تتفق مصادر الحديث الشيعية والسنية حول المهدي عليه السلام على أنه يظهر بعد حركة تمهيدية له، وعلى أن أصحاب الرايات السود من إيران يمهدون لدولته ويوطئون له سلطانه. وتتفق أيضاً على الشخصيتين الموعودتين من إيران: الخراساني أو الهاشمي الخراساني، وصاحبه شعيب بن صالح.. إلى آخر ما ورد من أحاديثهم في مصادر الفريقين.
ولكن مصادرنا الشيعية تضيف إلى الإيرانيين ممهدين آخرين لدولة المهدي عليه السلام هم اليمانيون.
كما توجد في مصادرنا أحاديث تدل على أنه تقوم قبل ظهوره عليه السلام حركة ثائرة، كالذي ورد في تفسير قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وأنهم قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا قتلوه). (الكافي:8/206)
وحديث أبان بن تغلب عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق وأهل الغرب، أتدري لم ذلك؟ قلت لا. قال: للذي يلقى الناس من أهل بيته قبل ظهوره) (البحار:52/63)، وهو يدل على أنه أهل بيته عليهم السلام من بني هاشم وأتباعهم تكون لهم حركة قبله.
وقد نقل صاحب كتاب يوم الخلاص الحديث القائل: (يأتي ولله سيف مخترط) وذكر له خمسة مصادر ولم أجده فيها، وإنما الموجود (ومعه سيف مخترط) ومثله موارد عديدة ذكر لها مصادر ولم نجدها!
فأحاديث التمهيد إذن ثلاث مجموعات: أحاديث دولة أصحاب الرايات السود المتفق عليها عند الفريقين.
وأحاديث دولة اليماني الواردة في مصادرنا خاصة، ويشبهها ما في بعض مصادر السنة عن ظهور يماني بعد المهدي عليه السلام.
والأحاديث الدالة على ظهور ممهدين قبل ظهوره عليه السلام بدون تحديدهم. وسوف ترى أنها بشكل عام تنطبق على الممهدين الإيرانيين واليمانيين.
وقد حددت الأحاديث الشريفة زمان قيام دولة اليمانيين الممهدين بأنه يكون في سنة ظهور المهدي عليه السلام مقارناً لخروج السفياني المعادي له في بلاد الشام، أو قريباً منه كما ستعرف.
أما دولة الممهدين الإيرانيين فتقسم إلى مرحلتين متميزتين:
المرحلة الأولى، بداية حركتهم على يد رجل من قم، ولعل حركته بداية أمر المهدي عليه السلام حيث ورد أنه (يكون مبدؤه من قبل المشرق).
والمرحلة الثانية، ظهور الشخصيتين الموعودتين فيهم: الخراساني وقائد قواته الذي تسميه الأحاديث شعيب بن صالح.
وقد ورد في بعض الروايات أن الخراساني وشعيباً يكونان قبل ظهور المهدي عليه السلام بست سنوات، فعن محمد بن الحنفية قال: (تخرج راية سوداء لبني العباس، ثم تخرج من خراسان سوداء أخرى قلانسهم سود وثيابهم بيض، على مقدمتهم رجل يقال له شعيب بن صالح أو صالح بن شعيب من بني تميم، يهزمون أصحاب السفياني، حتى تنزل ببيت المقدس، توطئ للمهدي سلطانه، يمد إليه ثلاث ماية من الشام، يكون بين خروجه وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهراً). (مخطوطة ابن حماد ص 84 و74).
لكن توجد في مقابلها روايات صحيحة من مصادرنا تقول إن ظهور الخراساني وشعيب مقارن لظهور اليماني والسفياني. فعن الإمام الصاق عليه السلام قال: (خروج الثلاثة الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد، في يوم واحد. وليس فيها بأهدى من راية اليماني يهدي إلى الحق) ( البحار:52/210).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة في شهر واحد، في يوم واحد. نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضا. فيكون البأس من كل وجه. ويل لمن ناواهم. وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنه يدعو إلى صاحبكم) ( البحار:52/232)
وهذه هي المرجحة لقوة سندها، بل فيها صحيح السند مثل رواية أبي بصير الأخيرة عن الإمام الباقر عليه السلام .
ويبدو أن المقصود بأن خروج الثلاثة متتابع كنظام الخرز مع أنه في يوم واحد: أن أحداث خروجهم مترابطة سياسياً. وقد تكون بدايتها في يوم واحد ثم تتابع حركتهم واستحكام أمرهم مثل تتابع الخرز المنظوم.
ومهما يكن فهذه هي المرحلة الأخيرة من دولتهم.
حديث: أن أمر المهدي عليه السلام يبدأ من إيران:
وهو الحديث الذي ينص على أن بداية حركة المهدي عليه السلام تكون من المشرق، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (يكون مبدؤه من قبل المشرق، وإذا كان ذلك خرج السفياني) (البحار:52/252).
وبما أن المتفق عليه بن العلماء والمتواتر في الأحاديث أن ظهوره عليه السلام يكون من مكة المكرمة، فلا بد أن يكون المقصود أن مبدأ أمره والتمهيد لظهوره يكون من المشرق.
وتدل الرواية أيضاً على أن هذه البداية تكون قبل خروج السفياني، وتشير إلى أنه يكون بينها وبين السفياني مدة ليست قصيرة ولا طويلة كثيراً، لأنها عطفت خروج السفياني عليها بالواو وليس بالفاء أو بثم: (وإذا كان ذلك خرج السفياني)، بل تشير أيضاً إلى نوع من العلاقة السببية بين بداية التمهيد للمهدي عليه السلام من إيران وبين خروج السفياني، وقد عرفت في حركة السفياني أنها ردة فعل لمواجهة المد الممهد للمهدي عليه السلام.
حديث: أتاح الله لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم برجل منا أهل البيت
وهو حديث أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (يا أبا محمد ليس ترى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرجاً أبداً ما دام لولد بني فلان ملك حتى ينقرض ملكهم. فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم برجل منا أهل البيت يسير بالتقى، ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشا، والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه. ثم يأتينا الغليظ القصرة، ذو الخال والشامتين، القائد العادل، الحافظ لما استودع، يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملأها الفجار ظلماً وجوراً). (البحار:52/ 269).
وهو حديث ملفت لكنه ناقص مع الأسف، فقد نقله صاحب البحار + عن كتاب الإقبال لابن طاووس+، وقد قال في الإقبال ص599 إنه رآه في سنة اثنتين وستين وستماية في كتاب الملاحم للبطائني ونقله منه، لكنه نقله ناقصاً وقال في آخره: (ثم ذكر تمام الحديث). والبطائني من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وكتابه الملاحم مفقود النسخة، وقد تكونً في المخطوطات المجهولة في زوايا بلادنا الإسلامية.
والحديث يدل على أنه يظهر سيد من ذرية اهل البيت عليهم السلام يحكم قبل ظهور المهدي عليه السلام ويمهد لدولته.
أما بنو فلان في قوله: (ما دام لولد بني فلان ملك) فلا يلزم أن يكونوا بني العباس كما فهمه المرحوم ابن طاووس، وكذا الأمر في الأحاديث العديدة التي عبر فيها الائمة عليهم السلام ببني فلان وآل فلان، فأحياناً يكون المقصود بها بني العباس، وأحياناً يكون مقصودهم العوائل والأسر التي تحكم قبل ظهور المهدي عليه السلام.. مثلاً الأحاديث المتعددة التي تذكر الإختلاف الذي يقع بين بني فلان أو آل فلان من حكام الحجاز، ثم لايتفق رأيهم على حاكم ويقع الخلاف بين القبائل ثم يظهر المهدي عليه السلام، فالمقصود فيها ببني فلان فيها ليس بني العباس، بل العائلة التي تحكم الحجاز عند ظهور المهدي عليه السلام.
وكذا الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: (ألا أخبركم بآخر ملك بني فلان؟ قلنا بلى أمير المؤمنين. قال: قتل نفس حرام في بلد حرام عن قوم من قريش، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لهم ملك بعده غير خمسة عشر ليلة) (البحار:52/234)
وغيره من الأحاديث المتعددة التي تذكر اختلاف بني فلان أو هلاك حاكم منهم وأنه يكون بعده خروج السفياني، أو ظهور المهدي عليه السلام ، أو بعض علامات وأحداث ظهوره القريبة، فإنه لا بد من تفسيرها بغير بني العباس، لأن زوال ملك هؤلاء المعنيين متصل بظهور المهدي عليه السلام.
بل لا بد من التثبت في الروايات التي ورد فيها ذكر بني العباس صراحة، فقد تكون صدرت عن الأئمة عليهم السلام بتعبير (بني فلان) و(آل فلان) ورواها الراوي بلفظ بني العباس اعتقاداً منه أنهم المقصودون بقول الأئمة (بني فلان).
وقد يصح تفسير بني العباس الوارد في أحاديث الظهور بأن المقصود به خطهم المناهض للأئمة عليهم السلام، وليس أشخاصهم وذرياتهم.
ولكن نادراً ما نحتاج إلى هذا التفسير لأن الغالب في روايات الظهور التعبير ببني فلان وآل فلان.
وعلى أي حال، فالمقصود ببني فلان في قوله (ما دام لولد فلان ملك حتى ينقرض ملكهم، فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد برجل منا أهل البيت) حكام غير بني العباس يكون زوال ملكهم متصلاً بأحداث ظهور المهدي عليه السلام.
أما عبارة (ثم يأتينا الغليظ القصرة ذو الخال والشامتين القائد العادل)، فهي تتحدث عمن يأتي بعد هذا السيد الموعود، والمفهوم منها أنه المهدي عليه السلام الذي هو ذو الخال والشامتين كما ورد في أوصافه، لكن وصف (الغليظ القصرة) أي البدين القصير لاينطبق على المهدي عليه السلام لأن الروايات تجمع على أنه طويل القامة معتدلها. لذا نرجح وجود سقط في الرواية باستنساخ ابن طاووس(ره) أو غيره من النساخ، ولا يمكن أن نستفيد منها الإتصال بين هذا السيد الموعود وبين ظهور المهدي عليه السلام.
أحاديث قم، والرجل الموعود منها:
ومنها، حديث قيام رجل من قم وأصحابه، فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (رجل من قم، يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، لا يملون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين) (البحار:60/216 طبعة إيران، وكذا ما بعدها عن قم).
ولم تذكر الرواية متى يكون هذا الرجل المبشر به وأصحابه، ولكن لم يعهد في تاريخ قم وإيران رجل وقومه بهذه الصفات قبل الإمام الخميني وأصحابه. ويحتمل أن تكون الرواية ناقصة وأن يكون فيها ذكر مناسبة قولها على الأقل، وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب تاريخ قم لمؤلفه الحسن بن محمد الحسن القمي الذي ألفه قبل أكثر من ألف سنة، ولا توجد نسخته الآن مع الأسف.
قد يقال: نعم لم يعهد في تاريخ قم وإيران ظهور هذا الرجل الموعود وقومه ذوي الصفات العظيمة، ولكن لا دليل على انطباقها على الإمام الخميني وأصحابه، فقد يكون رجلاً آخر وأصحابه يأتون في عصرنا، أو بعد زمان طويل أو قصير.
والجواب، نعم لايوجد في الرواية تحديد لزمان هذا الحدث، لكن مجموع صفاتها، مضافاً إليها ما ورد في الروايات الأخرى عن قم وإيران ترجح احتمال أن يكون المقصود بها الإمام الخميني وأصحابه.
وقد ورد في قم وفضلها ومستقبلها أحاديث عن اهل البيت عليهم السلام يظهر منها أن قم مشروع أسسه الأئمة في وسط إيران على يد الإمام الباقر عليه السلام سنة 73 هجرية، ثم رعوها رعاية خاصة، وأخبروا بما عندهم من علوم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها سيكون لها شأن عظيم في المستقبل ويكون أهلها أنصار المهدي المنتظر أرواحنا فداه.
وتنص بعض الأحاديث على أن تسميتها بقم جاءت متناسبة مع اسم المهدي القائم بالحق أرواحنا فداه، وقيام أهلها ومنطقتها في نصرته.
فعن عفان البصري عن أي عبد الله أي الإمام الصادق عليه السلام قال: (قال لي: أتدري لم سمي قم؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: إنما سمي قم لأن أهله يجتمعون مع قائم آل محمد صلوات الله عليه ويقومون معه، ويستقيمون عليه وينصرونه). (البحار ص60).
وقد أعطى الأئمة عليهم السلام لقم مفهوماً أوسع من مدينتها وتوابعها، فاستعملوا اسمها بمعنى خط قم ونهج قم في الولاء لاهل البيت عليهم السلام والقيام مع مهديهم الموعود عليه السلام . فقد روى عدة رجال من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (وقالوا: نحن من أهل الري فقال: مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري، فقال: مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري. فأعاد الكلام! قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً، فقال: إن لله حرماً وهو مكة، وإن لرسوله حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة (قال الراوي: وكان هذا الكلام منه عليه السلام قبل أن يولد الكاظم عليه السلام). ( البحار:60/ 216).
يعني أن قماً حرم الأئمة من أهل البيت إلى المهدي عليه السلام، وأن أهل الري وغيرها هم من أهل قم لأنهم على خطها ونهجها.
لذلك لا يبعد أن يكون المقصود بأهل قم في الروايات الشريفة، ونصرتهم للمهدي عليه السلام، كل أهل إيران الذين هم على خطهم في ولاية اهل البيت عليهم السلام ، بل يشمل غيرهم من المسلمين أيضاً.
ومعنى قول الراوي: (وكان هذا الكلام منه قبل أن يولد الكاظم عليه السلام) أن الإمام الصادق أخبر عن ولادة حفيدته فاطمة بنت موسى بن جعفر قبل ولادة أبيها الكاظم أي قبل سنة128 هجرية، وأخبر أنها سوف تدفن في قم. ثم تحقق ذلك بعد أكثر من سبعين سنة.
فقد روى مشايخ قم أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا عليه السلام من المدينة إلى مرو سنة مئتين خرجت فاطمة أخته في سنة وإحدى تطلبه، فلما وصلت إلى ساوة مرضت فسألت كم بيني وبين قم؟ فقالوا: عشرة فراسخ. لما وصل الخبر إلى آل سعد- أي سعد بن مالك الأشعري - اتفقوا وخرجوا إليها أن يطلبوا منها النزول في بلدة قم. فخرج من بينهم موسى بن خزرج فلما وصل إليها أخذ زمام ناقتها وجرها إلى قم، وأنزلها في داره. فكانت فيها ستة (سبعة) عشر يوماً ثم قضت إلى رحمة الله ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له وهي التي الآن مدفنها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري، إلى أن بنت زينب بنت الجواد عليه السلام عليها قبة). (البحار:60/ 219).
ويظهر من الروايات أن فاطمة هذه كانت عابدة مقدسة مباركة شبيهة جدتها فاطمة الزهراء÷، وأنها على صغر سنها كانت لها مكانة جليلة عند اهل البيت عليهم السلام. وعند كبار فقهاء قم ورواتها حيت قصدوها إلى ساوه وخرجوا في استقبالها، ثم أقاموا على قبرها بناء بسيطاً، ثم بنوا عليه قبة وجعلوه مزاراً، وأوصى العديد منهم أن يدفنوا في جوارها. ولعل تسمية الإيرانيين لها (معصومه فاطمة) أو (معصومه قم) بسبب صغر سنها، وطهارتها من الذنوب، لأن معصوم بالفارسية بمعنى البرئ، ويوصف بها الطفل البرئ.
ويظهر من الحديث التالي عن الإمام الرضا عليه السلام أن إعداد الأئمة عليهم السلام لأهل قم لنصرة المهدي المنتظر أرواحنا فداه كان من أول تأسيسها، وأن حب القميين للمهدي كان معروفاً عنهم قبل ولادته!
فعن صفوان بن يحيى قال: (كنت يوما عند أبي الحسن عليه السلام فجرى ذكر أهل قم وميلهم إلى المهدي عليه السلام فترحم عليهم وقال: رضي الله عنهم، ثم قال: إن للجنة ثمانية أبواب، واحد منها لأهل قم، وهم خيار شيعتنا من بين سائر البلاد، خمر الله تعالى ولايتنا في طينتهم) ( البحار:60/ 216).
ونلاحظ أن حب أهل قم للإمام المهدي عليه السلام حافظ على حيويته وحرارته إلى عصرنا، وهو ظاهر في إيمانهم وعملهم وشعائرهم وتسمياتهم لأبنائهم ومساجدهم ومؤسساتهم بإسم المهدي عليه السلام حتى لا يكاد يخلو منه بيت.
وقد تحدثت روايتان عن الإمام الصادق عليه السلام عن مستقبل قم ودورها قرب ظهور المهدي عليه السلام إلى أن يظهر. (رواهما في البحار:60/213).
تقول الأولى منها: (إن الله احتج بالكوفة على سائر البلاد، وبالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد، واحتج ببلدة قم على سائر البلاد، وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجن والإنس، ولم يدع قم وأهله مستضعفاً بل وفقهم وأيدهم. ثم قال: إن الدين وأهله بقم ذليل، ولولا ذلك لأسرع الناس إليه فخرب قم وبطل أهله، فلم يكن حجة على سائر البلاد. وإذا كان كذلك لم تستقر السماء والأرض ولم ينظروا طرفة عين. وإن البلايا مدفوعة عن قم وأهله، وسيأتي زمان تكون بلدة قم وأهلها حجة على الخلائق وذلك في زمان غيبة قائمنا إلى ظهوره، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها. وإن الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهله، وما قصده جبار بسوء إلا قصمه قاصم الجبارين، وشغله عنه بداهية أو مصيبة أو عدو، وينسي الله الجبارين في دولتهم ذكر قم وأهله، كما نسوا ذكر الله).
وتقول الثانية: (ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهل قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فتتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى أحد لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم عليه السلام ويصير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد، لأن الله لا ينتقم من العباد، إلا بعد إنكارهم حجة).
ويظهر من هذين النصين عدة أمور:
أولها: أن دور الكوفة في العلم والتشيع لاهل البيت عليهم السلام سيصيبه ضعف قرب ظهور المهدي عليه السلام، والكوفة تشمل النجف، لأن اسمها بالأصل نجف الكوفة، أو نجفة الكوفة. بل قد يقصد منه الكوفة هنا العراق كما ذكرنا في محله.
وأن دور قم سيبرز ويستمر ويتعاظم قرب ظهور المهدي عليه السلام (وذلك في زمان غيبة قائمنا إلى ظهوره.. وذلك عند قرب ظهور قائمنا).
وثانيها: أن دور قم العقائدي قرب ظهور الإمام المهدي عليه السلام سيكون لكل العالم حتى غير المسلمين: ( وسيأتي زمان تكون قم وأهلها حجة على الخلائق. حتى لايبقى مستضعف في الذين... حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه العلم والدين)، ولا يعني ذلك أن العلم والدين يصل من قم وأهلها إلى كل فرد من شعوب العالم، بل يعني أن صوت الإسلام وطرحه يصل إلى العالم بحيث إذا أراد أحد أن يتعرف على معالم الإسلام لتمكن من ذلك.
وهذه المعاني المذكورة في النصين الشريفين قد أخذت تتحقق في قم فتصير حجة على الشعوب الإسلامية وشعوب العالم.
ويدل تعبير: (عند قرب ظهور قائمنا) على عدم الطول المديد بين هذا الموقع الموعود لقم في العالم وبين ظهور المهدي عليه السلام.
حديث أهل المشرق والرايات السود:
وقد ورد في مصادر الشيعة والسنة، ويعرف أيضاً بحديث الرايات السود، وحديث أهل المشرق، وحديث مايلقى أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم بعده. وقد روته المصادر المختلفة عن صحابة متعددين، مع فروق في بعض الألفاظ والفقرات، ونص عدد من العلماء على أن رجاله ثقات.
ومن أقدم المصادر السنية التي روته أو روت قسماً منه ابن ماجة في سننه:2/518 و269، والحاكم:4/464 و553، وابن حماد في مخطوطته الفتن ص84 و 85، وابن أبي شيبة في مصنفه:15/235، والدارمي في سننه ص 93، ثم رواه عنهم أكثر المتأخرين.
ولعل الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وغيرهم: (يخرج ناس من المشرق يوطؤون للمهدي سلطانه) جزء منه.
وهذا نص الحديث من مستدرك الحاكم:
(عن عبد الله بن مسعود قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه! فقلنا يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه! فقال:
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود في المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه، ثم يسألونه فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون! فمن أدركه منكم ومن أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، فيملك الأرض، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً). انتهى.
أما من مصادرنا الشيعية فقد رواه ابن طاووس في الملاحم والفتن ص30 و117، ورواه المجلسي في البحار:51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم، الحديث السابع والعشرين في مجيئه - أي المهدي عليه السلام - من قبل المشرق. وروى شبيهاً به في:52/243 عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم. فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا. ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم (أي المهدي عليه السلام) قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر).
ويستفاد من هذا الحديث بصيغة المختلفة عدة أمور.
الأول: أنه متواتر بمعناه إجمالاً، بمعنى أنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة بحيث يعلم أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمدة مضمونه:إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بمظلومية أهل بيته عليهم السلام من بعده، وأن إنصاف الأمة لهم يكون على يد قوم من المشرق يمهدون لدولة مهديهم عليه السلام،وأنه يظهر على أثر قيام دولة لهؤلاء القوم فيسلمونه رايتهم ويظهر الله به الإسلام على العالم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
الثاني: أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود: الإيرانيون، وهو أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم، وعند جيل التابعين الذين تلقوه منهم، ومن بعدهم من المؤلفين عبر العصور، بحيث تجده عندهم أمراً مفروغاً عنه، ولم يذكر أحد منهم حتى بنحو الشذوذ أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا الفعلية مثلاً، أو أفغانستان، أو الهند، أو غيرها من البلاد. بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون. بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت من الحديث، كما سيأتي في حديث رايات خراسان.
الثالث: أن حركتهم تواجه عداء من العالم وحرباً، وأنها تكون خروجاً على حاكمهم ثم قياماً قرب ظهور المهدي عليه السلام .
الرابع: أن نصرتهم فريضة على كل مسلم من الجيل الذي يعاصرهم، مهما كانت ظروفه صعبة، حتى لو أتاهم حبواً على الثلج.
الخامس: أن الحديث من أخبار المغيبات والمستقبل، وإحدى معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على نبوته، حيث تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم من مظلومية أهل بيته عليهم السلام وتشريدهم في البلاد على مدى العصور، حتى وصلوا الى أربع جهات العالم فلا نجد أسرة في العالم جرى عليهم من الإضطهاد والتشريد والتطريد مثل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أبناء علي وفاطمة عليهما السلام .
هذا، وقد تضمنت صيغة الحديث المتقدمة عن الإمام الباقر عليه السلام وصفاً دقيقاً لحركتهم، والمرجح عندي أنه يتعلق بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المذكور. (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق) يدل على أن هذا الحدث من وعد الله المقدر المحتوم، وهو ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام بـ (كأني بالشيء الفلاني أو الأمر الفلاني قد حدث) فهو يدل على حتميته ووضوحه في أذهانهم، ويقينهم به حتى كأنهم يرونه.
بل يدل على رؤيتهم له بالبصيرة التي خصهم الله بها، المتناسبة مع مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقام أهل بيته عليهم السلام.
كما يدل على أن حركة الإيرانيين هذه تكون عن طريق الثورة، لأنه المفهوم من قوله (قد خرجوا) أي ثاروا.
(يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم).
وهذا التسلسل في حركتهم يعني أنهم (يطلبون الحق) من أعدائهم أي الدول الكبرى، وهو أن لا يتدخلوا في شؤونهم ويتركوهم مستقلين عن دائرة نفوذهم فلا يعطونهم ذلك، حتى يضطروهم إلى أن يضعوا سيوفهم على عواتقهم أي إلى الحرب فيحاربون وينتصرون، فيعطيهم أعداؤهم ما سألوا أول الأمر فلا يقبلون ذلك، لأنه يصير أمراً متأخراً بعد فوات الأوان وتغير الظروف.
(حتى يقوموا) حيث تبدأ ثورتهم الجديدة المتصلة بظهور المهدي عليه السلام الى أن يظهر فيسلمونه الراية.
وقد ذكرت إحدى روايات الحديث أنهم يقاتلون بعد رفض مطالبهم الأولى، وينتصرون فيها، كالحديث المروي في البحار:51/83: (فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون.. الخ.).
وينبغي الإشارة الى أن تكرار قوله عليه السلام: (يطلبون الحق فلا يعطونه) يدل أن مطالبتهم به تكون على مرحلتين قبل الحرب وبعد الحرب، وأن ثورتهم الشاملة (حتى يقوموا) تكون قرب ظهور المهدي عليه السلام.
وتعبيره عليه السلام عن بداية حركتهم بالخروج، وعن حركتهم المتصلة بالظهور بقوله عليه السلام (حتى يقوموا)، يدل على أن هذا القيام أعظم من خروجهم وثورتهم أول الأمر.
ويدل على أنه مرحلة نضج وتطور لهذه الثورة يصل فيها الإيرانيون إلى مرحلة النفير العام والقيام لله تعالى تمهيداً لظهور المهدي عليه السلام.
وقد يفهم من التعبير بـ(حتىيقوموا) وليس (فيقوموا) مثلاً أنه يوجد فاصل زمني بين إعطائهم مطالبهم وبين قيامهم الكبير، أو على وجود مرحلة من التأمل والتردد عندهم، بسبب وجود اتجاه في داخلهم يريد القبول بما كانوا يطالبون به فقط، أو بسبب الظروف الخارجية التي تحيط بهم، ولكن الاتجاه الآخر يغلب فيقومون من جديد قياماً شاملاً يتحقق فيه التمهيد للمهدي عليه السلام.
(قتلاهم شهداء) هذه شهادة عظيمة من الإمام الباقر عليه السلام لمن يقتل في حركتهم سواء في خروجهم أو حروبهم أو قيامهم الكبير الأخير..
وقد يقال إن شهادة الإمام الباقر عليه السلام بأن (قتلاهم شهداء) إنما تدل على صحة نية مقاتليهم ومظلوميتهم، ولكنها لا تدل على صحة نية قادتهم وخطهم.
ولكن حتى لو سلمنا ذلك جدلاً، وتجاوزنا قاعدة صحة عمل المسلم ونيته، فإن مثل هذا التفسير لايغير من الموقف شيئاً.
(أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر) يخبر بذلك عن نفسه عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لحافظ على نفسه أن يقتل وإن كان قتلاهم شهداء، لأجل أن يبقي نفسه إلى ظهور المهدي عليه السلام ونصرته. وفي ذلك دلالة على المقام العظيم للإمام المهدي عليه السلام ومن يكون معه، بحيث يحرص على ذلك الإمام الباقر، وهو تواضع عظيم أيضاً منه لولده المهدي الموعود عليه السلام.
وفيه دلالة أيضاً على أن مدة حركة الإيرانيين إلى ظهور المهدي عليه السلام لاتزيد عن عمر انسان، لأن ظاهر كلام الباقر عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لأبقى نفسه لنصرة المهدي عليه السلام بالأسباب الطبيعية، وليس بالأسباب الإعجازية، وهي دلالة مهمة على دخولنا في عصر الظهور واتصال حركتهم به، وقربها منه.
ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فليأتهم ولو حبواً على الثلج) أن أحد كبار علماء تونس وهو عالم جليل متقدم في السن لانريد الإضرار به بذكر اسمه حفظه الله، زار إيران في فصل الشتاء والثلج، وبينما كان خارجاً من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج. قال صاحبه: بادرت لأنهضه فقال لي: لا تفعل، إصبر، أريد أن أنهض أنا بنفسي! ونهض على يديه ببطء، حتى إذا استوى واقفاً قال: كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم :(فليأتهم ولو حبواً على الثلج) نتساءل: إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم فأردت ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي!
source : http//m-mahdi.com