انطوت ليالي شهر رمضان وابتسم هلال شوّال يحمل للقلوب فرحة عيدالفطر.. وامتزجت فرحة العيد بفرحة أخرى.
لقد أتمّ الرسول والذين آمنوا حفرَ خندقٍ امتدّ خمسة آلاف ذراع وبعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع.
تجمّع بعضهم فوق التلال المشرفة وراحوا ينظرون إلى عمل أنجزته الإرادة.. إرادة الإنسان الذي أضاءت نفسَه شعلةٌ سماوية.
ـ أيّة قوّة أنجزت هذا العمل العظيم ؟
ـ إنّها قوّة الإيمان يا أخي.
ـ أجل.. المؤمن أقوى من الجبل.
ابتسم هلال شوّال يعلن نهاية رحلة الجوع والظمأ... وعاد المؤمنون يحملون معاولهم وقد نَفَضوا ترابَ يومٍ حافلٍ بالعمل.
عَسكرَت جيوشُ مكّة في « مجمع الأسيال » بين « الجُرف » و « زُغابة ».. وعَسكرَت غَطفان بـ « ذنب نقمى » في الجهة الغربية من جبل أُحد... وكان حُيَيّ بن أخطب من سلالة السامريّ يكيد من أجل احتلال يثرب وقتل النبيّ الأُميّ الذي يجده مكتوباً في التوراة.. في أعماقه يتردّد خُوارُ عِجل.. عِجلٍ عَبَدوه من دون الله.
تحطّمت أحلام أبي سفيان أمام خندقٍ لم يكن ليخطر على باله يوماً.
تمتم حانقاً وهو يهمز فرسه بالسوط.
ـ مَكيدة لا تعرفها العرب!
ـ إنها من تدبير ذلك الفارسي.
ـ لا يمكن اقتحام الخندق أبداً.
ـ ليس أمامنا سوى ضرب الحصار.
حلّ المساء.. ورياح الشتاء تهبّ من ناحية الشمال.. رياح تخترق الجلد وتصلّ في العظم.. جلس أبو سفيان قبالة النار المشتعلة والريح تعبث بأطراف الخيمة، وكانت ظلاله تتراقص فوق وَبر الخيمة كشيطان مَريد..
تمتم عِكرمة وهو يحاول كسر الصمت الجاثم:
ـ انّهم بعيدون عن مرمى النِّبال.
أجاب أبو سفيان وهو يحدّق في المجمر:
ـ ابحثوا عن ثغرة لاقتحام الخندق، فإطالة أمد الحصار ليس في صالحنا.
علّق عمرو بن العاص:
ـ أنا لا أثق بقُرَيظة، إنهم يطلقون أقوالهم جُزافاً، وإلاّ فأين أفعالهم.. ألف مقاتل في خاصرة يثرب.. وهم ما يزالون يختبئون خلف حصونهم.
قال عكرمة يائساً:
ـ ولا تنسَ قبائل غطفان.. إنهم يلوّحون بالصلح مع محمّد مقابل حفنة من التمر.
صرخ أبو سفيان هائجاً:
ـ وهل جاءوا إلاّ من أجل ذلك؟!
سكت هُنيهة وأردف وقد التمعت عيناه ببريقٍ مخيف:
ـ غداً سأحسمُ الأمر!
اطلّ الصباح بارداً برود الموتى، وقد بلغت القلوب الحناجر..
كان « العامري » يجول بفرسه في « السَّبخة » بين الخندق وجبل « سلع ».. لقد تمكّن مع قوّة من فرسانه من اقتحام الخندق.
أمر النبيّ مفرزة من قوّاته بقطع طريق العودة.
صرخ الفارس المعلَّم بكبرياء:
ـ هل مِن مبارز ؟!
وخيّم صمت رهيب.. وكانت القلوب الخائفة تدقّ بعنف كطبول الحرب:
ـ هل من مبارز.. ألا مِن مشتاق إلى جنّته ؟!
وقهقه فُرسانٌ كانوا ينظرون إليه باعجاب. ونهض عليّ للمرّة الثالثة يطلب المواجهة، فأذن له الرسول.. وتقدّم فتى الإسلام.
رفع النبيّ يديه إلى السماء.. إلى عالم لا نهائي:
ـ اللّهم إنّك أخذتَ مني عُبيدةَ يوم بدر وحمزةَ يوم أُحد، وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تَذَرني فَرداً وأنت خير الوارثين.
ثمّ تمتم وهو يشيّع عليّاً بنظراته:
ـ برزَ الإيمانُ كلُّه إلى الشركِ كلِّه.
وتَقابَل فارسٌ وراجل؛ مشرك ومؤمن.
ـ مَن أنت ؟
ـ عليّ بن أبي طالب.
ـ ليبرز إليَّ غيرك.. إني أكره أن اقتُلك.. لقد كان أبوك صديقاً لي.
ـ لكني أحبُّ أن أقتلك.
قال « ابن وَدّ » وقد لاحت له طيوف من بدر يوم التقى الجمعان:
ـ أكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك.. ارجع خيرٌ لك!
أجاب عليّ بعزم:
ـ إن قريشاً تتحدّث عنك أنّك تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلاّ أخذت واحدة منها.
ـ أجل.
ـ فإني أدعوك إلى الإسلام.
ـ دع عنك هذه وهاتِ لي غيرها.
ـ أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة.
ـ اذن تتحدّث عني نساء مكّة أن غلاماً خَدَعني.
ـ أدعوك إلى القتال راجلاً.
اشتعل غضب متأجج في عينيه، واقتحم عن فرسه... واحتدم الصراع بين سيفَين؛ سيف الإسلام وسيف الجاهلية.. الإيمان والكفر.. الغضب السماوي والحميّة.. حميّة الجاهلية... وكان الرسول يدعو:
ـ اللّهم لا تَذرني فرداً وأنت خير الوارثين.
وهوى سيف كصاعقةٍ غاضبة.. ليسقط رجلٌ اقتحمَ الخندقَ على حين غفلة....
وعاد علي وبشائرُ نصر عظيم تموج فوق وجهه.
هتف عمر مدهوشاً:
ـ هلاّ سَلَبته درعَه، فإنه ليس في العرب درعٌ مثلها!
أجاب عليّ وقد أطلّ الإنسان من عينيه:
ـ استحييتُ أن أكشف سَوأته.
وفي حصن « فارع » كان حسّان مع النسوة والأطفال.. وقد بلغت القلوبُ الحناجر. كانت رائحةُ الغدر تتصاعد من حصون بني قُرَيظة.
جلست فاطمةُ قرب صفيّة تراقبان شوارع المدينة. فجأة، لاح الخطر.. عينان يهوديتان تتلصّصان ورائحةُ الغدر تزكم الأنوف.
هتفت صفية:
ـ يا حسّان، هذا يهودي يطوف حول الحصن كما ترى، فانزل إليه واقتله.. وإلاّ دَلَّ علينا.
أجاب حسّان وهو يبلع ريقه:
ـ غفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب!
نهضت صفيّة وقد أخلد حسّان إلى الأرض، شدّت وسطها.. كانت فاطمةُ تراقب ملامحَ لحمزةَ في وجهها في عزمها والإيمان الذي غمر قلبها.
هبطت صفيّة درجاتِ الحصن وفي قبضتها عمود.
ودوّت ضربة هاشمية على رأس « السامريّ ».. وشَخَصت العينان وبريقُ الغدر يخبو شيئاً فشيئاً..
هتفت صفيّة:
ـ يا حسّان انزل إليه واسلبه.
تشبّث حسّان بالأرض، وقد ذُعِر الجرذُ القابع في أعماقه.
بعد الحصار
الخيول تدكّ بسنابكها الأرض على طول الخندق وقد مضت أسابيع ثلاثة. كان مع النبيّ ثلاثة آلاف.. ولكن ثلاثة أسابيع من الخوف والرعب كافية لامتحان إرادة الإنسان. في المساء وعندما يخيّم الظلام تنسلّ أطياف كالاشباح، وقد ابتُليَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. ورفع « ابن قُشير » ـ وكان رجلا ذا وجهَين ـ عقيرته.
ـ محمّد يَعِدُنا كنوزَ كسرى وقيصر.. وأحدُنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!
مضت أسابيع أربعة.. ولا شيء سوى مُناوشات بالسهام. والرياح ما تزال تعصف بشدّة.. تمزّق الخيام وتقلب القُدور وتطفئ النار.. ولم يبق مع النبيّ إلا تسعمئة من الذين امتحن الله قلوبهم بالتقوى.
وفي ليلة سوداء كسواد الكُحل مدّ الرسول كفّيه إلى السماء ينشد نصر الله:
ـ اللّهم مُنزلَ الكتاب، سريعَ الحساب اهزِم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وانصرنا عليهم وزلزلهم، اللّهم ادفع عنّا شرّهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم.. لا يغلبهم غيرك.
أضاءت نجمة في السماء.. وقد غضبت الريح فراحت تعدو عاصفةً بين القبائل.
قال النبيّ وقد استدعى « حُذَيفة »:
ـ اذهب فادخُل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تُحْدِثنّ شيئاً حتى تأتيني.
وانطلق « حذيفة » عبر الخندق، وتسلّل بين خيام مزّقتها رياح الشتاء.. كان الظلام دامساً.. وراح يتلمّس طريقه إلى خيمة أبي سفيان حيث تحاك خيوط العناكب.
دسّ حذيفة نفسه في زاوية مظلمة وأخذ مكاناً من رجلَين كانا يحدّقان بأبي سفيان. قال صخر بن حرب متوجّساً:
ـ يا معشر قريش، ليتعرّف كل امرئ جليسه واحذروا الجواسيس والعيون.
هتف حذيفة وهو يشدّ على يد جليسه:
ـ مَن أنت ؟
ـ معاوية بن أبي سفيان.
ـ وأنت ؟
ـ عمرو بن العاص.
خفتت الأصوات وقد بدا حذيفة كأحدهم. قال أبو سفيان:
ـ يا معشر قريش، إنكم ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخُفّ.. واخلَفَتْنا بنو قريظة العهد ولَقِينا من شدّة الريح ما تَرَون.. ما تطمئنّ لنا قِدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فانّي مرتحل.
انفجرت السماء بالصواعق.. وهطلت الأمطار غزيرة.. وهبّت الرياح شديدة.. تَجْتثّ الخيام وتبثّ الرعب في القلوب..
فكّر « طلحة بن خويلد » أو لعلّه راى أشباحاً تعبر الخندق فهتف مذعوراً:
ـ انّ محمّداً قد عبر اليكم بأصحابه... فالنجاة النجاة!
تمزّقت جيوش الأحزاب؛ مزّقتها الرياح وجنود لم يَرَوها.. حتّى إذا أطلّ الصباح كان كلّ شيء هادئاً في الجانب الآخر من الخندق.
وأرسل النبيّ « حذيفة » مستطلعاً فإذا كلّ شيء يشير إلى هزيمة ساحقة.. الخيام الممزقة متناثرة هنا وهناك.. وأكوام التبن.. ومواقد منطفئة وقدور منكفئة.. والرماد يغطي الأرض الموحلة، وعاد « حذيفة » يحمل البشرى.
وأصدر النبيّ أمره بالعودة إلى المنازل بعد ثلاثين يوماً من الحصار والخوف والقلق.
وكان بنو قُرَيظة منكمشين في حصونهم يترقّبون بخوفٍ المصيرَ الذي ينتظرهم... فالغدر يُعقبه انتقام.
ها هي الأفاعي تلوذ بجحورها وتمدّ ألسنتها متوجسة..
هتف الرسول؛ وقد حانت لحظة الاقتصاص:
ـ مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلاّ في بني قُرَيظة.
هزّ النبيّ اللواء ودفعه إلى عليّ:
ـ كُن في مقدمة الجيش واسبِقْنا إلى بني قُرَيظة.
وانطلق عليّ واللواء يَخفق فوق رأسه، حتّى إذا دنا من الحصن ر كَزَه في الأرض بقوّة، وأيقن الذين مُسِخوا قِردةً وخنازير أنها الحرب ولا شيء سواها.
وسمع عليّ شتائمَ تنهال على النبيّ الأُمّي فهتف بغضب:
ـ السيف بيننا وبينكم.
واستمر الحصار عشرين يوماً... والمناوشات بالسهام والنبال مستمرة.. والشتائم تنهال من فوق جدران.. فهتف النبيّ:
ـ يا إخوان القِردة!.. هل أخزاكم الله وأنزل فيكم نقمته!
وشنّ عليّ أول هجوم عنيف، فارتفعت راية بيضاء فوق الحصون.. وكان الاستسلام دون قيد أو شرط.
وهتف سعد وقد رضي الجميع حكمه:
ـ آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
كان سعد يعرف « توراتهم » حيث حرّفوا الكلم عن مواضعه ليسوموا البشر الموت والفناء...
كان يدري ما في الإصحاح من التثنية من ريح صفراء لا تُبقي ولا تَذَر:
« حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استَدعِها إلى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصِرها، وإذا دفعها الربّ الهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، واما النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة غنيمة تفتحها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك »!
وأذاقهم سعد حكم التوراة وكانوا أذاقوها الأُمم.
وهكذا تساقطت رؤوس الخيانة والغدر.. وسقط رأس حُيَيّ بن أخطَب مُخطِّط فكرة الغزو والفناء، وفرّ السامريّ إلى « خيبر » لا يفتأ يعبد العجل من دون الله.
رائحة الوطن
عاد السلام يرفرف فوق المدينة، وكلمات السماء تتردد بين سعف النخيل وعرائش الأعناب.
وعاد عليّ يعمل في الأرض.. يسقي الزرع ويفجّر الينابيع يريد للأرض أن ترتدي حلّة خضراء..
عاد الأطفال يلعبون في الأزقة... ضحكاتهم البريئة تتردد في الفضاء الأزرق.
ومرّ النبيّ في طريقه إلى المسجد تحفّه كوكبة من أصحابه.
وركض الحسن والحسين وكانا يلعبان مع الأطفال.. وخف النبيّ لاستقبال ريحانتيه من الدنيا، والبسمة تطوف فوق وجهه..
حمل النبيّ ولديه.. شمّ الجنّة فيهما.. استنشق عبير الرياحين.. وحملهما على عاتقه..
والتفت إلى اصحابه:
ـ مَن أحب هذين الغلامين وأُمَّهما وأباهما فهو معي في الجنّة.
قال عمر مغتبطاً وهو يرى أجمل منظر:
ـ نِعمَ الفَرَسُ فرسكما.
فأجاب النبيّ مبتسماً:
ـ ونعم الفارسان هما.
شمّ المهاجرون رائحة وطنٍ بعيد.. وتلفتّت العيون صوب الجنوب وتلفتت القلوب؛ وطافت صور جميلة لمكة مرابع الصبا وذكريات الطفولة، فإذا الحنين نهر حزين يجري بصمت، والخريف فصل الوداع يستثير هواجس العودة واللقاء، وها هي ستة أعوام تنطوي والمهاجرون ما يزالون يقاومون عواصف الصحراء والزمان.. يحلمون بالعودة إلى ديار الحبيب... الكعبة بيت إبراهيم وإسماعيل.. وغار حِراء في جبل النور.. وذكريات الجهاد.
وأطلّ « ذو القعدة » يوقظ في النفوس نداء إبراهيم فتنطلق القوافل بين الأودية.. فالقلوب تهوي إلى بقعة مباركة حيث أول بيت وُضع للناس.
وعمّت الفرحة المدينة.. لقد أعلن النبيّ رغبته في أداء العمرة وزيارة البيت العتيق.. وانّه لا يريد حرباً مع أحد، انّه ينشد السلام.. وهل الإسلام يعني شيئاً سوى السلام.
وطار النبأ في الجزيرة رايةً بيضاء بياض حمائم في الفضاء الأزرق.
واجتمع ألف وأربعمئة ممن تخفق قلوبُهم لمكّة وأداء شعائر الحج... وتقدّم النبيّ على ناقته « القَصْواء » زورقاً ينساب فوق امواج الرمال.. وكان « اللواء » يخفق فوق هامة عليّ.. وساق النبيّ من الهَدْي سبعين.. والسيوفُ في الأغماد، حتّى إذا بلغ ذا الحَليفة، أحرم فيها ولبّى.
ردّدت الصحارى هتافات التوحيد:
ـ لبيّك اللّهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..
وفي « عُسْفان » حطّ النبيّ الرحال... يمدّ يد السلام..
وجاء رجل من أُم القرى يسعى:
ـ يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بك، فلبست جِلد النمر... وقد اجتمع الرجال والنساء والأطفال بـ « ذي طُوى »... وخيلها الآن في « كراع الغَميم ».
قال النبيّ بحزن:
ـ يا ويحَ قريش.. لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين العرب.. ما تظنّ قريش.. والله لا أزال أُجاهد أو تنفرد هذه السالفة.
وكان الرجل يتأمّل سوالف النبيّ المتلألئة وقد انفردت عن شعر النبيّ المتموّج تموّجَ الصحارى وهو يكاد يلامس منكبيه.
وجلس النبيّ يفكّر.. يفكّر في قوم كذّبوه وآذوه.. وألّبوا العرب عليه يريدون أن يطفئوا نور الله.. والله مُتمُّ نورِه.
قال النبيّ وقد أحدق به أصحابه:
ـ مَن يدلّنا على طريق غير طريقهم ؟
فنهض رجل مِن أسلَم وكان عالماً بخفايا الصحراء وبطون الأودية.
وسار ألف وأربعمئة رجل يتقدّمهم آخر الأنبياء، وقد هبّت نسائم وطن بعيد.
كانت المفازات وعرة كثيرة الحجارة كأنها شظايا بركان انفجر قبل آلاف السنين. حتّى إذا وصلوا أرضاً سهلة انعطفوا جهة اليمين حيث الجادة المُؤدّية إلى « ثَنيّة المراد » مهبط « الحُدَيبية » من أسفل مكة.
توقفت القَصواء ثم بَرَكت.. وتوقّفت الجموع، قال قائل:
ـ حرمت الناقة وأجهدت.
فقال النبيّ: لا.. ولكن حَبَسها الذي حَبَس الفيلَ عن مكة..
وأردف وهو ينزل عن « القصواء »:
ـ واللهِ لا تدعوني قريش إلى خطة تسألني فيها صلةَ الرحم إلاّ أعطيتهم ايّاها..
والتفت إلى الجموع:
ـ انزلوا.
قال أحدهم وهو يستعرض الوادي ببصرٍ نافذ:
ـ يا رسول الله، ما بالوادي ماء.
أخرج النبيّ سهماً من كِنانته وأشار إلى بئرٍ معطّلة.
ـ اغرزه في جوفه.
كانت هالة من النور تغمر رجلاً أرسلته السماء ليحيي الأرض بعد موتها.
انفجرت البئر بالماء نميراً.. فخشع الذين هاجروا والذين قالوا إنا انصار الله.
امتحان الحديبية
كان الجوّ مشحوناً بالقلق ما بين « الحُدَيبية » ومكة. قريش لا تذعن للحقّ ولا تُصيخ السمعَ لصوت العقل، فتفتح أبواب مكة لقوافل الحجيج. وبعث النبيّ « عثمان » فله قرابة بأبي سفيان:
ـ أخبِر قريشاً أنّا لم نأتِ لقتالِ أحد، وإنّما جئنا زوّاراً للبيت، معظمين لحرمته ومعنا الهَدْي ننحره وننصرف.
ومضى عثمان إلى مكة ولم يَعُد.. مضت ثلاثة أيّام.. اختفت فيها أخباره، وسمعوا شائعات عن مصرعه مع عشرة من المهاجرين دفعهم الشوق إلى زيارة أهليهم.
عندها وقف النبيّ تحت ظلّ شجرة في الوادي أسند جذعه إلى جذعها.. وأحدق أصحابه وهم يعاهدون على الموت من أجله... وباركت السماء عهد المؤمنين.. وقد رضي الله عنهم.
الجوّ يزداد تأزّماً ولمّا يَعُد عثمان بعد...
وجاءت رسل السلام.. وقد أدركت قريش أن الخطر قاب قوسين أو أدنى.
جاء « سُهَيل » يعرض على النبيّ شروط قريش:
ـ أن تضع الحرب أوزارَها بين الفريقين عشرَ سنين.
ـ أن يَرُدّ محمّد من يأتيه من قريش مُسلِماً، ولا تلتزم قريش بردّ من يأتيها من عند محمّد.
ـ أن يعود محمّد وأصحابه هذا العام دون عُمرة، وأن يأتوا في العام القادم.
ـ من أرد الدخول في عهد قريش فله ذلك، ومن أراد الدخول في عهد محمّد جاز له ذلك.
كان النبيّ يصغي إلى عرض قريش يلقيه « ابن عمرو » وقد بدا بعض الصحابة ممتعضاً، وكاد عمر أن ينفجر بعد ان سمع النبيّ يستدعي عليّاً:
ـ اكتب يا عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم.
اعترض سهيل:
ـ لا أعرف هذا.. اكتب: باسمك اللّهم.
استأنف النبيّ:
ـ اكتب ذلك، واكتب: هذا ما صالح عليه محمّدٌ رسولُ الله سُهَيلَ بنَ عمرو.
قال سهيل:
ـ لو شهدتُ أنك رسول الله لم أُقاتلك.. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
أطلّ الحزن من عيني الرسول:
ـ واللهِ إني رسول الله وان كذبتموني... اكتب يا عليّ: محمّد بن عبدالله وامح رسول الله.
رفع عليّ رأسه وقد شعر بالغضب يتفجّر في صدره:
ـ إن قلبي لا يطاوعني.. واللهِ لا أمحوها.
تناول النبيّ الصحيفة ومحاها..
واستأنف عليّ يثبت بنود السلام.
ونهض الوفد عائداً إلى مكّة...
لم يتمالك « عمر » اعصابه فتقدّم من النبيّ بطوله الفارع وعيناه تبرقان بغضب عارم:
ـ ألستَ نبيّ الله حقّاً ؟!
أجاب النبيّ بهدوء:
ـ بلى.
ـ أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار ؟!
ـ بلى يا عمر.
هتف عمر:
ـ فَلِمَ نُعطي الدنيّةَ في ديننا اذن ؟!
أجاب النبيّ وهو يحاول إعادة الطمأنينة إلى قلبه:
ـ إني رسول الله؛ ولست أعصيه وهو ناصري.
قال عمر بحدّة:
ـ أولستَ كنتَ تحدّثنا انّا سنأتي البيتَ فنطوف به ؟!
أجاب محمّد بصبر الأنبياء:
ـ بلى يا عمر.. أفأخبرتك أنّك تأتيه عامك هذا ؟
أجاب عمر مخذولاً:
ـ لا.
ـ فانك آتيه ومُطوِّف به.
وظلّ « عمر » هائجاً لم تفلح كلمات الرسول في إعادة السلام إلى نفسه.
هرع الرجل الفارع إلى صاحبه وقال بعصبية:
ـ يا أبا بكر، أليس هو برسول الله ؟
ـ نعم.
ـ أوَ لسنا بالمسلمين ؟
ـ أجل يا عمر.
ـ أوَ ليسوا بالمشركين ؟
ـ ماذا تعني ؟
ـ فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟
نظر أبو بكر إلى صاحبه بأسف.
عمر ما يزال ثائراً يبحث عن شيء.. عن شخص يطفئ به النار التي تستعر في صدره... وقد حانت اللحظة المناسبة لنسف السلام مع قريش.
تمكّن « أبو جندل » بن سهيل من الإفلات من قبضة قريش، وجاء ينوء بالسلاسل والقيود.
كان منظره يدعو إلى الشفقة، اعترضه أبوه وكان قد أمضى عهداً مع النبيّ.
هتف الشاب المثقل بالحديد والقهر:
ـ يا رسول الله.. يا معشر المسلمين.
والتفت سهيل إلى النبيّ:
ـ يا محمّد، بيننا وبينك العهد.
ـ صدقت.
هتف أبو جندل:
ـ يا للمسلمين، أأردُّ إلى المشركين ليفتنوني عن ديني.
المسلمون ينظرون إلى أخ لهم لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً.
هتف النبيّ يشدّ على يده من بعيد:
ـ اصبر يا أبا جندل واحتسب، سيجعل لك الله ولمن معك فَرَجاً ومخرجاً.
لم يتمالك عمر كعادته، فخفّ إلى ابن سهيل.. اقترب منه هامساً:
ـ إنما هم مشركون، ودم أحدهم دم كلب.
اقترب عمر أكثر وكشف للشاب مِقبضَ السيف وكرّر قائلاً:
ـ المشرك دمُه كدم الكلب.
أدرك الشاب أن عمر يغريه بقتل أبيه، فاكتفى بنظرة طويلة إلى عمر ولم يقل شيئاً.
كانت كلمات النبيّ ما تزال تتردّد في أُذنيه وفي قلبه، ثمّ كيف له أن يقتل أباه ؟ بل كيف للمسلم أن يغدر أو يفتك ويخون العهد الذي أُبرم قبل لحظات.. وهل ستسكت قريش على قتل رجل كان يفاوض باسمها ويدافع عن آلهتها ؟!
كانت الأفكار تصطرع في رأسه كخيول في معركة.. وهو يجرجر خطى واهنة عائداً مع أبيه.
وانطوى نهار ذلك اليوم، وقد هبّت نسائم السلام فوق رمال الجزيرة...
وفي المساء، وعندما كانت النجوم تنبض في السماء كقلوب حالمة هبط جبريل يحمل بين جناحية سورة « الفتح ».
وانساب نهر سماويّ.. والرسول يتلو:
ـ إنّا فَتَحنا لكَ فَتحاً مُبيناً.
وانبعث صوت في الظلام:
ـ وأين هذا الفتح وقد صَدُّونا عن البيت ؟!
أجاب النبيّ:
ـ بل هو أعظم الفتح.. لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم، وأن يرغبوا اليكم في الأمان. وردّكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح.
هتف المسلمون:
ـ صدقت يا رسول الله.
ومضت أيّام على السلام فأقرّ عمر بحالةٍ تراوده، فتمتم آسفاً:
ـ ما شككتُ منذ أسلمت إلاّ ذلك اليوم.
الخمسة المقدّسون
عاد رسول الله إلى المدينة، والفرحة تملأ صدره بفتح الله، فقد أمن جانب قريش وآن للدين الجديد أن يعبر شبه الجزيرة إلى العالم كلّه.
توجّه النبيّ كعادته إلى المسجد فصلّى ركعتين، غسلت عنه عناء السفر وهموم الحياة، ونهض النبيّ لزيارة ابنته.. ذكراه من خديجة وكوثره الذي وهبه الله.
قرع الباب.. فهبّت فاطمة للقاء النبيّ. كانت تحاول إخفاء ما تعانيه من إعياء وتعب.
فتحت الباب والبسمة تشرق في وجهها، تأمّل النبيّ وجه ابنته الوجه المشرق تشوبه صفرة، فبدا كقمر أنهكه السهر في ليلة شتائية طويلة.
قال الأب بحزن:
ـ يا بنية، ما هذا الصفار في وجهك وتغيّر حدقتيك ؟
أجابت فاطمة بصوت واهن:
ـ يا أبه، إن لنا ثلاثاً ما طَعِمنا طعاماً... وقد بكى الحسنان من شدّة الجوع حتّى غلبهما النوم..
أيقظ النبيّ ريحانتيه.. وضعهما في حِجره وقد نَسِيا ألم الجوع كعصفورين فرحين بدفء العشّ.
كان عليّ يبحث عمّن يُقرضه دُرَيهمات يسدُّ بها رمق أسرته، وكانت الشمس ترسل أشعتها ملتهبة. لم تمضِ مدّة حتّى وجد من يقرضه ديناراً فانطلق يشتري به شيئاً.
المدينة تبدو مهجورة وقد فرّ أهلها من الرمضاء والحرّ.
من بعيد لاح له رجل يمشي.. دقّق النظر فيه، ولمّا اقترب منه بادره عليّ:
ـ ما الذي أخرجك يا مقداد في هذه الساعة ؟
ـ الجوع يا أبا الحسن.. عضّني وأهلي الجوع.. وأبحث عمّن يقرضني درهماً أو ديناراً.
إن للجوع فعله العجيب في النفوس.. تارة يهذبها فتسمو إلى السماء، وتارة ينحطّ بها إلى أسفل السافلين. الجوع يصنع ملائكة وشياطين.. وكلا الخيارين يتوقّفان على إرادة الإنسان أو على غريزة ذلك الحيوان القابع في الأعماق المظلمة. وليس في حياة علي من وقت لكي تنشب معركة بين الذات والايثار؛ لأنّه لا يوجد في أعماقه المضيئة من يعترض على إرادته التي صقلتها النبوّات..
وهكذا قدّم عليّ كل ما يملكه إلى أخيه، وعاد إلى البيت خاليَ اليدين.
كان المنزل هادئاً تغمره رحمة من السماء، ووجد في الحجرة رسول الله.. وكان الحسنان في حجره وفاطمة تصلّي في المحراب وقد ملأت فضاءَ الحجرة رائحةٌ طيّبة لطعامٍ طيّب. ولما جلس عليّ قبالة رجل ربّاه في حجره تمتم النبيّ وهو يرمق السماء بخشوع:
ـ اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عنهمُ الرِّجسَ وطَهّرهم تطهيرا.
فرغت فاطمة من تبتّلها ومدّت يدها إلى جَفنةٍ مغطاة.. وكان في الجفنة خبز ولحم.
قال عليّ متعجباً:
ـ يا فاطمة، أنّى لكِ هذا ؟
أجابت فاطمة بنت رسول السماء:
ـ هو من عند الله.. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
قال النبيّ مبتسماً:
ـ إن مَثَلكما كمَثَل زكريّا إذ دخل على مريم فوجد عندها رزقاً قال: يا مريم أنى لكِ هذا ؟ قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب.
لو أُزيحت الحجب عن العيون لرأى سكّان المدينة منزلاً إلى جوار المسجد.. ولو دققوا النظر لرأوا أثر جبريل في حجراته. يلج المرء فيجد نفسه في بقعة لا تنتمي إلى طين الأرض... إلى عالم من تراب... بقعة اختارتها الملائكة يوم هبطت على الأرض.. يوم اتصل النور بالطين ليولد الإنسان السماوي الذي انطوت في أعماقه أسرار الوجود.
كانوا خمسة: محمّد.. عليّ.. فاطمة.. حسن وحسين... اسماءُ ولدت على الأرض يوم عطس آدم... واستنشق نسمة الحياة، ويوم قال الله لنوح: أنِ اصنَع الفُلك بوحينا.. ويوم فار التنّور كان نوح يتأمّل السماء وهي تنهمر مطراً كأفواه القِرَب، وجبال من الغيوم تتراكم بعضها فوق بعض.. ولتتحول تلك الأرض الجرداء إلى بحر متلاطم الأمواج.. وسارت السفينة باسم الله تشقّ طريقها في موج كالجبال.. ومقدمة السفينة تعلو وتهبط ما لها من قرار. أصوات الحيوانات وهدير الموج وتمتمات دعاء المؤمنين.. تمتزج تطهّر القلب فيتألق الأمل.. الأمل بمستقبل طاهر للأرض. السفينة تجري لمستقر لها.. وقد اجتمع المؤمنون أمام خشبة صغيرة مستطيلة الشكل فيها اسماء أثارت دهشتهم وحرّكت كوامن الأسئلة في أعماقهم.. كلمات صغيرة واضحة مكتوبة بلغة شعب عاش قبل الطوفان؛ كلمات تحمل لهم الأمل بالخلاص بغصنِ زيتونٍ أخضر.. كلمات تتألّق بألوان قُزَح.. كلمات حفرها نوح تعويذةَ أمل في الحياة:
ـ يا إلهي.. ويا مُعيني.
برحمتك وكرمك ساعِدني.
ولأجل هذه النفوس المقدّسة.
محمّد.
إيليا.
شبر.
شبير.
فاطمة.
الذين هم جميعهم عظماء ومكرمون.
العالم قائم لأجلهم.
ساعِدني لأجل أسمائهم.
أنت فقط تستطيع أن توجّهني نحو الطريق المستقيم.
وتمخر السفينة عباب المياه حتّى استوت على الجوديّ، وقيل: يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي... وعادت حمامة بيضاء تحمل غصن الزيتون.. وقد تألقت في السماء ألوان الأمل والربيع.
وهمس النبيّ في أُذن التاريخ وهو يضمّ ريحانتيه:
ـ مَثَلُ أهل بيتي مَثَل سفينة نوح: مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غَرِق.
في انتظار الغد
الصحراء مدّ البصر.. صحراء مليئة بالرمال.. تموج بالأسرار.. والغدر.. وخشخشة الأشواك تبوح باسرار الليل.
آثار مشبوهة فوق الرمال الممتدة بين حصون « خيبر » ومضارب « غَطفان »، وعيون تبرق في الظلام.. ورائحة مؤامرات تُدَبَّر في الخفاء.
فرسان « محمّد » يجوبون الصحراء يترصدون الذين كفروا إنّهم لا أيمان لهم... الآثار الغريبة فوق الرمال والرجال الملثّمون والعيون التي تبرق في الظلام وخشخشة الأشواك في الليل وأصوات كفحيح الأفاعي... ما بين حصون « السامري » ومضارب غطفان عناكب « خيبر » تحوك شباكها.. و « غطفان » تكشّر عن أنياب ملوّثة بالصديد... وتَسامَعَ أهلُ البادية عن عِجل يخور في حصونٍ وسط الرمال.
واهتزت راية العُقاب في قبضة علي، وغادر آخر الأنبياء المدينة في ألف وستمئة محارب. ولكي يفوّت الفرصة على العقل اليهودي الذي جُبل على الغدر تحتّم على قوّات المسلمين أن تقطع المسافة بأقصى سرعة..
لم تمرّ ثلاثة أيّام حتّى وصل النبيّ بجيشه إلى مشارف خيبر... وكان الظلام يغمر الأشياء يحيطها بالغموض والأسرار.. وبدت الحصون في رهبة الظلام كائنات خرافية رابضة فوق الأرض.
قبل أن يطلع الفجر كان المسلمون يحيطون بخيبر من كل الجهات وقد استكملوا احتلال بساتين النخيل المحيطة.
« العِجل السامريّ » يتطلّع إلى أوثان « غطفان ».. « التِّبر » يستنجد « الحجر » « العجل » يطلق خواراً عالياً.. و « الأوثان » حجارة صمّاء لا تفقه شيئاً ممّا يدور. طلع الفجر، وأخرجت الأفاعي رؤوسها، صرخ أحدُهم مأخذواً بهول المفاجأة:
ـ محمّد والخميس!
كان اسم « محمد » يخلع قلوبهم.. لا يتحملون سماع هذا الاسم.. كما كانوا يتميزون غيظاً لدى ذكر « جبريل »! لو كان غير جبريل يحمل رسالة السماء إلى ابن مكّة لكان لهم موقف آخر...
قال النبيّ مستبشراً وهو يراقب ذُعرَ الأفاعي:
ـ الله أكبر! خربت خيبر.. إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذَرين.
الصحراء تراقب معركة وشيكة.. معركة مدمّرة سيكون لها شأن.
ووقف التاريخ يصغي إلى ما يدور بصمت:
اجتاح المسلمون المناطق المشجّرة ما بين الحصون... ووقفت جدران « النطاة » و « الصعب » و « ناعم » و « الشق » و « القَموص » و « الوَطيح » و « سلالم » ثابتة في وجه الهجوم، ودار قتال رهيب في الشوارع.
سقط خمسون جريحاً من المسلمين.. صمد اليهود قاتلوا بضراوة.. على خيبر ألاّ تسقط... لأن سقوطها يعني أن يعود السامريّ إلى التِّيه مرّة أخرى.. سوف يشدّ عباءته ويرحل إلى سيناء ينقب في آثار القوافل المسافرة لعلّه يعثر على أثر « الرسول » فيأخذ قبضة أخرى!
استُشهد محمّد بن مَسلمة؛ ترصّده يهودي من فوق الحصن ثم دفع عليه الرحى فسقطت عليه.
الحصون منيعة واقفة كالجبال... والأمل قطرات من ندى تبخرت لدى شروق الشمس، و « السامريّ » ينظر باستعلاء وشماتة إلى نبيّ العرب.
نشر الظلام ستائره... واشتعلت مواقد في قلب الليل... والنسائم تداعب سعفات النخيل.. والأفاعي تُخرج رؤوسها تحاول أن تصغي لما يدور حول المواقد.
أطرق أبو بكر برأسه وتمتم آسفاً:
ـ حصون مستعصية منيعة واليهود مسلّحون بسلاح حسن... و « القَموص » حصن لا يُفتح.. أرأيتم الخندق حوله ؟! أرجو ألاّ يكون رسول الله غاضباً مني.
أجاب عمر:
ـ ليس الذنب ذنبك يا صاحبي.. أنا أيضاً لم أستطع أن أفعل شيئاً، لقد قضيت النهار كلّه نهجم ويهجمون، ولكنّ إخوان القِرَدة يخرجون الينا من خلف الأشجار كالشياطين!
علّق « أبو عبيدة »:
ـ أسمعتم ما قال رسول الله ؟
ـ وهل يُنسى قوله ؟!
ـ كلماته ما تزال ترنّ في أُدني: لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه.
ـ تُرى مَن سيكون صاحب الراية ؟!
ـ الأمر واضح.. إنّه عليّ.
ـ ولكن عليّاً أرمد!!
ـ ربما سلّم الراية إليّ.
ـ ماذا تقول يا أبا حفص ؟
ـ في الصباح يَعرِف القومُ السُّرى!
كانت النجوم تومض من بعيد.. نام البعض وظلّ البعض ساهراً يحلم براية حب أزلية.
ونام أبو حفص بعد أن عزم على أن يكون غداً أقرب الناس إلى النبيّ؛ علّه يسلّمه الراية التي أصبحت حلمه تلك الليلة.
سقوط خيبر
طلع الفجر وتنفّس الصباح... وزقزقت العصافير في أعشاشها.. واستيقظت الكائنات لتبدأ يوماً جديداً...
رماد الفجر يتبدد شيئاً فشيئاً.. وزرقة السماء الفيروزية تصبح شفّافة رائعة، وقد بزغت الشمس.. تألّقت خلف ذرى النخيل.
بَدَت الحصون ذلك الصباح كابوساً يجثم فوق الصدور. صخرة تحطّمت فوقها المعاول.
تحلّق المسلمون حول النبيّ.. يتطلّعون إلى رجل يحبّ اللهَ ورسولَه ويحبّه اللهُ ورسولُه...
وهتف النبيّ:
ـ أين عليّ ؟
وتقدّم فتى في الثلاثين أو يزيد، فاستلم راية العُقاب وراح يصغي إلى صوتٍ سماوي:
ـ انفذ على رَسلِك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعُهم إلى الإسلام، فإن لم يستجيبوا فقاتِلْهُم.. انطلِق فتَحَ الله عليك.
كان على عليّ أن يقود نفس القوّة التي هُزِمت مرّتين... فقد عادت مرّة تلوم أبا بكر وأبو بكر يلومها.. وعادت تحت راية عمر تُجبّنها ويُجبّنه...
هَروَل عليّ ليبثّ الحماس في جنوده، فبدا بحلّته الأرجوانية جمرةً متألّقة... وعندما صار قريباً من « القموص » نزع درعه ليكون أكثر قدرةً على الحركة، وأمر جنوده أن يفعلوا ذلك.
رفض اليهود ساخرين دعوةَ الإسلام ونداء السلام. وكان خيار الحرب هو الطريق لإحراق العِجْل.
كان منظر عليّ بلا درع قد حرّك شهوةَ الغدر والانتقام في نفوسهم... فراح شجعانهم يخرجون مُدجَّجين بالسلاح.. وكانوا يتساقطون الواحدَ تلو الآخر عند قدمَيه.
الذين كانوا يراقبون الصراع.. أدركوا أن هناك سرّاً في انتصار عليّ.. رأوا بأُمّ أعينهم كيف هُزِم الحديد أمام قلب المؤمن..
وهبط « مَرحَب » درجاتِ الحصن.. كتلةً هائلة من الحديد والبأس.. في قبضته حربة ذات ثلاثة رؤوس كأفعى أسطورية.. تقدّم « مرحب » ينقل خطاه المثقلة بالزَّرَد والحديد.. ليس هناك في كلّ جسده الفارع ثغرة يمكن للسيف أن ينفذ فيها.
وتوّقع المسلمون واليهود.. توقعوا جميعاً نهايةَ عليّ! تقدّمت كتلة الحديد.. ووجّه مرحب حربته برؤوسها الثلاثة.. وكادت أن تنفذ في صدر عليّ.
ارتدّ عليّ إلى الوراء ثم قفز في الهواء ليهوي بضربةٍ هائلة أودعها غضبَ السماء... تحطّم الحديد. مرّت لحظةُ صمت قبل أن ترتطم كتلةٌ هائلة بالأرض مُحدِثةً دَويّاً تنخلع له القلوب المذعورة. وقد قَتلَ داودُ جالوت، واندفع عليّ بعد أن حطّم الغرورَ اليهودي إلى باب الحصن... لينتزعه وسط دهشة الجميع، وأصبح جسراً فوق الخندق يتدفّق عبره المهاجمون.. وسرعان ما سقط « القموص » و « الوطيح » و « السلالم » وسقطت خيبر كلّها...
اطلق العِجلُ صرخةَ استغاثةٍ قبل أن يحترق.. وتذرو الريح رماده في الصحراء، وكان السامريّون قد أقسموا، قالوا:
ـ لن نَبَرحَ عليه عاكِفين حتّى يرَجِعَ إلينا موسى.
وقال لهم الله: كونوا قِردةً خاسئين.
طارت الفرحة للنبيّ فراشةً تُرفرف... عليّ يصنع الفرحَ لمحمّد... وها هو أخوه جعفر يعود من أرض الحبشة.. عاد يَمخَر البحرَ الأحمر ويطوي رمال الصحارى ومعه الذين آمنوا.. الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلاّ أن قالوا: ربُّنا الله.
وعانق النبيُّ أخاً لعليّ وابناً لحامي آخِرِ النبوّات في التاريخ، هتف النبيّ وينابيعُ الفرح تتدفق من عينيه:
ـ ما أدري بأيّهما أشدّ سرورا: بِقُدوم جعفر، أم بفتح خيبر ؟!
وقال أبو حفص لما رأى أسماء:
ـ هذه البحرية! هذه الحبشية!
والتفت إليها قائلاً:
ـ لقد سبقناكم في الهجرة.. فنحن أحقّ برسول الله منكم!
بركان غضب ينفجر في أعماق امرأة هاجرت مرّتين.. أعلنت إضرابها عن الطعام حتى ترى رسول السماء..
ـ يا رسولَ الله، إن ابن الخطاب يقول: نحن أحقّ برسول الله سبقناكم بالهجرة!
قال النبيّ:
ـ فما كان جوابك له ؟
قالت أسماء:
ـ قلت له: كلاّ والله، كنتم مع رسول الله يُطعِم جائعكم ويَعظُ جاهلكم.. وكنّا في أرض البغضاء بالحبشة.
ـ أجل والله.. إنه ليس بأحقَّ بي منكم.. له ولأصحابه هجرة ولكم أهل السفينة هجرتان.
غادرت الأفاعي جحورها مُحطمَّةَ الأنياب.. وعاد السلام يرفرف فوق الأرض... وشدّ السامري الرحال.. التفّ بعباءته مُيمّماً وجهه نحو أرض التيه.
مادَت « فدك » بأهلها... لقد جاء « محمّد » تحمله الملائكة.. تخفق فوق رأسه أجنحة جبريل.
وجاء رجل من تلك النواحي يسعى:
ـ يا محمّد، لكم الأرض.. ولنا السلام.
ـ ولكن نصف ثمار الأرض.. والسلام.
ولما قال الله: وآتِ ذا القُربى حقّه .
أعلن النبيّ:
ـ إنّ فَدَكاً لفاطمة.
ومن ذلك اليوم أضحت « فدك » رمزاً لانتصار الإنسان على نفسه.. هزيمة « الأسخَريوطي » واحتراق « العِجل ».
وستبقى فدكٌ رمزاً للأمانة التي أبَت السماوات والأرض أن يحملنها وحملها الإنسان.
وكانت فدك رمزاً لخلافة الإنسان على الأرض.
ستكبر « فدك » وسيكون لها وجود في الجغرافية وفي التاريخ..
سوف تستوعب عدن، وسمرقند، وأفريقيا، وسِيف البحر مما يلي الجُزر، وأرمينا.. وسوف تكبر لتشمل التاريخ البشري بأسره.
لقد وهب الله مريم كلمته في المسيح، وأعطى فاطمة فدكاً.
وأراد اليهود بعيسى كيداً.. وأرادوا أن يصلبوه فرفعه الله إليه.
وفدك ماذا سيحلّ بها يا ترى... كيف سيتصرف « الوثن » العربي القابع في الأعماق المظلمة ؟!
لوجه الله
حان وقت الوفاء بالنَّذْر.. فلقد نهض الحَسَان من فراش المرض.. وعادت إلى وجهيهما دماء العافية، السماء تنتظر نذراً نذره الإنسان.. نذراً يقدّمه إلى نفسه ليكون من عوالم مغمورة بالنور، لا شيء في منزل فاطمة.
انطلق علي إلى « شمعون » رجل من خيبر؛ رجل شَهِد انهيارَ حصون مليئة بالسلاح.. بالذهب.. بالذكاء أمام رجل لا يملك سوى سيف وقلب تنطوي في حناياه النجوم.
وها هو اليوم يأتي يطلب شيئاً عجيباً. إنّه يريد قَرضاً.. ثلاثة أصواع من شعير.. الرجل الذي اقتلع باب « القموص » وقهر خيبر.. جاء يطلب حفنةً من شعير.. وامرأتُه بنت محمّد... تملك أرض « فدك ».
تمتم شمعون وقد هزّته المفاجأة:
ـ هذا هو الزهد الذي أخبرنا به موسى بن عمران في التوراة!
طحنت فاطمة صاعاً.. الرحى تدور، و « فضّة » فتاة تعيش في منزل فاطمة.. تجمع الدقيق.. صار الدقيق عجيناً.. ثم خمسة أقراص لكل صائم قرص شعير.
النجم المَهيب يهوي باتجاه المغيب.. يرسل أشعة الوداع، يعلن عن نهاية يوم من حياة الإنسان والأرض. الأسرة الصائمة تتهيأ للإفطار.. لقمة خبز تقيم أودَ الجسد الآدمي ليكمل رحلته باتجاه النور.
هتف انسان جائع:
ـ مسكين! أطعِموني أطعمكم الله.
الصائم في لحظة الافطار يدرك آلام الجوع عندما تتلوى المعدة خاويةً تبحث عن شيء تمضعه.. وإلاّ مضَغَت نفسَها.
قدّم الصائمون خبزهم.. وأفطروا على الماء.. واستأنفوا رحلةَ الجوع.. والجوع زاد المسافر في ملكوت السماء... حيث تلالُ النور وبحيراتٌ تزخر بالنجوم... الجوع يُلجم الشيطانَ القابع في الظلمات... يسحقه فإذا هو خائر كثورٍ محطّم القرون.
ومرّ يوم آخر والصائمون في رحلة إلى السفر في ينابيع الحبّ الأزلي... وكلّ شيء آيل إلى الزوال إلاّ الحبّ... والحبّ نداء الله إلى النفوس البيضاء.
ومرّ يتيم... يالوعة اليُتم في ساعة الغروب. الكائنات تعود إلى أوكارها والطيور إلى أعشاشها والأطفال إلى أحضان زاخرة بالدفء.
وفي ساعة الغروب تتجمع الدموع في عيون اليتامى كسماوات مشحونة بالمطر... يتجمّع البكاء في القلب.. والمرارة في النفس.. فكيف إذا اجتمعت مع الجوع... وهل تتحمل نفوس الأطفال البرد والجوع ؟!
نادى اليتيم في لحظة الغروب الحزين:
ـ أطعِموني ممّا أطعمكم الله.
هناك في أعماق النفوس البيضاء كنوز من اللذّة أين منها لذائذ البطن... فكيف مع نفوس برَاها الجوع والنذر حتّى عادت شفافةً كالضياء ساطعة كالنور...
لبّى الصائمون نداء اليتيم.. فباتوا ليلتهم يَطوون رحلةً مضنية تكاد تمزّق الجسد وتُحيله إلى حطام.. حيث يشهد عالم الإنسان اللانهائي انتصارَ الملائكة وهزيمةَ الشيطان.. إلى الأبد.
السماء تراقب نفوساً في الأرض تطوي مسافات الجوع وفاءً لنذرها.
وفي اليوم الثالث مرّ أسير ينشد لقمة خبز أو تُمَيرات.
الأجساد ترتعش أمام أمواج الجوع.. العيون غائمة... والوجود يغمره ضباب ودخان، ورياحين النبوّات تهتزّ.. تذبل أو تكاد، والنفوس تشتدّ نصوعاً والورود تضوّعاً.
فاطمة تزداد نحولاً.. غارت عيناها.. وصوتها زاد وهناً على وهن وهي قائمة تصلّي في المحراب...
وفي منزل آخر الأنبياء هبط جبريل يحمل هديةَ السماء سورة الإنسان.. وإنها:
بسم الله الرحمن الرحيم.
هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً.
إنّا خَلَقنا الإنسانَ من نَطفةٍ أمشاجٍ نَبتليه فجَعلناه سميعاً بصيراً.
إنّا هَدَيناهُ السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.
انّا أعتَدْنا للكافرين سلاسلَ وأغلالاً وسعيراً.
إنّ الأبرار يشربون من كأسٍ كان مزاجها كافوراً.
عيناً يشربُ بها عبادُ الله يُفجّرونها تفجيراً.
يُوفُون بالنَّذْرِ ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً.
ويُطعمون الطعامَ على حبّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
إنّما نطعمُكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شُكوراً.
إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عبوساً قَمطريراً.
فوقاهمُ اللهُ شرّ ذلك اليومِ ولَقّاهم نضرةً وسروراً.
وجزاهم بما صبروا جنّةً وحريراً...
إنّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيُكم مشكوراً .
ورأت فاطمة في تلك الليلة ما لا عينٌ رأت، وسمعت ما لا أذن سمعت ولم يخطر على قلب بشر.
رأت أشجاراً خضراء خضراء مدّت عروقها في كُثبان من المسك، وكانت الأنهار الصافية المتألقة تتكسّر امواجها عند جذوع الأشجار.. ونسائم تمرّ تلامس الأغصان فتصطفق الأوراق بصوت حالم.. وقد بدت نفائس اللؤلؤ الرطب في ذرى الأغصان... وتبدّت الثمار في غلف الأكمام... وقصور الزبرجد متناثرة هنا وهناك كالأحجار الملوّنة. ينابيع السلسبيل تتدفق... وأطفال كاللؤلؤ يحملون كؤووس الفضة ملأى بالعسل المصفّى... يتألّقون في الظلال وفي الضياء... في ربيع دائم.. لا فيه شمس ولا زمهرير.
سادة القصور يرتدون ثياباً من سندس خُضر ومن إستبرق.. في أيديهم كؤوس طافحة يستمتعون باحتساء شراب الزَّنجَبيل. الوجوه طافحة بالسعادة الأبدية.. وجوهٌ نَضِرة.. نَحَتها النسيمُ الربيعي المُشبَع بشذى الورود والأزهار الخالدة.
رأت فاطمة كلّ ذلك. ساحت بين تلال المسك وقصور الزبرجد.. غرقت في بحيرات السعادة...
كادت تذوب شوقاً إلى الله.. وما أحلى أن يجاور الإنسان مبدأ الإنسان، وقد تحرّر تماماً من ويلات الأرض.
المباهلة.. والغدير
مضى التاريخ يجوس خلال الرمال.. ينظر بدهشة إلى أرض أرادها الله أن تكون نِحلةً لبنت رسوله، مضى التاريخ يجوس خلال الرمال.. ثلاث سنين سويّاً يشعل الحوادث هنا وهناك...
وقعت « مُؤْتة » وقد قُتِل « جعفر ».. قُطِعت يداه، فأبدله الله جناحَين يطير بهما في الجنّة.
فُتحت مكّة.. تهاوت الأصنام والأوثان صارت أنقاضاً.. وقد دخل حفيد إبراهيم المعبدَ يحطّم بفأس جدّه وجوه الآلهة... وعادت حمائم السلام إلى وادٍ غير ذي زرع.
وتوقّف التاريخ في وادي حُنَين... يوم أعجبت المسلمين كثرتُهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً، ثم أنزل الله سَكِينته على رسوله وعلى المؤمنين.
دارت رَحى فاطمة ودار الزمن دورته.. ومرّ عام فإذا رسول الله يتحدّى دولة الروم وجيوش هِرَقْل.
القبائل العربية ترسل وفودها إلى المدينة وقد فاءت إلى دين الله.. ورأى الناس وهم يدخلون في دين الله أفواجاً.
وقد أسلم كعب فأعطاه نبي الله « البُردة »، وأسلم باذان بن ساسان في اليمن.
وجاء جبريل يحمل سورة « براءة »، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريءٌ من المشركين ورسولُه.
ودوّت كلمات عليّ في الكعبة وما حولها:
ـ لا يدخل المسجد كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ثمّ فَرَضت السماء الزكاة حتّى لا تكون الأرض دُولةً بين الأثرياء.. ويضيع الفقراء.
وبنى المنافقون مسجداً هو مسجدُ ضِرار.. وإن المساجد لله... وما كان لله يبقى... وما كان لغير الله يذهب هباءً منثوراً...
أرسل النبيّ من يشعل النار في مسجد لم يؤسَّس على التقوى، فالتهمته ألسنة النار وولّى المنافقون الأدبار.. ولاذوا بالفرار.. وذرّت الريح « ضِراراً ».. رماداً وغباراً.
ودارت رحى فاطمة ودار عام.. وجاء وفد من نصارى نجران.. جاء يجادل في طبيعة المسيح وفي مريم، جاءوا يقولون إنّ عيسى ابنُ الله! وقد قال الله:
ـ إنّ مَثَل عيسى عند الله كمَثَلِ آدمَ خَلقَه من ترابٍ ثمّ قال له كُن فيكون..
ـ مِن تراب ؟!!
ـ كلمته ألقاها إلى مريم.
ـ بل ابن الله!
ـ يا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نَعبُدَ إلاّ اللهَ ولا نُشرِكَ به شيئاً ولا يَتَّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً مِن دون الله.
ـ لا نَدَع الربّ يسوع وقد صُلب من أجلنا؛ من أجل الإنسان الخاطئ!
ـ تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءكم ونساءَنا ونساءكم وأنفُسَنا وأنفسكم ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ الله على الكاذبين.
كان « العاقب » يراقب موكباً عجيباً... رجل يحمل في روحه ملامح المسيح.. يمسك بيده اليمنى صبيّاً في السابعة وفي اليسرى صبياً في السادسة ومعه شابّ يكاد أن يكون له ظلاًّ، وخلفهم فتاة تشبه مريم.
نصارى نجران في حَيرة.. ورأى العاقب في السماء دُخاناً... وتلك الوجوه الخمسة تتألّق في الضوء... والفضاء مشحون بالغضب، واللعنة قاب قوسين أو أدنى...
تأثرت القلوب ودمعت العيون خشيةً لله..
ومدّ العاقب إلى النبيّ يدَ السلام، فقال النبيّ:
ـ لنجرانَ جوارُ الله وذمّة محمّد رسول الله.
وعاد أهل نجران إلى ديارهم...
وتمرّ الأيّام.. وينطلق رسول السماء إلى حجّ بيت الله... واختارت السماء « غدير خمّ » في طريق العودة وهبط جبريل:
ـ يا أيّها الرسولُ بلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ من ربِّكَ وإنْ لَم تَفعلْ فما بلّغتَ رسالته.
ـ والناس ؟
ـ والله يعصمك من الناس.
الرمال تشتعل لهيباً لا يطاق.
وتوقّف النبيّ فتوقف معه مئة ألف أو يزيدون، وعلامات استفهام ترتسم على الوجوه، وتوقّف التاريخ يصغي لما يقول آخر الأنبياء:
ـ ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
ـ بلى يا رسول الله.
ـ مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه... أيّها الناس، ستَرِدون علَيَّ الحوضَ وأنا سائلكم عن الثقلين.
ـ وما الثقلان يا نبيّ الله ؟
ـ كتابُ الله، وعترتي أهل بيتي.
ومضى التاريخ لا يلوي على شيء... وعادت قوافل الحج الأكبر تستأنف رحلة العودة إلى الديار وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، وهبط جبريل يتلو على الرسول آخر آيات السماء..
ـ اليومَ أكملتُ لكم دِينَكُم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِيناً.
وشَعر النبي أن مهمته في الأرض قد انتهت وآن له أن يستريح، ولكن...
رحيل السلام
كانت فاطمة تقرأ القرآن.. في يدها مصحف.. فجأة سقط المصحف على الأرض... ثم حلّق في السماء يخترق الغيوم.. ويتيه بين النجوم.. ورأت فاطمة نفسها تطير وراءه.. تريد اللحاق...
وكان القرآن ينادي:
ـ هلمّي إليَّ هلمّي إلى السماء.
ونظرت فاطمة وراءها فرأت الأرض زيتونةً مشحونة بالبرق وبالرعود.
هبّت فاطمة من نومها...
قالت لأبيها:
ـ يا أبتي، إني رأيت قرآناً يسقط من يدي.
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ يا فاطمة.. يُوشِك أن أُدعى فأُجيب.. وقد عرَضَ علَيَّ جبريل القرآن في هذا العام مرّتين.
تجمّعت في عينيها الدموع... ضرب الحزن أطنابه في القلب الكسير...
قال الأب ليسرّي عن ابنته:
ـ لا تحزني.. أنتِ أول أهل بيتي لُحوقاً بي.
أشرقت شمسُ الأمل.. وجدت لها طريقاً خلال الغيوم فعادت البسمة تموج فوق وجه أزهر.. وجه يتألّق بنور الله، والله نور السماوات والأرض.
وتمرّ الأيّام متوجسة والأرض تفتقد جبريل.
سقط رسول السماء مريضاً فوق الأرض.. عصفت به الحمى.. عجز الماء عن اطفائها... وشعر الرجل السماويّ بأنّ الأُفق مشحون بالمؤامرة، وان هناك عيوناً تبرق في الظلام تريد الاستحواذ على أمانة.. تهيّبت حملَها السماوات والأرض.
هناك في الخفاء وبعيداً عن العيون كانت العنكبوت تنسج شبكة مخيفة. وكانت هناك فراشة قادمة... تحلم بالربيع دفعتها ريح صفراء فهي توشك ان تسقط في بيت هو أهون البيوت.
في الليل والناسُ نيام.. حطّم الشيطان أغلاله وذرّ قرنيه يريد الفتنة..
كان الجوّ مكفهراً.. وقد ادلهمت السماء.. وسكون مهيب يجثم فوق المدينة.. والقلق عاصفة مدمّرة تهزّ القلوب تريد اجتثاث الطمأنينة منذ بيعة « العقبة » و « بيعة الرضوان »، كانت القلوب خائفة وهي تنطوي على شيء يوشك أن تفقده... السلام.. كان محمّد سلاماً في الأرض.. والأرض توشك أن تفقد هذا السلام...
ورسول الله يغلي بالحمّى...، وأفواه القِرَب تريد إطفاء الجمر، حتّى إذا هدأت الحمى وانتظمت انفاس النبيّ.. أرسل وراء أصحابه وقد شمّ في الفضاء رائحة غريبة..
طفحت الفرحة فوق الوجوه وهي تنظر إلى النبي هادئاً قد فارقته الحمّى، قال الرسول وهو يريد تمزيق شباك العنكبوت:
ـ ألم آمركم أن تُنفِذوا جيش أُسامة!
تمتم بعض الصحابة:
ـ بلى يا رسول الله.
ـ لِمَ تأخّرتم عن أمري ؟
قال أبو بكر مبرّراً:
ـ إني خرجت إلى ( الجُرف ) ثم رجعت لأُجدّد بك عهداً!
وعلّق عمر:
ـ وأنا لم أخرج.. لا أُريد أن أسأل عنك القوافل!
العنكبوت منهمكة في مدّ الخيوط لاصطياد فراشة الربيع، والنبيّ يحاول تمزيقها:
ـ أنفِذوا جيش أسامة.. لعن الله مَن تخلّف عن جيش أسامة.
تسارعت أنفاس الرسول وكان قلبه يخفق بشدّة وقد عاودته الحمّى.
وبكت النسوة... وكادت فاطمة أن تموت.
أفاق النبيّ من غيبوبته وقد شعر بالخيوط الواهنة تسدّ الطريق على فراشة الربيع، فحاول للمرّة الأخيرة:
ـ إئتوني بدواة وصحيفة؛ لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً.
هبّ صحابي ينشد الهداية.. ولكن العنكبوت كانت قد سدّت الطريق أمام فراشة النور.
قال عمر آمراً:
ـ ارجع؛ لقد غلب الوجعُ رسولَ الله... إنه لَيهجُر، وحَسْبُنا كتاب الله!
رمق أبو بكر صاحبه بنظرات ذات معنى.
وقال الذي نهض:
ـ هل أحضر لك الدواة يا نبيّ الله ؟
قال النبيّ بحزن:
ـ أبعدَ الذي قاله عمر!
واحتجّت النسوة من وراء حجاب.. وكان صوت أمّ سَلَمة واضحاً:
ـ إئتوا رسول الله حاجتَه.
هتف عمر بعصبية:
ـ اسُكتن؛َ فانّكننّ صَواحب يوسف.. إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه!
نظر النبي إلي أبي حفص وتمتم:
ـ هنّ خيرٌ منكم.
وبكى أحد الصحابة، وقد شعر بهبوب العاصفة... وتفرّق من كان حاضراً.. ولم يبقَ مع النبيّ إلاّ شاب لا يفارقه مذ أطلّ على الدنيا، وها هو اليوم الموعود.. يوم تعود فيه النفس إلى بارئها راضية مرضية..
اليوم هو يوم الاثنين.. و « صَفَر » لا يريد الانطواء إلاّ بعد أن يشهد رحيل السلام..
كان عليّ يعتنق الرجل الذي ربّاه صغيراً وعلّمه كبيراً وفتح له أبواب الملكوت.. والنبيّ يشدّ على يد فتى اشترى روحه لله والرسول.. الله وحده الذي يراقب الأعماق..
كان عليّ مهموماً.. ودّ لو يقيه بروحه.. الحياة مريرة دون محمّد. وما أحلى الموت معه أو دونه!
نهضت « فاطمة » تجرجر نفسها بعناء وتبعها السبطان.. فإنّ للنبيّ والوصي ساعةً من وداع بعد رحلة دامت ثلاثاً وعشرين سنة..
لحظات كالقرون المتمادية والنبيّ ينوء بنفسه، يصغي إلى ملائكة الرحمان، ولكن أهل الأرض عن السمع لمحجوبون.. لم يسمعوا شيئاً سوى كلمات هي آخر ما حفظته الأرض من رسول السماء:
ـ بل الرفيق الأعلى..
وانطلق « محمّد » نحو الله يعبر السماوات مخلّفاً جسده بين ذراعي عليّ.. وقد هبّت العاصفة، وحطّم الشيطان أغلاله فراح يوقظ الأوثان العربية.
أوّل الوهن
المدينة هائجة وقد زُلزِلتِ الأرضُ زِلزالَها.. فالقلب الذي كان ينبض حبّاً للفقراء والمحرومين قد توقّف إلى الأبد... وانقطع ذلك الحبل الممدود الذي يربط السماء بالأرض.. واختفت ظلال جبريل وبدا المسجد خاوياً على عروشه..
العيون تبكي والحناجر تَشرُق بالعبرات. ليت السماء أُطبِقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
هل رأيتَ قطيعاً من الماشية سقَطَ راعيها فراعَها خوفٌ من ذئب قد يشدّ عليها.. فهي تجري في كلّ اتجاه تبحث عمّن يَهبها الطمأنينة حتّى لو كان وهماً ؟!
وهل رأيت غريقاً في بحرٍ هائج يتشبث بكلّ شيء غير الماء.. حتّى لو كان قشّة لا شأن لها ؟!
هكذا كانت المدينة ذلك النهار العاصف، كان أبو حفص زائغ العينين يبحث عن صاحبه يترقّب حضوره بين اللحظة والأخرى... همس في نفسه حانقاً:
ـ ما كان على أبي عائشة أن يذهب إلى « السُّنْح » في هذه الأيام...
كان منظر « عمر » مخيفاً بطوله الفارع وعينيه المتوقدتين، وزادت نظراته الغاضبة هيبته في النفوس فتنحَّوا عن طريقه وهو يدخل منزل النبيّ.
كشف عمر عن وجه النبيّ وتمتم بصرامة:
ـ لقد أُغمي على رسول الله.
قال أحد الحاضرين مستنكراً:
ـ قد مات رسول الله.
أجاب عمر بغضب:
ـ كذبت ما مات، ولقد ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران.
غادر عمر المنزل هائجاً، ووقف وسط الجماهير وهو يلوّح بسيفه:
ـ إن رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول الله قد مات، وإنّه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. واللهِ لَيرجعنّ رسولُ الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجفَ بموتة.
وجد القطيع الممزّق شبحاً لراعٍ، فالتفَّتْ حوله تلتمس الأمن، ووجد الغرقى قشّاً فراحوا يتشبثون.
وعندما يفقد الإنسان الأمل فانّه قد يعمد إلى وَهْمٍ يَهَبُه شكلَ الحقيقة في لحظة يأس مريرة..
تحلّق الناس حول رجل يبرق ويرعد ويهدّد من يقول بموت الرسول... وما أجمل ما يقوله « عمر »: إنّ محمّد لم يمت ولا يموت حتّى يظهر دينه على الدين كلّه.. لله دَرُّك يابن الخطَّاب.
كان المغيرة ينظر إلى أبي حفص يفكّر في لغزٍ استعصى حلّه عليه.. ارتسمت علامة استفهام كبيرة ما تزال حتّى اليوم وربّما إلى يوم الدين.
مِن بعيدٍ لاحَ أبو عائشة يحثّ الخطى.. ولعلّ « المُغيرة » قد لاحظ شيئاً.. فقد بدا الرجل الذي كان يهدّد ويتوعد مَن حوله بالويل والثبور يخفّف من حدّته.. وانحسرت تلك الزوبعة المدمّرة ليحلّ مكانها سكون رهيب.
هتف أبو بكر من بعيد:
ـ على رَسلِك أيّها الحالف.
ثم التفَتَ إلى الأمّة المدهوشة:
ـ أيّها الناس، من كان يعبد محمّداً فانّ محمّداً قد مات، ومَن كان يعبد الله فانّ الله حيٌّ لا يموت.. وما محمّد إلاّ رسول قد خَلَت من قبله الرُّسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً.
تنفّس أبو حفص الصُّعَداء وهو يرنو إلى صاحبه الذي حضر في الوقت المناسب...
كان المغيرة ما يزال يراقب أبا حفص وهو يكاد يُصعَق.. لقد انتهت الثورة.. فجأة هدأت العاصفة.. استسلمت عند قدمَي أبي عائشة..
وقف عمر إلى جانب صاحبه وانضمّ اليهما رجل ثالث هو « ابن الجرّاح »، وتبادل الثلاثة نظرات هي أبجدية كاملة.. ربّما كانوا يفكّرون للمستقبل ليومين أو ثلاثة أو ربما للتاريخ كلّه.
إن كلّ التحولات الاجتماعية الكبرى إنما تولد في الضمائر قبل أن تجد طريقها إلى الواقع.. إنّها موجودة في دائرة القوّة حتّى يأتي من يخرجها إلى دائرة الفعل.. وكان في ضمائر جلّة المهاجرين وقريش قاطبة ألاّ تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم... وقد قرأ رجال ما يجول في الخواطر ليخرجوا ما استتر في الضمائر، ولم يقدر النبيّ على هزيمته يوم هزم الأوثان العربية.
النبيّ الذي جاب الصحراء ينشر فيها النور والحياة هو الآن جثّمان هادئ.. وتوقّف القلب الذي ينبض بالحبّ.. القلب الذي سَحَر كلّ القلوب فتآلفت. ومذ توقّف هذا القلب انفرط عقد القلوب جميعاً كما التيار الكهربائي إذا انقطع انطفأت المصابيح وعاد الظلام فلا تسمع سوى أصوات بومة تصيح:
ـ هوو.. هوو.... هوو..
تبشّر بزمن الخرائب والاطلال. ياله من صباح مظلم كئيب.. احترقت شمسه وانتحر ضياؤه.. عيون غارقة في بحيرات الدمع وعيون تترصد بحذر بيتاً فيه جسدٌ مسجى وقلوب كسيرة ورياحين ذابلة وشموع منطفئة..
وهناك وبعيداً عن كلّ العيون اجتمع رجال من « الأوس » برجال من « الخزرج » يتشاورون في رجل « مُزمّل » وقد أوجسوا خِيفة من غدر قريش.
« السقيفة » تكتظ برجال نصروا الرسول وآزروه يوم كان شَريداً، وقهروا به الذين شرّدوه عن دياره بغير حقّ.
طافت خيالات « بُعاث » في فضاء السقيفة، نشرت ظلالها سوداءَ كالحة.. نكأت جروحاً ضمّدها رسول السماء فاندملت.. إلى حين.
قال سعد وكان دَنِفاً:
ـ يا معشر الأنصار، إن لكم سابقة في الدين وفضيلة ليست لقبيلة من العرب.. فلا تَدَعوهم يغلبوكم على أمركم.
قال زيد مؤيِّداً:
ـ وُفِّقتَ في الرأي وأصبْتَ في القول. ولن تَعدو ما أمرت، نولّيك هذا الأمر، فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضى.
قال « ابن حضير »:
ـ ولكنهم عشيرة النبيّ وهُم أولى به من غيرهم.
أجاب ابن المنذر مستدركاً:
ـ إذن نقول لهم: منّا أمير، ومنكم أمير.
هتف سعد غاضباً:
ـ هذا أوّل الوَهن.
وتمتم ابن الأرقم متأسفاً بصوت لم يسمعه أحد:
ـ لك الله يا عليّ... إن الملأ يأتمرون بك ليـ...
وانسلّ من بين الجمع شَبَحان راحا يحثّان الخطى وقد انبعثت في الأعماق أصداء معركة قديمة في يوم من أيام العرب.
قال عويم يحثّ صاحبه:
ـ اسرِعْ يا معن قبل أن تُعقدَ لسعد!
نحو السقيفة
بدا « أبو عائشة » متردّداً يُقدِم ويُحجِم.. كرجلٍ تاهت به السبل.. يَزِن الأُمور بوقارِ تاجرٍ قديم، قال في نفسه: ليقنع بنو هاشم بالنبوّة ولْيَدَعو الخلافة لبطون قريش. ولكن ماذا يفعل ووصايا النبيّ في الصدور وفي القلوب!
أبو بكر غارق في تأمّلاته.. وكان صاحبه يختلس إليه النظرات... نظرات مصممة قويّة ثاقبة لا يعرفها سوى « الجرّاح ».. وبدا أبو حفص في تلك اللحظات قويّاً كالعاصفة جبّاراً كالسيل وقد اشتعلت في أعماقه كلمات قالها يهودي ذات يوم:
ـ أنت مَلِك العرب.
كان عمر غارقاً في هواجسه عندما وصل « عُويم » و « معن ».
هتف « أبو حفص »:
ـ ماذا ؟!!
لم يكن هناك وقت.. فالفرص تمرّ مرّ السحاب، وانطلق ثلاثة رجال.. لو رأيته من بعيد لأدركتَ أيّة طامة وقعت لهم أو عليهم... كانوا يسرعون الخُطى.. والرسولُ ما يزال مسجّى في فراشه... يتحدّث بلغة الصمت.. لغة عجيبة لا تفهمها سوى أُذنٌ واعية.
رجال من الأوس ورجال من الخزرج يأتمرون قد أوجسوا خِيفة.. ورجال من قريش يحثّون الخطى إلى سقيفة لبني ساعِدة، والنبيّ يدعوهم بلغة الصمت..
« الغنائم » تلوح من بعيد شهيّةً يسيل لها اللُّعاب وقد ترك « الرُّماة » مواقعهم.. في « عينين » والرسول يدعوهم.
اقتحم الثلاثة « السقيفة »، وبدت الوجوه مخطوفةَ اللون شاحبة قد عراها اصفرار. لقد انتقض الغزل وهو في أيديهم.. كان أبو حفص على وشك أن يثور لولا أبو بكر:
ـ مهلاً يا عمر، الرفق هنا أبلغ.
وتوجّه أبو بكر إلى الأوس والخزرج بكلمات هادئة:
ـ يا معشر الأنصار، مَن يُنكر فضلَكم في الدين وسابقتكم العظيمة في الإسلام ؟! واللهُ رَضِيَكم لدِينه ورسوله أنصاراً وانتخبكم محلاًّ لهجرته، وفيكم جُلّ أزواجه وأصحابه...
ثم أردف وهو يرمي سهماً في الهدف:
ـ نحنُ الأُمراء، وأنتم الوزراء.
اعترض « الحبّاب » وقد أخفق في إخفاء وهنه:
ـ بل منّا أمير، ومنكم أمير.
انتفض عمر ليشدّد الهجوم:
ـ هيهات! لا يجتمع اثنان في قَرَن.. واللهِ لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيُّها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم ووليّ أمورهم منهم، ولنا بذلك على مَن أبى من العرب الحجّة الظاهرة والبرهان المبين...
وأردف وقد أخذه حماس المنتصر:
ـ مَن ذا ينازعنا سلطانَ محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته الاّ مُبطِل أو مُتجانف لإثم أو متورّط في هَلَكة!
ردّ الحبّاب بغضب:
ـ املِكوا أمركم يا معشر الأنصار، ولا تسمعوا مقالة هذا فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر.. فإن أبَوا فاجْلُوهم عن البلاد.. إنّا أحقّ بالأمر منهم، بأسيافنا دان العرب لهذا الدين..
وأخذته فورة حماس فراح يطلق التهديدات حُمَماً:
ـ أنا شِبلٌ في عرينة الأسد... واللهِ لا يردّ علَيّ ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف.
انبرى عمر لامتصاص العاصفة بمرونة متكلّفة:
ـ إذن يقتلك الله.
ـ بل إيّاك يقتل.
ونهض رجل من الخزرج وقد رفع راية بيضاء:
ـ إنّا أول من نصر الله ورسوله، وجاهدنا المشركين لا نبتغي من الدنيا عَرَضاً... ألاَ وإن محمّداً من قريش وقومُه أولى به وأحقّ.. فاتقوا الله يا معشر الأنصار ولا تخالفوهم.. ولا تنازعوهم.
تنفّس عمر بارتياح وهو يراقب تهاوي القِلاع..
هتف الحبّاب مخذولاً:
ـ حسدتَ ابن عمّك!!
ـ لا والله.. ولكن كرهتُ أن أُنازع قوماً حقّاً جعلَه الله لهم.
وانبرى أبو بكر لاقتطاف أولى الثمار.. أشار إلى عمر وأبي عبيدة وقال:
ـ قد رَضِيتُ لكم أحدَ هذين الرجلين، فايُّهما شئتم فبايِعوا.
وبطريقةٍ لم تَبدُ عفويةً هبّ عمر مستنكراً:
ـ معاذ الله!! أنت أفضل المهاجرين.. ابسُطْ يدك.
بسط « أبو بكر » يده وقد سقطت التفاحة في قبضته؛ ونهض رجل من الخزرج فبايع.. ورجل من الأوس.. وتهاوت القلاع والحصون.. وتمّت أول « فَلْتة » في تاريخ الإسلام.
بدا « الحباب » متشنّجاً كمَن أصابه مسّ من الجنون، فالتفتَ إليه أبو بكر مُدارياً:
ـ أتخاف منّي يا حباب ؟
ـ ليس منك، ولكن ممن يجيء بعدك.
ـ إذا كان ذلك كذلك، فالأمر إليك وإلى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة.
ـ هيهات يا أبا بكر! إذا ذهبتُ أنا وأنت جاءنا من بعدك مَن يسومنا الضيم.
وقال أبو عبيدة بلِين:
ـ يا معشر الأنصار، أنتم أُولي فضل، ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي.
أجاب زيد وقد هزّه اسم عليّ:
ـ إنّا لا نُنكر فضل من ذكرت، وإن منّا سيّد الأنصار سعد بن عبادة وإمام العلماء سعد بن معاذ وذا الشهادتين خُزيمة... وإن بين مَن ذكرت من قريش لو طَلَب الخلافة لا ينازعه أحد.
ـ مَن ؟!!
ـ عليّ بن أبي طالب.. واللهِ ما اجتمع الأنصار في السقيفة إلاّ بعد أن شمّوا رائحة غدر دُبّر بليل.
احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة
انطوى يوم الاثنين.. وقد ألقى الحزن كلاكله فوق الأرض كغراب أسطوري. فاطمة تنوء بنفسها وقد أسندت رأسها إلى صدر كان لها منبع الحنان.
كانت تصغي إلى صمت الأنبياء، وللصمت حديث تسمعه القلوب وتصغي إليه العقول، العينان اللتان كانتا نافذتَي نور قد أسدَلَتا جفونهما، واليدان اللتان كانتا مهداً هُما الآن مُسبَلَتان. الروح التي كانت تصنع التاريخ والإنسان قد رحلت بعيداً.. غادرت هذا الكوكب الزاخر بالويلات.
لقد حلّت لحظة الفراق، وتخفف الإنسان السماوي من ثوبه الأرضي ليرحل إلى عوالم حافلة بالنور، وقد سمع أهل الأرض كلمات النبيّ، كان ينظر إلى السماوات ويهتف:
ـ بل الرفيق الأعلى.
أيُّها الصامت.. صمتك أبلغ من كل أبجديات الدنيا، وسكونك المدوّي صرخةُ حقّ في عالم الأباطيل. وقد زُلزلت الأرض زلزالَها، انهار عمودُ خيمةٍ كانت تعصف بها الريح.. وتمزّق الكساء اليماني، وكان يدّثر نبيّاً هو خاتم الأنبياء ورجلاً بمنزلة هارون وامرأة هي سيدة بنات حوّاء، وسِبطَين هما آخرُ الأسباط في التاريخ.
جثا عليّ أمام جسد كانت روحه العظيمة تضيء الجزيرة، وبقايا نور في الجبين البارد تشبه شمساً جنحت للمغيب.. وهناك خلف جدران المنزل الذي جثم عليه حزن سرمدي كانت ترتفع ضجة رجال.. كريح صفراء كانت تقترب من المسجد حيث لا يفصله عن المنزل سوى جدار يكاد أن ينهدّ.
وخفّ رجل هاشمي يحمل أنباء السقيفة.. ستهب الريح عاصفة مدمّرة.. لا تُبقي ولا تَذَر. تساءل علي:
ـ ما قالت الأنصار ؟
ـ قالت: منّا أمير ومنكم أمير.
ـ فهلاّ احتججتم عليهم بأن رسول الله وصّى بأن يُحسَن إلى محسنهم ويُتجاوَز عن مسيئهم!
ـ وما في هذا من الحجّة عليهم ؟
ـ لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم.
سكت هنيهة وسأل:
ـ فماذا قالت قريش ؟
ـ قالت: إنا شجرة محمّد.
تمتم عليّ بأسى:
ـ احتجّوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة.
وقف هارون حائراً يتأمّل رمال سيناء.. يترقّب عَودةَ أخيه.. وكان موسى يَمّمَ وجهه شطر الجبل..
ـ ما أعجلك عن قومك يا موسى ؟
ـ هم أولاء على أثري وعَجِلتُ إليك ربِّ لترضى.
ـ فإنّا قد فَتنّا قومَك من بعدك وأضَلّهمُ السامريّ.
وعاد موسى غضبانَ أسِفاً يحمل معه ألواح السماء.
وكان هارون يقاوم العاصفة، وكان العِجل يَخور وسط العاكفين. قال هارون مشفقاً:
ـ إنّما فُتِنتم به وإن ربّكم الرحمن فاتّبِعوني وأطيعوا أمري.
ـ لن نبرحَ عليه عاكفينَ حتّى يعودَ إلينا موسى.
ولمّا عاد موسى ألقى الألواح وقال بغضب:
ـ بئسما خَلَفتموني مِن بعدي.
وقال هارون بحزن:
ـ إنّ القوم استضعَفوني وكادوا يقتلونني.
ولمّا سكت عن موسى الغضبُ أخذ الألواح وتمتم:
ـ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربِّهم وذلّةٌ في الحياة الدنيا.
ونظر موسى إلى السماء وقال متضرّعاً:
ـ ربِّ اغفر لي ولأخي، وأدخِلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.
والتفتَ موسى إلى السامريّ:
ـ ما خَطْبُك يا سامريّ ؟
ـ بَصُرتُ بما لم يَبصُروا به فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول فنبذتُها وكذلك سَوّلت لي نفسي.
قال موسى وهو ينبذه في قلب التِّيه:
ـ إذهَب فإنّ لك في الحياة أن تقولَ لا مِساسَ وإنّ لك موعداً لن تُخلفَه، وانظر إلى إلهِك الذي ظَلْتَ عليهِ عاكفاً لَنُحرَّقنّه ثم لَننسفنّه في اليمّ نسفاً.
وضاع السامريّ في التيه.. بين تموّجات الصحراء.. وعواء الذئاب. كان صوته يتبدد في المدى يبحث عن وطن.. والوطن لا يقبل شجراً مُجتثاً من فوق الأرض ما لَهُ من قرار.
الصحراء بعيدة.. والرجل المنبوذ يشدّ إلى جسده عباءة خرّقتها الريح وهو يطوي التيه.. يقبض قبضة من الرمال يشمّها علّه يجد فيها أثر الرسول... ولكنْ لا شيء سوى الريح، حتى إذا بلغ « فدك » من أرض الجزيرة تهالك عند جذوعها ينازع الموت وقد أيقظت العرب أوثانها.
الضرّتان
جلست حفصة قرب عائشة كما تجلس الجارية عند سيدتها أو المريد عند أستاذه يتعلّم منه أو يراقب حركاته وسكناته. ولعلّ الصداقة التي تربط بين الأبوين قد بخّرت تماماً ما تُضمره المرأة لضرّتها، وأزاحت بعيداً ذلك التنافس المرير في التفوّق، وها هي الأيام تمرّ لتوحّد بينهما، تضاعفَتْ خلواتُ عمر بأبي بكر فزادت الأواصرَ بين عائشة وحفصة...
وقد جلست المرأتان فيما يشبه الاحتفال بالنصر... أو التفكير لجولة قادمة..
كانت عائشة تغالب بالتشفي والانتقام، وها هو أبوها يحقق أول انتصار على منافسه.
منذ سنوات وأبو بكر يفعل المستحيل ليبقى في الصدارة... فهو صاحب النبيّ في الغار وهو الملازم له في العريش... ولكن ماذا يفعل وعليّ السبّاق في كل شيء.. ماذا تتذكر عائشة.. « خيبر » « ذات السلاسل ».. سورة براءة...
لَشدّ ما تمقت عليّاً... إنّها لا تستطيع أن تنسى كلماته.. وفاطمةَ التي تغار عائشة منها ومن أُمّها خديجة.. ولكن ما تبغي وها هو أبوها يمسك بالزعامة والخلافة.
امّا عليّ فهو جليسُ دارِه وحيد.. ليس معه من يؤازره... وفاطمة التي لا تفتأ تبكي أباها ليل نهار.
عائشة هادئة البال تنعم بالمجد.. لقد كانت زوجة أعظم رجل في الجزيرة، وها هي اليوم بنت رجل يهابه الجميع...
كانت عائشة مستغرقة في خيالات الماضي والمستقبل عندما دخل أبوها، وكان معه عمر..
بدا أبو بكر مهموماً.. لقد جاء أبو سفيان وهو يخشى صولته. قال عمر وقد أدرك ما يجول في خاطره:
ـ الأمر بسيط يا خليفة رسول الله.. أنا أعرفه.. أترُكْ ما في يده من الزكوات.. إننا نحتاج إلى بني أمية للوقوف بوجه بني هاشم.. نشغل بعضهم ببعض فتصفو لك الأمور.
ـ أرَحْتَني يا عمر من همّ وبقيتْ هموم.
ـ أتعني عليّاً وأصحابه.. واللهِ لأجعلنّهم يبايعون.. طائعين أو كارهين.. ولسوف أمضي إليهم بنفسي، فإن تعلّلوا أحرقتُ عليهم البيت.
ـ إنّ فيه فاطمة يا عمر!
ـ وإنْ.
تداعت الذكريات في خيال أبي بكر.. تذكّر يوم خَطَب فاطمة فردّه الرسول. انّه لن يغفر لها ذلك... كما لن يغفر لها ما سببته من آلام لابنته. كانت عائشة لا تُطيق رؤيتها ولا رؤية زوجها.. هو أيضاً كان لا يرتاح لفاطمة وكان يشعر بالحسرة لِما تقاسيه ابنته.
قال عمر وهو يرمق صاحبه بنظرة ذات معنى:
ـ يا له من حديثٍ أصبتَ به مقتلاً.
ابتسم أبو بكر... وكأنه يقول: وما في وسعي أن أفعل غير ذلك، أمامنا جولات وجولات.. وفاطمة ما تزال تقاوم..
قال أبو بكر متوجّساً:
ـ أنا أخشى فاطمة.. إنّها ثائرة ولن تسكت.. وكيف تسكت وهي بنت محمّد.. وزوج عليّ ؟!
ـ لا تخشَ شيئاً يا صاحبي، سينتهي كلّ شيء.. ما هي إلا امرأة.. وليس معها أحد.
قال أبو بكر:
ـ ماذا لو نسلّمها « فدكاً » ونرتاح من كلّ هذا العناء ؟!
ـ ماذا تقول يا صاحبي ؟! إذا أعطيتها فدكاً اليوم فستأتي غداً لتطالب بالخلافة إلى بعلها.. وأنت تعرف أن فدكاً لديها ليست فاكهة أو نخيلاً ولا أرضاً، إنّها الخلافة.. لا لا.. لا تفعل ذلك أبداً.
ـ ألا تخشى غضبها يا أبا حفص.. غضبها يعني غضب الله ورسوله.. الجيمع يعرف ذلك.
ـ وهذه أيضاً ستمرّ كما تمرّ العاصفة.. سوف نزورها ذات يوم فتصفح عنّا وينتهي كلّ شيء.. انّك لَتصوم وتصلّي وتحجّ وتجاهد، فلا تقلق.
ـ أتمنّى أن يكون ذلك.
كانت عائشة تصغي بصمت إلى حديث أبيها.. تدرك ما يموج في أعماقه من رقّة تكاد تنقض كل صلابته لولا صاحبه الذي لا يعرف غير الاندفاع كالزوبعة... ولولاه ما وقف أبوها كلّ هذه المواقف... وعائشة تدرك جيداً ان عمر يحلب لأبيها ليأخذ شطراً منه غداً.. على هذا تعاهدا ومعهما « الجرّاح ».
عائشة لا ترتاح لِتردُّد أبيها. إنّها تريد منه أن يكون قوّياً هذه المرّة... وقد غاب « محمّد » فليندفع ليهزم « عليّاً » أمام عينَي « فاطمة »، لشدّ ما يسعدها أن ترى فاطمة كسيرةً مغلوبة تندب المجد الذي ولّى والعزّ الذي مضى!
ـ لا لا يا عائشة، لا تكوني قاسية إلى هذا الحدّ...
أرجوك إذا مررت بشجرة محطّمة فلا تدوسي ثمارها.. أو حمامة مَهيضةَ الجناح فلا تستلّي السكين لتذبحيها... أليس هناك مكان للحبّ.. لله ؟
ـ أتريدني أن أشفق على فاطمة.. فاطمة التي استحوذت على قلب زوجي... لا لا لن أغفر لها ذلك.. وعليّ الذي فاقَك.. كلاّ لن أغفر لهما أبداً.
تلاشى الدويّ وخفتت نداءات الإنسان.. وانتصر النمر المتوثّب في الأعماق ليطلّ من عينين يكاد بريقهما ينفذ في الضلوع.
إنّ فيها فاطمة..!
فاطمة حزينة.. وحيدة في هذه الدنيا الغادرة.. غيّب التراب وجهاً كان يضيء دنياها، وتوقف قلب كان يملأ حياتها أملاً...
رحلت أمّها وهي بعدُ صبيّة.. وها هي تفقد أباها وهي في عمر الربيع..
فقدت الأشياء شفافيّتَها وبَدَت عارية مُقرفة. كانت تنظر إلى الجزيرة فتراها خضراء.. خضراء. تنظر بعينَي محمّد فترى البراعم تتفتح والرياحين تفوح بالعطر.. والسماء تزخر بأجنحة الملائكة مَثْنى وثُلاثَ ورُباع.. وكلمات جبريل تملأ الفضاء. ولمّا أغمض الأب عينيه انطفأت كلّ الشموع.. انكفأت فوق صحون الحنّاء.. ذبلت الرياحين وغادر الربيع الجزيرة... واستيقظت الأصنام.. فتحت عيونها الحجرية... وانبعث خُوار « عِجل » في « فَدَك ».
العاصفة تهبّ عنيفة تدمّر كلّ شيء.. ولو مرّت على النجوم لأطفأتها أو على شجرة زيتون لاجتثّتها من فوق الأرض... وفاطمة وحيدة.. ليس معها أحد سوى رَجُلها وقد أغمد « ذا الفقار » بعد ان وضعت الحرب أوزارها.. وسيّدُ الرجال يأبى أن يكون له في الفتنة سيف.. سلاحه الصبر؛ والصبر سلاح الأنبياء.
ليس في منزل فاطمة سوى صبيّين ينتظران عودةَ جدّهما.. ليس في منزل فاطمة سوى بنت صغيرة غارقة في حزن سرمدي... بنت اسمها « زينب ».. ليس في منزل فاطمة أحد إلاّ المستضعفون.. فبدا كقلعة مهجورة تحمل آثاراً لجبريل. ستهبّ العاصفة إعصاراً فيه نار، وقد لاذ الخائفون فئراناً مذعورة في جُحورها.. وليس هناك من سلاح إلاّ الصبر... والصبر له طعم كالحنظل لا يعرفه إلاّ المظلومون.
بدا عليّ ذلك اليوم كأسدٍ جريح.. أسد مثقل بالقيود والسلاسل.. وأصعب ما يواجه الرجل من ضيم أن يرى امرأته مقهورة وحيدة وهو مُوثَق الأيدي... كان عليّ يدرك ما يدور في الخفاء... شمّ منذ أمد بعيد رائحة المؤامرة ولم يكن في مقدوره أن يفعل شيئاً... كانت العناكب تحوك شباكها ليلَ نهار. والسماء تكتظّ بقطع السحب السوداء، والقمر في المَحاق.
هبّت العاصفة، وهتف ابن صِهاك، وقُنفذ ينظر بعينين فيهما بريق شيطاني:
ـ يا علي، اخرُجْ وبايِعْ كما بايَعَ الناس.
لاذ الأسد بالصمت، ورفع ابن صهّاك صوته بعصبية:
ـ لَتخرجنّ أو لأحرقنّ الدار.
هتف رجل مستنكراً:
ـ إن فيها فاطمة!
أجاب ابن صهّاك:
ـ وإن!
هتفت فاطمة بغضب:
ـ سرعان ما أغَرتُم على أهل البيت.
ركل قنفذ الباب بوحشية... وظهرت بنت محمّد في قبضتها لواء المقاومة.. وجهها الأزهر مُضمَّخ بعبير النبوّات، وكان حسن وحسين ينظران بدهشة إلى رجال كانوا بالأمس يبتسمون لهما وقد جاءوا اليوم يكشّرون عن أنياب كالذئاب.
ـ أين أنتَ يا جدّاه.. هلمّ لترى ما يفعل أصحابُك!
هتفت فاطمة بغضب الأنبياء:
ـ أُخلُو الدار.. وخَلّوا عن ابنِ عمّي..
ثم أردفت وهي تستنجد بالسماء:
ـ لئن لم تخلّوا عنه لأَنشرنّ شَعري ولأصرخنّ إلى الله.
هتف سلمان وقد رأى العذابَ قابَ قوسين أو أدنى:
ـ يا سيدتي! إن الله بَعث أباك رحمة. والتفت إلى عمر:
ـ خلّوا عن عليّ فقد أقسم ألاّ يخرج حتى يجمع القرآن.
انسحب الرجال أمام فتاة نحيلة الجسم كنخلة متواضعة.. لكنّها عميقة الجذور.
ما تزال راية المقاومة ترفرف فوق منزل فاطمة كطيفٍ من رؤى النبوّات.
وقف التاريخ مشدوهاً قبالة منزل صغير يضمّ فتاة نحيلة القوام.
وقف التاريخ خاشعاً أمام « فاطمة ».. أمام فتاة عجيبة لم يرَ مثلها صفاءً لكأنها تنتمي إلى عالم آخر لا يَمُتّ بوشيج إلى عالم التراب. قبس من نور يكاد ينفذ من إهابِ جسدٍ نحيل.. لكأنّ المَلاك يوم وُلِدت تضرّع إلى ربّه:
ـ يا ربِّ، اجعلها ثابتة كالجبل، مباركة كالنخيل، طاهرة كقطرات الندى، سيّدة كحورية.
وقف التاريخ مذهولاً أمام فاطمة.. غيمة بيضاء تختزن الرعود... فهذه الفتاة التي تقف في محرابها تتبتّل إلى السماء حتّى تكاد تُفتّت التراب لتصبح كوكباً درّياً.. تتسرّب من بين الطين عائدة إلى عالم النور.
وقف التاريخ خاشعاً أمام فتاة تقضي جلّ وقتها تتأمّل ملكوت السماء.. ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك... فتاة تنطوي ضلوعها على قلب تضيع فيه الصحارى.
وقف التاريخ امام سيّدة عظيمة هبّت بوجه العاصفة؛ ولتكن « فدك » أرضاً للصراع.
لا تَقتلوا يوسف..
ما أصغر فدكاً فوق الأرض... وفي الجغرافيا. وما أوسعها في خارطة التاريخ.
هبّ السامريّ ليجثو أمام « العِجل »، وفَتَحت الأوثان العربية عيوناً حجرية تحدّق ببلاهة... وبرقت عينا « الاسخَريوطي » بالغدر وهو يدلّ على ابن مريم... وهمّ بنو إسرائيل بهارون، وفرّت الفراشات إلى مخابئها وقد عوت ريح الزمهرير كذئاب مجنونة.
نهضت فاطمة بوجه العاصفة تقول لا:
ـ لا تقتلوا يوسف.. ولا تُلقُوه في غَيابَت الجُبّ.
ـ لا تغدروا بابن العذراء.. لا تعبدوا العِجل من دون الرحمان.. لا تقتلوا هارون.
ـ دَعُوا الفراشات تَسبَح في غمرة النور.. لا تُطفئوا الشموع.. لا تُثقِلوا الأرض بالآثام.. دعوا هابيلَ يرعى ماشيته بسلام.
وقفت فاطمة تنظر إلى الأُفق البعيد المدلهمّ بالخطوب والحوادث.. وراحت تسرج الشموع في مَهبّ العواصف لعلّها تضيء الصحراءَ والتاريخ.
معركة وشيكة ستندلع.. تدمّر كلّ شيء... معركة عجيبة، أسلحتها: الصبر.. الصمتُ الرفض.. كان على عليّ أن يرمي « ذا الفقار » جانباً.. أن يصرخ بالصمت.. الصمت المدوّي. وكان على فاطمة أن تتكلّم بعد أن طَوَت الماضي متبتّلة في المحراب.
نهضت فاطمة.. غادرت محراب الصمت لتقول كلمتها في الذين يسرقون « فدكاً » في غمرة الليل حتّى لا يسرقوا التاريخ والمستقبل في وضح النهار...
جاءت فاطمة تطالب بالميراث.. وكانت جذوع « فدك » سلاحها الوحيد:
ـ أعطِني ميراثي من أبي رسولِ الله.
قال أبو بكر:
ـ سمعتُ أباك يقول: نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورِّث.
ـ كيف وقد وَرِثَ سليمانُ داودَ.. وقال زكريّا: يَرِثُني ويَرِثُ من آل يعقوب ؟!!
ـ أنا سمعتُ رسول الله يقول: نحنُ الأنبياء لا نورّث، وها هي عائشة وحفصة تشهدان على ذلك.
ـ سبحان الله! ما كان أبي عن كتاب الله صادفاً.. ولا لأحكامه مخالفاً...
اشتعلت ثورة في قلب ابن فاطمة وكان صبيّاً.. جذب رداء رجلٍ يُنازع أُمَّه الميراث.
هتف السِّبط:
ـ إنزِل عْن منبرِ أبي واذهَب إلى منبر أبيك.
سأل الرجل بدهاء:
ـ مَن علّمك أن تقول هذا ؟
ـ إن أُطعْ أبي فيما أمرني فلَعَمْري إنّه لَهادٍ وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله، نزل بها جبرئيل مِن عند الله تعالى لا يُنكرها إلا جاحد بالكتاب.
فعاد الرجل يكرّر مقالةً ما أنزل الله بها من سلطان.
قالت فاطمة وهي تضمّ ريحانة الرسول وتحدّق في الذين اغتصبوا ميراث الأنبياء:
ـ كلاّ بل سوّلت لكم أنفسُكُم أمراً فصبرٌ جميلٌ واللهُ المستعانُ على ما تَصِفون.
غادرت فاطمةُ المكان.. وتناثرت أسئلة.. علامات استفهام، فتمتم أبو بكر بأسىً أمام صاحبه:
ـ أما كان الأحرى أن نَهبَها فدكاً ؟! أنا أخشى ابنة محمّد.
أجاب أبو حفص مشجّعاً:
ـ لا تَخَفْ يا صاحبي... غَبرةٌ وتنجلي، وما هي إلاّ جولة وينتهي كلّ شيء... وكأن شيئاً لم يكن... ورَبَتَ على كتفه وقد عرف كيف يتغلغل إلى قلبه:
ـ أقمِ الصلاة... وآتِ الزكاة.. إن الحسناتِ يُذهِبنَ السيئات.. وما يفعلُ ذنبٌ واحد في حسنات كثيرة ؟!
أضاءت الابتسامة وجهه، فقال:
ـ كُربةٌ فرجّتَها يا عمر.
هتف أبو بكر وقد شحذ العزمُ كلماتٍ تدعو بالويل والثبور...
ـ ألا لو شئتُ أن أقول لقلت، ولو تكلمت لَبُحتُ وإني ساكت ما تُرِكت... يستعينون بالصبية ويستنهضون النساء.. واني لستُ كاشفاً قناعاً ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً، إلاّ من استحق ذلك.
استنكرت أمّ سلمة وكانت امرأة على خير:
ـ أمِثلُ هذا يُقال لفاطمة ؟! وهي الحوراء وعديلة مريم.. رُبِّيَت في أحضان الأنبياء وتداولتها أيدي الملائكة.. أتزعم أن رسول الله حرّم عليها ميراثه ؟!
عادت فاطمة إلى منزلها.. وقد جثم الحزن على بيوت المدينة كطائر مهيض الجناح.
أوَت فاطمة إلى المحراب تستمد من السماء الروح.. الحياة.. النور؛ تريد أن ترفض عناصر الأرض.. الأرض المُثقَلة بالدماء الآدمية... تريد أن تنتمي إلى عالَم آخر لا نَكدَ فيه ولا عَناء... تنشد بيتاً من قصب لا تعبَ فيه ولا نصب.. ما تزال تبحث عن أمّها.. أوَت فاطمة تلك الليلة إلى المحراب وقالت:
ـ ربِّ ابنِ لي عندكَ بيتاً في الجنّة ونجّني.
هوّمت عيناها.. فانبثق شلاّل من نور النبوّات.
هتفت بشوق:
ـ يا أبتاه، يا رسول الله، انقطعت عنّا السماء.
خَفقت أجنحة الملائكة.. رفرفت كفَراشاتٍ من نور سماويّ.. وَلَجَت فاطمةُ الملكوت راحت تخطر في عوالم النور.. الملائكة صفوف والحدائق غنّاء... والأنهار تجري متدفقة تدفّق الحياة.. وحوريات يخطرن بين الأشجار الخالدة.
قالت إحداهنّ لفاطمة:
ـ مرحباً بحورية الأرض...
فاطمة تخطر في عالم شفّاف.. عالم ملوّن. أشارت فاطمة إلى نهر يطّرد.. تتدافع أمواجه البيضاء.. تدور حول قصر تحفّه الأشجار ويغمره النور من كلّ مكان. قالت حورية:
ـ هذا الفردوس.. وهنا يسكن سيّد ولد آدم محمّد.
ـ أين أبي ؟
انبثق شلاّل من نور محمّد... كان يرتدي ثياباً من سندس بلون الربيع..
ركضت فاطمة.. ضاعت في صدره الرحب.. شعرت بأنّها تعود إلى أحضان أمّها.. إلى عالم تنتمي إليه.
ـ انظري إلى ما أعدّ الله لكِ.. لقد انتهت آلامك وآن لك أن تستريحي.. انظري إلى زهدك كيف أصبح جَنّة عرضها كعرض السماوات وإلى فِراش اللِّيف كيف صار سريراً من حرير، وإلى جُوعك وعُريك كيف أضحى فاكهةً وقطوفاً دانية وإستبرقَ وحريراً.. وانظري إلى دموعك أضحت أنهاراً من لبن.. ومن عسل تجري، وإلى حجرتك أمست قصراً... وإلى ظلمات الأرض صارت شلالات من نور يتدفّق..
انتبهت فاطمة.. عادت إلى الأرض لتودّعها.. لتقول كلمتها قبل الرحيل الأبدي... عادت لتبني بيت الأحزان.. تبكي الأرض المثقلة بالهم.. بالدموع وبالألم.
الخُطبة الزلزال
لفّت فاطمة خِمارها، واشتملت بردائها والإزار ونهضت بأمر الله.
ما بين دار فاطمة والمسجد خطوات، قطعتها ثابتة الخطى لكأنها محمّد وقد عاد يصحح مسار الإنسان من جديد.. يقوده إلى منابع النور والخلود.
جاءت فاطمة تحفّها نسوة وبنات دخلت المسجد.. لتقول كلمتها للأمّة والتاريخ.
وأنّت من وراء حجاب... أنّةً دُونَها أنة هابيل قبل أن يموت... فيها عذابات « آسية » وحزن « مريم ».
بكى المهاجرون وبكى الأنصار، واهتزّ قلب كالصخر ولان.
قالت بنتُ آخرِ الأنبياء وقرينة مؤسس البلاغة في العرب:
ـ الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم من عموم نِعمٍ ابتدأها، وسُبوغِ آلاءٍ أسداها، وتَمامِ مِنَنٍ أولاها، جَمّ عن الإحصاء عَددُها، ونأى من الجزاء أمدُها، وتفاوت عن الادراك أبدُها.
وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الاخلاصَ تأويلها، وضَمِن القلوب موصولها، وأنار في التفكير مَعقولها. الممتنع عن الأبصار رؤيتُه، ومن الألسن صفتُه، ومن الأوهام كيفيتُه، ابتدع الأشياءَ لا مِن شيء كان قبلَها، وأنشأها بلا احتذاءِ أمثلةٍ امتثَلَها، كوّنها بقدرته وذرأها بمشيئته.
وأشهد أن أبي محمّداً عبدُه ورسوله، اختاره قبل أنْ أرسله، وسمّاه قبل أنِ اجتابه، واصطفاه قبل أن ابتَعثه، إذ الخلائقُ بالغيب مكنونة، وبسترِ الأهاويل مَصونة، وبنهايةِ العدم مقرونة.
ابتعثه اللهُ إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وانفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأمم فِرَقاً في أديانها عُكَّفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها، فأنار اللهُ بأبي محمّدٍ صلّى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكشفَ عن القلوب بُهَمَها، وجلّى عن الأبصار غُمَمها... ثم قبضه الله إليه قبضَ رأفةٍ واختيارٍ، ورغبة وإيثار.
محمّدٌ صلّى الله عليه وآله مِن تَعَبِ هذه الدار في راحة، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينهِ وخيرته من الخلق وصفيّه، والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته ».
وقف التاريخ مذهولاً لكلمات سماوية لكأنّها حورية هبطت إلى الأرض تحمل لها قبساً من نجوم السماء.
سكتت فاطمة هنيهةً واستجمعت قوّتها لتهزّ النخلة علّها تساقط رطباً جنياً:
أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد صلّى الله عليه وآله، أقول عَوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً. لقد جاءكم رسولٌ مِن أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزّى إليه صلّى الله عليه وآله، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة ماثلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجذّ الأصنام وينكث الهام، حتّى انهزم الجمع وولَّوُا الدُّبُر، حتّى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين...
وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقةَ الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، موطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلّةً خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد صلّى الله عليه وآله بعد اللُّتيّا والتي ».
ودوّت صرختها توقظ الضمير الذي أخلد إلى الأرض:
أيّها المسلمون: أأُغلَب على إرثي! يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟! لقد جئت شيئاً فريّاً، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: ووَرِثَ سليمانُ داودَ .
وقال في ما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: فَهَبْ لي مِن لَدُنْك ولياً يَرِثُني ويَرِث مِن آل يعقوب .
وقال: وأُولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعضٍ في كتابِ الله .
وقال: يُوصيكمُ اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مِثْلُ حظِّ الانثييَن .
وقال: إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدَينِ والأقربِينَ بالمعروف حقّاً على المتّقين .
وزعمتم أنْ لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رَحِمَ بيننا، أفخَصّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟! أم هل تقولون: إنّا أهل ملّتين لا يتوارثان! أو لستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي!
فدونَكَها مخطومةً مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنِعم الحَكَمُ الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون.
ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مُقيم.
لقد مات الضمير.. دفنه رهط من المدينة في أرض فدك، فراحت البتول تحذّرهم أيام الله:
فدونَكُموها فاحتقبوها، دبرةَ الظَّهر، نقبة الخفّ، باقية العار، موسومة بغضب الجبّار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فبِعَين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدَي عذاب شديد، فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون.
غادرت الزهراء المسجد وقد زُلزلت الأرض زلزالها، وصرخ رجل غَصب ميراث الأنبياء:
ـ أقيلوني بيعتي..
ونظر الرجال إلى حيث كشفت فاطمة آفاق المستقبل.. فإذا السحب الحمراء مخزونة بالرعود، والأرض ملغومة بالزلازل، وأنهار من دمّ، وجماجم وضحايا. وفرّ الإنسان.. ألقى أمانة تهيّبت السماوات والأرض عن حَمْلها وحَمَلها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا.
المظلومة
كما تذوي الشموع في قلب الظلمات ... كما تذوب وتسيل دموع التوهج.. كانت « فاطمة » تذوي.. قوامها يزداد نحولاً...
قرّرت فاطمة الصمت وأنّ تصوم كما صامت مريم من قبل... وأدرك عليّ أن الرحيل وشيك وأنّ « البيت » الذي بناه من جَريد النخل « بالبقيع » سيكون ملجأً لفاطمة... بيتاً للأحزان والآلام... سيشهد ذلك البيت انطفاء الشموع.. رحيلَ النجوم... ومصرع شمس أضاءت حياته مدّتْه بالدفء.. النور... الأمل.
سكتت فاطمة. والذين اشتكوا من بكائها لم يعودوا يسمعون أنيناً ينبعث من أعماق قلبٍ كسير.. لم يَعُد أحد يسمع نشيجها إلاّ الذين يمرّون بـ « البقيع ».
غابت فاطمة كما تغيب النجوم خلف السحب الدكناء.. غابت فاطمة كفراشة تبحث عن الشمس.. عن ربيع مضى تطارده رياح شتائية.
غابت فاطم.. لم يَعُد أحد يسمع بها.. إنها تذوي وحيدة في بيت من جريد النخيل غادرته الحياة.. الملائكة لا تريد حياة الأرض، والحوريات لا تعيش في عالم التراب.. والذين اكتشفوا السماء لن يطيقوا الانتظار...
وعندما يدرك الأنبياء أن مواعظهم لا تَجِد آذاناً واعية سيتحدّثون بلغة الصمت...
في بيت الأحزان كانت فاطمة تذوب كشمعة متوهّجة تحرق نفسها لتبعث النور والدفء من حولها... فاطمة تتحدّث بلغة الشموع، لغة لا يسبر غورها إلاّ فراشات النور. ها هي فاطمة تصرخ بصمت:
ـ بدويّ صمتي أناديكم.. ثورتي تنطوي في حزني.. ورفضي كامنٌ في دموعي.
وهذا كلّ ما أملكه من لغة.. علّكم تفهمون خطابي. أنا مظلومة يا ربيّ..
حرِّرني من هؤلاء.
ذوت الشمعة... أحرقت نفسها. لم يبقَ منها إلاّ حلقات من نور... آن لها أن تنطفئ. الوجه يشبه قمراً أنهكته ليلة شتائية طويلة بدا مصفرّاً... وكان الصوت واهناً تحمله أمواج حزينة... والدموع غزيرة كمطر سماء غاضبة...
رتّبت « أسماء » فراش سيدتها وسيّدة كلّ امرأة في التاريخ..
لم يعد الجسد الواهن قادراً على تحمّل روح عظيمة تريد الانطلاق إلى عوالم لا نهائية.
وجاء الشيخان يريدان عيادتها وقد أوجسا خيفة..
فاطمة غاضبة... ينشدان رضاها.. رضا السماء والأرض والتاريخ.
هكذا قال محمّد من قبل، ولكن أنّى لهما ذلك وفاطمة تكاد تميز من الغيظ..
قال عمر لعليّ وهو يحاوره:
ـ يا أبا الحسن، إنّ أبا بكر شيخ رقيق القلب وكان مع رسول الله في الغار.. وقد أتيناها غير هذه المرّة فلم تأذن لنا.. فاستأذن لنا منها.
ماذا يقول أبو حفص ؟! كيف يفكّر هذان الرجلان ؟! نهض عليّ.. جلس عند فاطمة وقال مستأذناً:
ـ يا بنت رسول الله، قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيتِ، وقد تردّدا مراراً ورددتهما.. وقد جاء الآن يسألاني الإذن.
ـ والله لا أُكلّمهما حتى ألقى أبي.
ـ يا بنت محمّد.. إني قد ضمنت لهما الإذن.
ـ أما وقد ضمنتَ لهما شيئاً فلا أُخالفك.
شعر أبو بكر بالأمل يراود قلبه.. ونظر إلى صاحبه بامتنان:
ـ السلام عليكِ يا بنت رسول الله.
ـ...
ـ إنّا جئنا نسألك العفو وقد أقررنا بالإساءة.
ـ...
ـ إرضِي عنّا رضيَ الله عنك.
ـ...
ـ لا تُحوّلي وجهك عنّا... إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا..
قالت فاطمة كلمتها الأخيرة:
ـ إن كنتما صادقَين فأخبِراني عمّا أسألكما.
ـ سَلي يا بنت رسول الله.
ـ نَشدتُكما بالله: هل سمعتما أبي يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني ؟
ـ اللّهم نعم.
رفعت الزهراء يديها أمام محكمة السماء:
ـ اللّهم اشهَدْ فانّهما قد آذَياني.. وأني أشكوهما إليك.
انتفض أبو بكر.. ودّ لو تبلعه الأرض.
ـ يا ويلي.. يا ويلي.. ليتني لم أتّخذك خليلا.. لقد ضللتني عن الذِّكر بعد إذ جاءني.
أجاب صاحبه وكان فضّاً غليظ القلب:
ـ لا تجزع يا خليفة الرسول لغضب امرأة!
هتف بمرارة:
ـ أقيلوني.. فقد ترضى فاطمة.
رَمَقه عمر بعينين متنمّرتين:
ـ ماذا تقول يا خليفة الرسول ؟ أتُرضي فاطمة وتُغضِب عائشة... والأقربون أولى بالمعروف.. ولقد قُضيَ الأمر!
وقف أبو بكر عاجزاً عن صدّ الرياح وهي تعدو مجنونة تهزّ شجرة غرسها رسول السماء.. تريد أن تجتثها من فوق الأرض.
وقف أبو بكر عاجزاً عن توجيه قافلة التاريخ الجهة التي أرادها سيّد التاريخ، وها هو يتّخذ طريقه في الصحراء سَرَبا.
وتمرّ الأيّام.. والرياح المجنونة التي تريد اجتثاث شجرة غرستها السماء في الأرض تكاد تأتي على شمعة تسيل دموعها قطرات حزينة... ولسوف تنطفئ بعد حين.
الرحيل
هَوَت الشمس.. اشتعلت حُمرتها في الأفق كجراحِ الشهداء... وشيئاً فشيئاً زَحَفت كتائب المساء ولَملَمت الشمسُ خيوطها ورحلت بعيداً.. وظهرت نُجَيمات تُومض بأمل، وفاطمة مشغولة دبّت في جسدها عروق الحياة.. قالت لأسماء بسَكِينة:
ـ اسكُبي لي غُسلاً.
فرحت أسماء وهي ترى سيدّتها تُقبِل على الحياة.. تخطو نحو العافية.
اغتسلت فاطمة، وارتَدَت ثياباً جُدُدا، وتعطّرت بكافورٍ كان جبريلُ قد أهداه إلى أبيها.
قالت فاطمة وقد شاعت ابتسامةٌ في وجهها:
ـ افرشي لي وسطَ البيت..
فاطمة تستعد للرحيل... لم يكن في البيت أحد سوى أسماء..
أسماء تراقب فتاة تشعّ نوراً كلّما اشتدت ظلمةُ الأرض.
قالت فاطمة قبل أن ترقد:
ـ يا أسماء، أنا أستقبحُ ما يُفعَل بالمرأة بعد الموت: يُطرَح عليها ثوب فيَصِفُها للناظر... ألا تَصنعينَ لي شيئاً يَستُرني ؟
أجابت أسماء تُطيّب خاطرَها:
ـ كنتُ بأرض الحبشة فرأيتهم يصنعون شيئاً، فإن أعجبكِ صنعتُ لك مثلَه.
هزّت فاطمة رأسها موافقة.. وراحت تراقب أسماء وقد تدفّقت ينابيعُ الأمل في قلبها الكسير.
أحضرت أسماءُ سريراً فأكبّته على وجهه ثم جاءت بجريد النخل وأوصلت بين قوائمه وشدّتها بحبال من الليف.. ثمّ ألقت عليه غطاءً.
بان الرضى في وجه حوريّة الأرض وابتسمت:
ـ نعم، اصنَعي لي مثلَه.. ما أجمل هذا يا أسماءّ!! استُريني ستَرَكِ الله.
تمدّدت فاطمة في فراشها، ثمّ وضعت يدها تحت خدّها.. أغمضت عينيها ونامت... وكانت أسماء قد سمعتها تتمتم بصوت ملائكي:
ـ السلام على جبريل. إلهي في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.
فاحت في الفضاء رائحة الجنّة.. كانت أسماء تنظر إلى وجه ملائكي لسيّدة ودّعت الأرض في عنفوان الشباب زهرةً ذابلة في قلب الربيع.. حمامة بيضاء كسيرة الجناح.. حوريّة شهيدة.
وجاء عليّ وقد بدا مكسورَ الظهر كما لو أنّه يحمل جبالاً من الحزن، وبيدٍ مرتعشة ناولته أسماء رقعةً كانت فاطمة قد كتبتها قبل أن تغفو.
تجمّعت الدموع في عينَي عليّ كغيوم ممطرة.. وغرقت الكلمات كحمائم تتقاذفها الأمواج:
ـ بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصَت به فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وآله.. وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله.. وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور..
يا عليّ، أنا فاطمة بنت محمّد، زوَّجني اللهُ منك لأكون لك في الدنيا والآخرة..
حَنّطْني وغَسِّلْني وكفّنّي وصلِّ علَيّ وادفِني بالليل ولا تُعلِمْ أحداً، وأستودعك الله إلى يوم القيامة ».
وقف عليّ مذهولاً، كانت فاطمة سَكَناً.. ملاذاً، وكانت عزاءه الوحيد.. وها هي تودّعه.. تتركه وحيداً في مَهبٍّ إعصار فيه نار.
وقف عليّ ينوء بجبال الحزن.. بركان الغيوم.. ولقد توقف القلب الذي كان يتدفق حبّاً وانطوت صفحة كانت مشرقةً، وانطفأ شعاعٌ كان يضيء طريقه في الحياة.
وانكسر « ذو الفقار »... ورحلت طيورُ الفرح.. الظلام يغمر الأرض، والنجوم تشتدّ بريقاً كعيون تتطلّع إلى كوكبٍ تهشّمَ فوق الأرض.
وقف التاريخ حائراً، وقد اشتدّت ظلمة الليل، والحزنُ يجوس المدينة كغيمةٍ تبكي بصمت، وعواء ذئاب بعيدة تنذر برحيل السلام.
ها هي الحورية تترك الأرض لأهل الأرض.. وتعود إلى السماء.
وجاء أهل المدينة يوارونها الثرى، فقال لهم أبو ذر:
ـ انصرفوا فقد أُخّر إخراجها.
انصرف الناس.. فيما ظلّ التاريخ حائراً يترقّب.
نامت المدينة.. أغمضت أجفاناً مُثقَلةً بالحزن والدموع... بَدَت يثربُ تلك الليلة راهبةً تبكي بصمت.
فقدُ الأحبّة غُربة
فاطمة نائمة واضعةً يدها تحت خدّها... وقد غادرت الروح العظيمة إهابَ جسدٍ نحيل ينتظر عودته إلى مصدره، فقد ناء بحمل الروح وآن له أن يستريح.
لم يكن في حجرة فاطمة أحد سوى صبيّين وبِنت ورجالٍ صَدَقوا.
كان التاريخ يُصغي إلى تَمتماتِ صلاةٍ وبكاء يحكي نشيجَ الميازيب في مواسم المطر.
شَعرَ التاريخ بالإعياء وهوّمت عيناه وهو ينتظر في الظلام.. أغمض عينيه فانسَلّت فاطمة كطيفٍ مضيء.. ولمّا استيقظ لم يجد شيئاً ووجد عليّاً واقفاً ينفض عن نفسه الغبار ويهمس في أذن الرسول:
ـ السلام عليكَ يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلةِ بك والسريعة اللَّحاق بك، قَلّ يا رسولَ الله عن صَفيّتك صَبري ورَقّ عنها تَجلّدي... أمّا حُزني فسَرمد، وأمّا ليلي فمُسهَّد، إلى أن يختارَ اللهُ لي دارَك التي أنت بها مقيم، وستُنبّئكَ ابنتُكَ بتظافرِ أمّتك على هضمها، فاحْفِها السؤالَ، واستَخبِرها الحال، هذا ولم يَطُل العهدُ ولم يَخلُ منك الذِّكر، والسلام عليكما سلامَ مُودّع.. لا قالٍ ولا سَئِم، فإن أنصرِفْ فلا عن مَلالة، وإن أُقِم فلا عن سوءِ ظنٍّ بما وَعدَ الله الصابرين.
ونهض عليّ يواجه الدنيا وحيداً، يشعر بالغربة.. فلقد وارى بيده آماله وقلبه وسيفه ذا الفقار... وتمتم بحسرة:
ـ فقدُ الأحبّة غربة.
وقف التاريخ يُقلّب كفّيه على ما أنفق من وقت، وها هي فاطمة ترحل بصمت لا يعرف أين مستقرّها. ماذا سيقول للعالم ؟ انّه لا يعرف عن هذه الفتاة شيئاً..
فقائل يقول إنّها جاءت إلى الدنيا قبل أن يهبط جبريل بخمس سنين، وقائل يقول بل بعد جبريل بخمس سنين، وآخر يقول وهو ثالث القائلين.. إنّها جاءت مع جبريل ثم مكثت في الأرض عددَ سنين، فلما غادر جبريل الأرض أخذها معه.
لكأنّها حورية جاءت إلى الدنيا ثمّ عادت إلى الجنّة تخطر بين الأشجار الخالدة؛ ليبقى طيفها في الأرض ما دامت السماوات.
استيقظت المدينة تبحث عن فاطمة وقد رحلت فاطمة...
وجاء الشيخان يبحثان في الأرض وكان أحدهما يتوعّد... حتّى همّ بنبش رُفات المقابر، وكان التاريخ يَجوس خلالَ البقيع يقلّب كفيه حائراً لا يدري أين فاطم..
شمّ رائحة الجنّة في بقعة بالبقيع.. فقال: هنا ترقد فاطمة. وفاحت رائحة الفردوس حيث يرقد محمّد بسلام.. فقال: بل ها هنا. ورأى ملائكة تهبط في حجرتها فأشار بيده المعروفة وهتف: بل هناك.
وحار الشيخ ماذا يقول للقوافل المسافرة كلّما مرّت أمّة سألته عن قبر لفاطمة فيقلّب كفّاً معروقة ويقول:
ـ لا أدري.
وتمضي القوافل تتعجّب من شيخٍ يفتح عينيه على كلّ شيء إلاّ على فاطمة..
ولمّا ضاق الشيخُ ذَرعاً بالقوافل عاد إلى حجرة فاطمة يعتذر إليها.. أشعل شمعة وراح يراقبها.. كانت الشمعة تتوهّج.. تذوب.. تسيل دموعها بصمت.. وشيئاً فشيئاً كانت تذوي ويخبو نورها حتى انطفأت وساد الظلام.
source : http://www.imamreza.net