قال الأصبغ بن نباتة: لمّا ضُرب علي عليه السلام الضربة التي مات فيها، كنّا عنده ليلاً فأغمي عليه فأفاق فنظر إلينا، فقال: ما يجلسكم؟ فقلنا: حبّك يا أمير المؤمنين، فقال: أَمَا والّذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والإنجيل على عيسى عليه السلام، والزبور على داود عليه السلام، والفرقان على محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله، لا يحبّني عبدٌ إلّا رآني حيث يسره، ولا يبغضني عبدٌ إلّا رآني حيث يكرهه.
إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أخبرني أنّي أضرب في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان في الليلة التي مات فيها موسى عليه السلام، وأموت في ليلة إحدى وعشرين تمضي من شهر رمضان، في الليلة التي رفع فيها عيسى عليه السلام، قال الأصبغ: فمات والّذي لا إله إلّا هو فيها1.
وفي هذه الليلة دعا أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام فقال: 0إنّي مقبوضٌ في ليلتي هذه ولاحق برسول الله صلّى الله عليه وآله، فاسمعا قولي وعِياه، أنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر بعدي، وأنت يا حسين شريكه في الوصية، فانصت ما نطق، وكن لأمره تابعاً ما بقي، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر.وعليكما بتقوى الله الذي لا ينجو إلّا من أطاعه، ولا يهلك إلّا من عصاه، واعتصما بحبله، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد)2.
وقال لهما: "احبسوا هذا الأسير وأطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن عشتُ فأنا أولى بما صنع فيَّ، إن شئتُ استقدتُ وإن شئتُ صالحت، وإن متّ فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثّلوا به"3.
و(إياكم والمثلة، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى عنها ولو بكلبٍ عقور)4.
(يا بَني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلَنَّ بي إلّا قاتلي)5.
عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام في مرضه الذي قبض فيه، فحلَّ عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين ما جرحك هذا بشيء وما بك من بأس، فقال لي: يا حبيب أنا والله مفارقكم الساعة، قال: فبكيت عند ذلك وبكت أمّ كلثوم وكانت قاعدة عنده، فقال لها: ما يبكيك يا بنيّة؟ فقالت: ذكرتَ يا أبه أنّك تفارقنا الساعة، فبكيت، فقال لها: يا بنيّة لا تبكين، فوَالله لو ترين ما يرى أبوك ما بكيتِ! قال حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا حبيب أرى ملائكة السماء والنبيّين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقّوني، وهذا أخي محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله جالس عندي يقول: أقدم فإنّ أمامك خيرٌ لك ممّا أنت فيه6.
قال محمّد بن الحنفيّة: لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين وأظلم الليل وهي الليلة الثانية من الكائنة، جمع أبي أولاده وأهل بيته وودّعهم، ثمّ قال لهم: الله خليفتي عليكم وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم- الجميع منهم- بلزوم الإيمان والأديان والأحكام التي أوصاه بها رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فمن ذلك ما نقل عنه عليه السلام أنّه أوصى به الحسن والحسين عليهما السلام (أوصيكما بتقوى الله، و(أن) لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء منها زوي عنكما، قولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضائع، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، واعملا بما في كتاب الله، ولا تأخذكما في الله لومة لائم).
ثمّ نظر إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة، فقال: يا بنيّ أفهمت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم يا أبة، قال: يا بنيّ أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك وتعظيم حقّهم، (وتزيين) أمرهم، ولا تقطع أمراً دونهما.
ثمّ قال للحسن والحسين: وأوصيكما به فإنّه شقيقكما وابن أبيكما، وقد علمتما أنّ أباكما كان يحبّه، فأحبّاه7.
قال محمد بن الحنفية: ثمّ تزايد ولوج السمّ في جسده الشريف، حتى نظرنا إلى قدميه وقد احمرّتا جميعاً، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه، ثمّ أصبح ثقيلاً، فدخل الناس عليه، فأمرهم ونهاهم وأوصاهم، ثمّ عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى أن يشرب، فنظرنا إلى شفتيه وهما يختلجان بذكر الله تعالى، وجعل جبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه بيده، قلت: يا أبتِ أراك تمسح جبينك، فقال: يا بنيّ إنّي سمعت.. رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إنّ المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب، وسكن أنينه، ثمّ قال: يا أبا عبد الله ويا عون، ثمّ نادى أولاده كلهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً واحداً بعد واحد، وجعل يودّعهم ويقول: الله خليفتي عليكم أستودعكم الله وهم يبكون، فقال له الحسن عليه السلام: يا أبه ما دعاك إلى هذا؟ فقال له: يا بنيّ إنّي رأيت جدَّك رسول الله صلّى الله عليه وآله في منامي قبل هذه الكائنة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلّل والأذى من هذه الأمّة، فقال لي: ادعُ عليهم، فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً منّي وأبدلني بهم خيراً منهم، فقال لي: قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث، وقد مضت الثلاث، يا أبا محمّد أوصيك- ويا أبا عبد الله- خيراً، فأنتما منّي وأنا منكما، ثمّ التفت إلى أولاده الذين من غير فاطمة عليها السلام وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسين عليهما السلام.
ثمّ قال: أحسن الله لكم العزاء، ألا وإنّي منصرفٌ عنكم، وراحلٌ في ليلتي هذه، ولاحقٌ بحبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله كما وعدني، فإذا أنا متّ يا أبا محمّد فغسِّلني وكفِّني وحنِّطني ببقية حنوط جدّك رسول الله صلّى الله عليه وآله فإنّه من كافور الجنّة جاء به جبرائيل عليه السلام إليه، ثمّ ضعني على سريري، ولا يتقدّم أحدٌ منكم مقدّم السرير، واحملوا مؤخّره واتّبعوا مقدّمه، فأيّ موضعٍ وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثمّ تقدّم يا أبا محمّد وصلّ عليّ يا بنيّ يا حسن، وكبِّر عليَّ سبعاً، واعلم أنّه لا يحلّ ذلك على أحد غيري إلّا على رجلٍ يخرج في آخر الزمان سمه القائم المهدي، من ولد أخيك الحسين، يقيم اعوجاج الحق، فإذا أنت صلّيت عليَّ يا حسن فنَحِّ السرير عن موضعه، ثمّ اكشف التراب عنه، فترى قبراً محفوراً ولحداً مثقوباً وساجة منقوبة، فأضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فافتقدني فإنّك لا تجدني، وإنّي لاحق بجدّك رسول الله صلّى
الله عليه وآله، واعلم يا بنيّ ما من نبيّ يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلّا ويجمع الله عزّ وجلّ بين روحيهما وجسديهما، ثمّ يفترقان فيرجع كلّ واحد منهما إلى موضع قبره وإلى موضعه الذي حطّ فيه، ثمّ أشرج اللحد باللبن، وأَهِل التراب عليّ ثمّ غيِّب قبري8...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- النقدي: الأنوار العلوية، ص384.
2- المحمودي: نهج السعادة في مستدركات نهج البلاغة، ج2، ص740-741.
3- المجلسي: بحار الأنوار، ج42، ص206 عن قرب الإسناد.
4- نهج السعادة، ج2، ص741.
5- المجلسي: بحار الأنوار، ج42، ص239.
6- المجلسي: بحار الأنوار، ج42، ص201 عن الأمالي للصدوق.
7- المحمودي: نهج السعادة في مستدركات نهج البلاغة، ج2، ص733-734.
8- وكان غرضه عليه السلام بذلك لئلا يعلم بموضع قبره أحدٌ من بني أمية، فإنهم لو علموا بموضع قبره لحفروه وأخرجوه وأحرقوه، كما فعلوا بزيد بن علي بن الحسين عليه السلام...
source : http://www.ahl-ul-bayt.org