لقد انتشرت ممارسة ((التأمل الارتقائي)) في أوروبا وأمريكا بشكل واسع لم يسبق له مثيل في تاريخ هذه الأمم، وذلك بعد أن أثبت هذا التأمل ـ بجذوره الهندية والشرقية القديمة ـ مقدرته الفائقة في علاج الأمراض المرتبطة بالمشاكل الانفعالية والمعرفية وشفاء غيرها من الاضطرابات كالإدمان والقلق وشتى أنواع العصاب.
لذلك رأينا أن نفرد هذا الفصل لنلخص أهمية الجوانب المعرفية والانفعالية في تكوين الاضطرابات الجسمية، ودور التأمل في علاجها وصلة كل ذلك بالتفكر كعبادة إسلامية.
إن المتفكر في شرائع الإسلام وعباداته المفروضة يجد أن في كل ما أمر الله به أو نهى عنه فائدة للمسلم في دنياه قبل آخرته. ولعله من الواضح الآن أنه كلما تقدم العلم الحديث في مجال الطب والعلوم النفسية والاجتماعية، ظهرت الفوائد والحِكَم التي لا تحصى من تطبيق دقائق التشريع.
فهناك جوانب ظاهرة فيما حرمه الله قد فرغ العلم من إثبات حكمتها كالمنع الحاسم لشرب الخمر وتعاطي المخدرات والزنا واللواط. فالخمر والمخدرات قد أصبحتا اليوم الخطر الأساسي الذي يهدد الحضارة الحديثة بشقيها الغربي والشرقي.
فهذه أمريكا يعلن بأن الكحول أصبح مشكلتها الأولى، وأن المجتمع الأمريكي يفقد بلايين الدولارات كل سنة بسبب ما يصرفه في علاج الإدمان وما يخسره من آلاف الحوادث التي يسببها السكارى ((والمسطولين!)) هذا بالإضافة إلى حرمان المجتمع من إسهام الملايين من الذين يقعدهم الإدمان عن العمل المثمر. فالإدمان يعتبر في أوروبا وأمريكا السبب الثالث للموت بعد الأزمات القلبية والسرطان.
كذلك أصبحنا نستمع من وسائل الإعلام الأوربية والأمريكية عن أهمية الامتناع عن الزنا والشذوذ الجنسي، بعد انتشار مرض الإيدز والأمراض الجنسية الأخرى.
أما فيما أمر به الشرع من فرائض وسنن ومستحبات فنجد الأبحاث الطبية الحديثة تؤكد على فوائدها في الحفاظ على الصحة الجسمية والنفسية للمؤمنين، فالنظافة الجسدية التي يكتسبها المؤمنون من الوضوء والسواك قبل الصلوات الخمس وغسل الجنابة وغيرها من السنن لها جوانبها الصحية الواضحة. وتطالعنا هذه الفوائد القيمة على كل درب يسلكه المسلم في عبادته وممارسته سنن الإسلام. فالاقتصاد في الطعام وعدم الإسراف المؤدي للبدانة ... (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ... والقيم الصحية للصوم والرياضة البدنية في الصلاة وغيرها، له من المحاسن ما لا يحصى.
ومن هذا المنطلق نسأل أنفسنا عن قيمة التفكر والتأمل من حيث هو عبادة بالنسبة للصحة الجسمية والنفسية للمؤمن، وسنجد الجواب في المئات من الكتب والأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة لتأكيد قيمة التأمل الارتقائي Transcendental Meditation والعامل الروحي والإيماني Faith Factor في علاج التوتر والقلق وضغط الدم والصداع النصفي والأرق وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم وغيرها من الاضطرابات النفسجسمية ((السيكوسوماتية)) Psychosomatic.
إن الدراسات الحديثة في ميدان الطب السيكوسوماتي ((النفسجسمي))، تؤكد بأن التفكير والنشاط المعرفي للإنسان له دور فعال بالنسبة لإصابة الإنسان بشتى الأمراض، كما أن تغيير هذا التفكير وهذا النشاط المعرفي الذي تسبب في إحداث هذه الأمراض والاضطرابات يساعد كثيراً في شفاء الفرد أو تحسين حالته الصحية بقدر كبير. وهذا مصداق للأثر المشهور ((لا تتمارضوا فتمرضوا فتموتوا)).
إن تأثير العوامل النفسية على الناحية الجسمية العضوية أمر بدهي يلاحظه الفرد في حياته اليومية. فهو يضطرب وتزداد ضربات قلبه عند تلقيه أخباراً مفزعة أو مؤلمة، أو عند تذكره لخبرات مشابهة، كما يحمر وجهه خجلاً وحياء إن كان من أصحاب البشرة البيضاء. على أن هذه التغييرات العضوية البسيطة قد لا تقنع الكثيرين بالدور الخطير الذي تلعبه النواحي المعرفية في تشكيل فسيولوجية الإنسان.
لكن الأدلة الأكثر ((درامية)) وإقناعاً هي تلك الظواهر الفسيولوجية المعقدة التي تحدث نتيجة لتأثير الفكر والانفعال على الجسم، منها ظاهرة الحمل الكاذب Pseudocyesis التي تعتقد فيها المرأة العاقر بأنها حامل، فتتوقف لديها العادة الشهرية وتنتفخ البطن بنسبة مشابهة تماماً للحمل الطبيعي ويتضخم حجم الثديين وتنشط الغدد التي تفرز اللبن، بل إن بعض السيدات ـ كما يقول الطبيب Benson ـ كن يشعرن بتحركات الجنين في أرحامهن خلال الشهر الرابع والخامس للحمل المزعوم! وما أن تكتشف المرأة أن حملها ((نفسي))، حتى تختفي جميع هذه التغيرات الفسيولوجية بسرعة مذهلة.
ومن أهم الظواهر أيضاً تحسن الحالة الصحية الجسمية لكثير من المرضى عند تناولهم لحبوب وكبسولات لا تحتوي على أي مادة فعالة، لكنهم يعتقدون بأنها عقاقير مفيدة Placebo effect. فقد لا تحتوي الكبسولات إلا على قليل من السكر لكن الطبيب يؤكد للمرضى بأنها ذات فائدة مضمونة. وفي بعض الحالات يقوم الطبيب بحقن المرضى بمحلول الماء والملح بعد إيهامهم بأن هذه الحقن تحتوي على دواء ممتاز. وقد أثبتت الدراسات المتكررة بأن هؤلاء المرضى تتحسن حالتهم بدرجة واضحة تكاد في بعض الأحيان أن تصل إلى مستوى أولئك الذين تلقوا عقاقير حقيقية.
وقد اهتم العلماء في الآونة الأخيرة بهذا الموضوع، خصوصاً بعد أن ثبت بأن النشاط المعرفي والانفعالي للإنسان له تأثير مباشر على مقاومته الطبيعية للأمراض الجسمية Immune System.
فقد اتضح الآن من مئات التجارب والأبحاث أن الضغوط النفسية المزمنة المصاحبة للحزن والاكتئاب والقلق والإحساس بالوحدة القاتلة والاستيحاش وفقدان الثقة بالنفس، تؤثر تأثيراً بالغاً على مقاومة الإنسان للأمراض الجرثومية وحتى للسرطان. فهذا الضغط النفسي المزمن يجعل الغدد الكظرية Adrenal Glands تزيد من إفرازها للهرمونات المحتوية على مادة الكورتزون التي تكف من نشاط المقاومة الطبيعية. وقد كان من تأثير هذه الأبحاث أن ظهر تخصص جديد هو ((علم المقاومة النفسية والعصبية)) Psychoneure-Immunology الذي يجمع بين الأخصائيين في ميدانين مختلفين لم يكن بينهما مثل هذا التعاون في الماضي، ألا وهما ميدان العلوم الاجتماعية وعلم النفس وميدان دراسة كيمياء جهاز المقاومة في الإنسان. كما ظهرت مئات المؤلفات التي تدعو لتحسين صحة الإنسان الجسمية بتغيير أفكاره ومشاعره وانفعالاته، حتى وصف بعض العلماء هذه الظاهرة ((بالثورة الثالثة)) في الطب الغربي الحديث التي كانت أولاها تطور الجراحة وثانيها اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية. ذلك لأن الذي يشكل فكر الإنسان ونشاطه المعرفي ليس هو الأحداث والمثيرات التي يتعرض لها في بيئته بشكل مباشر، بل الذي يؤثر بالفعل هو تقييمه وتصوراته لهذه الأحداث والمثيرات. فقد أثر عن فيلسوف روماني في القرن الميلادي الأول أنه قال: ((ليست الأشياء المحيطة بالإنسان هي التي تزعجه بل أفكاره عن هذه الأشياء)).
إذن فليس ((العقل السليم في الجسم السليم)) فحسب ـ كما يؤكد المثل المشهور ـ بل كذلك فإن ((الجسم السليم في العقل السليم)).
كيف يساعد التأمل وما يصاحبه من استرخاء في علاج الاضطرابات الجسمية والنفسية؟
إن الإرشادات التي يطلب الطبيب أو المعالج من المريض تنفيذها تبدو بسيطة ساذجة ولكن نتائجها سريعة المفعول، عرفها الهنود والبوذيون واستخدموها منذ آلاف السنين. وقد أثبتت مئات الأبحاث والتجارب الحديثة التي أجريت في العيادات والمختبرات الطبية التي تستخدم أرقى أساليب قياس التغيرات الفسيولوجية النفسية أن هذا ((التأمل الارتقائي)) الذي يعتبر أحد أساليب التأمل التركيزي Concentrative Meditation هو ثورة طبية حقيقية يستخدم فيها الإنسان قدراته الذهنية والمعرفية والروحية في شفاء نفسه بنفسه، بالإضافة إلى إثراء حياته النفسية!
أنقل إلى القارئ هذه الإرشادات البسيطة من أكثر الكتب انتشاراً في الولايات المتحدة، والذي أصبح مؤلفه الطبيب Benson من أشهر الباحثين في ميدان التأمل والاسترخاء والاستفادة من أساليب التفكر الباطني لليوغا والديانات الشرقية.
يطلب بينسون من المريض أن يجلس جلسة مريحة في مكان هادئ باسترخاء جسمي شامل ويغمض عينيه ويتنفس بعمق وهدوء، مركزاً ذهنه في عملية التنفس هذه، كما يطلب منه أن يختار كلمة أو جملة قصيرة من مفاهيمه الإيمانية أو الدينية ويرددها متفكراً في معانيها بشكل رتيب كل ما أخرج الهواء من رئتيه. وإذا فضل المريض أ يختار معنى أو شكلاً يتصوره بدلاً من كلمة يرددها فعليه أن يتمثل هذا التصور بذات الأسلوب المتكرر الرتيب.
عندما بدأ الأمريكيون اهتمامهم بالتأمل الارتقائي في العلاج، نقلوه بحذافيره من التقاليد الهندية القديمة، فكانوا يطلبون من المتأمل أن يردد كلمة لا معنى لها، أو كلمة لها معنى هندي أو شرقي قديم Mantra لا يعرفه الأمريكي المتأمل، لكنهم وجدوا بعد ذلك أن ترديد عبارات لها معنى وقيمة عقائدية أو دينية لدى الشخص المتأمل أو تفكره في صورة ذهنية لإحدى مفاهيمه الإيمانية، له أثر كبير في تعميق تأمله وسرعة علاجه.
ويرى الدارسون لظاهرة ((التأمل الارتقائي)) أن تركيز الذهن مع الترديد المستمر لمعنى إيماني أو لصورة ذهنية لها قيمتها الكبيرة لدى الشخص المتفكر، سيؤدي به حتماً إلى تصور أعمق ومفاهيم جديدة عن الشيء موضع التفكر والتأمل، ويرتقى به إلى أفق أرفع من المعاني والتصورات التي لم يكن ليدركها بسبب الحياة العادية والألفة القاتلة والإدراك الحسي الروتيني المحدود. ومن ثم كانت تسمية ((التأمل الارتقائي)).
ومن الإرشادات الهامة التي يجب على المتأمل اتباعها هي إهماله للأفكار والخواطر التي لا تفتأ ((تحشر نفسها)) في ذهنه لتمنعه من التركيز فيما يتأمل فيه، ويجب عليه أن يعود لتركيز ذهنه مرة أخرى فيما اختاره لموضوع تفكره وتأمله، وأن يتخذ في جلسته التأملية أسلوباً ((سلبياً)) استرخائياً حتى يدرب نفسه مع مرور الأيام على هذا التمرين، فيزداد تفكره وتأمله عمقاً وجسمه استرخاء وتخف موطأة الخواطر المرضية والأفكار الجانبية، ويختفي معها التوتر والقلق والأعراض الجسمية التي كان يشكو منها. وقد وجد كثير جداً من الباحثين ومنهم بينسون، أن الشخص الذي يقوم بهذا التأمل مرتين في اليوم ـ صباحاً ومساء ـ ولمدة ربع ساعة أو عشرين دقيقة للجلسة الواحدة، سيشعر بتحسن كبير بالنسبة لأعراضه الجسمية ويصبح أكثر تفاؤلاً وقدرة على الإنتاج والتفكير الخلاق!
ويمكن تأكيد هذا التحسن بالقياسات الفسيولوجية الدقيقة كانخفاض ضغط الدم ونسبة الكولسترول فيه، مما يدعو الأطباء لتخفيض جرع الدواء أو إيقافه بالمرة لمرضى مزمنين كانوا يتناولون هذا العلاج الكيميائي قبل ممارسة التأمل الارتقائي لسنوات طويلة. وفي هذا المجال يذكر الدكتور بينسون أن نسبة الكولسترول في دم المرضى الذين مارسوا الاسترخاء مع التأمل المرتبط بالعامل الإيماني Faith Factor قد انخفض بنسبة 35% بالمقارنة بمجموعة مشابهة من المرضى الذين لم يمارسوا العلاج بالتأمل. كذلك لاحظ الباحثون أن سرعة ضربات القلب تنخفض انخفاضاً واضحاً قد يصل إلى ثلاث ضربات في الدقيقة الواحدة، كما تقل نسبة استهلاك الأوكسجين واحتراق السكر في الجسم. وتزداد نسبة موجات ((الالفاء)) التي يسجلها جهاز تخطيط الدماغ. وهذه الموجات لها صلة بحالة السكينة والهدوء الذي يصاحب التأمل العميق.
ومن القياسات الفسيولوجية الهامة ازدياد مقاومة الجلد للتيار الكهربائي الضعيف، وهي من أهم المؤشرات للهدوء النفسي. حيث أن مقاومة الجلد للتيار الكهربائي الضعيف ـ الذي لا يشعر به المفحوص ـ هي من أهم المؤشرات للهدوء النفسي. حيث إن مقاومة التيار تزداد انخفاضاً مع ازدياد كمية العرق والرطوبة في كفي الإنسان وتزداد هذه المقاومة مع نقص العرق والرطوبة فيهما. وكما هو معلوم فإن ازدياد العرق هو مؤشر واضح للتوتر والقلق. ويمكن قياس أي زيادة أو نقص في رطوبة الكف بدقة متناهية عن طريق قطبين يثبتان في كف المفحوص تنقل التيار إلى جهاز خاص.
وذكر Le Shan في كتابه المشهور ((كيف تتأمل؟)) How to Meditate الذي أعيدت طباعته أكثر من عشرين مرة، أن التأمل والتفكر الارتقائي يزيد من مقاومة الجلد للتيار بدرجة قد تصل إلى 400% ويؤكد Le Shan أن الحالة النفسية للتأمل العميق هي حالة من السكينة مضادة تماماً للقلق والغضب.
هذا بعض ما تسجله الأجهزة الطبية والنفسية الدقيقة، أما الأحاسيس الذاتية التي يؤكدها المتأملون من المرضى فأمر أكثر درامية، حيث تختفي آلام الصداع والاضطرابات الهضمية المزمنة وآلام الصدر وغيرها من الأعراض السيكوفسيولوجية، كما يزول الأرق والتوتر والقلق ويشعر المريض بقدر كبير من التفاؤل والسكينة. وحتى إذا لم تختف الأعراض الجسمية بشكل كامل، فإنها تتحسن بقدر ملحوظ، ويصبح المريض بشكل عام أقل اهتماماً بها وبمضاعفاتها.
ومن التغيرات النفسية الهامة التي يؤكدها المتأملون من المرضى والأشخاص العاديين، ذلك الإحساس بالسكينة والوصول إلى مستوى راق من المعرفة الذاتية وإلى إحساس غامر بصلة الفرد الحميمة بكل الموجودات في هذا الكون، وبعاطفة جياشة للناس وبتفاؤل عظيم وقدرة متنامية على الإنتاج والتفكير الخلاق.
ويصف كثير من المتأملين هذا الإحساس بأنه كشعور المرء المغترب عندما يصل إلى أهله وبيته.
ويؤكد Le Shan بأن هذا الإحساس الغامض لما وراء العالم المادي الملموس ليس أمراً متوهماً ولا إيحاءً ذاتياً بل هو حقيقة يثبتها التشابه المذهل بين الخبرات الروحية التي يسجلها النساك والعباد في شتى أنحاء العالم. فهم ـ كما يقول ـ يصلون إلى مراتب من المعرفة لا تستطيع أن تنقلها الكلمات التي يستخدمونها في لغاتهم القومية، لكن التشابه الكبير بين خبراتهم رغم ذلك يدعو المرء إلى قبول مصداقيتهم. ويفسر Le Shan التناقض بين هذه المعرفة الارتقائية الجديدة وبين ما اعتاده الفرد في حياته المادية العادية من مفاهيم ـ رغم حقيقة وجود كلتا المعرفتين ـ بما توصل إليه علم الفيزياء الحديث، من أن نفس الظاهرة يمكن تفسيرها بتصورين متناقضين رغم صحة كل تصور على حدة في تفسير بعض الحقائق Principle of Complementarity، ويذكرنا Le Shan في هذا الشأن بأن علم الفيزياء اضطر إلى تغيير تصوره عن حقيقة الكون بعد فشل الفيزياء الكلاسيكية في تفسير بعض الظواهر الكونية، وجاء أينشتاين وبدل المفاهيم بنظرية النسبية العامة والخاصة فأصبح الزمن بعداً رابعاً والكتلة صورة مركزة للطاقة، فانقلبت الموازين واختلف التصور الكوني. فإن كان هذا يحدث على المستوى المادي في المعرفة فلا يستغرب الباحث ـ كما يؤكد Le Shan ـ أن تكون هناك معرفة أرقى للكون والحياة يصلها الإنسان عن طريق التأمل.
إن المؤمن المتأمل لهذا النوع من العلاج التأملي لا يجد كبير عناء في ملاحظة التشابه الظاهري الكبير بينه وبين التفكر في خلق السموات والأرض وما يصاحبه من تسبيح وذكر لله تعالى. فهما يشتركان في تركيز الذهن في موضوع التأمل وفي التخلص أو التخفيف من المشوشات الخارجية والداخلية، أي ما يصرف الذهن عن التفكر من صخب في الخارج وخواطر وأفكار عارضة من داخل النفس. ويتفقان أيضاً في إعادة النظر وترديد المعاني التأملية بإيقاع متكرر حتى يظهر للمتفكر المسبح وللمتأمل في كل مرة معنى جديد وإدراك مبتكر وتصور لم يخطر على البال. فكلاهما يستخدم التفكر العميق ليحرر الإدراك الحسي الجامد من سجن الروتين اليومي للحياة المادية وقمقم الألفة وزنزانة الاعتياد حتى ينطلق إلى آفاق أرحب ومعرفة أوسع.
بل إن المسلم الدارس لإرشادات المعالجين في كتب ((التأمل الارتقائي)) و ((الاسترخاء مع الاستفادة من العامل الإيماني)) التي ملأت أسواق الكتب والأشرطة التعليمية في أوربا وأمريكا، لا تخطر بباله وهو يدرسها إلا تلك الصورة الحية لمؤمن يجلس القرفصاء بعد أداء الصلاة وهو مستغرق في التفكر في آلاء الله وعظمته ودقة صنعه، مردداً عبارات التسبيح والتحميد والتكبير. ومن الطريف أن نذكر ونحن نتحدث عن هذا التشابه الظاهري أن الدكتور بينسون ـ في كتابه الذي أشرنا إليه سالفاً ـ يختار بنفسه الكلمات والعبارات ((الإسلامية)) التي تصلح للترديد بالنسبة للمؤمن الذي يمارس التأمل الارتقائي والاسترخاء! يقول في صفحة 9 ما ترجمته:
(( ... ويمكن للمسلم أن يختار لتأمله ترديد كلمة ((الله .. الله)) ... أو كلمة ((أحد .. أحد)) ـ التي يذكر بينسون أن بلالاً كان يرددها وهو يتلقى العذاب صابراً من سيده ـ لكنه كتب تنوين كلمة ((أحد)) بالانجليزية بالميم Ahadum!
ولعل المتأمل في ((التأمل الارتقائي)) وأصوله في الديانات الشرقية القديمة والتشابه الظاهري بينه وبين التفكر والتسبيح ـ يرجح صواب نظرية الأستاذ أبو الأعلى المودودي بأن البوذية والهندوكية كانتا في الماضي من الديانات الصحيحة التي طمست معالمها فلم يبق منها إلا عقائد منحرفة وممارسات تعبدية تمسكت بالشعائر المفيدة الظاهرة كالتأمل، وتركت الغاية الحقيقية، ألا وهي توجيه هذا التأمل لعبادة الله وتسبيحه والتفكر في مخلوقاته. ونقل العالم الغربي عنهما هذه الممارسات المبتورة بعد أن ثبتت فوائدها الطبية.
وقد ذكرنا أن جميع الشعائر والعبادات الإسلامية وكل ما أمر به الشرع أو نهى عنه له فائدة للإنسان في دنياه قبل آخرته، عرفها مَن عرفها وجهلها مَن جهلها.
ويبدو لنا أن تركيز الذهن والتأمل الجاد في موضوع روحي أو قيمي معين ـ بغض النظر عن صحته أو عدمها ـ مع ترديد ألفاظه ومعانيه والاستغراق في حالة استرخائية هادئة، يخلص الإنسان فيها نفسه من الخواطر والمشاغل اليومية ويحاول الخلود إلى إيقاعات ما وراء المادة واستشفاف ما وراء الحس ـ له فائدة عظيمة بالنسبة لحالته النفسية الجسمية.
بل إن الإنسان ليستفيد هذه الفائدة بتركيز ذهنه على المثيرات الطبيعية في بيئته، كشقشقة العصافير وأصوات الأشجار الباسقة تداعبها الرياح الهادئة، أو حتى التركيز في إيقاعاته الجسمية الداخلية الرتيبة كتنفسه وضربات قلبه Mindfulness Meditation.
هذه الفوائد التي يجدها غير المسلم الذي يمارس التأمل الارتقائي أو أي نوع آخر من أنواع التأمل هي كالتي يجدها إذا واظب على السواك والاغتسال ونظافة الجسم وتقليم الأظافر والرياضة البدنية الخفيفة، وإذا امتنع عن شرب الخمر وتناول المخدرات والزنا والإسراف في الطعام، كلها أمور مفيدة للمرء في دنياه وضعها الحق تبارك وتعالى في شرعه وشعائره وسنة نبيه (ص)، أو هي في بعض الأحيان أمور غريزية جبلت في جذر القلوب يسكن إليها الإنسان مع اختلاف الأجناس والبيئات كما يسكن للماء الجاري والخضرة النضرة والوجه الحسن!
فالمؤمن المتفكر إذن يجد كل هذه الفوائد الصحية ـ الجسمية منها والنفسية ـ التي يلقاها الممارس للتأمل الارتقائي، بل ويزيد عليها أضعافاً بسبب صحة عقيدته وبساطتها ونفاذ بصيرته ووضوح رؤيته الدينية، وتدريبه المستمر على التأمل والتفكر في صلاته وتسبيحه منذ نعومة أظفاره.
بل إنه قد يصل إلى هذه الفوائد بأقل جهد وأقصر وقت. فقد أثبت الدكتور القاضي بعد سلسلة من التجارب الدقيقة التي أجراها في عيادات أكبر في فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية أن مجرد استماع المسلم لآيات من القرآن الكريم ـ سواء كان من المتحدثين باللغة العربية أو بغيرها ـ يأتي بجميع التغيرات الفسيولوجية الدالة على خفض التوتر والقلق ونزول السكينة وزيادة المناعة ضد الأمراض وغيرها من التغيرات التي فصلناها من قبل كنتائج باهرة لممارسة ((التأمل الارتقائي)). وأثبتت هذه التجارب التي استخدم فيها الدكتور القاضي أحدث أجهزة المراقبة الالكترونية لضغط الدم وسرعة ضربات القلب وقوة شد العضلات ومقاومة الجلد للتيار الكهربائي، أن لتلاوة القرآن أثراً مهدئاً واضحاً في 97% من الحالات.
إذن فالفوائد الحقيقية للتأمل تأتي بربطه بعبادة الله وحسن الصلة به تعالى، وكل ما ذكرناه من تشابه ظاهري بين التفكر كعبادة إسلامية و ((التأمل الارتقائي)) كعلاج نفسي وجسمي ما هو إلا في الصورة الخارجية وفي القشور. أما اللب الحقيقي فهو في العبور من التأمل في المخلوقات إلى خالقها وفي التوحيد الخالص لرب العالمين الذي لا تشوبه شائبة من شرك وعقيدة فاسدة. ومثل التفكر الإسلامي والتأمل الارتقائي بغير عقيدة سليمة وتصور صحيح للكون والحياة كمثل محارتين متشابهتين في شكلهما الخارجي، جاء بهما غواص من قاع البحر إحداهما تحمل في أحشائها اللؤلؤ النادر ولا تحمل الأخرى غير بقايا حيوان بحري صغير لا يسمن ولا يغني من جوع!
فالإحساس المبهم بالسعادة والاستقرار النفسي وصفاء الذهن والشعور الغامر بصلة المتأمل غير المسلم الحميمة بكل الموجودات في هذا الكون، وكأنه مغترب رجع إلى أهله، هو إحساس حقيقي يزكيه البصيص الخافت الذي يجده في التأمل وفي الاسترواح إلى القيم غير المادية التي يتفكر فيها، وربما لأول مرة في حياته، فيرى في ذلك نقلة عظيمة بالمقارنة لحياته اليومية المظلمة .. هذا الإحساس رغم تأثيره على المتأمل غير المسلم ما هو في الحقيقة إلا قطرة من البحر الزاخر الذي يحسه المؤمن المتفكر المسبح لله وهو يعلم ابتداء ـ علماً يقينياً ـ بأن كل ذرة من ذرات هذا الكون تسبح الله وتقدسه ... (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
فالمؤمن المتفكر، وإن لم يفقه تسبيح الكون، لكنه يحسه إحساساً لا يتطرق إليه الشك ويشعر بتلاحم وتناغم تسبيحه مع تسبيح كل المخلوقات، ويزداد هذا الإحساس عمقاً مع مداومة الفكر حتى يصل إلى قمم روحية سامية وإلى شعور بالسرور واللذة الروحية التي لا يشبهها من نعيم هذه الدنيا شيء، ولا تخطر ببال أولئك الذين يمارسون ((التأمل الارتقائي)) والرياضة الروحية البوذية والهندية أو حتى أولئك الذين يدربون الناس على هذه الرياضات التأملية.
فيتحدث ابن القيم عن هذا النعيم الذي تنقشع فيه هموم الدنيا وأمراضها وأعراضها كما يقشع النور الظلام بقوله: إن المؤمن المتفكر الذاكر ... ((يفتح له باب الإنس بالخلوة والوحدة في الأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات ... فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته. وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشتت قلبه ... ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها. ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات ... فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيراً من هموم الدنيا وما فيها. فهو في وجود والناس في وجود آخر ... )).
ولنستمع إلى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يحدثنا عن بعض الشيوخ من أهل الذكر والتفكر فيقول عن أحدهم:
(( ... لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال، إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: إنه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طرباً. وقال الآخر: لأهلّ الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم)).
فشتان ما بين الذين يعيشون الشقاء في ظلمات مادية بعضها فوق بعض، يفتح عليهم التأمل والاستشراف لما وراء الحس بصيصا من نور خافت مبهم ... (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) وبين أولئك الذين جعل الله لهم نوراً دائماً يمشون به في الناس.