بسم الله الرحمن الرحيم
إن العقيدة بكل مل تحتويه من مفاهيم وقواعد وأصول تعد من أهم الأسس التي يبتنى عليها إيمان الفرد وثبات هذا الإيمان أمام كل التحديات والفتن التي تجابهه. ولما كانت العقيدة المهدوية من أهم العقائد والأصول الإسلامية لدى جميع المسلمين بشكل عام ولدى شيعة أهل البيت بشكل خاص، على اعتبار أنهم يؤمنون بولاية أهل البيت عليهم السلام، ويعدون الإمامة أصلا من أصول الدين بخلاف بقية الطوائف الإسلامية الأخرى، كان لابد من إيلاء هذه القضية أهمية وعناية خاصة بالبحث والدراسة والتدقيق، من جميع الاتجاهات الروائية والتفسيرية والعلمية والاجتماعية وغيرها.
ولعل من أهم الجوانب الاجتماعية التي ينبغي دراستها والوقوف عندها هو جانب الانحراف عن القضية المهدوية الذي يقع بين الحين والحين الآخر لدى البعض.
ليس من الغريب أو العجيب إن يظهر بين فترة أو أخرى من يدعي المهدوية ويدعو الآخرين إلى أتباعه والسير خلفه، فهذا التاريخ يحدثنا عن الكثير من هؤلاء الضالين، ولا تكاد تخلو فترة من الفترات منهم، فقد ظهر المتمهدي السوداني، والمتمهدي السعودي وكذلك ظهر في الهند من يدعي المهدوية وغيرهم كثير، ولكن الغريب في القضية إن من يتبع هؤلاء يصدق بكل ما يقال له دون أدنى تفكير أو إعمال نظر، متناسيا قول الله تعالى((ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر))، فالله عز وجل كرم الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل وأعطاه القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، فمن المؤسف إن ينحدر الإنسان إلى هذا المستوى من اللا تفكير و اللا وعي بما يجري ويدور حوله، فيصبح كالبهيمة تسيره أهواؤه الشخصية ومغرياته الذاتية، فيصبح أسير نفسه الأمارة بالسؤء، فتورده مناهل الهلكة والانحطاط.
فالقضية المهدوية والمصلح العالمي تكاد تكون من أوضح الواضحات في المجتمع البشري ولا يكاد شعب من الشعوب أو امة من الأمم تخلو من هذه الفكرة وان تفاوتت من زمن إلى آخر، أو اختلفنا نحن الأمامية مع الآخرين في تحديد وتشخيص المصلح العالمي باعتبارنا الطائفة الحقة، وان المصلح الموعود هو الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه.
كما انه لا غرابة في إن تنشق من هذه الطائفة بعض المجاميع الضالة وتتبع أشخاصا منحرفين لان التمحيص والابتلاء سنة الله عز وجل في خلقه، قال تعالى ((أحسب الناس إن يتركوا إن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)).(1)
وعن الباقر عليه السلام انه قال: (لتمحصن يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين وان صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها).(2)
فلابد من الفتن كي يميز الطيب من الخبيث، ويمحص المؤمنون.
وهذه الأمور بقدر ما تؤدي إلى اخذ العبرة والموعظة لدى البعض بقدر ما تؤدي إلى تزلزل وإثارة الشك لدى البعض الآخر، لأنها ظاهرة ذات حدين في التأثير، وأثارها تبقى شاخصة وحاضرة في المجتمع الذي تحصل فيه، لما تترك فيه من نتائج سلبية.
ولكن لابد لنا إن لا نجعل هذه القضايا تمر علينا مرورا عابرا أو مرور الكرام، بل لابد من الوقوف عندها وتحليلها وإبراز أسبابها ونتائجها كي تتضح الصورة لدى العوام ممن لا يملكون وعيا كافيا في هذا المضمار أو ممن لا يملكون الخلفية الثقافية الواعية للتشخيص.
وهنا نطرح السؤال التالي: ما هي دوافع البعض من خلال استغلال القضية المهدوية ؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل لابد لنا من معرفة الكيفية التي يحصل بها الانحراف عن القضية المهدوية، أو كيفية استغلال البعض للقضية المهدوية، ثم إننا إذا عرفنا الكيفية، توصلنا إلى الغائية، ودوافع انحراف البعض عن القضية المهدوية.
من خلال استقراء التاريخ استقراءا ناقصا، إذ لا يسع المقام للاستقراء التام، لقصور في الظرف وليس في المظروف، فإننا سنجد أنماطا مختلفة لهذا الانحراف، منها :-
ادعاء المهدوية.
ادعاء النيابة الخاصة.
ادعاء النيابة العامة.
وهذه الأنواع والأنماط الثلاثة يتفرع عنها عدة أنماط وأنواع ثانوية، تختلف بحسب اختلاف المدعي للمهدوية، فقد يترقى الشخص المدعي للمهدوية إلى الادعاء بالنبوة أو الرسالة وحتى الإلوهية والعياذ بالله.
وادعاء السفارة الخاصة (البابية)، قد يتفرع عنه ادعاء اللقاء والمشاهدة في كل وقت وحين، مع انسداد باب السفارة بالسفراء الأربعة رضوان الله تعالى عليهم.
أما ادعاء النيابة العامة فقد تدفع المدعي لها إلى الادعاء بالاعلمية والولاية المطلقة على المسلمين دون وجه حق أو حظ من علم، بل لجلب وجوه الناس إليه من اجل تحصيل المنفعة الخاصة فقط.
مناقشة في الدعوات الثلاث.
ادعاء المهدوية:-
إن ادعاء المهدوية يكاد يكون من أكثر الادعاءات الثلاثة، رواجا ووضوحا في التاريخ، وبطلان ادعاء هؤلاء يكاد يكون من أوضح الواضحات، وذلك لأسباب عديدة منها:-
أولا :- انحصار المهدوية في الإمام الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، على ضوء ما دلت عليه الروايات والأخبار الصحيحة السند والمروية من طرق معتبرة، والشاملة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، والكثير ممن شاهد الإمام في فترة حياة أبيه العسكري عليه السلام، والتي لا يمكن لمنصف إن ينكرها، إلا إذا كان أعمى البصر والبصيرة.
نعم قد تدعي بعض الطوائف والأمم إن الموعود منها، وتخالفنا نحن الشيعة الأمامية في الرأي، وهذا الأمر لا يغير في القضية شيء إذ نحن أصحاب الدليل نميل حيثما يميل، ولما كانت كل الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، قاطعة بحقيقة المهدي الإسلامي، وكونه هو الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، مع بطلان دعاوى البعض، وعدم وجود الأدلة الشرعية لدى البعض الآخر في إثبات مهديهم، فلا حجة داحضة لهم علينا بل العكس هو الصحيح فكل حججنا في إثبات المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وانه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام، حجج دامغة لا يمكن إنكارها لمن كان يبحث عن الحقيقة.
ثانيا :- إن الكثير من هؤلاء لم يكونوا سوى أناس عاديين لاحظ لهم من علم أو تقوى أو رشاد، ولم يقيموا الحجة على أحقيتهم في الإتباع والإطاعة، وكانوا قاصرين عن الإحاطة بكل ما يجري من حولهم من أحداث ووقائع، مما أدى إلى هلاكهم مع بعض من اتبعهم، ولم يتبعهم إلا من كان غافلا عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها بقناع ادعاء المهدوية والتلبس بزي الإيمان والتنسك والزهد، في حين إن الحقيقة هي خلاف ذلك.
ومن الواضح إن كثير من هؤلاء(المدعين للمهدوية) لم يكونوا محيطين أو مطلعين على تفاصيل الحركة المهدوية الموعودة، والتي بشرت بها الشرائع السماوية كافة، والشريعة الإسلامية خاصة، من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والتي رسمت لنا خارطة التحرك المهدوي باجلى صورة وأوضحها، لا بل لو أتيحت لهم الفرصة لكي يحفظوا هذه الحركة بأدق تفاصيلها لما تسنى لهم النجاح فيما يدعون. قال تعالى ((وما تشاءون إلا إن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين اعد لهم عذابا اليماً))(3).
ادعاء النيابة الخاصة :-
أما النيابة الخاصة فان طريق ادعائها مسدود بنص الإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف، من خلال التوقيع المبارك الصادر عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف، إلى السفير الرابع علي بن محمد السمري، فقد روي عن..(جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال حدثني أبو محمد الحسن بن احمد المكتب، قال كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيام فاخرج إلى الناس توقيعا نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله اجر إخوانك فيك فانك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى احد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة إلا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). (قال) فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيك من بعدك ؟ فقال (لله أمر هو بالغه ) وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه."(4)
والسفراء الأربعة للإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف، أمرهم بيّن للخاصة والعامة على حد سواء بل إن كثيرا من أبناء العامة يتشرفون بزيارة مراقدهم المعظمة في بغداد، ويقدسونهم اشد تقديس، لما علموا منهم من إيمان وتقوى وورع وزهد، جعلتهم محط أنظار الداني والقاصي، حتى استحقوا الثناء الجميل من قبل الأئمة عليهم السلام، إذ لم يصل إلى درجتهم ومكانتهم احد في تلك الفترة العصيبة والى يومنا هذا على الرغم من وجود كبار العلماء من إتباع وأصحاب الأئمة عليهم السلام، وجهابذة علماء الشيعة. فمن يدعي هذه المكانة الرفيعة قبل خروج السفياني والصيحة فيجب تكذيبه ونبذه لصريح النص في انغلاق باب السفارة الخاصة، ووقوع الغيبة الكبرى.
ادعاء النيابة العامة :-
أما النيابة العامة فهي مكانة ودرجة رفيعة يتشرف بها كل عالم ثبتت أعلميته واجتهاده من خلال شهادة أهل العلم والخبرة من ذوي الاختصاص والشأن، وقد دلت الروايات المروية عن أهل البيت عليهم السلام على وجوب أتباع العلماء في فترة الغيبة الكبرى، منها التوقيع المروي عن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم.
والحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حرامه وحلاله)(5).
وقد حددت شروط كثيرة لكي يكون الإنسان مستحقا لشرف النيابة العامة، وقد ذكرها الكثير من العلماء والفقهاء، منها: العقل والعدالة والإيمان والفقاهة والاعلمية، وغيرها من الأمور التي تجعله مهيئا لهذا المنصب الخطير والعظيم، وقد ورد في (التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام إن يقلدوه)(6).
فاجتهاد الشخص لا يكفي فقط لكي يكون نائبا عاما فلابد من كونه اعلم، فان أكثر العلماء يفتون بعدم جواز تقليد مجتهد بوجود مجتهد آخر اعلم منه.
فادعاء النيابة العامة والمرجعية والاعلمية من قبل البعض لا يكفي لكي يكون دليلا على أتباعهم من قبل العامة إذ لابد من التحقق من صحة ادعائهم هذا من خلال سؤال أهل الخبرة وهم المجتهدون ومن هم بدرجتهم، ممن لهم باع طويل في تحصيل العلم من أهل التقوى والورع من الثقاة، فأهل مكة اعرف بشعابها.
نعم قد يعترض البعض علينا في تصنيفنا لمن يدعي الاجتهاد والمرجعية في كونه منحرفا عن القضية المهدوية، فيقول إن القضية المهدوية شيء والمرجعية شيء آخر.
ونحن نجيب بان القضية واحدة مترابطة كالسلسلة لا ينفك بعضها عن البعض الآخر، إذ إن الحكمة من توجيه الإمام للقواعد الشعبية في إتباع أوامر وإرشادات السفراء الأربعة رضوان الله عليهم في فترة الغيبة الصغرى هي نفسها الحكمة التي يدعونا فيها الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى إتباع علمائنا الأعلام من المجتهدين الثقاة، والتي اشرنا إلى وجوبها من خلال النصوص الشريفة السابقة الذكر، في فترة الغيبة الكبرى، وإلا كيف يمكن الحفاظ على الدين والشريعة الإسلامية إلى حين الظهور.
ولأجل إلقاء الضوء على هكذا أنواع من الانحراف العقائدي سنأخذ نماذج منها حفظها لنا التاريخ كشواهد على سوء العاقبة :
* المتمهدي السعودي.
هو محمد بن عبد الله القحطاني، احد تلامذة الشيخ عبد العزيز بن باز، ادعى المهدوية في عام 1400 هـ الموافق 20 نوفمبر 1979 م، وقد احتل مكة المكرمة هو وأصحابه، وتم مبايعته فيها على انه المنتظر، وقد تم محاصرته وقتله من قبل الحكومة السعودية في قصة وحادثة مشهورة ومعروفة، على كل حال ما يهمنا هنا هو كيف بدأت القصة وكيف سولت له نفسه ادعاء المهدوية، " يروي الشيخ فلاح إسماعيل مندكار بعض سيرة القحطاني وهو ممن التقى به: (( كنت اعرف محمد بن عبد الله القحطاني معرفة شخصية، وقد زارني في منزلي في الكويت عدة مرات، وكان حافظا للقران، وكان رجلا زاهدا وبكاء، لا يستطيع إن يمسك نفسه من البكاء إذا قرأ القران، وكان حافظا للبخاري ومسلم، وكان شيخا صاحب علم، ولكنه افتتن بالرؤيا حيث كان يأتيه الناس من المشرق والمغرب ويقولون انك أنت المهدي المنتظر، وكان هذا الموضوع يضايقه، ودخل عليه الشيطان من هذا الطريق، نسال الله السلامة والعافية . ثم يكمل الشيخ كلامه بقوله ( بدأت الفتنة عندما أتى جهيمان (وهو صهر محمد بن عبد الله) ثلاثة رجال من دول شمال إفريقيا وهم يحملون فكر التكفير، وكان جهيمان مستاء من بعض الأمور التي بالدولة ويقال إن احدها دخول التلفزيون على السعودية، فاستطاعوا إن يلقوا الشبه في قلب جهيمان، وعندما علم جهيمان بخبر القحطاني رتب كل شيء من الرجال والأسلحة والطلبة لكي يبايعه في مكة وأمام الناس، وكان هذا الأخير مترددا، ولكن وهو في الطريق إلى مكة ذهب إلى قرية لكي يستريح هو بها ومن معه وهو ذاهب إلى البئر لكي يأتي لأصحابه بالماء، فإذا بامرأة عجوز واقفة تنظر إليه نظرة التفحص، وقالت له: أأنت محمد بن عبد الله ؟ قال: نعم يا أماه، هل من حاجة ؟ قالت: والله إني رايتك في المنام انك أنت الذي في مكة تحرر الناس وأنت المهدي المنتظر!!.
ففكر القحطاني في نفسه قائلا: منطقة أول مرة آتها وامرأة عجوز لم أرها في حياتي تعرفني وتعرف اسمي وتقول لي أنت المهدي المنتظر؟؟(7).
بعد ذلك ساير أصحابه على انه هو المنتظر، وقاموا بالتحصن في الحرم المكي من اجل إعلان ظهور المهدي، ثم قتل محمد بن عبد الله القحطاني وتم اعتقال جميع أتباعه من قبل السلطات السعودية.
الحسين بن منصور الحلاج.
(لما أراد الله تعالى إن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه وقع له (أي اعتقد) إن أبا سهل إن إسماعيل بن علي النوبختي رضي الله عنه ممن تجوز عليه مخرقته (أي ممن تنطلي عليه أكذوبته ) وتتم عليه حيلته فوجه إليه يستدعيه وظن إن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله وقدر (أي ظن) أن يستجره إليه فيتمخرق به ويتسوف بانقياده على غيره (أي ظن إن يجره إليه من الحيلة والبهرجه على الضعفة لقدر (أي لمكانة) أبي سهل في أنفس الناس ومحاه من العلم والأدب أيضا عندهم ويقول له في مراسلته إياه إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام وبهذا أولا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره، وقد أمرت مراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوى نفسك ولا يرتاب بهذا الأمر.
فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه، يقول له: (واني أسالك أمرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين وهو إني رجل أحب الجواري واصبوا إليهن ولي منهن عدة اتحاظهن والشيب يبعدني عنهن واحتاج إن أخضبه في كل جمعه وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن فصار القرب بعدا والوصال هجرا وأريد إن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته وتجعل لحيتي سوداء فاني طوع يديك وصائر إليك وقائل بقولك وداع إلى مذهبك مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة).
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم انه أخطا في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه وامسك عنه ولم يرد إليه جوابا ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل رضي الله عنه أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل احد، وشهر أمره عند الصغير والكبير وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.)(8)
من خلال هاتين القصتين نستطيع إن نشير بصورة دقيقة إلى أمر مهم جدا، والذي يلعب دورا كبيرا في الانحراف العقائدي، إلا وهو وسوسة الشيطان لعنه الله للإنسان وضعف الإرادة مما يجعله غير قادر على تمييز الخطأ من الصواب، فتصرعه نفسه الأمارة بالسوء، ويصبح أسير الأوهام والمغريات، وإلا كيف له إن يقنع نفسه بأنه المنتظر مع علمه الحقيقي بأنه غير ما يدعي، فإذا كان يستطيع إن يقنع الآخرين بأنه المنتظر من خلال بعض الرياضات أو بعض الأعمال النفسية الشاقة التي توهم العامة، فمن أين يتأتى له إقناع نفسه، بأنه المنتظر إن لم يكن فاقدا للسيطرة عليها بشكل أو بآخر، أما بالوسوسة أو بالتوهم والخيال.
بعد هذا ومن خلال النظر في التاريخ ومجريات الأمور والإحداث في هذا المجال نستطيع إن نحدد عدة دوافع رئيسية واضحة وجلية للانحراف العقائدي عن القضية المهدوية (وهي جواب التساؤل الذي ذكرناه آنفا):
الأهواء والرغبات النفسية والشخصية لدى البعض ممن يدعي المهدوية، فالادعاء يحصل لتحقيق بعض الأهداف الدنيوية ألبحته، فيوهم المدعي للمهدوية بعض العامة ممن لا دين لهم بأنه هو المهدي وانه هو المنتظر الموعود، فيسيرون خلفه فيوردهم موارد الهلكة، وقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى أصناف الناس حينما قال: (يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها أحفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع إتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)(9)
فالصنف الثالث يكون المستهدف دائما من قبل هؤلاء المنحرفين عقائديا، لأنهم اشد تأثرا
بالمدعيات والدعوات، وكونهم هم الصنف الأكثر عددا من غيرهم في المجتمع.
حب التسلط والوصول إلى الحكم من قبل بعض المدعين للمهدوية، فيستغلون القضية المهدوية للوصول إلى أهدافهم السلطوية من خلال استغلال عواطف العامة وحبهم وارتباطهم بالمهدي الموعود، فيظهر هذا البعض التدين والإيمان والتقوى ويجذب الآخرين إليه فيعدهم ويمنيهم فيطيعونه دونما تردد لما يرون من ظاهر إيمان وتنسك، ولكن ما إن يصل إلى السلطة وتستقر له الأمور حتى يبدأ بالبطش بإتباعه وبكل من يقف أمامه، وقد سرد لنا التاريخ ما قام به العباسيون من استغلال لهذه القضية لكي يصلوا إلى الحكم، فقد قام المنصور العباسي بادعاء المهدوية لابنه، ولكن ما إن وصل العباسيون للسلطة حتى جعلوها ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الآباء.
قيام بعض أعداء الإسلام بتجنيد الجواسيس والعملاء لتمزيق الأمة وإضعافها، فينفذون من خلال أهم قضية إسلامية إلا وهي القضية المهدوية مستغلين عواطف العامة واندفاعهم، لتحقيق مآربهم الدنيئة، في التشكيك بمصداقية الدين الإسلامي وأحقيته على جميع الأديان السابقة باعتباره الناسخ لجميع الشرائع السماوية السابقة. وخاصة إن المهدي الموعود يمثل الخطر الحقيقي الذي يهدد عروش الكافرين والمجتث لأصول الظالمين.
وهذه الدوافع تكاد تكون الأكثر وضوحا على مر التاريخ وهناك الكثير غيرها.
ثم لابد لنا من طرح سؤالا آخر أكثر أهمية مما سبق وهو: لماذا يحصل الانحراف عن القضية المهدوية ؟
نحن نعتقد إن جملة من العوامل الفردية والجماعية تتشاطر بيان سبب حصول هذا الانحراف فهناك عوامل على مستوى الفرد الواحد والتي تدخل ضمن المستوى الديني والثقافي والعلمي لهذا الشخص أو ذاك، ومنها عوامل بمستوى الجماعة والأمة وهي تتأثر تأثرا كبيرا بالظروف الداخلية والخارجية التي تعصف بالأمة أو الجماعة فتجعل البعض يتهاوى أو يسقط في منتصف الطريق ويقف البعض الآخر شامخا لإكمال الطريق. ولعل ابرز هذه العوامل ما يأتي:
قلة الوعي الديني والثقافي لدى أبناء الأمة نتيجة الجهل بحقيقة القضية المهدوية وأبعادها التاريخية الماضوية والمستقبلية. إذ إن الفرد المسلم لابد له من المواظبة على التعلم وطلب العلم والبحث عن الجذور الحقيقية للقضية المهدوية، والتمسك بالإسلام الحقيقي المحمدي الأصيل الذي غرسه فينا وبينه لنا آل البيت عليهم السلام، من خلال الروايات الصحيحة الواردة عنهم عليهم السلام، وخاصة ما يروى عنهم في الشأن المهدوي.
الفقر والكوارث والنكبات والظروف الصعبة التي تمر بها الأمة خلال فترة الغيبة الكبرى للإمام المهدي عليه السلام، والتي جعلت البعض يتخبط في مسيره نتيجة قلة الناصر والظلم والاضطهاد من قبل حكام الجور، وخاصة ما يحصل للطائفة الاثنى عشرية المغلوبة على أمرها، إذ أنها ما إن تخرج من محنة حتى تدخل في أخرى اشد منها.
المؤامرات والدسائس الصليبية التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين والتي تنهش في جسد الأمة وتنخر في هيكلها العظمي المتآكل نتيجة الحروب الخاسرة التي أفقرت الشعوب الإسلامية وأورثتها الذلة والهوان خاصة مع وجود حكام الجور والفسوق من عملاء الغرب الجاثمين على صدور شعوبهم. مثلا: ( كان للسفارة البريطانية أكبر الدعم للفرقة البابية ـ ومكثوا هناك(في إيران) عشر سنين وأخذوا شيئاً فشيئاً يبتدعون الأحكام كبقية الفرق المنحرفة ثم إن السلطات اضطرت إلى إبعادهم إلى جزيرة قبرص وهناك تنازع الإخوان فانقسمت البابية إلى الأزلية والبهائية، ثم إنهما انتقلا إلى فلسطين، وأخذت الحكومة الإسرائيلية والبريطانية في دعم البهائية ونشر دعوتها بإنشاء مراكز في إيران وأوروبا، حتى راج لها أتباع، وتصدى علماء الشيعة في إيران أمامهم بقوة واستنفار شديد فتوقف المدّ المنتشر للبهائية).(10)
حب الدنيا وطمع البعض فيها مما يدفعهم إلى الاحتيال على العامة لجمع الثروة، وبسط السيطرة والنفوذ على المستضعفين والفقراء الذين يبحثون عن أمل يتمسكون به للحياة فهم بسبب الظلم السائد في المجتمع كالغريق الذي يتشبث بالقشة عند غرقه من اجل الخلاص.
إذن ما هو السبيل للتخلص من هذه المشكلة التي تظهر بين فترة وأخرى؟
بطبيعة الحال إن هذه الأمور كما قلنا ليست غريبة عن الأمة بل هي من الأمور التي ذكرها لنا النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الأطهار وحذروا منها مرارا وتكرارا، فقد حذر رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم من افتراق الأمة وتشتتها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، يهلك اثنان وسبعون فرقة وتنجو فرقة واحدة).(11)
وجاء في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال – لرأس اليهود – على كم افترقتم ؟ قال: كذا وكذا فرقة.
فقال عليه السلام: كذبت ثم اقبل على الناس فقال: والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل ألزبور بزبورهم وبين أهل القران بقرانهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنة، وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام.
وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى عليه السلام.
وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، وهي التي اتبعت وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضرب بيده على صدره ثم قال: ثلاث عشر فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي وحبي واحدة منها في الجنة وهي النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار.(12)
فضلال البعض عن جادة الحق وانحرافهم عن طريق أهل البيت عليهم السلام ليس غريبا أو أمرا طارئا بل هو أمر اعتدنا على رؤيته في كل زمان و مكان إذ لابد من الابتلاء كي يمحص المؤمنون ولكن لابد للمسلم إن يقي نفسه من هكذا أمور وابتلاءات قد تؤدي إلى الضياع والحياد عن جادة الحق ويحصل هذا الأمر من خلال:-
إتباع علماءنا الأعلام ومراجعنا العظام، خاصة في زمن الغيبة الكبرى فان السير خلفهم منجاة للمسلم من الهلكة.
الوعي الديني والحرص على طلب الحقيقة والثبات على الولاية لأهل البيت عليهم السلام يورد المؤمن طريق النجاة والسلامة، ويجنب الأمة التمزق والفرقة.
النأي عن أي جدال أو خصام يؤدي إلى التباغض بين المسلمين ويورث الكراهة بينهم، والحفاظ دائما وأبدا على وحدة المسلمين والدفاع عن أمنهم وسلامتهم من أي خطر يحدق بهم
كذلك الفهم الحقيقي لقضية الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، والقيام بالواجبات الشرعية تجاه الإمام أرواحنا له الفداء، من خلال الدعاء له بالحفظ وتعجيل الفرج والنصرة له قولا وعملا، فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف محيط بنا علما وغير مهمل أو ناسي لمراعاتنا كما جاء في التوقيع الشريف (فانا نحيط علما بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم..... إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللاّواء، واصطلمكم الأعداء)(13) عجل الله تعالى فرجه الشريف.
كما انه يجب علينا التثقف بثقافة آل البيت عليهم السلام المهدوية من خلال الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة والروايات الصحيحة في هذا المجال كي يكتسب المسلم الحصانة الذاتية تجاه أي تحرك يحاول استغلال القضية المهدوية لإغراض شخصية.
وأخيرا ندعو الله عز وجل إن يحفظنا من مضلات الفتن، وان يجعلنا من الثابتين على ولاية محمد وال محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (فعن الإمام الصادق عليه السلام انه علم زرارة هذا الدعاء ليدعو به في غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وامتحان الشيعة: (اللهم عرفني نفسك فانك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك، فانك إن لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فانك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) (14)
الهوامش:
(1) العنكبوت 2-3.
(2) الغيبة، النعماني، ص206.
(3) الإنسان 30-31
(4) دعوى السفارة في الغيبة الكبرى، آية الله الشيخ محمد السند ص41.
(5) الاجتهاد والتقليد، الشيخ محمد مهدي الآصفي، ص95.
(6) المصدر السابق ص105.
(7) مجلة الانتظار، العدد الخامس، ص12 بتصرف.
(8) دعوى السفارة في الغيبة الكبرى، آية الله الشيخ محمد السند، ص117.
(9) بحار الأنوار ،المجلسي ،ج78، ص76.
(10) موقع رافد، الأسئلة العقائدية.
(11) الفرقة الناجية، السيد محمد الموسوي، ص8.
(12) المصدر السابق، ص24.
(13) الاحتجاج ج2، ص596.
(14) مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص800.
source : http://www.m-mahdi.com