الله بقراءتها علينا في المسجد الحرام في ذي الحجة 431 ، قالت : أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه ـ الخ . يراجع البحار . ورواه في مقتل الحسين : 1 | 71 ، وفي نزهة المجالس : 1 | 224 ( نحوه ) ، عنه الإحقاق : 10 | 318 ، المستدرك : 10 | 310 ح 1 ( قطعة ) .
له : يا اخي انه لا يسعك ان تكمي حالك .
فقال : يا أبا الحسن ! اما اذا ابيت فو الذي اكرم محمدا بالنبوة ، واكرمك بالوصية ، ما ازعجني من رحلي ، إلاّ الجهد ، وقد تركت عيالي يتضرعون جوعا ، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض ، فخرجت مهموما راكبا رأسي ، هذه حالي وقصتي ، فانهملت عينا ، علي عليه السلام بالبكاء حتى بلت دمعته لحيته ، فقال له : احلف بالذي حلفت ، ما ازعجني إلاّ الذي ازعجك من وحلك ، فقد استقرضت ديناراً ، فقد آثرتك على نفسي ، فدفع الدينار إليه ، ورجع حتى دخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى فيه يوم الظهر والعصر والمغرب . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب مر بعلي بن ابي طالب عليه السلام وهو في الصف الأوّل ، فغمزه برجله ، فقام علي عليه السلام متعقبا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحقه على باب من أبواب المسجد ، فسلم عليه فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه السلام . فقال : يا أبا الحسن ! هل عندك شيء نتعشاه فنميل معك ؟ فمكث مطرقا لا يحير جوابا، حياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يعلم ما كان من امر الدينار ومن اين اخذه ، واين وجهه ، وقد كان اوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يتعشى الليلة عند علي ابن أبي طالب عليه السلام . فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سكوته ، فقال : يا أبا الحسن ! مالك لا تقول : لا ، فانصرف ، أو تقول : نعم ، فأمضي معك ؟ فقال ـ حياء وتكرما ـ : فاذهب بنا ؟ فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد علي بن ابي طالب عليه السلام فانطلقا حتى دخلا على فاطمة الزهراء عليها السلام وهي في مصلاها قد قضت صلاتها ، وخلفها جفنة تفور دخانا ، فلما سمعت كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رحلها ، خرجت من مصلاها ، فسلمت عليه ، وكانت اعز الناس إليه ، فرد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومسح على رأسها ، وقال لها : يا بنتاه ! كيف امسيت رحمك الله .
قالت : بخير ، قال عشينا غفر الله لك ، وقد فعل ، فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي وعلي بن ابي طالب عليهما الصلاة والسلام .
فلما نظر علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الجفنة والطعام وشم ريحه ، رمى فاطمة ببصره رميا شحيحا (1) قالت : له فاطمة سبحان الله ، ما اشح نظرك واشده ! هل اذنبت فيما بيني
____________
(1) قوله : رميا شحيحا ، الشح : البخل مع حرص ، وهو لا يناسب المقام إلاّ بتكلف . ويحتمل ان يكون اصله سحيحا ، بالسين المهملة من السح بمعنى : السيلان ، كناية عن المبالغة في النظر
وبينك ذنبا استوجبت به السخطة؟! قال : وأي ذنب أعظم من ذنب اصبته ، اليس عهدي اليك اليوم الماضي وانت تحلفين بالله مجتهدة ، ماطعمت طعاما مذ يومين ؟ قال : فنظرت إلى السماء ، فقالت : الهي يعلم في سمائه ويعلم في ارضه اني لم أقل إلاّ حقاً .
فقال لها : يا فاطمة ! انى لك هذا الطعام الذي لم انظر إلى مثل لونه قط ، ولم اشم مثل ريحه قط ، ومالم آكل اطيب منه قط ؟ قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن ابي طالب عليه السلام ، فغمزها ، ثم قال : يا علي ! هذا بدل دينارك ، وهذا جزاء دينارك من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب .
ثم استعبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باكيا ، ثم قال : الحمد لله الذي هو ابي لكم ان تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ، ويجزيك يا علي ، مجزى زكريا ، ويجزى فاطمة مجزى مريم بنت عمران ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) (1) .
* وروي عن يوسف بن يحيى ، عن ابيه ، عن جده ، قال : رأيت رجلا بمكة شديد السواد له بدن ، وخلق غابر ، وهو ينادي ، أيها الناس ، دلوني على اولاد محمد ، فأشار إليه بعضهم وقال : مالك ؟ قال : انا فلان بن فلان . قالوا : كذبت ان فلانا كان صحيح البدن صبيح الوجه ، وانت شديد السواد غابر الخلق . قال : وحق محمد اني لفلان ، اسمعوا حديثي .
اعلموا اني كنت جمال الحسين ، فلما ان صرنا إلى بعض المنازل برز للحاجة وانا معه فرأيت تكة لباسه وكان اهداها ملك فارس حين تزوج بنت اخيه شاه زنان بنت يزدجود ، فمنعني هيبة أسألها اياه ، فدرت حوله لعلي اسرقها ، فلم اقدر عليها .
فلما صار القوم بكربلاء ، وجرى ما جرى ، وصارت ابدانهم ملقاة تحت سنابك
____________
والتحديق بال بالبصر وعلى ما في النسخ يحمتل ان يكون من الحرص كناية عن المبالغة في النظر ، او البخل كناية عن النظر بطرف البصر على وجه الغيظ .
(1) كشف الغمة : 1 | 469 ، أمالي الطوسي : 2 | 228 ، عنها البحار : 43 | 59 ح 51 . تأويل الايات : 1 | 108 ح 15 ، والبحار : 96 | 147 ح 25 ، واخرجه في ذخائر العقبى : 45 ، وكفاية الطالب : 367 وينابيع المودة : 199 ، ملخصا عن الاربعين الطوال الدمشقي ، ورواه في أهل البيت : 122 ، والاحقاق : 10 | 323 وج 19 | 120. ورواه في المعيار والموازنة : 236 ، وتوضيح الدلائل عنهما الاحقاق : 18 | 50 .
الخيل ، اقبلنا نحو الكوفة راجعين ، فلما ان صرت إلى بعض الطريق ذكرت التكة ، فقلت في نفسي : قد خلا ماعنده ، فصرت إلى موضع المعركة ، فقربت منه فاذا هو مرمل بالدماء ، قد حز رأسه من القفا وعليه جراحات كثيرة من السهام والرماح ، فممدت يدي إلى التكة وهممت ان احل عقدها ، فرفع يده وضرب بها يدي ، فكادت اوصالي وعروقي تتقطع ، ثم اخذ التكة من يدي ، فوضعت رجلي على صدره وجهدت جهدي لازيل اصبعا من اصابعه ، فلم اقدر ، فأخرجت سكينا كان معي ، فقطعت اصابعه ثم مددت يدي إلى التكة، وهممت بحلها ثانيا ، فرأيت خيلا اقبلت من نحو الفرات ، وشممت رائحة لم اشم رائحة اطيب منها ، فلما رأيتهم قلت : انا الله وانا إليه راجعون ، انما اقبلوا هؤلاء لينظروا إلى كل انسان به رمق « فيجهزوا عليه » .
فصرت بين القتلى ، وغاب غني عقلي من شدة الجزع ، فاذا رجل يقدمهم ـ كان وجهه الشمس ـ وهو ينادي : انا محمد رسول الله ، والثاني ينادي : انا حمزة اسد الله ، والثالث ينادي : انا جعفر الطيار ، والرابع ينادي : انا الحسن بن علي . وأقبلت فاطمة وهي تبكي وتقول : حبيبي ، وقرة عيني ، ابكي على رأسك المقطوع ، ام على يديك المقطوعتين ، ام على بدنك المطروح ، ام على اولادك الاسارى ، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اين رأس حبيبي وقرة عيني الحسين ، فرأيت الرأس في كفي النبي ، فوضعه على بدن الحسين ، فاستوى جالسا ، فاعتنقه النبي وبكى ـ فذكر الحديث ـ إلى أن قال ـ : فقال : ياعدو الله ! ما حملك على قطع اصابع حبيبي وقرة عيني الحسين ـ إلى ان قال : ـ ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اخسأ ياعدوا الله ! غير الله لونك ، فقمت ، فاذا انا بهذه الحالة (1) .
* وروي ان رجلا كان محبوسا بالشام مدة طويلة مضيقاً عليه ، فرأى في منامه كان الزهراء صلوات الله عليها أتته فقالت : ادع بهذا الدعاء ، فتعلمه ودعا به فتخلص ورجع إلى منزله وهو : اللهم بحق والعرش ومن علاه ، وبحق الوحي ومن اوحاه ، وبحق النبي من نباه ، وبحق البيت ومن بناه ، ويا سامع كل صوت ، ويا جامع كل فوت ،
____________
(1) مدينة المعاجز : 239 .
يا بارىء النفوس بعد الموت ، صل على محمد وأهل ابيته ، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجا من عند ، عاجلا بشهادة إن لا إله إلاّ الله ، وان محمدا عبدك وروولك ، صلى الله عليه وعلى ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما (1) .
وفي جواهر العقدين للشريف السمهودي المصري من العجائب ان ابا الحسن نصر بن عيين الشاعر توجه إلى مكة المعظمة ومعه متاع ومال ، فخرج عليه بعض الاشراف من بني داود المقيمين بوادي الصغرى فأخذوا ما كان معه وجرحوه فكتب قصيدة إلى الملك ، الناصر ان يذهب بالساحل ويفتحه من ايدي الافرنج القصيدة هذه :
أغنت صـفاتك ذاك المـصقع السـنا |
* |
جزت بالجود حد الحسن والمـحسنا |
ولا تـقل سـاحل الافـرنج اقـتحمه |
* |
فـما يسـاوي اذا قــاسيته عـدنا |
طــهر سـيفك بـيت الله مـن دنس |
* |
ومــا احاط بـه مـن خسة وخـنا |
ولا تـــقل انـــهم اولاد فـاطمة |
* |
لو ادركوا آل حرب حاربوا الحسـنا |
فلم اتم هذه القصيدة رأى في النوم فاطمة عليها السلام وهي تطوف بالبيت فسلم عليها فلم تجبه ، فتضرع اليها وتذلل عندها وسألها عن ذنبه الذي أوجب ذلك ، فانشدت فاطمة عليها السلام هذه القصيدة :
____________
(1) البحار : 89 | 365 ح 59 ، البلد الامين : 523 ، الجنة الواقية : 179 .
حــاشا بــني فــاطمة كــلهم |
* |
من خسـة يـعرض او مـن خـنا |
وانــما ايــام فــي غـــدرها |
* |
وفعلها السوء اساءت بـنا لئن جـنا |
مــــــن ولدي واحــــــد |
* |
تــجعل كــل السب عـمدا لنـا |
فــتب إلى الله فـــمن يــقترف |
* |
اثــما بـنا لا يأمن مــما جــنا |
فاصفح لاجــل المـصطفى احـمد |
* |
ولا تـــثر مــن آله اعـــينا |
فكــل مــا نالك مــنهم غــدا |
* |
تــلقى بـه فـي الحشـر مـنامنا |
ثم صب بيدها المباركة المكرمة المقدسة شيئا شبه الماء على جرحه ، ثم ايقظ من منامه فرأى ان جراحته التي كانت في بدنه صارت ملتئمة صحيحة ، فكتب فورا قصيدة فاطمة صلى الله عليها السلام التي انشدتها في رؤياه ، ثم قال معتذرا :
عذر إلى بنت نبي الهـــدى |
* |
تصفح عن ذنب محب جــنا |
وتـوبة تـقبلها عــن اخـي |
* |
مــقالة تـوقعها فـي العـنا |
والله لو قـــطعني واحــد |
* |
منهم بسيف البغــي او بالقنا |
لم اره بـــفعله ظـــالما |
* |
بل انـه فـي فـعله احسـنا |
فكتب هذه الحكاية إلى ملك اليمن فارسل الملك الهدايا الكثيرة لهذه الاشراف وأهل مكة وهذه القصيدة مشهورة بين الناس ومسطورة في ديوان ابن عيين (1) .
* وروي أن عليا عليها السلام أستقرض من يهودي شعيرا ، فاسترهنه شيئا فدفع إليه ملاءة (2) فاطمة ، رهنا ، وكانت من الصوف فأدخلها اليهودي إلى داره ووضعها في البيت . فلما كانت الليلة دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة بشغل ، فرأت نوراً ساطعاً في البيت أضاء به كله فانصرفت إلى زوجها ، فأخبرته بأنها رأت في ذلك البيت ضوءاً عظيماً فتعجب اليهودي من ذلك وقد نسي ان في بيته ملاءة فاطمة . فنهض مسرعاً ودخل البيت فاذا ضياء الملاءة ينشر شعاعها كأنه يشتعل من بدر منير ، يلمع من قريب فتعجب من ذلك ، فأنعم النظر في موضع الملاءة ، فعلم ان ذلك النور من ملاءة فاطمة عليها السلام ، فخرج اليهودي يعدو إلى أقربائه وزوجته تعدوا إلى أقربائها
____________
(1) ينابيع المودة : 367 .
(2) الملاءة ـ بالضم والمد ـ : الازار والريطة .
فاجتمع ثمانون من اليهود فرأوا ذلك فأسلموا كلهم (1) .
* وعن سلمان الفارسي : انه لما استخرج امير المؤمنين من منزله ، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر ، فقالت خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا بالحق لئن لم تخلوا عنه لا نشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي ، ولأصرخن إلى الله ، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولدي . قال سلمان : فرأيت والله اساس حيطان المسجد تقلعت من اسفلها ، حتى لو اراد الرجل ان ينفذ من تحتها نفذ فدنوت منها وقلت : يا سيدتي ومولاتي : ان الله تبارك وتعالى بعث اباك رحمة فلاتكوني نقمة ، فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في غياشيمنا (2) .
تجدست في شخصية فاطمة عليها السلام مختلف ابعاد الاخلاق الاسلامية التي دعت واكدت عليها التعاليم القرآنية ، ولقد ضربت المثل الاعلى للمرأة المؤمنة الكاملة ، وهذا مانراه واضحا ، وجليا من خلال استقراء سيرتها عليها السلام وفي مختلف الابعاد الانسانية ، فقد ورد عن علي عليه السلام قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اخبروني أي شيء خير للنساء ؟ فعيينا بذلك حتى تفرقنا ، فرجعت إلى فاطمة ، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس أحد منا علمه ، ولاعرفه .
قالت : ولكني أعرفه : خير للنساء ان لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله ، سألتنا : أي شيء خير للنساء ؟ وخيرهن ان لايرين الرجال ولايراهن الرجال . قال : من اخبرك ، فلم تعلمه وأنت عندي ؟ قلت فاطمة فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ان فاطمة بضعة مني (3) .
____________
(1) المناقب : 3 | 117 ، والخرائج والجرائح : 357 ح 13 .
(2) المناقب : 3 | 118 .
(3) كشف الغمة : 1 | 466 ، مقتل الخوارزمي : 1 | 62 ، حلية الأولياء : 2 | 40 أرجح المطالب : 244 ، اسعاف الراغبين : 187 .
أقول : والذي يظهر من هذه الاحاديث ان فاطمة حددت الضابطة الكلية التي فيها خير المرأة والصلاح لها في الحياة الدنيا والاخرة ذلك هو ان لا يرى المراة رجل ولاترى رجل ، وفي أمر ورد ايضا عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام استأذن أعمى على فاطمة عليها السلام فحجبته .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها : لم حجبته وهو لا يراك ؟
فقالت عليها السلام : ان لم يكن يراني فأني أراه ، وهو يشم الريح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشهد انك بضعة مني (1) . وسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن المرأة ، ماهي ؟ قالوا : عورة : قال فمتى تكون أدنى من ربها ؟ فلم يدروا ، فلما سمعت فاطمة عليها السلام ذلك قالت : أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن فاطمة بضعة مني (2) .
أقول : يظهر من هذا الحديث ان الرسول سأل اصحابه ولم يكن فيهم علي عليه السلام ، وهذا معارض للحديث الأوّل من حيثية وجود علي عليه السلام ، فالحديث الأوّل بين ان الإمام علي يعرف جواب السؤال الذي سأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مخالف لكثير من الاحاديث التي تبين مقام علي عليه السلام العلمية ولذا سيكون من حيث الدلالة الحديث الاخير الذي قدمناه وهو الاصح ، وإلاّ لو كان علي عليه السلام حاضرا لأجاب على سؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة نحن نعلم ان علي عليه السلام وفاطمة احدهما كفوا للاخر في كل الأمور التي أقرأتها الاحاديث التي وردت عن السان المعصومين عليهم السلام .
وأعطي لك شاهداً واحداً من خلال استقراء احاديث العلماء والصالحين في قضية اخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام تاركا لك مراجعة أقوال الاخرين فضلا عن احاديث أهل البيت الذي هي بحر عميق لمن اراد الغوص فيه واستخراج الدرر المتناثرة فيه ، ومن هذه الاقوال (3) . لم تكن الزهراء امراة عادية كانت امرأة روحانية امرأة ملكوتية ... كانت انسانا بتمام معنى الكلمة نسخة انسانية متكاملة ... امرأة حقيقية كاملة ... حقيقة الإنسان الكامل ، لم امراة عادية ، بل هي كائن ملكوتي تحلى في الوجود بصورة
____________
(1) نوادر الراوندي : 13 .
(2) البحار : 43 | 92 .
(3) المرأة في فكر الإمام الخميني : 23 ـ 24 .
انسان ... بل كائن الهي جبروتي ظهر على هيئة امرأة ... فقد اجتمعت في هذه المرأة جميع الخصال الكمالية المتصورة للانسان وللمرأة . انها المرأة التي تتحلى بجميع خصال الانبياء ... المرأة التي لو كانت رجلا لكانت نبيا ... لو كانت رجلا لكانت بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . غدا يوم المرأة حيث ولدت جميع ابعاد منزلتها وشخصيتها ، غدا ذكرى مولد كائن الذي اجتمعت فيه المعنويات ، والمظاهر الملكوتية ، والالهية والجبروتية والملكية والانسية ، غدا ميلاد الإنسان لجميع الانسانية من معنى ، غدا ميلاد امرأة بكل ما تحمله كلمة « المرأة » من معنى ايجابي . ان المرأة تتسم بأبعاد مختلفة كما هو الرجل ، وان هذا المظهر الصوروي الصبيعي يمثل ادنى مراتب المرأة ، وادنى مراتب الرجل ، بيد ان الإنسان يسمو في مدارج الكمال انطلاقا من هذه المرتبة المتدنية ، فهو في حركة دؤوبة من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب ، إلى الفناء في الالهية وان هذا المعنى متحقق في الصديقة الزهراء ، التي انطلقت في حركتها من مرتبة الطبيعة وطوت مسيرتها التكاملية بالقدرة الالهية ، بالمدد الغيبي وبتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتصل إلى مرتبة دونها الجميع . امرأة هي مغفرة بيت النبوة وتسطع كما تسطع الشمس في جبين الاسلام العزيز ، امرأة تماثل فضائلها الرسول الاكرم والعترة الطاهرة غير متناهية ... امراة لا يفي حقها من الثناء كل من يعرفها مهما كانت نظرته ، ومهما ذكر لأن الاحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر أفهام المخاطبين ، واستيعابهم فمن غير الممكن صب البحر في جرة ، ومهما تحدث عنها الاخرون فهو على قدر فهمهم ولا يضاهي منزلتها . اذن فمن الاولى ان نمر سريعا من هذا الوادي العجيب .
وكانت الصديقة فاطمة عليها السلام عادية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فمتى ما كانت تقوم في محرابها بين يدي الله تعالى ، زهر عند ذلك نورها لملائكة السماوات والأرض كما نير هو نور الكواكب لأهل الأرض (1) ، وروت هي سلام الله عليها انها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ان في الجمعة لساعة لا يراقبها رجل مسلم يسأل الله عزوجل فيها خيرا إلاّ اعطاه اياه . فقلت : يا رسول الله أي ساعة هي ؟ قال اذا تدلى
____________
(1) امالي الصدوق : 394 ح 18 بشارة المصطفى : 218 .
نصف عين الشمس للغروب . لذا نجدها سلام الله عليها كانت تقول لغلامها اصعد على الظراب فاذا رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فاعلمني حتى ادعوا ولذلك نجد في كتب الادعية والزيارة استحباب قراءة دعاء السمات اخر ساعة من يوم الجمعة تأسيا بما ورد عن لسان فاطمة عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وورد عن الإمام الحسن عليها السلام انه قال : رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى انصع عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولاتدعو لنفسها بشيء فقلت لم لهذا يا اماه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني الجار ثم الدار (1) ، واخيرا قول الحسن البصري الذي قال في حقها عليها السلام : « ما كان في هذه الأمة اعبد من فاطمة عليها السلام كانت تقوم حتى تتورم قدماها » (2) .
____________
(1) علل الشرايع : 1 | 181 ح 1 ، دلائل الإمامة (56) .
(2) المناقب : 3 | 119 ، ربيع الابرار : 2 | 104 .