عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

تزييف الحديث النبوي

 

لعل ما أوردناه في الفصل السابق قد أعطى للقارئ فكرة عن عملية التزييف التي طالت التراث الإسلامي كله، ومن ضمنه الحديث النبوي الشريف، حيث انبرى المتعصبون لوضع أحاديث تدّعي الإشارة الى النص على أبي بكر، وذلك في مقابل الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة على مسألة النص والوصاية لعلي بن أبي طالب.

وقد انبرى بعض الحفّاظ لإيراد الأسباب التي أدّت الى شيوع الوضع في الحديث، فذكر ابن الجوزي مثلا في كتابه (الموضوعات) أقسام الحديث، فجعلها ستة أقسام، سادسها الموضوعات، ثم قسّم الرواة عدة أقسام، فذكر منهم الوضّاعين ممن تعمّد الكذب، وقسمهم أربعة أقسام:

أوّلها: الزنادقة الذين قصدوا إفساد الشريعة وإيقاع الشك في قلوب العوام والتلاعب بالدين... ثم يروي عن حماد بن زيد قوله: وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعة عشر ألف حديث.

وثانيها: قوم كانوا يقصدون وضع الحديث نصرة لمذهبهم، ويروي عن عبدالله بن يزيد المعري، عن رجل من أهل البدع رجع عن بدعته فجعل يقول: انظروا هذا الحديث ممن تأخذونه فإنّا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثا، ويروي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخاً من الخوارج تاب ورجع وهو يقول: إن

 

 


هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً، كما ويروي مثل ذلك عن شيخ من الرافضة أيضاً.

وأما القسم الثالث من الوضّاعين، فهم الذين وضعوا الأحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس على الخير ويزجروهم عن الشر.

والقسم الرابع، فيذكر منهم من وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ويروي عن محمد بن سعيد قوله: لا بأس إذا كان كلام حسن أن تضع له إسناداً.

والقسم الخامس فهم أصحاب الأغراض الذين يضعون الحديث تقرّباً للسلطان... الخ وأما القسم السادس، فهم الذين وضعوا أحاديث في ضد الإغراب ليُطلبوا ويسمع منهم...

هذه هي مجمل الأسباب التي يراها ابن الجوزي من دواعي وضع الحديث.

وقد ذهب معظم من تحدث عن مشكلة الوضع والوضّاعين الى ذكر هذه الأسباب للوضع.

أما الزنادقة فلا يخفى خطرهم، إذ أنهم لم يقتصروا على تزييف الحديث النبوي الشريف، بل تعدوه الى تزييف مجمل تراث الإسلام وتاريخه، وقلب الحقائق فيه متبعين في ذلك أساليب في غاية الخبث، ولقد كانوا من الذكاء والفطنة بحيث إنهم نجحوا في إظهار الحق باطلا والباطل حقاً، كما بيناه في الفصول السابقة من الكتاب، وإذا كان خط هؤلاء الزنادقة متماشياً مع الخط الاُموي في تزييف التاريخ الاسلامي -كما أثبتنا- فان الخط الاُموي الذي سار عليه الاعلام الرسمي للدولة، قد طال الحديث النبوي الشريف أيضاً، فكانت

 

 


اُولى الأسباب التي أدت الى انتشار الوضع في الحديث، هي السياسة الاُموية ذاتها، إذ أن تزييف التراث الإسلامي في جانب واحد لا يمكن أن يحقق الغرض المنشود، فلابد من أن يطال التزييف جميع نواحي هذا التراث حتى يتكامل العمل ويتحقق الهدف، وقد أوردنا في أحد الفصول من هذا الكتاب ما نقله ابن الحديد عن المدائني(1) في كتابه الأحداث عن النسخة الموحدة التي بعثها معاوية الى عمّاله بعد عام الجماعة، والتي تضمنت مراحل عديدة من خطة العمل المطلوب اتباعها، وكما يلي: منع رواية شيء من فضائل علي بن أبي طالب وعدم إجازة أحد من شيعته، وعلى العكس من ذلك، تقريب شيعة عثمان وإجازة كل من يروي شيئاً في فضله، وقد مرّ ذلك في الفصل الخامس من هذا الكتاب مع بعض الشواهد التي تؤيده، ونعود الآن الى استكمال القصة، لمعرفة المرحلة الثانية، وهي قول المدائني:

ثم كتب -أي معاوية- الى عمّاله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كل وجه وناحية; فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب، إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فان هذا أحبّ إليّ وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من

____________

1- تقدمت ترجمته وقول ابن معين فيه: ثقة ثقة ثقة.

 

 


ذلك الكثير الواسع حتى رووه، وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله!

ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة الى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم; فنكّلوا به، واهدموا داره، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما الكوفة، حتى إن الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليتمكّن عليه; فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر; ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنُّسُك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل; حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها...

قال ابن أبي الحديد: وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه -وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم(1) في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اُفتعلت في أيام بني اُمية، تقرّباً إليهم

____________

1- قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 5: 75: الامام الحافظ النحوي العلاّمة الأخباري، إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكي الأزدي الواسطي، ولد سنة 244 هـ، صاحب التصانيف، وكان ذا سنيّة ودين، من تصانيفه (تاريخ الخلفاء).

 

 


بما يظنون أنهم يُرغمون به اُنوف بني هاشم(1).

هذه الوثيقة التاريخية المهمة التي تكشف عن الكثير من غوامض الاُمور، والتي لولا أن ابن أبي الحديد قد أوردها في شرحه لنهج البلاغة لما وصلتنا بسبب فقدان معظم الاُصول التاريخية المهمة للمدائني وابن عرفة، ومنها نستطيع أن نفهم لماذا أخرج المحدّثون روايات سدّ الأبواب غير باب أبي بكر، وحديث الخلّة والمنّة وروايات صلاة أبي بكر وغيرها في كتبهم مسلّمين بصحتها، حتى تلقتها الاُمة على أنها واقع غير مشكوك فيه، وكيف وقع الفقهاء أيضاً ضحية لها كالمحدّثين.

وقد أوردنا بعض الشواهد -فيما مضى- على صحة ما جاء في كتاب الأحداث للمدائني من انتقاص علي ومدح عثمان في كتب التاريخ المعروفة، وكيف أن الزنادقة قد وجدوا أمامهم أرضاً ممهّدة للحط من مكانة علي وشيعته، ثم جاء دور الوضّاعين في اختلاق الروايات المنسوبة الى النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك، وللأسف فان بعض الصحابة قد اشتركوا في ذلك -دعماً لمعاوية وبني اُمية- وهو الأمر الذي أوقع المحدّثين في هذا الفخ اعتقاداً منهم بعدالة الصحابة جميعاً وتنزههم عن الكذب، كما أن المحدّثين قد وثّقوا بعض التابعين واعتقدوا عدالتهم، ولم يلتفتوا الى علاقة اولئك التابعين بمعاوية وبني اُمية، وأن بعضهم كانوا يقتاتون على موائدهم، أو بدافع الحقد على علي بن أبي طالب لأنه قاتل آباءهم وإخوانهم وربما قتلهم، ولكي نثبت صحة مدّعانا، فإننا سنورد الأمثلة على ذلك.

____________

1- شرح نهج البلاغة 11: 44.

 

 


تزييف المثالب

قلنا إن الحلقة الاُولى للتزييف -وكما ذكر ابن أبي الحديد عن المدائني- كانت تتلخص في الحطّ من مكانة علي بن أبي طالب، بافتعال روايات تنسب الى النبي (صلى الله عليه وآله) على أنها من حديثه تكشف عن مطاعن في علي بن أبي طالب، فقد أخرج المحدّثون عن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـجهاراً غير سرّ -يقول: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي الله وصالح المؤمنين"(1).

وأخرجه البخاري وفيه: "إن آل أبي -قال عمرو في كتاب محمد بن جعفر بياض- ليسوا بأوليائي..." الحديث(2).

قال ابن حجر في شرحه:

نقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يُسلم منهم، أي فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض، والمنفي على هذا المجموع لا الجميع، وقال الخطابي: الولاية المنفيّة ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين، ورجح ابن التين الأول وهو الراجح، فان من جملة آل أبي طالب: علياً وجعفراً وهما من أخصّ الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله) لما لهما من السابقة والقدم في الإسلام ونصر الدين، وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نُسب الى بعض رواته من النصب، وهو الانحراف عن علي وآل بيته...

وبعد أن يورد أسماء بعض رواة الحديث، يقول:

لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبدالواحد، اُموي قد نُسب الى شيء

____________

1- مسند أحمد 4: 203.

2- صحيح البخاري 8: 7 كتاب الأسباب تبلّ الرحم ببلالها، صحيح مسلم 1: 136 كتاب الايمان: باب موالاة المؤمنين، مسند أحمد 4: 203.

 

 


من النصب، وأما عمرو بن العاص -وإن كان بينه وبين علي ما كان- فحاشاه أن يُتّهم...(1)

فنفهم من كلام ابن حجر وما نقل عن غيره، أن آل فلان -الذين تجنب بعض المحدّثين ذكرهم -هم في الحقيقة آل أبي طالب عمّ النبي (صلى الله عليه وآله)، ووالد علي بن أبي طالب، وقد ذكر ابن أبي الحديد أسماءهم في نقله للحديث(2).

ومحاولة ابن حجر لتبرئة عمرو بن العاص باتهام غيره من الرواة لا تجدي نفعاً، فان من يعمل أعمال عمرو -كما بيّنا بعضها- لا يتورّع عن غير ذلك، وليس عمرو بن العاص وحده في ذلك، فان سمرة بن جندب -وهو صحابي أيضاً- قد أدّى دوره في ذلك المسلسل. فقد روى ابن أبي الحديد قال: قال أبو جعفر: وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة الف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: (وَمنَ الناسِ مَنْ يُعجِبكَ قَولهُ في الحياةِ الدُّنيا وَيُشهدُ اللهَ عَلى مَا في قَلبهِ وَهوَ أَلدُّ الخِصامْ * وَإذا تولّى سعى في الأَرضِ ليُفسِدَ فيها وَيُهلِكَ الحَرثَ والنَّسلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَساد)(3).

وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: (وَمنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسُه ابتِغاءَ مَرضاتِ اللهِ)(4) فلم يقبل، فبذل له مائتي الف درهم فلم يقبل، فبذل ثلاثمائة الف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة الف فقبل، وروى ذلك(5).

كما وأخرج المحدّثون عن ابن عمر(رضي الله عنه)، قال: كنا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) لا

____________

1- فتح الباري 10: 345.

2- شرح نهج البلاغة 11: 42.

3- سورة البقرة: 204، 205.

4- سورة البقرة: 207.

5- شرح نهج البلاغة 5: 73.

 

 


نفاضل بينهم(1).

وهذا الحديث يذكرنا بجملة من الأحاديث المزعومة التي ذكرناها فيما سبق من احتجاج بعض متكلّمي الجمهور بها للدلالة على النص على الخلفاء الثلاثة، وقد ذكرنا من بينها الحديث المزعوم حول صعود النبي (صلى الله عليه وآله) جبل اُحد مع الخلفاء الثلاثة وما قاله النبي في ذلك، وقد أخرجه البخاري أيضاً في فضائل عثمان(2) ورائحة السياسة الاُموية تفوح من هذه الأحاديث التي علّقنا عليها فيما سبق، وقد ردّ ابن عبدالبرّ هذا الحديث رغم صحة اسناده، فقال:

من قال بحديث ابن عمر (وذكر الحديث)، وهو الذي أنكره ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: أن علياً أفضل الناس بعد عثمان(رضي الله عنه)، وهذا مما لم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان، واختلف السلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر، وفي إجماع الجمع الذي وضعنا، دليل على أن حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإن كان اسناده صحيحاً...!(3)

لكن الحديث دخل في صحيح البخاري! ودخل معه أكثر من ذلك، فعن المسور بن مخرمة قال: إن علياً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك! وهذا علي ناكح بنت أبي جهل! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) -فسمعته حين تشهد يقول- "أما بعد، أنكحتُ أبا العاص بن الربيع، فحدّثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن

____________

1- صحيح البخاري 5: 18 باب مناقب عثمان.

2- المصدر السابق.

3- الاستيعاب 3: 1116.

يسؤها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد"! فترك علي الخطبة، وزاد محمد بن عمرو بن طلحة عن ابن شهاب عن علي عن مسور: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) -وذكر صهراً له من بني عبد شمس- فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن وقال: "حدثني فصدقني، ووعدني فوافى لي"!(1).

فبناء على هذا الحديث المزعوم، يكون علي بن أبي طالب قد حدّث النبي فلم يصدقه، ووعده فلم يف بوعده! ولا أدري هل كان علي قد وعد النبي بأن لا يتزوج على ابنته امرأة اُخرى أم لا، وهل كان ذلك من شروط العقد! وعندما نناقش هذا الحديث يتبين لنا ثلمه، فلماذا ينهى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتزوج عليّ ابنة عدو الله أبي جهل -وهي قد أسلمت والإسلام يجب ما قبله، فضلا عن أنها ليست مسؤولة عن عمل أبيها- بينما نجد النبي نفسه يتزوج اُم حبيبة بنت أبي سفيان الذي كان وقتها ألدّ أعداء الله ورسوله، وحامل راية المشركين في كل معركة، فان كان الزواج بابنة عدو الله محرّماً، فقد كان حرياً بالنبي (صلى الله عليه وآله) أن يكون اُسوة في ذلك، وأن يرشد اُمته لهذا الأمر، أما إذا كانت دعوى المصححين للحديث بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال ذلك غيرة منه على ابنته وإكراماً لمشاعرها، فمنع علياً أن يأتيها بضرّة، فان هذا الاحتجاج أيضاً ليس في محله، لأننا نجد في كتب الحديث والسيرة، أن علياً -عندما بعثه النبي الى اليمن- قد استصفى لنفسه جارية مما أثار حفيظة بعض الصحابة وشكوه الى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكن النبي أقرّ علياً على عمله، وغضب من الذين شكوه لذلك(2).

وفضلاً عن هذا وذاك فان هذه مسألة شخصية، ولو صحّ ذلك فقد كان يكفي أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) الى علي بن أبي طالب في بيته ويعاتبه على نيّته على

____________

1- صحيح البخاري 5: 28 باب ذكر أصهار النبي(ص)، منهم أبو العاص بن الربيع، صحيح مسلم 4: 1903.

2- سيأتي تمام الخبر في وقته.

 

 


هذا الزواج بدلاً من أن يصعد المنبر ويشهّر بعلي على رؤوس الأشهاد بشكل يتنافى مع أخلاق النبي المعروفة.

ويبدو أن هذا الحديث قد زيد فيه، لأسباب سوف تنكشف فيما بعد، إذ أن الروايات الاُخرى جاءت، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها"(1)، وعن المسور بن مخرمة(رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها اغضبني"(2). فقصة زواج علي من ابنة أبي جهل هي من الزيادات المقصودة في الحديث، بهدف إظهار أن غضب فاطمة والنبي (صلى الله عليه وآله) كان على علي بن أبي طالب وليس منصباً على أحد غيره، ولقد بلغ الحصار الاعلامي على رواية فضائل علي بن أبي طالب حدّاً جعل الكثير من المسلمين - حتى الذين على قدر من العلم- يكادون يجهلون الكثير عنها، إن لم يكن كلها، فعن مالك بن دينار قال: سألت سعيد بن جبير فقلت: يا أبا عبدالله، من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فنظر إليَّ وقال: كأنك رخيّ البال. فغضبت وشكوته الى إخوانه من القرّاء، فقلت: ألا تعجبون من سعيد، إني سألته من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنظر إليَّ وقال إنك لرخيَّ البال! قالوا: إنك سألته وهو خائف من الحجاج، وقد لاذ بالبيت فسله الآن، فسألته فقال: كان حاملها علي(رضي الله عنه)، هكذا سمعته من عبدالله بن عباس!(3).

وعن أبي إسحاق، سأل رجل البرّاء -وأنا أسمع- قال: أشهد عليٌّ بدراً؟!

قال: بارزَ وظاهرَ!(4).

____________

1- صحيح مسلم 4: 1903.

2- صحيح البخاري 5: 36 باب مناقب فاطمة (عليها السلام).

3- المستدرك 3: 137.

4- صحيح البخاري 5: 96 باب غزوة بدر.

 

 


أفليس عجيباً أن يصل الحصار الاعلامي الذي فرضه بنو اُمية على رواية فضائل علي بن أبي طالب، الى الحد الذي يخفى فيه دوره حتى في معركة بدر، مع أنه أول من خرج للمبارزة، وكان لسيفه الدور الحاسم في رجحان كفة المسلمين في ذلك اليوم الفصل!

هذا بعض ما أردنا توضيحه عن الحرب الاعلامية التي شنّها معاوية على علي بن أبي طالب بعد استلامه السلطة مباشرة، وهي الحلقة الاُولى من المخطط الاُموي. هذا وسيأتي المزيد من الشواهد على استمرار ذلك المخطط الى ما بعد عصر الامويين أيضاً.

فأما الحلقة الثانية من المخطط فكانت بوضع فضائل لعثمان بن عفان لا حقيقة لها، وقد نجح معاوية ومن أعانه على ذلك في نشر تلك الفضائل الموهومة حتى انخدع بها المحدّثون وجمهور المسلمين كافة، ولنذكر بعض الشواهد على ذلك.

مناقب عثمان

إن الذي ينظر في المناقب التي افتعلت للخلفاء الثلاثة بأمر معاوية بن أبي سفيان، ليأخذه العجب من شدّة التناقضات التي يجدها فيها، فان هذه المناقب تكاد تطيح بنظرية الجمهور في التفضيل بين الخلفاء على حسب الترتيب المعلوم، فعثمان بن عفان ينفرد أحياناً بمناقب لا يبلغ شأوها أحد حتى الخليفتان اللذان سبقاه، ونجد أحياناً مناقب لعمر بن الخطاب لا يحلم أبو بكر أن يطالها، ومردّ كل ذلك أن خطة معاوية كانت تقتضي في البداية خلق فضائل لعثمان من أجل طمس فضائل علي، فتبارى الوضاعون في خلق تلك الفضائل

 

 


حتى رفعوا عثمان الى مراتب عالية جداً، مما اضطر معاوية الى كبح جماحهم ودعوتهم الى اختلاق فضائل للصحابة عامة وللشيخين خاصة، فلما بدأوا بذلك تبين أنهم لا يقدرون أن يضاهوا بها مناقب عثمان إلاّ بالمبالغة والغلو في الشيخين - مما سوف يتبين لنا- ومن المضحك حقاً أن هؤلاء الوضاعين أو بعضهم لم يكن على إطلاع واسع على الحديث النبوي الشريف والسنّة النبوية، فأوقعوا أنفسهم في تناقضات غريبة، فمن ذلك مثلا ما تعارف عليه الجمهور من أن عثمان بن عفان كان يحيي الليل بقراءة القرآن في ركعة واحدة! والأخبار في ذلك مستفيضة يرسلها البعض إرسال المسلّمات، فقد أفرد ابن سعد في ترجمة عثمان فصلا بعنوان (ذكر أنه كان يقرأ القرآن في ركعة)، أورد فيها روايات تنسب الى ابن سيرين وعبدالرحمان بن عثمان، وعطاء بن أبي رياح، وامرأة عثمان نائلة بنت الفرافصة، نذكر منها ما أورده عن إبراهيم بن عبدالرحمان بن عثمان قال: قمتُ خلف المقام وأنا اُريد أن لا يغلبني عليه أحد تلك الليلة، فاذا رجل يغمزني فلم ألتفت، ثم غمزني فنظرت فاذا عثمان بن عفان، فتنحيتُ فتقدّم فقرأ القرآن في ركعة ثم انصرف!

وعن إبن سيرين، قال: قالت امرأة عثمان حين قُتل عثمان: لقد قتلتموه وإنه ليحيي الليل كلّه بالقرآن في ركعة!(1)

لكن السنّة النبوية هي خلاف عمل عثمان، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يقرأ القرآن كله في كل ليلة ولا في كل يوم وليلة، وقد أخرج ابن سعد عن عائشة، قالت: كان لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث(2).

ولقد استعظم الصحابة أن يقرأ أحدهم ثلث القرآن في الليلة الواحدة

____________

1- الطبقات الكبرى 3: 55 ترجمة عثمان بن عفان.

2- الطبقات 1: 284 باب صفة قراءته (ص) في صلاته وغيرها وحسن صوته (ص).

 

 


فكيف بكله، فعن أبي سعيد الخدري(رضي الله عنه) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: "الله الواحد الصمد، ثلث القرآن"(1).

بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نهى عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال، وربما أكثر من ذلك، فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إقرأ القرآن في شهر"، قلت: إني أجد قوة; حتى قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك"(2).

وفي رواية: "إقرأ القرآن في كل شهر، إقرأه في كل خمس وعشرين، إقرأه في عشرين، إقرأه في خمس عشرة، إقرأه في سبع، لا يفقهه من يقرأه في أقل من ثلاث"(3).

وهكذا يقع الوضاعون بجهلهم في الخطأ القاتل، في حين يريدون أن يختلقوا فضيلة لعثمان تكون مدحاً له، فانهم يختلقون ما يستحق عليه الذم وهم لا يشعرون.

ومن الاُمور التي ذاعت حتى صارت من المسلّمات، هي قضية تجهيز عثمان جيش العسرة، فعن أبي عمرو القرشي(رضي الله عنه)، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "من يحفر بئر رومة فله الجنة"، فحفرها عثمان، وقال: "من جهّز جيش العسرة فله الجنة"، فجهّزه عثمان(4).

من المعلوم أن عثمان بن عفان -حاله كحال المهاجرين- قد خرج من مكة دون متاع، لأن قريشاً ما كانت لتسمح لأحد بالهجرة بأمواله، وكان أقصى

____________

1- صحيح البخاري 6: 233 فضل قل هو الله أحد.

2- المصدر السابق 6: 423 باب: في كم يقرأ القرآن وقال البخاري: قال بعضهم: في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع.

3- مسند أحمد 2: 165 و 189، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة لناصر الدين الألباني المجلد الرابع ص 18 ح 1513 (حكم من يختم القرآن في أقل مما ثلاث).

4- صحيح البخاري 5: 16 باب مناقب عثمان بن عفان.

 

 


اهتمام المهاجرين أن ينجوا بأنفسهم من قريش، فمن أين جاء عثمان بالمال حتى يشتري بئر رومة! وأين كان الأنصار، كسعد بن عبادة صاحب الجفنة الشهيرة ـ كما مرّ- وغيره من الأنصار!

أما الحديث عن تجهيز جيش العسرة، فهو أعجب وأغرب، ولقد تبارى الوضّاعون فيه حتى تضاربت أقوالهم أيما تضارب، فالواحدي يذكر أن عثمان بن عفان قد جهّز بألف بعير بأقتابها وأحلاسها(1).

بينما يذكر ابن هشام أن من يثق به قد حدّثه بأن عثمان بن عفان قد أنفق في جيش العسرة ألف دينار(2).

وأخرج أبو نعيم بأن عثمان جاء بألف دينار(3).

وعند الإمام أحمد: ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها(4).

وعند ابن الأثير: قيل كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار(5).

وعند الحلبي: جهّز عشرة آلاف دينار، غير الإبل والخيل وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتى ما تربط به الأسقية!(6).

أما الطبري فقال: وأنفق عثمان ابن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته!(7).

وهكذا تجد الوضّاعين يتسابقون لرفع عدد الدنانير، والتي ستزيد من عدد الدنانير التي تجود بها عليهم كف معاوية المعطاء دون شك.

____________

1- أسباب نزول القرآن: 55.

2- سيرة ابن هشام 4: 161.

3- حلية الأولياء 1: 59.

4- مسند أحمد 5: 38.

5- الكامل في التاريخ 1: 635.

6- السيرة الحلبية 3: 130.

7- تاريخ الطبري 3: 102 حوادث سنة تسع وبذلك يكون عثمان أمنَّ على النبي في نفقته من أبي بكر!

 

 


ومن العجب أن سيرة عثمان السابقة لا تشي بهذا الكرم، ففي الوقت الذي كان فيه المسلمون يعانون الضيق في مكة، قبض عثمان يده عن الانفاق عليهم حتى نزلت بحقه آية من الكتاب العزيز، فقد أخرج المفسرون، أن قوله تعالى: (أفرأيتَ الذي تَولّى * وَأَعطى قَليلا وَأكدى * أَعندَهُ عِلمُ الغَيبِ فَهوَ يَرى)(1).

قد نزلت في حق عثمان بن عفان الذي كان يتصدّق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع! يوشك أن لا يُبقى لك شيئاً، فقال عثمان: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال له عبدالله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمّل عنك ذنوبك كلها! فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة، فأنزل الله تعالى: (أَفَرأيتَ الذي تَولّى... الآية)، فعاد عثمان الى أحسن ذلك وأجمله(2).

وإذا كان عثمان بن عفان سريعاً الى الانفاق حبّاً لله ورسوله، فما باله لم ينفق درهماً من أجل أن يناجي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو صهره، وقد زوّجه النبي (صلى الله عليه وآله) اثنين من بناته! وذلك عند نزول قوله تعالى: (يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذا ناجَيتُمُ الرَّسولَ فَقدِّمُوا بَينَ يَدَيْ نَجواكُم صَدَقَةً ذلكَ خَيرٌ لَكُمْ وأَطهرُ فإنْ لَمْ تَجدُوا فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ * ءأَشفقتُم أَنْ تُقَدِّموا بَينَ يَدَيْ نَجواكُم صَدَقات فَإلَمْ تَفعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيكُمْ فَأَقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وَأطيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبيرٌ بِما تَعمَلُونَ)(3).

قال مقاتل بن حيّان: نزلت الآية في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله) فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره

____________

1- سورة النجم: 33، 34، 35.

2- أسباب النزول للواحدي: 298، الكشاف 3: 146، تفسير القرطبي 17: 111.

3- سورة المجادلة: 12، 13.

 

 


رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل الميسرة فبخلوا! واشتدّ ذلك على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، فنزلت الرخصة.

وقال علي بن أبي طالب(رضي الله عنه): إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: (يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذا ناجَيتُم الرَّسولَ)، كان لي دينار فبعته بدراهم، وكنت إذا ناجيتُ الرسول تصدّقت بدرهم حتى نفدَ، فنسخت بالآية الاُخرى: (أَأَشفقتم أَن تُقَدّموا...) الآية(1).

مناقب الصحابة

كانت الحلقة الثالثة من المخطط الاُموي الذي رسمه معاوية لتزييف الحديث النبوي الشريف، تتلخص في وضع فضائل لباقي الصحابة وبخاصة الشيخين أبي بكر وعمر -في مقابل فضائل علي بن أبي طالب، لأنها أقرّ لعينه وأدحض لحجة علي وشيعته- كما عبّر بذلك معاوية في كتابه لولاته- والذي كان من نتائجه أن شمّر الوضّاعون عن ساعد الجدّ في اختلاق الأحاديث المقابلة لفضائل علي -وقد مرّ بعضها فيما سبق- وذكرنا كيف أن تلك الفضائل المختلقة قد أوقعت شرّاح الأحاديث في مشكلة الجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة، حتى نبّه على ذلك ابن حجر الهيتمي المكي فقال وهو يورد جملة من فضائل علي بن أبي طالب:

ثمّ اعلم أنه سيأتي في فضائل أهل البيت أحاديث مستكثرة من فضائله، فلتكن منك على ذكر، فانه مرَّ في كثير من الأحاديث السابقة في فضائل أبي

____________

1- أسباب النزول للواحدي: 432، تفسير الطبري 28: 14، الدر المنثور 6: 185، الرياض النضرة 2: 265، الكشاف 6: 76.

 

 


بكر جُمل من فضائل علي!(1).

ومن يراجع أبواب الفضائل في كتب الحديث يسهل عليه إيجاد هذه المقارنة.

وقد نجحت وسائل إعلام معاوية في طمس بعض فضائل علي بن أبي طالب وتحويلها الى غيره، كلقب الصدّيق الذي أصبح لا يُذكر إلاّ ويقفز اسم أبي بكر الى الذهن باعتباره لقباً له، درجت الأجيال على حفظ ذلك، وأرسلها الكُتّاب والمؤلفون -قديماً وحديثاً- إرسال المسلّمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلا، مع أن لقب الصدّيق هو لعلي بن أبي طالب، سمّاه به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال المحبّ الطبري: ولم يزل اسمه في الجاهلية علياً، وكان يُكنى أبا الحسن، وسمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) صِدّيقاً. عن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "الصّدّيقون ثلاثة، حبيب بن مري النجّار ومؤمن آل ياسين... وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب الثالث، وهو أفضلهم". خرّجه أحمد في المناقب، وكنّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأبي الريحانتين(2).

ولأن لفظ الصدّيق أصبح مقروناً باسم أبي بكر، لكثرة ما تردد على الألسن، لذا فإن إطلاق لقب الصدّيق على علي صار يثير حساسية عند المؤلّفين من الجمهور.

قال ابن كثير: قال سويد بن سعيد، ثنا نوح بن قيس بن سليمان بن عبدالله، عن معاذة العدوية قالت: سمعت علي بن أبي طالب على منبر البصرة يقول: أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمتُ قبل أن يُسلم. وهذا لا

____________

1- الصواعق المحرقة: 186.

2- الرياض النضرة 3: 104، الجامع الصغير للسيوطي 2: 115، كنز العمال 11: 601، فيض القدير للمناوي 4: 313.

 

 


يصح، قاله البخاري(1).

وعن عباد بن عبدالله الأسدي، عن علي(رضي الله عنه) قال: إني عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاّ كاذب، صلّيت قبل الناس بسبع سنين، قبل أن يعبده أحد من هذه الاُمّة.

قال الذهبي: حديث باطل... وعباد، قال إبن المديني: ضعيف(2).

أما إبن تيمية، فمعلوم شدة حساسيته تجاه أية فضيلة لعلي بن أبي طالب خصوصاً إذا كانت تتضارب مع إحدى فضائل الشيخين التي يرسلها إبن تيمية إرسال المسلّمات، لذا فانه يبادر لا إلى تضعيف الحديث لوجود أحد الضعفاء فيه كما هي العادة، بل الى نسف الحديث من أساسه، فقال: وعبّاد يروي عن علي ما يُعلم أنه كذب عليه قطعاً، مثل الحديث الذي هو كذب ظاهر، معلوم بالضرورة أنه كذب...

فابن تيمية ينسف الحديث بدعوى انه كذب بالضرورة، أي أن متنه يناقض ماهو معلوم من إطلاق لقب الصدّيق على أبي بكر، فيصبح إطلاق هذا اللقب على غيره كذباً بالضرورة!

ومثل ذلك في لقب الفاروق الذي صار سمة لعمر بن الخطاب حتى كاد يغلب على إسمه، وحتى صار لا يخطر ببال أحد أن يعتقد بأن ذلك لقب لعلي أيضاً، فعن علي بن إسحاق، عن إسماعيل بن موسى السدّي، عن عمر بن سعيد، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سخيلة، عن أبي ذر وسلمان، قالا: أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال: (إن هذا أوّل من آمن بي، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الاُمة، يفرّق بين الحق والباطل، وهذا

____________

1- البداية والنهاية 7: 333.

2- تلخيص الذهبي على المستدرك 3: 112.

 

 


يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظالم)(1).

قال نور الدين الهيتمي: وفيه عمرو بن سعيد المصري وهو ضعيف(2).

لكن عمرو بن سعيد المصري وثّقه البعض، "قال الدوري عن ابن معين: مشهور، وقال ابن الجنيد عن ابن معين: شيخ بصري، وقال ابن سعد والنسائي: ثقة، وذكره ابن حيان في الثقات"(3).

ومهما يكن من أمر، فان ألقاب علي بن أبي طالب مأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أما ألقاب الآخرين فمشكوك في نسبتها إليه، قال ابن كثير -وهو يورد نسب عمر بن الخطاب- الملقب بالفاروق، قيل لقبه بذلك أهل الكتاب!(4).

وقال الطبري: قال ابن شهاب: بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر: الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر من ذلك شيئاً!(5).

وأما تلقيب أبي بكر بالصدّيق، فيروون في سبب ذلك أن كل من عرض عليه النبي (صلى الله عليه وآله) الإسلام تردّد فيه إلاّ أبا بكر، ماعتم أن آمن به وصدّقه، ولكنهم يروون في مقابل ذلك أن النبي نفسه قد تحيّر عندما نزل عليه الوحي وضاق صدره ولم يصدّق نفسه، حتى أنه أراد أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل!

والكلام عن فضائل الشيخين قد أصبح كالأساطير لشدة تناقلها بين الناس، "فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكباراً يوشك أن يكون

____________

1- المعجم الكبير للطبراني 6: 269.

2- مجمع الزوائد 9: 102.

3- تهذيب التهذيب 8: 35.

4- البداية والنهاية 7: 133.

5- تاريخ الطبري 4: 195 حوادث سنة 23، والطبقات الكبرى 3: 270، تاريخ عمر:30.

 

 


تقديساً لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها في مدحهما والثناء عليهما، وإذا كان من الحق أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الاكبار والتقديس، فلا غرابة في أن يكون إكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدراً من مصادر الكذب عليهما أيضاً"(1).

إلاّ أن الأمر الذي لم يذكره الدكتور طه حسين، هو أن ذلك التقديس للشيخين إنما تولّد بأمر معاوية الذي أمر بافتعال فضائل مختلقة لهما في مقابل فضائل علي بن أبي طالب، لم تكن معروفة حتى بداية عهد معاوية الذي اعترف بذلك في كلامه مع المغيرة بن شعبة من أن أخا تيم هلك وهلك ذكره إلاّ أن يقال أبو بكر، وأن أخا عدي هلك وهلك ذكره...الخ.

____________

1- طه حسين، الخلفاء الراشدون، المجلد الرابع: 8.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحب بعد الأربعين
الامام محمد الباقر علیه السلام
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
آفّات التفسير الروائي
من زارها عارفا بحقها
يا دعبل ارث الحسين
فی أی روایة أجد بعض الوصایا و الادعیة لأرزق ...
أولاد السيدة زينب (ع)
ما هي حقيقة آيه الرجم ؟
في حسن الظن بالله تعالى

 
user comment