لمّا حضر الإمام علي الرضا ( عليه السلام ) مجلس المأمون ، وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان .
فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ؟
فقالت العلماء : أراد الله الأُمّة كلّها .
فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لا أقول كما قالوا ، ولكن أقول : أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ) .
فقال المأمون : وكيف عنى العترةَ دون الأُمّة ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( لو أراد الأُمّة لكانت بأجمعها في الجنّة ; لقول الله : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، ثمّ جعلهم في الجنّة ، فقال عزَّ وجلَّ : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ) ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم ) .
ثمّ قال الرضا ( عليه السلام ) : ( هم الذين وصفهم الله في كتابه ، فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، وهم الذين قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنّي مخلّفٌ فيكم الثَقَلين كتابَ الله وعترتي ـ أهلَ بيتي ـ لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، انظروا كيف تَخلُفوني فيهما ، يا أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ) .
قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة هم الآل أو غيرُ الآل ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( هم الآل ) .
فقالت العلماء : فهذا رسول الله يؤثَر عنه أنّه قال : ( أُمّتي آلي ) ، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه : آل محمّد أُمّته .
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمّد ؟ ) ، قالوا : نعم .
قال ( عليه السلام ) : ( فتحرم على الأُمّة ؟ ) قالوا : لا .
قال ( عليه السلام ) : ( هذا فرقٌ بين الآل وبين الأُمة ، ويحكم ! أين يذهب بكم ؟! أصرفتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قومٌ مسرفون ؟! أمّا علمتم إنّما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم ؟! ) .
قالوا : من أين قلت يا أبا الحسن ؟
قال ( عليه السلام ) : ( من قول الله : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ، فصارت وراثة النبوَّة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين ، أمّا علمتم أنَّ نوحاً سأل ربّه ، ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ، وذلك أنَّ الله وعده أن ينجيه وأهلَه ، فقال له ربُّه تبارك وتعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) .
فقال المأمون : فهل فضَّل الله العترة على سائر الناس ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله العزيز الجبّار فضّل العترة على سائر الناس في محكم كتابه ) .
قال المأمون : أين ذلك من كتاب الله ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) ، وقال الله في موضع آخر : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) .
ثمّ ردَّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحُسِدوا عليهما بقوله : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ، يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، والمُلْكُ هاهنا الطاعة لهم ) .
قالت العلماء : هل فسَّر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : ( فسَّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً ، فأوّل ذلك قول الله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) ـ ورهطك المخلصين ـ هكذا في قراءة أُبيّ بن كعب ، وهي ثابتةٌ في مصحف عبد الله بن مسعود ، فلمّا أمر عثمان زيدَ ابن ثابت أن يجمع القرآن خَنَسَ هذه الآية ، وهذه منزلةٌ رفيعة وفضلٌ عظيم ، وشرف عال حين عنى الله عزَّ وجلَّ بذلك الآل ، فهذه واحدة .
والآية الثانية في الاصطفاء قول الله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنَّه فضلٌ بيِّن .
والآية الثالثة حين ميَّز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيَّه في آية الابتهال ، فقال : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، فأبرز النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً والحسنَ والحسينَ وفاطمةَ ( عليهم السلام ) فقَرَن أنفسهم بنفسه .
فهل تدرون ما معنى قوله : ( وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ؟ .
قالت العلماء : عنى به نفسَه .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( غلطتم ، إنّما عنى به عليّاً ( عليه السلام ) ، وممّا يدلُّ على ذلك قولُ النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين قال : ( لينتهينَّ بنو وليعةَ ، أو لأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي ، يعني عليّاً ( عليه السلام ) .
فهذه خصوصيَّة لا يتقدَّمها أحدٌ ، وفضل لا يختلف فيه بشر ، وشرف لا يسبقه إليه خلقٌ ; إذ جعل نفسَ عليٍّ ( عليه السلام ) كنفسه فهذه الثالثة .
وأمّا الرابعة : فإخراجه الناسَ من مسجده ما خلا العترةَ حين تكلّم الناسُ في ذلك ، وتكلم العباسُ ، فقال : يا رسول الله تركت عليّاً وأخرجتنا ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكنَّ الله تركه وأخرجكم ، وفي هذا بيان قوله لعلي ( عليه السلام ) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ) .
قالت العلماء : فأين هذا من القرآن ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أوجِدُكُم في ذلك قرآناً أقرؤه عليكم ) ، قالوا : هات .
قال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) ، ففي هذه الآية منزلةُ هارون من موسى ، وفيها أيضاً منزلةُ علي ( عليه السلام ) من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ومع هذا دليل ظاهر في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين قال : إنّ هذا المسجد لا يحلُّ لجُنُب ولا لحائض إلاّ لمحمّد وآل محمّد ) .
فقالت العلماء : هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلاّ عندكم معشرَ أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد مدينةَ العلم فليأتها من بابها ، ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا يُنكره إلاّ معاندٌ ، ولله عزَّ وجلَّ الحمدُ على ذلك ، فهذه الرابعة .
وأمّا الخامسة : فقولُ الله عزَّ وجلَّ : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) خصوصية خصَّهم الله العزيز الجبّار بها ، واصطفاهم على الأُمّة ، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ادعوا لي فاطمة فدعوها له .
فقال : يا فاطمة ، قالت : لبيّك يا رسول الله ، فقال : إنَّ فدك لم يُوجَف عليها بخيل ولا ركاب ، وهي لي خاصَّة دون المسلمين ، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به فخُذيها لك ولولدك ، فهذه الخامسة .
وأمّا السادسة : فقول الله عزَّ وجلَّ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فهذه خصوصية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دون الأنبياء ، وخصوصيَّة للآل دون غيرهم ، وذلك أنَّ الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح ( عليه السلام ) : ( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) .
وحكى عن هود ( عليه السلام ) قال : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) .
وقال لنبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، ولم يفرض الله مودَّتهم إلاّ وقد علم أنَّهم لا يرتدّون عن الدين أبداً ، ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً .
وأُخرى أن يكون الرجل وادّاً للرجل فيكون بعضُ أهل بيته عدوَّاً له فلا يَسلَمُ قلبٌ ، فأحبَّ الله أن لا يكون في قلبِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على المؤمنين شيءٌ ، إذ فرض عليهم مودَّة ذي القربى ، فمن أخذ بها وأحبَّ رسولَ الله ( صلى الله عليه وآله ) وأحبَّ أهل بيته ( عليهم السلام ) لم يستطع رسولُ الله أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذها وأبغض أهل بيت نبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) فعلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يبغضه ; لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله ، وأيُّ فضيلة وأيُّ شرف يتقدّم هذا .
ولمّا أنزل الله هذه الآية على نبيِّه ( صلى الله عليه وآله ) : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أصحابه ، فَحَمِد الله وأثنى عليه ، وقال : أيُّها الناس إنَّ الله قد فرض عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدُّوه ؟ فلم يجبه أحدٌ .
فقام فيهم يوماً ثانياً ، فقال مثل ذلك ، فلميجبه أحدٌ ، فقام فيهم يومَ الثالث ، فقال : أيُّها الناس إنَّ الله قد فرض عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدُّوه ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : أيُّها الناس إنَّه ليس ذهباً ولا فضة ، ولا مأكولاً ولا مشروباً ، قالوا : فهات إذاً ؟ فتلا عليهم هذه الآية ، فقالوا : أمَّا هذا فنعم ، فما وفى به أكثرُهم ) .
ثمَّ قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن آبائه ، عن الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، قال : اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقالوا : إنّ لك يا رسول الله مؤونةً في نفقتك ، وفيمن يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا مع دمائنا ، فاحكم بها بارَّاً مأجوراً ، أعطِ ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج .
فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه الروح الأمين ، فقال : يا محمّد ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، لا تؤذوا قرابتي من بعدي ، فخرجوا ، فقال أُناسٌ منهم : ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحُثَّنا على قرابته من بعده إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه ، وكان ذلك من قولهم عظيماً .
فأنزل الله هذه الآية : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، فبعث إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هل من حدث ؟ فقالوا : إي والله يا رسول الله ، لقد تكلّم بعضنا كلاماً عظيماً فكرهناه ، فتلا عليهم رسول الله فبكوا واشتدَّ بكاؤهم ، فأنزل الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) فهذه السادسة .
وأمّا السابعة ، فيقول الله : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، وقد علم المعاندون منهم أنَّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : تقولون : اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنَّك حميدٌ مجيد ، وهل بينكم معاشر الناس في هذا اختلافٌ ؟ ) .
قالوا : لا .
فقال المأمون : هذا ما لا اختلاف فيه أصلاً ، وعليه الإجماع ، فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا القرآن ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أخبروني عن قول الله : ( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فمن عنى بقوله : يس ؟ ) .
قالت العلماء : يس محمّد ليس فيه شك .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أعطى الله محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لم يبلغ أحدٌ كنه وصفه لمن عقله ، وذلك أنَّ الله لم يسلّم على أحد إلاّ على الأنبياء ( صلوات الله عليهم ) ، فقال تبارك وتعالى : ( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) ، وقال : ( سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ، وقال : ( سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) ولم يقل : سلامٌ على آل نوح ، ولم يقل : سلامٌ على آل إبراهيم ، ولا قال : سلامٌ على آل موسى وهارون ; وقال عزَّ وجلَّ : ( سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) يعني آل محمّد ) ، فهذه السابعة .
وأمَّا الثامنة ، فقول الله عزَّ وجلَّ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) فقرن سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسوله ( صلى الله عليه وآله) ، فهذا فصل بين الآل والأُمّة ، لأنَّ الله جعلهم في حيِّز وجعل الناس كلَّهم في حيِّز دون ذلك ، ورضي لهم ما رضي لنفسه واصطفاهم فيه ، وابتدأ بنفسه ثمّ ثنّى برسوله ، ثمّ بذي القربى في كلّ ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك ممّا رضيه عزّ وجل لنفسه ورضيه لهم .
فقال ـ وقوله الحقُّ ـ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ، فهذا توكيد مؤكّد ، وأمرٌ دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق الذي ( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .
وأمّا قوله : ( وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) ، فإنَّ اليتيم إذا انقطع يتمُهُ خرج من المغانم ، ولم يكن له نصيبٌ ، وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيبٌ في المغنم ، ولا يحلُّ له أخذه ، وسهم ذي القربى إلى يوم القيامة ، قائم فيهم للغنيِّ والفقير ، لأنَّه لا أحد أغنى من الله ولا من رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل لنفسه منها سهماً ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) سهماً ، فما رضي لنفسه ولرسوله رضيه لهم .
وكذلك الفيء ما رضيه لنفسه ولنبيَّه ( صلى الله عليه وآله ) رضيه لذي القربى ، كما جاز لهم في الغنيمة فبدأ بنفسه ، ثمَّ برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمَّ بهم ، وقرن سهم بسهم الله وسهم رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وكذلك في الطاعة ، قال عزَّ وجلَّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) فبدأ بنفسه ، ثمَّ برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ بأهل بيته .
وكذلك آية الولاية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ ) ، فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول مقرونةً بطاعته ، كما جعل سهمه مع سهم الرسول مقروناً بأسهمهم في الغنيمة والفيء ، فتبارك الله ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت .
فلمّا جاءت قصةُ الصدقة نزَّه نفسه عزَّ ذكره ، ونزَّه رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزَّه أهل بيته عنها ، فقال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ ) ، فهل تجد في شيء من ذلك أنَّه جعل لنفسه سهماً أو لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) أو لذي القربى ، لأنّه لمّا نزَّههم عن الصدقة نزَّه نفسه ونزَّه رسولَه ونزَّه أهل بيته لا بل حرَّم عليهم ، لأنَّ الصدقة محرّمةٌ على محمّد وأهل بيته ، وهي أوساخ الناس لا تحِلُّ لهم ، لأنّهم طُهِّروا من كل دنس ورسخ ، فلمّا طهَّرهم واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه ، وكره لهم ما كره لنفسه .
وأمّا التاسعة ، فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) .
فقالت العلماء : إنّما عنى بذلك اليهود والنصارى .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( وهل يجوز ذلك ؟ إذاً يدعونا إلى دينهم ويقولون : إنّه أفضل من دين الإسلام ) .
فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا يا أبا الحسن ؟
قال : ( نعم ، الذِكرُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب الله بقوله في سورة الطلاق : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ) ، فالذِّكر رسول الله ونحن أهله ، فهذه التاسعة .
وأمّا العاشرة ، فقول الله عزَّ وجلَّ في آية التحريم : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) ، أخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابنتي ، أو ما تناسل من صلبي لرسول الله أن يتزوّجها لو كان حيّاً ؟ ) .
قالوا : لا .
قال ( عليه السلام ) : ( فأخبروني هل كانت ابنةُ أحدكم تصلَحُ له أن يتزوّجها ؟ ) .
قالوا : بلى .
فقال ( عليه السلام ) : ( ففي هذا بيان أنّا من آله ، ولستم من آله ، ولو كنتم من آله لحرّمت عليه بناتكم كما حرّمت عليه بناتي ، لاِنّا من آله وأنتم من أُمّته ، فهذا فرق بين الآل والأمّة ، إذا لم تكن الآل فليست منه ، فهذه العاشرة .
وأمّا الحادية عشرة ، فقوله في سورة المؤمن حكايةً عن قول رجل : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ، فكان ابنَ خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ولم يضفه إليه بدينه .
وكذلك خُصِّصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بولادتنا منه ، وعُمِّمنا الناسَ بدينه ، فهذا فرق ما بين الآل والأمّة ، فهذه الحادية عشرة .
وأمّا الثانية عشرة ، فقوله : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) ، فخصّنا بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع أمره ، ثمّ خصَّنا دون الأُمّة ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجيء إلى باب عليٍّ وفاطمة ( عليهما السلام ) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرّات ، فيقول : ( الصلاةَ يرحمكم الله ) ، وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا الله بها ، وخصّنا من جميع أهل بيته ، فهذا فرق ما بين الآل والأُمَّة .
وصلّى الله على ذرّيته ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد نبيه ) .
source : الشیعه