لا يختلف اثنان في ان العقل هو من أبرز خصائص الإنسان، ومن أعظم ميزات العقل القدرة على الانتقال من الحقائق المشهودة إلى المغيبة، ومن المسائل الجزئية إلى الحقائق العامة، ومن الأمثلة الواقعية إلى السنن الإلهية، ومن الظواهر المعروفة إلى القوانين العامة المجهولة.
وعندما يفقد الإنسان امتياز الانتقال مما يراه إلى ما يفعله، ومما يبصره إلى ما يستبصره فإنه والحيوان سواء في القدرة العقلية.
ومن أعظم مظاهر هذه الحقيقة الكبرى ان الإنسان عندما يتأمل الكون بما فيه من آثار رحمة الله وقدرته وعظمته وينتقل إلى معرفة ربه، فإنه سيكون ممن يعقل المعلومات ويستثمر البصائر ويستفيد من الحقائق التي يراها، أما إذا لم يتأمل الكون ولم يصل إلى حقيقة معرفة ربه فإنه سيكون ممن لا يعقل بسبب جموده عند الظاهر؛ فهو يرى جريان الشمس لمستقرها ولا يعرف ان ذلك من تقدير العزيز العليم، ويشاهد الودق يخرج من كتل السحاب ويتدفق غيثا على الأرض الجرداء ليحولها إلى جنة خضراء ولكنه لا يبصر ان هذا من رحمة الله، ويرى ان الإنسان ينام في الليل ويصبح كالميت ـ إذ النوم أخ للموت ـ واليقظة من النوم كالانبعاث من بعد الممات، ولكنه لا يستشعر من خلال هذه الظاهرة قدرة الله ـ جل شأنه ـ ولا يبصر أصابع الغيب في ذلك.
والله ـ سبحانه ـ بعد ان يستعرض في سورة الروم طائفة من آياته التي جعلها دليلا إليه، وسببا لمعرفته، ووسيلة للتقرب إليه يقول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) [الروم/ 28]؛ أي نبينها بوضوح وتفصيل للذين يعقلون، اما الإنسان غير (العاقل) فإنه لا يبصر ولو ضرب القرآن أبرز أمثلة الكون وأروعها.
فلو فتشنا عن المعنى الأصلي لـ(العقل) لعرفنا انه المحافظة على شيء ينطلق باندفاع، ولهذا يقال لمن يمنع تدفق الماء من علو انه قد (عقله)، ولمن يمسك البعير المنطلق في الصحراء انه قد (عقله)، وهكذا الحال بالنسبة إلى العلم الذي لا يستقر في دماغ الإنسان لكونه يأتي بخطفة سريعة كالوميض، ولذلك يحتاج الإنسان إلى مزيد من النشاط والحرة وقوة الإرادة والحزم لكي يعقل العلم، ويحفظه في قلبه من التبدد والتلاشي.
ان هناك حقائق كثيرة يغفل عنها الإنسان، وأكثر هذه الحقائق يرتبط ارتباطا وثيقا بدور العقل في الحياة ومن ضمنها:
1- ربط الحوادث ببعضها:
ان يرى ضوء منبعثا من مصابيح الإضاءة دون ان يعرف ما وراء هذا الضوء المنبعث من نظام يولد الكهرباء فإن في عقله خللا، إذ لابد من ربط الظاهر الحاضر بالخفي الباطن، وهكذا الحال بالنسبة إلى جزئيات الشريعة وكلياتها، إذ ان الغالبية العظمى من الآيات القرآنية تحدثنا عن الخطوط العريضة للشريعة أو (الأصول العامة) حسب التعبير الفقهي، و(الهدى) طبقا للتعبير القرآني، ذلك لأن المهم ان يعي الإنسان الهدف العام أولا، وبعد ذلك تتكفل السنة الشريفة والأحاديث المروية عن الأئمة المعصومين عليهم السلام بشرح الجزئيات وإيضاحها.
ومع ذلك فقد أشار الأئمة عليهم السلام إلى مجموعة من الأصول العامة وتركوا أمر تفريعها وتطبيقها على الحياة إلى الفقهاء والمراجع من بعدهم، وهذا هو سر مرونة الإسلام، وقدرة أحكامه الشريفة على ان تطبق في كل عصر ومصر وفي كل الظروف، لأنها تحدث العقل الذي يكيف بدوره القوانين العامة حسب الشروط الموضوعية والجزئية.
وعلى هذا فإن استيعاب الكليات، ومعرفة الأصول هما الأهم لكي يعرف الإنسان حدود الشرك، وطرق الابتعاد عنه، اما التفاصيل فإنها موجودة في السنة الشريفة أو في عقل الإنسان المهتدي بالسنة وهو الفقيه العادل.
2- تكاملية الأحكام:
أ- ان الآيات القرآنية تأمرنا بإقامة الصلاة كقوله ـ تعالى ـ: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا) [الإسراء/ 78].
فهذه الآية تأمر بإقامة الصلاة إنابة إلى الله، وإقامة الصلاة لم تأت منفصلة عن سائر الآيات القرآنية بل جاءت في إطار الآيات الأخرى، إذ ان كثيرا من الآيات أمرت بالتوبة إلى الله والتقرب إليه، والصلاة هي الطريقة والوسيلة إلى هذا التقرب؛ فهناك آيات تأمر بالتقرب إلى الله ـ تعالى ـ وآيات تأمر بالتوبة وأخرى بالصلاة لأن الصلاة هي خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر (و) الصلاة قربان كل تقي كما جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام.
وعلى هذا فإن علاقة الصلاة بالإنابة هي علاقة السبب بالمسبب والوسيلة بالهدف والطريق بالغاية، ولذلك تقول الآية القرآنية: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة) [الروم/ 31]، فالإنابة إلى الله تكون عبر التقوى، والتقوى تتحصل من خلال الصلاة.
ب- ان الحج فريضة على كل مسلم ومسلمة، والسبب في ذلك ان هناك أهدافا رسالية تحققها فريضة الحج منها وحدة الأمة وصحة الإنسان وسلامة الاقتصاد..
ج- إن آيات القرآن تهدف إلى تنمية الثروة، والعيش المبارك الكريم في الدنيا، وفريضة الزكاة هي وسيلة تحقيق هذا الهدف.
ان من أخطر ما أبتليت به أمتنا الإسلامية هي تجزئة الأحكام عن بعضها، وعدم فهمها بصورة متكاملة، وعلى سبيل المثال فإن المسلمين يصلون ولكنهم لا يدركون العلاقة الوثيقة للصلاة بالنهي عن الفحشاء والمنكر، ويحجون دون ان يعرفوا علاقة الحج بالوحدة، ويزكون دون ان يربطوا بين الزكاة وبين تنمية الثروة وتوزيعها العادل.
والأدهى من ذلك كله ان آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن التوحيد والشرك فصلت تماما عن الحياة السياسية في الأمة على الرغم من ان هذه الآيات تمثل الإطار العام لحياة الإنسان في الدنيا في كل جوانب حياته.
وعندما يأمرنا الخالق ـ عزوجل ـ بتحقيق هدف استراتيجي أو قيمة إلهية وغاية مقدسة فإن هذا يعني ان نبحث عن الوسائل التي أمرنا بها الله ـ تعالى ـ لتحقيق هذا الهدف.
3- التوحيد أساس الانطلاق:
ولقد أمرنا الله بالاستقامة على التوحيد فكيف نستطيع ذلك؟
فالمحافظة على التوحيد تقتضي من الإنسان ان لا يتطرف يمينا أو شمالا، وهذه مهمة صعبة، فتوحيد الله ـ عزوجل ـ يمثل أعظم زاد يحمله الإنسان إلى الآخرة، أما لو ذهب مشركا فلا شك انه سيدخل الجحيم كما يشعر بذلك قوله ـ عز من قائل ـ: (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء/ 48].
أي ان الله ـ عزوجل ـ لا يغفر ذنب الشرك، وعلى هذا فإن التوحيد هو المنقذ وهذا ما يثبته الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: (كلمة لا اله الا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي).
وللأسف فإن الكثير من الناس يقولون (لا اله الا الله) في الوقت الذي يخضعون فيه عمليا للطاغوت، فإن هذه الكلمة سوف تكون حجة بالغة عليهم لكونها تتنافى مع عبادة الطاغوت والأصنام البشرية. إذ كيف يجوز ترديد هذه الكلمة باللسان وثقافة القلب وطعام الروح مستقيان من الآخرين، فالتوحيد لا يمكن ان يجتمع مع هوى النفس.