كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.
(أوَكُلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم).
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود).
(لن يضروكم إلا أذىً وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار).
(لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر).
لم يركز القرآن الكريم على قوم كما ركز على اليهود (بني اسرائيل) حتى احتل الحديث عن هؤلاء القوم مساحة شاسعة واسعة في كتاب الله العزيز.
وهذه ظاهرة تعد في عالم التفسير من أبرز الظواهر القرآنية التي ينبغي أن نقف عندها طويلاً، لنتدبر آياتها، ونستكشف أسرارها ودلالاتها ومقاصدها، بقدر الوسع والطاقة، ولنقرأها قراءة أصيلة واعية معاصرة، ولا سيما إننا اليوم نرى تلكم الآيات المباركة ـ على كثرتها ـ متجسدة على الأرض، وكأنها نزلت في عصرنا، تتحدث عن واقعنا، وتسلط الأضواء على ساحة صراعنا.
وهذا هو جانب من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، فإننا اليوم أقدر من أي وقت مضى على استجلاء معاني آياته واستكشاف دلالاتها … فلا يزيد مرور الزمن وتوالي الدهور القرآن إلا وضوحاً وجلاءً: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
وهذا معنى (القرآن يفسره الزمان)، ومعنى (القرآن يجري على آخرنا كما جرى على أولنا، ويسري في الباقين كما سرى في الماضين).
ـ التركيز على اليهود: الأسباب والدلالات
وإذا أردنا أن نقف على أسباب ودلالات هذه الظاهرة القرآنية البارزة، فيمكننا أن نذكر ـ في هذا المجال ـ سبين أساسيين:
ـ السبب الأول: اليهود العدو اللدود
اليهود هم العدو رقم واحد، الأشد والألد للاسلام والمسلمين، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).
وهل هناك كلام أكثر صراحةً وأشد وضوحاً من هذا النص القرآني الرباني حتى نحتاج إلى (أوسلو) وغير (أوسلو) لامتحان واختبار مدى جدية اليهود في السلام والالتزام بالاتفاقات والمواثيق والعهود!!
إن هذه الآية المباركة ـ على وجازتها ـ تثبت حقيقةً، وتقرر نفسية، وترسم سنة لا تتبدل ولا تتحول في صراعنا مع اليهود:
1 ـ لا تتحدث الآية عن اليهود في زمن النزول فحسب، بل هي واضحة في لسانها المستقبلي التوكيدي (لتجدنّ)، المؤكد بلام القسم ونون التوكيد الثقيل .. لتدل دلالة واضحة على أن هذه العداوة الشرسة ليست حالة طارئة، وحدثاً عابراً، بل هي أمر ثابت ونفسية راسخة.
2 ـ إذ التعبير بـ (الوجدان) يعبر عن مدى وضوح هذه العداوة وجلائها .. وأنها ليست خافيةً على أحد، بل ((هي ظاهرة مكشوفة وأمرُ مقرر يراه كل مَن يرى، ويجده كل مَن يتأمل!)).
3 ـ تقديم اليهود على المشركين في السياق: (اليهود والذين أشركوا) هو الآخر له دلالة على أنهم أشد عداوة من المشركين الوثنيين الذين لا يعترفون بكتاب ولا يؤمنون برسالة.
وقد تفطّن صاحب تفسير (في ظلال القرآن) إلى سياق الآية، فصرح قائلاً: ((نعم، إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيباً وترتيباً .. ولكن تقديم اليهود هنا، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين ـ بما أنهم أصلاً أهل كتاب ـ يجعل لهذا التقديم شأناً خاصاً غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي! إنه ـ على الأقل ـ يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا! ونقول: إن هذا ((على الأقل)). ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا)).
4 ـ لم تنطلق هذه العداوة التأريخية منط بيعة الكتاب السماوي عند اليهود (التوراة)، بل على العكس من ذلك تماماً لأنها انطلقت من تحريفهم للكتاب ونبذهم إياه وراء ظهورهم، وطبيعة نفسيتهم المريضة الحاقدة المستعلية التي تجعلهم (يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً)، وإلا فإن النصارى هم أيضاً أهل كتاب (الانجيل)، بيد أن المقطع الثاني من الآية ذاتها يقرر حقيقة معاكسة تجاههم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)، وتعلل الآية المباركة سر هذه المودة (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).
وبقرينة المقابلة السياقية يتبين بجلاء أن عداوة اليهود تكمن بمدى الاستكبار والاستعلاء الذي يطبع نفسياتهم إلى درجة تجعلهم يُسخرون كل المقدسات في سبيل تكريس ذواتهم.
ـ السيكولوجية اليهودية:
لقد فصّل القرآن الكريم في العديد من آياته المباركة تعاملهم مع الآخرين، ومدى التزامهم بالعهود والمواثيق، كل ذلك من أجل أن يعطي لنا الصورة الأبرز، والمقومات الأوضح، والمعلومات الأدق والأصدق، لأشدّ عدو، وألدّ قوم: (ومَن أصدق من الله قيلا).
أن إهمال هذه الحقائق القرآنية يعتبر مؤامرة كبرى في طريق تجهيل الأمة بعدوها التأريخي، وجعلها تعيش الغموض تجاهه .. مما يعني الفشل الأكيد في التخطيط لمواجهته.
وفي الحقائق التي استعرضها القرآن حول الشخصية اليهودية، والمجتمع اليهودي، ما يكفي لأن نرسم صورة متكاملة لطبيعته ونسيته وأساليبه وطرق تفكيره.
ولا يقولنّ أحدُ أن يهود اليوم غير يهود الأمس، فإن هذا لا يدّعيه حتى اليهود أنفسهم، فإنهم ما فتئوا يصرون على أنهم الامتداد الطبيعي للأجيال اليهودية عبر التاريخ الطويل.
والقرآن الكريم يكذب أولئك الذين يحاولون أن ينسخوا الآيات المباركة أو يمسخوها حينما يخاطب اليهودي عصر نزولا لقرآن بجرائم ارتكبها أجدادهم في زمن موسى (ع) كقوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادّرأتم فيها)، وقوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت).
ومن المعلوم أن الذين قتلوا النفس، وتدافعوا فيها ـ كل طائفة منهم تدفع التهمة عن نفسها وتلصقها بغيرها ـ هم اليهود الذين كانوا في زمن موسى (ع)، وليس الذين كانوا في عصر النزول. وإنما صحّ خطابهم لتشابه قلوبهم، ووحدة نفوسهم وسلوكهم وأعمالهم. ثم أن القرآن بع قصة البقرة يخاطب المسلمين قائلاً: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون).
ويمكننا أن نسجل ـ بإيجاز ـ أهم صفتين من الصفات التي رسمها القرآن، والتي يمكن أن ترسم لنا بدقة وصدق ووضوح السيكولوجية اليهودية:
ـ أولاً: نقض المواثيق ونبذ العهود
ولعل هذه هي الصفة الأبرز التي يتصف بها اليهود عبر التاريخ .. وقد ذكرت الآيات المباركة ذلك بصيغة الاستمرار والثبات والرسوخ فلا يمكن أن تكون سمةً مؤقتةً أو صفةً لا تملك الديمومة والاطراد:
(أوَكلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون).
(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكّروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم).
(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا).
(لقد أخذنا ميثاق بني اسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون).
(وإذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون).
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. فأما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون).
لا يسع المجال لأن نستقرئ جميع الآيات المباركة التي أكدت بلسان السنة التأريخية، والطبيعة الأخلاقية لبني اسرائيل، ذلك لأن هذه الآيات المذكورة آنفاً ـ وغيرها ـ لا تتحدث عن حادثة واقعة، وواقعة معينة .. بقدر ما هي تؤكد على حقيقة نفسية، وسلوك راسخ، تجعلهم لا يوفون بميثاق، ولا يلتزمون بعهد .. والتعبير بـ (أوَكلّما عاهدوا عهداً) و (كلما جاءهم رسول) و (فبما نقضهم ميثاقهم)، و (ينقضون عهدهم في كل مرة)، إنما هي تعابير تدل على الاضطراد والاستمرار والثبات إلى درجة تجعل من أخلاقية نقض العهود ونبذ المواثيق طابعاً نفسياً يهودياً على مدى التاريخ.
وهذا ما يصدقه التأريخ القريب والبعيد، كما يصدّقه الواقع المعاصر .. فلم يلتزم الاسرائيليون حتى بقرارات مجلس الأمن التي جاءت لمصلحتهم، وتكريساً لاعتداءاتهم، كقرار مجلس الأمن رقم 242 عام 1967 الذي كان اعترافاً باسرائيل دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين التي اعتبرها القرار مشكلة لاجئين فحسب!!
ـ ثانياً: النكوص والهزيمة في أول المواجهة
(لن يضروكم إلا أذىً وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا يُنصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وباءوا بغضب من الله. وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، (لأنتم أشد رهبةً في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون)، (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار).
إن من طبيعة اليهود الجلاء في أول الحشر ـ كما حصل ليهود بني النضير ـ غذ لم تستمر المقاومة في حصونهم إلا أياماً معدودة. وقد فاجأ الانهيار السريع الجميع، فلا أحد كان يتوقع ذلك: (ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم).
لقد فاجأ الجلاء المفاجئ المسلمين واليهود معاً .. وقد بيّن القرآن الكريم سر ذلك الانهيار .. إنه الخوف والرعب الذي يعيشه اليهود في داخل أنفسهم، فلم تنفعهم حصونهم: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب).
نفوس خاوية، وقلوب فارغة، وأقدام متزلزلة، وهزيمة مكتوبة بل مضروبة: (لن يضروكم إلا أذى وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة).
والتعبير بالضرب له دلالاته وايحاءاته أنه يعني الثبات أولاً والاحاطة ثانياً. الثبات كما تضرب السكة أو كما يضرب المسمار في الحائط، والاحاطة كما تضرب الخيام!!
هكذا هي طبيعة اليهود .. ضربت عليهم الذلة والمسكنة .. أينما وجدوا .. وفي أي بقعة من الأرض حلوا:
(ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحل من الله وحبل من الناس).
والاستثناء المذكور في الآية له دلالاته وايحاءاته أيضاً فقد يكون اشارة ـ في واقعنا المعاصر ـ إلى الحلفاء كأمريكا وغير أمريكا .. وقد يكون اشارة إلى غير ذلك .. لأنهم لا يستطيعون الوقوف وحدهم، لما عليه من الذل والهوان.
وقد يتساءل البعض: إذا كان هذا هو حال اليهود في كل زمان ومكان، فلماذا نراهم في حال انتصار في جميع الحروب التي خاضوها مع العرب؟
الجواب واضح وبيّن:
إنهم أقوياء لضعفنا واستكانتنا وهزيمتنا وعمالة المتصدين الذين يقسمون بالله جهد إيمانهم أنهم لمع القدس وفلسطين. وإلا فإنه يكفي لثلة مجاهدة كحزب الله في لبنان أن تهزم اسرائيل هزيمة منكرة ما فعلت معشارها الجيوش العربية!!
وما أروع ما قاله الشاعر محمد الفيتوري ابان احتلال اسرائيل للقدس في نهاية الستينات، تلك القصيدة التي تخاطب الرسول الأكرم (ص) وتشخص سر ضعفنا وانتكاستنا وهزيمتنا، وانتصار مَن ضربت عليهم الذلة والمسكنة علينا:
يا سيدي .. عليك أفضل الصلاة والسلام من أمة مضاعفة
تقذفها حضارة الخراب والظلام
يا سيدي ..
منذ ردمنا البحر بالسدود ..
وانتصبت ما بيننا وبينك الحدود
متنا
وداست فوقنا ماشية اليهود
من هنا ندرك دلالات وأبعاد كلمات رؤساء (اسرائيل) التي تخشى من عودة (المارد) الاسلامي:
لقد قالها ابن غوريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني آنذاك:
((إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد)).
((نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الاسلام، هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ من جديد)).
السبب الثاني: التحذير من موالاة اليهود
لم يكتف القرآن الكريم بتسليط الأضواء على العدو الأشد والألد في حديثه عن مكرهم وكيدهم ودسائسهم من باب (اعرف عدوك)، بل صرحت الآيات المباركة بالنهي الشديد عن موالاتهم ومودتهم وتطبيع العلاقات معهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومَن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
وتكفي هذه الآية وحدها رادعاً ومانعاً عن موالاة اليهود والنصارى معاً ..
بين اليهود والنصارى: عداء أم ولاء؟
(لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض)، (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء … ).
كيف نجمع بين الآية الأولى التي تقرر حقيقة الولاء المتبادل، وبين الآية الثانية التي تثبت وتؤكد حقيقة العداء المتبادل، إلى درجة أن كل فريق يرى الآخر لا يمتلك ذرة من الحق فيما يدل عليه تعبير ((ليس على شيء))؟
من دون شك أن العداء بين اليهود والنصارى عداء تأريخي مرير وطويل، ولطالما تحدثت الأناجيل عن اليهود ومؤامراتهم على المسيح (ع) حتى أدى بهم ـ كما يدّعون ـ إلى قتله وصلبه. والتاريخ خير شاهد على تلك العداوة المتجذرة، فقد عاش اليهود في العالم المسيحي القمع والارهاب الاضطهاد .. وكانوا يخيرون في بعض البلدان المسيحية الأوروبية بين اعتناق المسيحية وفقأ العيون.
بيد أن هذا العداء يتحول إلى اتحاد وولاء فيما إذا كانت المعركة في مواجهة الاسلام .. حيث يعمد الفريقان إلى تجميد خلافاتهما التأريخية، وصراعاتهما العقائدية، للوقوف في خندق واحد أمام العدو (الألد) والمشترك.
ولهذا جاء الخطاب للمؤمنين في آية الولاء: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض).
وقد أشار إلى هذا الجمع بين الآيتين العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان)، وأكد أن ((الذي يبعث القوم على الاتفاق، ويجعلهم يداً واحدةً على المسلمين، أن الاسلام يدعوهم إلى الحق، ويخالف أعز المقاصد عندهم، وهو اتباع الهوى، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا)).
((فهذا هو الذي جعل الطائفتين: اليهود والنصارى ـ على ما بينهما من الشقاق والعداوة الشديدة ـ مجتمعاً واحداً يقترب بعضه من بعض، ويرتد بعضه على بعض يتولى اليهود النصارى وبالعكس)).
ومن الواضح أن قوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) في موضع التعليل للنهي الوارد في صدر الآية: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)، ليكون المعنى: ((لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم، يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة)).
مرضى القلوب: المسارعون في اليهود
(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة).
في هذه الآية المباركة ـ التي جاءت بعد آية النهي عن الموالاة ـ نتلمس الدلالات التالية:
1 ـ وصفت أولئك اللاهثين وراء اليهود بأنهم (مرضى القلوب)، وهو تعبير دقيق يشخص سر الوهن والضعف عندهم، ليجدوا أنفسهم أذلاء أمام الأعداء، فإن القلوب إذا مرضت اختلت الحركة وانعدم الثبات، وساد النفاق والتذبذب، ودبّ فيها الخوف والهلع والرعب، حتى ولو كان الآخر من أجبن خلق الله.
2 ـ التعبير عن اللاهثين بـ (المسارعين في) في قوله: (يسارعون فيهم) هو الآخر له دلالاته وايحاءاته، فإنهم لا يسارعون إليهم فحسب، بل يسارعون فيهم .. وهو تعبير يرسم لنا حرص هؤلاء المحموم ومدى تفاعلهم الروحي وانسجامهم النفسي مع اليهود والنصارى.
3 ـ لذا فإن قولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة) قد يكون مجرد عذر لتبرير تلك المسارعة فيهم واللهاث وراءهم. ((فهؤلاء ـ كما يعبر الطباطبائي ـ يسارعون فيهمل الخشية اصابة دائرة عليهم، فليسوا يخافون ذلك، إنما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم، لدفع ما يتوجه إليهم)) من لوم وتوبيخ ورفض واستنكار من قبل الواعين في الأمة الاسلامية.
وقد يكون قولهم (نخشى أن تصيبنا دائرة) عذراً حقيقياً لما يشعر به هؤلاء المرضى من رعب أمام قوة الأعداء، وما يتمتعون به من مظاهر العزة والغلبة. ولعل الذي يساعد على هذا المعنى ما سيأتي في آية الاستبدال: (ولا يخافون لومة لائم).
4 ـ أن هذه المسارعة لا يمكن لها أن تحقق أهدافها، إذ سرعان ما تحبط تلك المشاريع المتخاذلة، وتتكشف تلك النوايا السيئة، وسيعضُ أولئك اللاهثون المسارعون في موالاة أعداء الأمة على أصابع الندم، ولات ساعة مندم: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).
وهذا المقطع ـ على ما يبدو ـ بمثابة التفصيل لما ذكره المقطع الأخير في الآية السابقة: (والله لا يهدي القوم الظالمين). لذا فالتعبير بـ (عسى) الدالة على الترجي لا يؤثر على حتمية وقوع الندم لهؤلاء المتخاذلين اللاهثين المسارعين.
5 ـ إن (الفتح) أو (أمر من عنده) تعالى، لا محالة سيقع، وإن كان التعبير مجملاً .. حيث ذهب بعض المفسرين المعاصرين إلى أن المقصود من (الفتح) هو الغلبة عن طريق الحرب، والانتصار في ساحة المعركة، الذي يحقق انعطافة كبرى في مسيرة الصراع مع الأعداء لصالح الاسلام .. وأن المقصود من (أمر من عنده) هو استسلام الأعداء واستكانتهم لما سيؤول إليه المسلمون من قدرة فائقة، وعزة غالبة، من دون أن يخوضوا معهم حرباً حاسمة.
وبذلك يكون الفرق بين (الفتح) و (الأمر) أن الأول يتحقق من خلال الانتصار العسكري الكبير، بينما يتحقق الثاني بواسطة انتصارات من نمط آخر، اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية.
ويعترف العلامة الطباطبائي أن مصداق (الفتح) غير بيّن، ومعنى (أمر من عنده) مجهول لنا، وإن كان المعنى الإجمالي واضحاً. لذا فقد تعددت الأقوال والاحتمالات في تفسير كل من (الفتح) و (الأمر)، حيث تجعل هذه التعابير المجملة المتدبر للقرآن في أقصى فاعليته العقلية في سبيل استكشاف المعاني الممكنة والمصاديق المحتملة، وهو مطمئن بهزيمة اليهود والنصارى معاً، وبفضيحة وخذلان المسارعين اللاهثين في موالاتهم، إلى درجة تجعل المؤمنين المجاهدين المتصدين لمشاريع الاستسلام، يقولون بخصوص أولئك المسارعين: (أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم)؟!
إنه لم يعد للسائرين في ركاب الأعداء من غطاء يسترون به سوءاتهم، ومعاذير يبررون بها خياناتهم، فقد بدا كل شيء واضحاً، جلياً، حيث آلت مشاريعهم الاستسلامية الذليلة إلى الفشل الذريع، والخسران الفضيع: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين)!
لقد تكشفت النوايا، وحبطت الأعمال، وخسر اللاهثون كل شيء، فلم يعد لهم من مكان سوى مزبلة التاريخ. وهذا هو مصير الذين يخونون دينهم وأمتهم ووطنهم.
الموالون لليهود: ارتداء الولاء
(يا أيها الذين آمنوا مَن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم … ).
إنه النداء الثاني ـ في السياق ت بعد النداء الأول الذي حذرنا من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
وقد يتبادر لأول وهلة أن الارتداد عن الدين في الآية المباركة هو الارتداد (المصطلح)، الفطري أو الملي ـ كما تبادر إلى الكثير من المفسرين من القدماء والمعاصرين ـ الذين يتحول فيه المسلم إلى دين آخر ليصبح يهودياً أو نصرانياً ..
بيد أن تدبر السياق ـ في الآية فنسها والارتباط بين مقاطعها، وفي الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها ـ يوضح لنا وبجلاء أن المقصود من الارتداد عن الدين ليس هو ما تعورف في الفقه وبين الناس، بل هو ارتداد من نوع آخر أعمق وأدق، يمكن أن نطلق عليه (ارتداد الولاء)!
العلامة الطباطبائي: الردة تنزيلية لا اصطلاحية
ومن المفسرين المعاصرين الذين نبهوا إلى (ارتداء الولاء) هو العلامة الطباطبائي، حيث أشار إلى أنه ((ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الآية (54/ المائدة) هو ما اصطلح عليه أهل الدين … لكن التدبر في الآية وما تقدم عليها من الآيات (تدبر السياق) يدفع هذا الاحتمال)).
وبعد أن يعطي دلالات السياق والآيات الأخرى في سور أخرى (تفسير القرآن بالقرآن) يقول: ((فقد تبين بهذا البيان أن للآية اتصالاً بما قبلها من الآيات، وأن الآية مسوقة لاظهار أن دين الله في غنىً عن أولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة وتولي اليهود والنصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، واشتمالها على عدة مرضى القلوب، لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، وايثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة والمكانة الحيوية الفانية على حقيقة العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين … )).
ولهذا يرى صاحب تفسير الميزان أن الآية تنبئ عن ((ملحمة غيبية)) قائمة على سنة الاستبدال، وأن المراد من (الارتداد) عن الدين ـ في الآية ـ ((هو موالاة اليهود والنصارى)).
المجتمع الاسلامي: مظاهر الارتداد
ويعقد العلامة الطباطبائي بحثين بعد تفسيره لمعنى الارتداد في الآية .. أحدهما روائي، والآخر مزدوج (قرآني ـ روائي) يتحدث فيهما عن الروايات التي فسرت معنى الارتداد، وشخصت البديل الذي سوف يأتي به الله ليقوم بدوره في ساحة الصراع بعد أن تخاذل المتصدون وراحوا يلهثون وراء مخططات الأعداء. وهذه الروايات تؤكد ـ هي الأخرى ـ ما أفاده السياق من (ارتداء الولاء)، حيث يرتد المجتمع الاسلامي ردةً (تنزيلية) لا (اصطلاحية) بيّنها العديد من الآيات المباركة، كقوله تعالى: (ومَن يتولهم منكم فإنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين)، وقوله: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون).
وقد ذكر العلامة حديثين طويلين حول أخبار ملاحم آخر لازمان اعتبرها ((كالتفصيل لما تدل عليه الآية الكريمة)): (مَن يرتد منكم عن دينه … ).
ويعطي هذان الحديثان تفاصيل دقيقة ومفصلة لما سيؤول إليه المجتمع الاسلامي من مظاهر الارتداد عن الدين بعد أن ينكفأ الدين ((كما ينكفئ الاناء))، حيث يلي المسلمين ((أمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأمناء خونة))، و ((أقوام إن تكلموا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم)).
سيد قطب: السياق وارتداد الولاء
ينبّه المفسر سيد قطب إلى سياق آية الارتداد في سورة المائدة، فيرى أن التهديد في الآية ((ينصرف ـ ابتداءً ـ إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الاسلام. وبخاصة بعدما سبق من اعتبار مَن يتولاهم واحداً منهم، منسلخاً من الجماعة المسلمة منضماً إليهم: 0ومَن يتولهم منكم فإنه منهم) .. وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيداً وتقريراً للنداء الأول .. يدل على هذا ـ كذلك ـ النداء الثالث الذي يلي النداء والسياق، وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار … )).
وهكذا تتعانق النداءات الثلاثة في سياق واحد لتشكل موضوعاً واحداً متكاملاً يبين مخاطر ارتداد الولاء:
النداء الأول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض … ).
النداء الثاني: (يا أيها الذين آمنوا مَن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه … ).
النداء الثالث: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء … ).
ويشجب سيد قطب ((عملاء أهل الكتاب في الوطن الاسلامي ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو خفية))، الذين يسعون جاهدين في ((تمييع)) و ((طمس)) هوية الصراع وحقيقته التي يقررها القرآن (في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين)): (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، (قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا … )، ليصوروا أن ((قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت! وأنها كانت مجرد فترة تأريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعاً! ثم تنور العالم و ((التقدم)) فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة .. وإنما الصراع اليوم على المادة! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب.
source : البلاغ