عربي
Sunday 25th of August 2024
0
نفر 0

الإسرائيليات في كتب التفسير بالمأثور

 * د. احسان الأمين
أخذت الإسرائيليات طريقها إلى معظم كتب التفسير، متسللة من بعضها إلى البعض الآخر، قال الذهبي: (بل لا أكون مبالغاً ولا متجاوزاً حدّ الصدق إن قلت: إن كتب التفسير كلّها قد انزلق مؤلفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات، وإن كان يتفاوت قلّة وكثرة وتعقيباً عليها وسكوتاً عنها).
ورغم أنّ بعض المفسِّرين قد حذّر من ذكر الاسرائيليات إلا أنّ معظمهم (يتورّطون في ذكرها، لا ليحذِّروا منها، ولا لينبِّهوا على كذبها، وإنّما يذكرونها وكأنّها وقائع صادقة وحقائق مسلّمة بلا نقد لها وبغير أسانيدها التي تيسِّر لمن ينظر فيها معرفة صدقها من كذبها).
وكلّما كان الكتاب أكثر تفسيراً بالمأثور وأقل استفادة من المعقول في نقد المنقول وتنقيته من الشوائب، كان ذلك التفسير أكثر ذكراً للاسرائيليات ونقلاً منها.
لذا كان تفسير محمّد بن جرير الطبري المسمّى باسم (جامع البيان في تفسير القرآن) كثير الرواية للأخبار والقصص الإسرائيلية المسندة إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج وغيرهم من مسلمة أهل الكتاب، فهو (يروي في تفسيره أباطيل كثيرة، يردها الشرع ولا يقبلها العقل، ثمّ لا يعقب عليها بما يفيد بطلانها اكتفاءً بذكر أسانيدها).
ورغم أن ابن كثير كان شديد الحذر من الإسرائيليات، فقد قال في مقدّمة تاريخه (البداية والنهاية): (ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله ممّا لا يخالف كتاب الله وسنّة رسوله(ص)، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، ممّا فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لهم ورد به شرعنا...) رغم ذلك فانّه أحياناً (يذكر في تفسيره بعض الروايات الإسرائيلية الغريبة ولا يعقِّب عليها بكلمة واحدة).
وحتّى الذي وصف الذهبي تفسيره (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) بأنّه (من أشدّ الكتب نقداً للاسرائيليات وعيباً على مَن توسّعوا في أخذها وحشوا بها تفاسيرهم) حتى هذا (ينزلق أحياناً إلى روايتها دون أن يعقّب عليها أو يحذّر منها).
- الموضوعات الإسرائيلية في كتب التفسير:
من مراجعة كتب التفسير نجد أن الإسرائيليات جاءت في الموضوعات التالية:
1 ـ قصص وأخبار الأنبياء السابقين خصوصاً أنبياء بني إسرائيل.
2 ـ قصص وأخبار الاُمم السابقة.
3 ـ قصص وأخبار الغيب، عن الملائكة والعرش والكرسي والجنّة والنّار ويوم القيامة وأشراط الساعة كالمسيح والدجّال وغيره.
إضافة إلى موضوعات متفرقة اُخرى، منها في الترغيب والترهيب والأخلاق، ولكنّها لا تشكل مساحة كبيرة.
- نماذج من الإسرائيليات في التفسير:
لغرض متابعة هذا الموضوع بصورة علميّة، فإنّنا سنقوم باستقصاء نماذج من أشهر الروايات الإسرائيلية ومتابعتها في كتب التفسير، محاولين اختيار مفسِّرين مختلفين ولفترات زمنية متفاوتة، مستفيدين من ملاحظة طريقة تعامل المفسِّرين مع هذه الروايات وتطوّر منهجهم في ذلك عبر القرون المتلاحقة.
لذا فإنّنا سنختار بعض الروايات الإسرائيلية من تفسير ابن جرير الطبري (القرن الثالث) ونتابعها في التفاسير السنّية والشيعيّة المختلفة، وهذه الروايات هي ممّا اشتهرت واتفق على إسرائيليتها، وهي:
- قصّة زواج النبي داوود(ع):
قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى داوود فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِك وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص/ 21ـ25).
قال الطبري (ت: 310هـ) في تفسيره للآيات: (وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داوود محرابه له وذلك أن داوود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتِلَ امرأة واحدة، فلمّا قُتل نَكَح ـ فيما ذكر ـ داوود امرأته، فقال له أحدهما: (إنّ هذا أخي) يقول: أخي على ديني).
وروى الطبري في تفصيل ذلك سبع روايات بسنده عن ابن عباس والسدّي والحسن البصري وأنس بن مالك وعطاء الخراساني، ومنها روايتان عن وهب بن منبه اليماني، وهو ممّن روي عنه كثير من الاسرائيليات.
ونورِد فيما يلي روايتي وهب بن منبه كاملتين كما أخرجهما الطبري، لبيان القصّة المنسوبة إلى النبيّ داوود (ع) ولمعرفة مصدرها:
حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: لمّا اجتمعت بنو إسرائيل على داوود، أنزل الله عليه الزّبور، وعلّمه صنعة الحديد، فألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبِّحن معه إذا سبّح ولم يعط الله فيما يذكرون أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور ـ فيما يذكرون ـ تدنو له الوحوش حتّى يأخذ بأعناقها، وإنّها لمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد دائب العبادة، فأقام في بني إسرائيل يحكم فيهم بأمر الله نبيّاً مستخلفاً، وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء، كثير البكاء، ثمّ عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض له، وكان له مِحْراب يتوحد فيه لتلاوة الزّبور، ولصلاته إذا صلّى، وكان أسفل منه جنينة لرجل من بني إسرائيل، كان عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داوود فيها ما أصابه.
حدّثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، أن داوود حين دخل محرابه ذلك اليوم، قال: لا يدخلنّ عليّ محرابي اليوم أحد حتى الليل، ولا يشغلني شيء عمّا خلوت له حتى اُمسي، ودخل محرابه، ونشر زَبوره يقرأُه، وفي المحراب كوّة تطلعه على تلك الجنينة، فبينا هو جالس يقرأ زبوره، إذ أقبلت حمامة من ذهب حتّى وقعت في الكوّة، فرفع رأسه فرآها، فأعجبته، ثمّ ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عمّا دخل له، فنكّس رأسه وأقبل على زَبوره، فتصوّبت الحمامة للبلاء والاختبار من الكوّة، فوقعت بين يديه، فتناولها بيده، فاستأخرتْ غير بعيد، فاتبعها، فنهضت إلى الكوّة، فتناولها في الكوّة، فتصوّبت إلى الجنينة، فأتبعها بصره أين تقع، فاذا المرأة جالسة تغتسل بهيئة، الله أعلم بها في الجمال والحُسن والخَلْق، فيزعمون أنّها لمّا رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه، واختطفت قلبه، ورجع إلى زَبوره ومجلسه، وهي من شأنه لا يفارق قلبه ذكرها، وتمادى به البلاء حتّى أغزى زوجها، ثمّ أمر صاحب جيشه فيما يزعم أهل الكتاب أن يقدّم زوجها للمهالك حتّى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك، ولداوود تسع وتسعون امرأة، فلمّا أُصيب زوجها خطبها داوود، فنكحها).
ولم يُعقِّب الطبري على هذه الروايات بشيء، رغم ما فيها من الطّعن في النبيّ داوود (ع) ونسبة عمل إليه لا يقوم به مؤمن عادي فضلاً عن نبي معصوم، كما إنّه من الواضح على الروايات أنّها من الاسرائيليات، وقد وردت الاشارة إلى مصادرها الإسرائيلية صريحاً بعبارات: (فيما يزعم أهل الكتاب، ويزعمون، ...)، ممّا يدلّ على أنّ مبنى المفسِّرين ـ في الطبري ـ كان التساهل عموماً في ذكر الاسرائيليات وروايتها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
- رأي الخازن (ت: 741هـ):
قال: (وفي القصّة امتحان داوود (عليه الصلاة والسلام)، واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك، وسأذكر ما قاله المفسِّرون ثمّ أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داوود (عليه الصلاة والسلام) ممّا لا يليق بمذهبه (ع)، لأن منصب النبوّة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها. وأمّا ما قاله المفسِّرون: ...).
ثمّ ذكر ما روي ممّا ذكره ابن جرير وغيره معلّقاً عليه بقوله: (فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصّة امتحان داوود).
وذكر أيضاً كلام الفخر الرازي في ردّ هذه الروايات ومناقشتها، وبيان الوجوه التي تنصرف إليها الآيات ممّا تنزّه ساحة النبي داوود (ع) عمّا نُسِبَ إليه.
ثمّ عقد فصلاً جديداً بعنوان (فصل في تنزيه داوود عليه الصلاة والسلام ممّا لا يليق به وما ينسب إليه)، قال فيه: (إعلم أنّ مَن خصّه الله تعالى بنبوّته وأكرمه برسالته وشرّفه على كثير من خلقه وأتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن يُنسَب إليه ما لو نُسِبَ إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدّث به عنه، فكيف يجوز أن يُنسَب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الاُمناء ذلك.
روى سعيد بن المسيّب والحارث الأعور عن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنّه قال: مَن حدّثكم بحديث داوود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حدّ الفرية على الأنبياء.
وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطّره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا ونقله بعض المفسِّرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح، والذي نصّ عليه الله في قصّة داوود (وظنّ داوود أنّما فتنّاه) وليس في قصّة داوود وأوريا خبر ثابت ولا يظنّ بنبيّ محبّة قتل مسلم، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داوود...).
- رأي ابن كثير (ت: 744هـ):
أمّا ابن كثير، فإنّه وإن توقّف في قبول الروايات لأنّ أكثرها من مصادر اسرائيلية ولضعف إسناد البعض الآخر، إلا أنّه فضّل الاقتصار على الآيات وردّ علمها إلى الله دون الخوض في تفسيرها ومناقشة متون الروايات، إذ قال: (قد ذكر المفسِّرون هاهنا قصّة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثاً لا يصحّ سنده لأنّه من رواية يزيد عن أنس(رض)، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنّه ضعيف الحديث عند الأئمّة، فالأولى أن يقتصر على مجرّد تلاوة هذه القصّة وأن يردّ علمها إلى الله عزّوجلّ، فإنّ القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً).
- رأي السيوطي (ت: 911هـ):
أخرج السيوطي القصّة المذكورة بطرق مُتعدِّدة وأسناد كثيرة أنهاها إلى كبار الصحابة والتابعين، وهي:
1 ـ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم عن ابن عباس(رض): ان داوود (ع)...
2 ـ وأخرج الحكيم في نوادر الاُصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند ضعيف عن أنس(رض) سمعت رسول الله(ص) يقول: ...
3 ـ وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن مجاهد(رض) قال: لمّا أصاب داوود (ع) الخطيئة، وإنّما كانت خطيئته أنّه لمّا أبصرها أمر بها فعزلها فلم يقربها...
4 ـ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس(رض): ...
5 ـ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن(رض): ...
6 ـ وأخرج ابن جرير والحاكم عن السدي، قال: ...
7 ـ وأخرج ابن المنذر عن محمّد بن كعب القرظي(رض) نحوه.
8 ـ وأخرج عبدالرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود(رض) قال: ما زاد داوود (ع) على أن قال (أكفلنيها).
وأورد السيوطي أربع روايات اُخرى بنفس هذا المعنى.
- مراجعة الروايات :
1 ـ من الواضح تماماً ان ما نسب لساحة النبي داوود (ع) لا يليق بساحته كمؤمن فضلاً عن أن يكون من الأنبياء.
2 ـ إنّ سياق الآيات الكريمة لا يحتمل ما روي، إذ إنّ القرآن الكريم في هذه القصّة بدأ بمدح النبي داوود بقوله تعالى: (واذْكُرْ عبدَنا داوود ذا الأيدِ إنّهُ أوّابٌ)... ثمّ قوله: (... وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطابِ)، فكيف يمدح القرآن رجلاً ويصفه بكثرة التعبّد والحكمة ثمّ ينسب إليه مثل تلك الفِعال السيِّئة؟
3 ـ صرّحت بعض الروايات بأخذها عن وهب بن منبه، وروايات اُخرى موقوفة عن بعض الصحابة، ويتّضح من نصّها أنّها مأخوذة إمّا عن وهب، أو عن أهل الكتاب مباشرة، كما صرّحت روايتا وهب بنسبة القصّة فيهما إلى أهل الكتاب.
4 ـ لوحظ من خلال مواقف المفسِّرين الأربعة: أنّ الطبري والسيوطي وهما أكثر حصراً لتفسيرهما على المنقول قد مرّت عليهما الروايات المذكورة دون تحفظ أو اعتراض، خصوصاً مع كثرة طرقها وتعدّد مسانيدها، وهو ما يقوي الرواية عند أصحاب الحديث، مع أنّه ربّما تتعدّد الطرق والمصدر فيها رواية واحدة، ولم يفكِّرا بمحاكمة الروايات على أساس القرآن والثابت من العقائد الاسلامية، لأنّ منهج أصحاب الحديث التمسك بالرواية إن ثبتت بطرقهم، واحتمل معناها.
أمّا ابن كثير والخازن فلأنّ منهجهما توسّع عن المنقول إلى التفسير بالقرآن ومناقشة الآراء والدلائل وفقاً له وللعقائد المسلّمة عند المسلمين فإنّهما توقّفا في تلك المرويات، فأوكل ابن كثير علمها إلى الله، وأمّا الخازن فردّها متمسّكاً بمبدأ العصمة.


source : البلاغ
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آثار الغيبة على الفرد والمجتمع وإفرازاتها
الإسرائيليات في كتب التفسير بالمأثور
زيد بن علي بن الحسين
فاطمة عليها السلام حجة الله الكبرى –الصبر
مصحف الإمام علي(عليه السلام)
حیاه الامام الرضا (ع)
الولي خليفة للنبي
قصة بناء مسجد جمکران
مجموعة من احاديث محمد بن علي الباقر (عليه السلام)
استحالة الدور والتسلسل في العلل

 
user comment