لا يخامر أحداً من المسلمين شك في حرمة الخمر، وتحذير النبي (صلى الله عليه وآله) منها، فهي اُم الخبائث، وهي التي تفتح الباب للكثير من الشرور والمفاسد، وقد تسببت في تهديم الكيان الاُسري، ومفاسدها أكثر من أن تحصى، لذا حاربها الإسلام، ونظراً لآثارها العميقة على المدمن عليها، وصعوبة تخلصه منها والفكاك من شراكها، ولأنها كانت من الاُمور التي اعتاد عليها أبناء المجتمع الجاهلي، فقد تدرجت أحكام الشريعة الإسلامية في النهي عنها، حتى جاء الوقت المناسب، فأعلن الكتاب العزيز تحريمها بشكل قطعي، وذلك في قوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا إنّما الخَمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجسٌ منْ عَملِ الشيطانِ فاجتَنبوهُ لعلَّكم تُفلحونَ)(1).
ثم جاء دور السنّة النبوية الشريفة في التشديد على النهي عنها واجتنابها، والوعيد لمن أصرّ على شربها، أو حتى بيعها أو حملها...الخ.
فعن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي (صلى الله عليه وآله): (لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر)(2).
وعن أبي بكر بن عبدالرحمان بن الحرث عن أبيه قال: سمعت عثمان(رضي الله عنه)يقول: اجتنبوا الخمر فإنها اُم الخبائث، أنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى الى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأساً، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فسقته كأساً. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلاّ ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه(3).
وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مدمن الخمر كعابد وثن)(4).
وعن أبي الدرداء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (لا يدخل الجنة مدمن خمر)(5).
وعن أبي علقمة مولاهم، وعبدالرحمان بن عبدالله الغافقي، أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)(6).
وعن عبدالله بن عمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال). قيل: يا أبا عبدالرحمان، وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار(7).
وعن مسروق، قال: القاضي إذا أكل الهدية فقد أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقال مسروق: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة(8).
فبعد هذه الروايات التي أخرجها الأئمة المحدّثون -وهي غيض من فيض- في موقف الشريعة الإسلامية من الخمر وشاربها، نعود لنسائل اولئك الأئمة عما أخرجوا عن موقف معاوية بن أبي سفيان من الخمر:
أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن بريدة، قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم اُتينا بطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب; فشرب معاوية ثم ناول أبي قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم قال معاوية: كنت أجمل شباب قريش وأجودهم ثغراً، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني(9).
وعن عبيد بن رفاعة قال: مرّ على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه، أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان الى أبي هريرة يقول له: أما تمسك عنّا أخاك عبادة! أما بالغدوات فيغدو الى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا، فأمسك عنا أخاك، فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال له: يا عبادة، ما لك ولمعاوية ذره وما حمل، فإن الله يقول: (تِلكَ اُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لها ما كسبتْ وَلكمْ ما كسبتُمْ)(10).
قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي بايعناه عليها، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفى الله له بما بايع عليه نبيّه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء(11).
مرة اُخرى يتصدى الصحابي عبادة بن الصامت لمعاوية السادر في غيّه وكأنه لم يسمع نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الخمر، أو أن أحداً من ذلك الجم الغفير من الصحابة لم ينبهه الى ذلك إن كان هو قد صُمَّ عن السماع، ولا يكتفي بالاستمرار في إصراره على المعصية، بل يلوم الصحابي الذي ينصحه أو يمنعه من ارتكاب ذلك الاثم، والأغرب من ذلك موقف أبي هريرة، فهو بدلا من أن ينكر على معاوية أفعاله تلك، نجده ينكر على عبادة أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! وكأنه لم يسمع شيئاً هو الآخر عن كل ذلك، رغم أنه أكثر من روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة، والعجب منه أن يحاول إقناع عبادة بالآية الكريمة التي استشهد بها، وكأن معاوية من قوم عاد وثمود أو من بني إسرائيل ويفوته قوله تعالى (وأَنَّ هذهِ اُمّتكُمْ اُمةً واحدةً وأنا ربُّكمْ فاعبُدونِ)(12).
ولكن عبادة ألقمه حجراً حين عرّض بتأخر إسلام أبي هريرة، وعدم شهادته العهد بين أصحاب العقبة وبين النبي (صلى الله عليه وآله).
وليس عبادة بن الصامت وحده الذي فعل ذلك بروايا الخمر المحمولة لمعاوية، فإن صحابياً آخر قد فعل مثل ذلك، مما يدل على تكرر هذه الحالة عند معاوية واصراره عليها، فعن محمد بن كعب القرضي، قال: غزا عبدالرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشام، فمرّت به روايا خمر، فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله.
فقال: كذب والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابقرنّ بطنه أو لأموتن دونه(13).
ويبدو أن الصحابي عبدالرحمان بن سهل الأنصاري قد سمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثاً في معاوية لم يكشف النقاب عنه، وتعهد بقتل معاوية إذا رأى مصداق الحديث بعينه، ولكن يبدو أن القدر لم يمهله ليبر بيمينه، وسوف يأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فهذه حال معاوية عندما كان أميراً على الشام، ولعل هذه التصرفات كانت من الأسباب القوية التي جعلت علي بن أبي طالب يبادر الى عزل معاوية بعد ما تولى الخلافة مباشرة، ولم يقرّه على عمله، وتحمل في سبيل ذلك خوض غمار الحروب الطاحنة لمنع معاوية من نشر الفساد، لكن من المؤسف أن عثمان بن عفان لم يأخذ على يد معاوية، بل تركه مطلق اليدين، بل وتولى الدفاع عنه وعن تصرفاته أحياناً عندما كتب إليه معاوية: إن عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله، فأما أن تكفّه إليك، وإما أن اُخلّي بينه وبين الشام، فكتب إليه عثمان: أن أرحل عبادة حتى ترجعه الى داره من المدينة، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جنب الدار، فالتفت إليه وقال: مالنا ولك ياعبادة. فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا القاسم يقول: "إنه سيلي اُموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تضلّوا بربكم". فوالذي نفس عبادة بيده، إن فلاناً لمن اولئك. فما راجعه عثمان بحرف(14).
لقد كانت سيرة معاوية هي التخلص من أي صحابي يعترض على مفاسده، فقبل عبادة كان هناك أبو ذر الغفاري الذي اعترض على تصرفات معاوية، فبعثه معاوية الى عثمان بعد أن كتب إليه بأن أبا ذر قد أنغل عليه الشام، ثم أرسله على بعير بلا وطاء حتى كاد يهلك في الطريق. وكان هدف معاوية واضحاً، وهو إبقاء الشام وأهله في حالة استلاب فكري لا يرون منه الحقيقة أبداً إلاّ كما يريدها معاوية، وقد استطاع معاوية بدهائه وعلى مدى عشرين عاماً من إمارته على الشام أن ينشيء جيلا منفصلا عن الأحداث الحقيقية التي تدور حوله، جيل لا يكاد يعرف من شرائع الإسلام إلاّ مظهرها الشكلي فقط، بينما هو لا يرى ما يجري حوله إلاّ بالشكل الزائف الذي توحيه وسائل إعلام معاوية له، فقد ذكر المؤرخون الذين ارّخوا لحرب صفين - مثلا على ما ندّعي- (ان هاشم بن عتبة)(15). استصرخ الناس عند المساء: ألا من كان له الى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس كثير شدّ بهم على أهل
يا هاشم الخير جزيت الجنة قاتلتَ في الله عدّو السُّنة
قال ابن الكلبي وابن حيان: له صحبة. وقال المرزباني: لما جاء قتل عثمان الى أهل الكوفة، قال هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الاُمة علي، فقال: لا تعجل فوضع هاشم يده على الاُخرى فقال: هذه لعلي وهذه لي، وقد بايعت علياً، وأنشد:
اُبايع غير مكترث علياً ولا أخشى أميراً أشعرياً
اُبايعه وأعلم أن ساُرضي بذاك الله حقاً والنبيّا
الاصابة 6: 515، أسد الغابة 5: 353.
الشام مراراً، ليس من وجه يحمل عليه إلاّ صبروا له! فقاتل قتالا شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون منهم إلاّ حميّة العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها، وإنهم لعلى ضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا الى عدونا على تؤدة رويداً، واذكروا الله، ولا يسلمنّ رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.
قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتىً شاب وهو يقول:
أنا ابن أرباب ملوك غسان والدائن اليوم بدين عثمان
أنبأنا قراؤنا بما كان أن علياً قتل ابن عفّان
ثم شدّ لا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم جعل يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه، فقال له هاشم بن عقبة: يا هذا إن الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيّد الأبرار بعده عقاب النار، فاتق الله فإنك راجع الى ربك فيسألك عن هذا الموقف وعن هذا المقال.
قال الفتى: إذا سألني ربي قلت: قاتلتُ أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلّي كما ذُكر لي وإنهم لا يصلّون، وصاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله. فقال له هاشم: يا بني، وما أنت وعثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في اُمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وأما قولك إنه لا يصلّي، فهو أول من صلّى مع رسول الله، وأول من آمن به، وأما قولك: إن أصحابه لا يصلون، فكل من ترى معه قرّاء الكتاب. لا ينامون الليل
تهجداً، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك الأشقياء الضالّون.
فقال الفتى: يا عبدالله، لقد دخل قلبي وجلٌ من كلامك، وإني لأظنك صادقاً صالحاً، وأظنني مخطئاً آثماً، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ارجع إلى ربك وتب إليه فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحب التوابين ويحب المتطهرين.
فرجع الفتى الى صفه منكسراً نادماً، فقال له قوم من أهل الشام: (خدعك العراقي قال: لا، ولكن نصحني العراقي)(16).
فمعاوية بن أبي سفيان قد (عمل دائباً منذ كان والياً على سورية زمن عمر بن الخطاب وعثمان، على إيجاد جيش مخلص له شخصياً، يستطيع الاعتماد عليه، وقد استثمر أفضل استثمار ضعف عثمان، ثم بقتله للحصول على الخلافة...)(17).
_________________________________
1- المائدة: 90.
2- سنن ابن ماجة 2: 311 كتاب الأشربة: باب الخمر مفتاح كل شر.
3- سنن النسائي 8: 315.
4- سنن ابن ماجة: كتاب الأشربة.
5- المصدر السابق.
6- سنن أبي داود 3: 324 كتاب الأشربة.
7- جامع الترمذي 3: 44 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبدالله بن عمرو وابن عباس عن النبي(ص)، وانظر مسند أبي داود الطيالسي ح 1901، ومصنف عبد الرزاق ح 10758، ومسند أبي يعلى ح 5686، ومعجم الطبراني الكبير ح 13441، ومصابيح السنة للبغوي ح 3016، وتحفة الاشراف ح 7318، ومسند احمد 2: 35، وشعب الإيمان للبيهقي ح 5580.
8 - سنن النسائي 8: 314.
9 - مسند أحمد 6: 476، ولاشك أن الراوي قد أبدل كلمة الخمر باللبن.
10 - البقرة: 134.
11 - تاريخ دمشق 26: 197، مختصر تاريخ دمشق 11: 306
12 - الأنبياء: 92.
13 - الاستيعاب 2: 401، اُسد الغابة 3: 299، الاصابة في معرفة الصحابة 2: 401، تهذيب التهذيب 6: 173، تاريخ دمشق 34: 419، مختصر تاريخ دمشق 14: 263.
14 - مسند أحمد 6: 444، المستدرك على الصحيحين 3: 357 وصححه على شرط الشيخين، تاريخ دمشق 26: 198، مختصر تاريخ دمشق 11: 307.
15- يكنى أبا عمرو، ويعرف بالمرقال. نزل الكوفة، أسلم يوم الفتح، وكان من الشجعان الأبطال والفضلاء الأخيار، فقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وهو الذي فتح جلولاء من بلاد الفرس وهزم الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح... شهد صفين مع علي(رض)، وكانت معه الراية، وهو على الرجالة، وقتل يومئذ... وفيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة:
16 - تاريخ الطبري 5: 42، كتاب صفين لنصر بن مزاحم: 402، الكامل لابن الأثير 3: 313 حوادث سنة 37، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 35.
17 - عمر ماهر حمادة: دراسة وتقيّة للتاريخ الاسلامي: 23.
من كتاب الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي
source : اهل بیت