فقد كان تنازعاً تَمُدُّهُ العصبية بأسبابها، وأي واقف على الخبر لا يخفى عليه جانب العصبية في هذا النزاع. بيد أنه كان متميزاً مع ذلك بصفة هامة، وهو التنازع والخلاف ضمن نطاق محدود تحترمه الجماعة كافة، وفي حدود رمز واحد يختلفون إلا عليه، ولذلك لم تعمل العصبية عملها النكير، وكانت عقيمة الأثر، لأن الجمهور المتنازع كان مختمر النفس، مشبوب العقيدة، عامر القلب بالمبدأ السامي. وهذا يُظهر صدق نظريتنا في أنّ الخلفاء لو عُنُوا ببث التربية الدينية على الشكل الذي بثه النبي (ص) في نفوس الجموع القريبة منه، لما تفرق العرب قدداً، وتطوحوا في مذاهب مختلفة.
2_ الارتداد: كان الارتداد حركة يُراد بها في أول الأمر الخروج على السلطة المركزية التي تُمثّلها هيئة حاكمةٌ في المدينة. ولا ريب في أن الباعث الأعم عليها هو العصبيّةُ التاريخية بين طوائف الشمال وطوائف الجنوب. ثم غلت العصبية في جماعات، فعمدوا إلى الانفصال بكل الأشكال حتى في الدين، فقد قدّموا أنبياء أيضاً قاصدين بذلك القضاء على كل ما يُشتم منه رائحة الاتصال.
وهؤلاء المتنبئون لاقوا تعضيداً من أغلب المرتدين الذين وجدوا فيهم الرمز الروحي المفقود لحركتهم الانفصالية، التي كانت جزءاً من الصراع القديم بين الشمال والجنوب، وبالتالي بين القحطانية والعدنانية. ونحن إذا لاحظنا أن الروح القبلي لا ينسجم والحكم المركزي بحال، نقع على الحافز المهم الذي دفع المرتدين إلى تشكيل حركتهم الكبيرة بشكلها العنيف، ونرى أيضاً كيف عَثَروا بسرعة على ما يُوحدُ بين جهودهم الخاصة.
لم يكن لهذا اللفظ (الارتداد) معناه الفقهي الذي يرادف الإلحاد في ذلك الزمن، وإنما أطلق بمعناه اللغوي فقط، الذي يُفيدُ النكول والرجوع، لأن من جملة طوائف المرتدين جماعات لم تكفر ولم تلحد، وإنما امتنعت عن التقيد بممارسة النظام المالي الذي كانت تمارسه في زمن النبي(ص). وعليه فالمرتدون قسمان:
1_ الملحدون وهم المفرطون في العصبية.
2_ الخارجون على السلطة المركزية في المدينة.
وعوامل هذه الحركة، عدا ما ذكرناه، كثيرةٌ منها:
أ_ الجُحود الطبيعي في النفس البدوية، وحالة الشك الديني المتولد عندهم من تناحر الديانات المختلفة.
ب_ فقرُ العرب.
ج_ نظريتهم في الحكومة بأنها عدوان على الحرية الشخصية والكيان الفردي.
د_ نظريتهم في الزكاة بأنها ضريبة تمسُّ الاستقلال المالي للفرد، وتنافي الملكيات الخاصة.
ه_ فَهمُهُم للزكاة بأنها حق لازم للطبقة الفقيرة يؤخذ منهم بالكره، وفي هذا تهديد لنفوذ الطبقة المالية، فلا بدع إن رأوا في نظام الزكاة استطالة وتطفلاً. وبذلك نفهم أن حركة المرتدين، في حقيقتها، كانت "ثورة شبه الرأسمالية على المبادىء الاشتراكية الجديدة" تُحمّسُها العصبية ويذكيها الروح القبلي.
والآن نعود إلى صدر الحديث لنجيب على سؤال وهو: كيف استساغ هؤلاء الحكم المركزي في ظل حكومة النبي (ص) ولم يستسيغوه بعد ذلك؟
يرجع السبب في هذا إلى أنهم أخذوا حكومة النبي (ص) من جانبها الروحي ونظروا إليها من هذه الناحية فقط، فلم يجدوا فيها ما يُحيي عنعناتهم العصبية القديمة، وما يهيج فيهم الحماس التقليدي. إن النظر إلى النبي (ص) كان دينياً محضاً على أنه، وإن مارس السلطة الزمنية، فقد كانت الصبغةُ الدينية تغمرها حتى لتخفي بوادي الحكم والسيطرة، ويكفي أن نعرف أن الاعتقاد حينئذ بأن إسلاس القياد في يد النبي (ص) قُربة دينية وذخيرة أخروية، وليس كذلك الخليفة بعده، مهما كانت مزاياه. ونحن إذا درسنا كلمة "خليفة" التي تفيد معنى النيابة في الحكم دون الاستقلالية فيه، نشعر بأنّ الهيئة الحاكمة إنما اختارتها لقباً ليلينوا من شكيمة أولئك النافرين، حين لا يكون من معناها شيء سوى الإشراف على الحكم بالوكالة، وفي هذا اللفظ لباقة تسهل وقعه.
وهذا التحليل يظهرنا على أن السلطة لو أُسندت من اول الأمر إلى شخص من أسرة النبي (ص) لكانت أكثر انسجاماً مع الروح العربية الساذجة البعيدة عن مذهب الحكم، من حيث إنها تمنحه جزءاً من نظرها الروحي الذي كانت تنظر به وحده إلى النبي (ص).
ومما يشهد لهذا أن بعض الصحابة حينما توفي النبي (ص) اعتقدوا بأن كلّ شيء قد انتهى ومالوا إلى العزلة ممارسين واجباتهم الدينية بينهم وبين أنفسهم، ممّا دعا أبا بكر إلى تذكيرهم بأخبار النبي(ص) المتعلقة بغلبة كسرى وقيصر. وهذا يظهرنا على أن العرب حينذاك لم تكن لهم فكرةٌ عن الحكومة الزمنية أبداً، ولا رغبة خاصة بعيدة عن الدين في المحافظة على الدولة العربية الفتية.
إذاً فأول ما يتبادر إلى ذهن الاعراب، إذا رأوا رجلاً من عامّة العرب يتبوّأ كرسيّ الحكم، أن الأمر تمّ له بالغلبة فقط، والنتيجة المنطقية لهذا أنهم ما داموا ذوي سلطة تخوّل لهم الغلبة في حومة الصراع فهم أحق وأجدر بالأمر. وثبت صدق هذا النظر عندهم، الخلاف على الترشيح الذي نُمي إليهم من أخباره، ولا شكّ قد كان فيهم من يرثي لمصير علي(ع) وهو الذي عرفوه عن قرب، وأحبوا فيه شخصيته الممتازة، ونحن نعرف أيضاً بأن اعتقاد الفطريين ينصرف إلى الوراثة الدينية؛ وأُسرةُ النبي(ص) عريقةٌ بهذا النوع من التخصيص والامتياز الروحي، فلم يكن بعيداً أن يطمئن العرب الناؤون إلى ممارسة هذه الأسرة الحكم في ظل الدين بالخلافة والنيابة. والذي يدلنا على صدق هذا التقدير احتجاج عمر (رض) الذي اصطنع فيه منطقاً صوّر فيه النفسية العربية من هذه الناحية خير تصوير، فقد أشار لنا في كلمة له يومذاك إلى أن العربيّ شديد النفور من السلطة إلا عن نبعة الدين.
3_ إقتناع قريش بعدم العصيان، أو بتعبير ذلك العصر بعدم الارتداد: يحدثنا التاريخ بأن قريشاً حاولت، ككثير من العرب، أن تخرج وتعلن العصيان، ولكنها عادت فركدت. وفي هذا الركود السريع ما يدعو إلى الدهشة، ويحمل الدارس على إنعام النظر لفهم السر الصحيح.
وتعليله عندي بأنّ التنازع على الخلافة يوم السقيفة كان في ظاهره بين حزبين: كتلة المهاجرين وكتلة الأنصار، وفي حقيقته بين مكة والمدينة. وكان الظن القريب أن المدينة ستفوز في الخلاف المنتظر، ولو تمّ الأمر بغلبة الأنصار لما أخلدت قريش إلى السكينة أبدا، ولكن انسياق الفوز إلى جانب المهاجرين _أي فوز مكة في الصراع الانتخابي _ سهل على قريش الخضوع والاستسلام. ومعنى فوز مكة في الحقيقة البعيدة فوز أكبر أسرها المدنية فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويون وحدهم، ولذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وأثروا في سياستها، وهم بعيدون عن الحكم، كما يُحدثنا المقريزي في رسالته النزاع والتخاصم.
ومن تاريخ هذا الفوز الانتخابي بدأت سعاية بني أمية لتهيئة الأسباب إلى الانقلاب الذي سيفضي في نهايته إلى استحواذهم على السلطة. وأي ناظر في حركات أبي سفيان لا يشك بأنه بدأ يعمل بهمة لا تعرف الكلل لتعبيد الأمور على ما يريد، فقد رأينا كيف يفكر باستعجال الأمور من وراء شخص علي والعباس، وكيف يستعد ويعلنهما باستعداده لإحداث الانقلاب مستغلاً العناصر غير الراضية عن نتائج الانتخاب.
وبالنظر إلى هذا التحليل لركود قريش بعد التهيؤ للثورة، نلمس عمل العصبية الكبير في هذا الحادث، ونضع أيدينا على السر الصحيح في محيط القبليات. وإن من الغرارة الركون إلى تصوير المؤرخين الساذج لهذا الحادث بأنّه نتيجة تعنيف الضمير الديني وهو لم يبلغ بعد. إن الواجب التاريخي يقضي علينا بأن نفهم كل حادث في محيط القبلية على ضوئها لأنها بآثارها أقوى من كل عامل آخر، كالدين مثلاً الذي لم يختمر بعد في نفوس العرب اختمار القبلية. ونحن، حينما ندير البحث في هذه الفترة من التاريخ على قاعدة الدين قبل كل شيء، نغالط أنفسنا في حقائق الطبيعة البشرية وأوليات علم النفس.
4_ التعيينات الحكومية: أبدى المقريزي دهشته المصحوبة بتساؤل حائر، من حرمان بني هاشم من التعيين في الولايات، بينما كانت مغمورة بالعنصر الأموي، ففي كل جهة وال من أمية. والمقريزي لا يخفي دهشه الشديد من هذا الإجراء، لأنه لا يمكن تبريره بأنه لم يكن بين الهاشميين رجل واحد كفي بأعباء الولاية وتبعات الإمارة، وهذا إذا أمكن فرضياً فإنه يستحيل في الواقع. ونحن بهذا لا نريد أن ننتهي إلى أنّ هذه السياسة الإدارية كانت مقصودة من الخليفة القائم تحزباً وعصبية، وإنما دللنا عليها لنشهد من خلال هذه السياسة مقدار نفوذ الإصبع الأموي في تسيير دفة الأمور. وقد ساعدهم على اكتساب ثقة الخلفاء أنهم الأسرة السياسية العريقة _إذا صح هذا التعبير _ فالخلفاء لذلك يقدرون مواهبهم المدنية الموروثة. ومن ثم نصل إلى النتيجة الخطيرة التي نسعى إلى تقريرها وإيضاحها وهي أن أكثرية الأمراء والولاة كانوا من بني أمية في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان، وإذا علمنا أنّ إثارة العصبيات المكبوتة كانت جزءاً من سياسة الحزب الأموي ذي المطامع الكبيرة، استطعنا أن نقطع بأن هؤلاء الولاة كانوا، وهم يمارسون إمارتهم في زمن أبي بكر وعمر، لا يفتؤون يحيون كوامن النزعات ويرببونها ليلهبوا المجتمع الإسلامي الزاخر بما فيه من شؤون.
5_ التعبئة القبلية: ونعني بهذا تنظيم الجيش تنظيماً بحسب القبائل، فكل قبيلة كانت تشكل فرقة من الجيش وقائدها هو الزعيم القبلي نفسه. وهذا، وإن كان يولد منافسة محمودة من حيث الاستبسال في الفتح، إلا أن أضراره في النتيجة تفوق كل تلك المزايا. ولقد سمعنا في احتجاج أولئك الزعماء نغمة أنهم مغبونون وأن ما نالهم من فوائد الحرب أقل بكثير من تضحياتهم، مما يؤيد وجهة نظرنا في أنّ هذا المنطق استولى عليهم وظهر بعد حين بخطره العنيف.
6_ السياسة المالية: لا ريب في أنّ النظام المالي لم يكن بعيداً عن التأثر بهذه النزعة القبلية، وبالأخص في خلافة عثمان حيث ظهرت فيه بكل جلاء.
إذاً فقد ظهرت القبلية في مناسبات شتى وظروف كثيرة، بل وفي كل ظرف منذ وفاة النبي (ص). وهذه المناسبات أيقظت العصبية الكامنة حتى انطلقت في النهاية من عقالها وشكلت الثورة العنيفة.
ونحن إذا درسنا السياسة التي أدى إليها اجتهاد الخليفة الصالح عمر بن الخطاب، نراها سياسة حربية خالصة حتى منع ادخار الأموال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع وتعاطي الزراعة، وبذلك أوقفهم على الجندية، وهذا دليل على أن نفس عمر الكبيرة لم تكن تفكر إلا بالتوسع، فهو لم يُعدّ الشعب للاستقرار، وإنما اجتهد بإعداده للفتح بسبيل نشر المبدأ الإسلامي الجديد في أكبر رقعة من الأرض. وهذه الخطة، وإن تكن أفادت العرب دولةً واسعة الأرجاء، إلا أنها غير متماسكة أيضاً. وسرعان ما انبعثت فيها العصبية القبلية والعصبية الشعوبية، وعانت الدولة أشد العناء في رتق الفتوق التي أوقفت كل نشاط مثمر.
ولعل أكبر دليل على عدم نضج التعاليم الإسلامية في نفوس العرب أنهم سموا بعنصرهم فوق العناصر، حتى لكأنهم أرستقراطية على الناس كافّة. والإسلام لا يعرف أرستقراطية الجماعة والجنس بل جانس بين الشعوب حين خلقهم من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا على مثل خاصة ومبادىء فضلى وتعاليم قويمة، لا تفاضل إلا باتباعها على الوجه الأمثل... وإن افترض وكان في الإسلام أرستقراطية، فهي أرستقراطية المناقبية ومكارم الأخلاق: تخلقوا بخلق الله، وخلق الله القرآن... وهو أثر يعزى إلى النبي وفيه مقال كثير عند رجال التخريج من المحدثين.
ومن هذا يظهر أن عصبية العربي كانت تعمل ضدّ أخيه العربي، وضدّ أخيه المسلم من سائر الشعوب، مما استتبعه اعتزاز الشعوبي بقبيله وماضيه أيضاً، وفي معترك هذه العصبيات القبلية والشعوبية انحلّ الرباط الإسلامي الصميم.
source : البلاغ