عربي
Monday 22nd of July 2024
0
نفر 0

المهدوية والحركات الإسلامية

شكلت (الفكرة المهدوية) مكونا هاما من المكونات الفكرية للحركات الإسلامية القديمة والمعاصرة بغض النظر عن صحة الرؤية التي يعتمدها هؤلاء عن المهدوية من عدمها.

التصورات التي يتبناها البعض عن الإسلام لا تتطابق بالضرورة مع التصور الحقيقي الوارد في كتاب الله وسنة رسوله(ص)، خاصة عندما لا يعلق في أذهان الناس بمن فيهم من يعدهم البعض قادة الإصلاح من التصور الأصلي إلا خيالات أو ذرات هائمة من الحقيقة كتلك القبضة التي قبضها السامري من أثر موسى وساق بها جهال بني إسرائيل إلى حتفهم (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).[1]

المهدوية قرين الإصلاح والتغيير وهي عند أصحابها (وكانوا أحق بها وأهلها) عقيدة راسخة وليست شطحة عقلية طارئة أو رغبة عارمة تتملك بعض عشاق الزعامة والرئاسة ممن يقبضون قبضة من أثر الرسول يصنعون منه للناس صرحا من وهم وخيال فهوى!.

المهدوية عند أصحابها عقيدة قديمة قدم التاريخ الإسلامي وهي ذروة عملية من التغيير والإصلاح التكاملي الذي احتاج قرونا من الزمان وربما يحتاج قرونا إضافية، أما عند غير أصحابها من الأدعياء المنتحلين فهي نزوة طارئة تهبط على عقل صاحبها المدعي ما ليس له كما تهبط أمطار الصيف من سماء زرقاء صافية!!.

المهدوية عند المدعين ما ليس لهم إما أن ترتدي لبوس المهدي شخصا ودورا أو تكتفي بانتحال دور ومكانة المخلص المنتظر الذي تشتاق إليه البشرية ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا والذي جاء ليخلص الناس من الضلالات والانحرافات العقائدية ربما ليوقعهم في المزيد منها أو ليزيد أزماتهم تعقيدا أو يضيع من بين أيديهم حلولا واقعية ربما كانت تخفف عنهم بعضا من آلامهم ريثما يظهر المخلص الحقيقي الموعود!!.

المهدوية ليست مجرد بدعة شيعية كما يزعم البعض ممن لا يملكون قدما راسخا في العلم ولا قدرة على التأمل فيما يجري حولهم وممن لا يعرفون من الدين إلا مجموعة شعارات براقة لا تسقي عطشانا ولا تغني من جوع.

لو كانت المهدوية أو (المخلص المنتظر) اختراعا شيعيا كما يزعم القوم فليشرح لنا هؤلاء معنى (الأسماء والصفات) التي يسبغونها من دون ضابط ولا رابط على بعض قادة زماننا الأغبر، فهم إما مجدد للقرن أو إمام ملهم أو أعجوبة الزمان أو إمام العصر الذي من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله ورسوله!!.

الحديث إذا عن المهدوية وعلاقتها بالحركات الإسلامية المعاصرة لا ينبغي أن يقتصر على تلك الحركات التي تصدى لقيادتها من انتحلوا صفة (الإمام المهدي المنتظر) لحما ودما بل يمتد إلى غيرها من الحركات التي زعم قادتها أو زعم لهم صفات قيادية ومهام كونية جامعة من ذلك النوع الذي يختص به إمامنا المهدي صاحب العصر والزمان الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت(ع).

يعرض العلامة المفكر آية الله مرتضى المطهري في كتابه القيم عن الحركات الإسلامية أسباب أفول الفكر الإصلاحي في العالم العربي بقوله:

لو كان هناك أفراد يمكن أن نعدهم أبطالا للحركة الإصلاحية في العالم العربي، فإنهم لا يتعدون ثلاثة، هم من حيث الأهمية: السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ عبده والكواكبي.

نعم ظهرت عناصر أخرى من اتباع هؤلاء وخصوصاً السيد جمال والشيخ عبده من مصر وسوريا والجزائر وتونس والمغرب كانوا دعاة إصلاح واصلوا طريق السيد جمال والشيخ عبده، ولكن لم يصلوا إلى المكانة التي تجعلهم في مستوى الأبطال الثلاثة الذين ذكرناهم. حتى أن فيهم - بسبب بعض الانحرافات - من يعتبرون (مفسدين) بدل أن يكونوا (مصلحين) ذلك أنهم بدل أن يقوموا بعمل إصلاحي، قاموا بعمل إفسادي.

وهنا تطرح عدة أسئلة: لماذا لم تظهر في العالم العربي شخصية أخرى يمكن أن نعتبرها بطلة الإصلاح غير الثلاثة الذين ذكرناهم؟ لماذا لم تقم تلك الشخصيات التي ادعت الإصلاح في العالم العربي، بعمل متكامل وصحيح من أمثال، عبد الحميد بن باديس الجزائري وطاهر الزهراوي السوري، وعبد القادر المغربي، وجمال الدين الكاظمي السوري، ومحمد بشير الإبراهيمي وغيرهم؟

لماذا سقطت جاذبية الحركة الإصلاحية الإسلامية من البلدان الإسلامية؟ ولماذا حصلت الحركات القومية والعربية من أمثال البعث والناصرية، أو الحركات الاشتراكية والماركسية على جاذبية الكثيرين من الشباب العربي؟

السبب الرئيسي الذي جعل الحركة الإسلامية التي بدأها السيد جمال الدين تفقد أهميتها وحرارتها، هو اتجاه أكثر مدّعي الإصلاح بعد السيد جمال والشيخ عبده نحو (الوهابية) وانحصارهم في الدائرة الضيقة لهذا الفكر وأن هؤلاء غيروا تلك الحركة الإصلاحية إلى حركة سلفية تتبع ابن تيمية الحنبلي وحصروا (الرجوع إلى الإسلام الأصيل) بـ(الرجوع إلى الحنبلية) التي تعتبر من المذاهب السطحية في الإسلام، وتغيرت بعد ذلك الروح الثورية من النضال ضد الاستعمار والاستبداد إلى النضال ضد العقائد التي تخالف معتقدات الحنبليين خصوصا ابن تيمية الحنبلي. أ.هـ

إن من أعجب العجب أن تلك الحركات ذات المرجعية (الوهابية) التيموية التي ترى فيمن ينحاز لأهل بيت النبوة ويتمثل فيهم النموذج الكامل للقيادة والإمامة (بإرادة واختيار إلهي)، منافقا يتخذ من حبه لأهل البيت عليهم السلام ستارا يستر كفره ونفاقه وبغضه لأصحاب محمد(ص) (وكأن الصحابة هم الأصل وأهل البيت هم الفرع؟!)، حاولت وما زالت تحاول أن تقدم قادتها في صورة (أئمة مهديين) بدلا من الاكتفاء بوضعهم في إطار واقعي كأصحاب (مشروع إصلاحي) اجتهادي يصيب أو يخطئ ويتعثر تارة وينهض تارة أخرى.

الإخوان المسلمون مثلا يرون أن مؤسس الجماعة هو (أعجوبة هذا الزمن، ورائدا من رواد الخير والحرية والفضل.. عاش للإسلام، واستشهد في سبيل الإسلام رافعًا لرايته رافعًا لهذا الحق، مربيًا لهذه الأجيال....)[2]

يكتب أحدهم في ذكرى مقتل مؤسس الإخوان:

(في هذه الأيام تحلُّ علينا مئوية الشيخ البنا الرجل العملاق مجدد القرن العشرين بغير منازع، صاحب الفهم العميق والتصوُّر المحيط والإدراك الشامل لحقائق الإسلام وأحكامه والداعية صاحب البيان الرائع والبلاغة الآسرة واللفظ الساحر والحكمة العميقة، والتنظيم الدقيق، والصفات الكثيرة المتنوعة، التي تستحيل أن توجد في رجل أو تُجمَع في إنسان، ومع هذا عاش الرجل يجالد الفساد في التصور، والانحراف في الفهم، ويصارع الأباطيل، عسى أن يهدي اللهُ الضالَّ، ويصلح الفاسد، ويبصِّر الأعمى، ولكن الفساد كان عميقًا والظلام داجيًا؛ بحيث إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها، والكيد إبليسيًّا وشيطانيًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض، ولكن الرجل صارعهم فصرعهم ونازلهم فهزمهم).

ثم يستشهد بأبيات من الشعر خطها واحد من تلاميذ (الإمام المؤسس أعجوبة الزمان) منها:

     قد جئت يا \"حسن البنا\" على قدر   فكنت أحسن في البانين بنيانا 

     وجئت جنح الدجى بدرًا قد اكتملت    أنوارُه وأضاءت ليل دنيانا

     ويا فتًى علَّم الدنيا بحكمته     وظل في شأنه التاريخ هيمانا

     يا سيدي يا مجير الشرق من فتنٍ    وظل في شأنه التاريخ هيمانا 

     قُتلت يا \"حسن البنا\" بمن قتلوا      القسام قبل و ياسينا و عدنانا

     ظلت دماؤك تجري وهي نازفة         إلى علي ووافت جرح عثمانا

     باعث النهضة الكبرى ومُوقظها       ومُجري الماء سحاحًا وهتانا

     ومنقذ الجيل من ضعفٍ ألمَّ به      فعادت أصلب بنيانًا وأركانا

     أحييت كل موات في ضمائرنا      لما صنعت من الإنسان إنسانا 

     والله يا حسن البنا وفي دمنا       دَينٌ سنقضيه عرفانًا وشكرانا

     المسلمون بخيرٍ سيدي فهم      باقون ما بقي التاريخ إخوانًا[3]

الكاتب والشاعر كلاهما يرى في مؤسس جماعة الإخوان (باعث النهضة الكبرى وموقظها ومجري الماء سحاحا وهتانا كما أنه منقذ الجيل من ضعف ألم به وانه صنع من الإنسان إنسانا) وهو فضلا عن كل هذا مجدد القرن العشرين بلا منازع كما أن دماءه النازفة واصلة إلى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان لتضعه إما قريبا أو في نفس المستوى الذي بلغه (الخلفاء الراشدون) أو (الأئمة المعصومون) والاختيار متروك لمزاج السامع وموقفه المذهبي!!.

إنها مهدوية بلا مهدي وحسب كتاب الجماعة وشعرائها أن ينسبوا لزعيمها وقائدها كل أو بعض صفات الإمام المهدي فتتدفق الجموع لتعطي بيعتها لإمام (أحيا كل موات في ضمائرنا) فكان كل المسلمين (إخوانا) وكان أن أصبح الإنسان إنسانا، شئنا أم أبينا!!.

الأمر ليس كما يتصور البعض مجرد جنوح خطابي للمبالغة والتهويل بل هو جنوح نفسي للبحث عن إمام قائد مخلص يرتمي الأتباع في أحضانه فيأخذهم إلى السماوات العلا لا لشيء سوى امتلاكه هو الآخر للسان خطابي جموح يمتلك الجرأة على القول: (في الوقت الذي يكون فيه منكم ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة وفكريا بالعلم والثقافة وجسميا بالتدريب والرياضة في هذا الوقت طالبوني أن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء وأغزو بكم كل جبار عنيد فإني فاعل إن شاء الله وصدق رسول الله القائل ولن يغلب اثنا عشر ألف من قلة وإني أقدر لذلك وقتا ليس طويلا بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته).

مهدوية بمهدي!!


تحدثنا سابقا كيف أن الكثير من الحركات الإسلامية كانت مهدوية بلا مهدي أي أنها تمنح قائد الحركة ومؤسسها أغلب خصائص المهدي المنتظر دون أن تمنحه اللقب وربما كان هذا بسبب إدراك هؤلاء المنظرين لخطورة فشل مثل هذا الادعاء وتعرضه لانتكاسة خطيرة كتلك التي تعرضت لها مهدوية السودان التي سنتناولها في السطور القادمة.

تحت عنوان (كيف صار مهديا) يقول الدكتور عبد الودود شلبي:[4]

أقبل اليوم الموعود ليعلن محمد أحمد أنه المهدي المنتظر وإمام الزمان الذي تجب طاعته على كل البشر وكان هذا في غرة شعبان سنة 1298 الموافق 29 يونيو 1881 حيث جاء في بيان إعلان مهدويته (وحيث أن الأمر لله والمهدية المنتظرة أرادها الله واختارها للعبد الفقير محمد بن السيد عبد الله فيجب التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله.. وبعد هذا البيان فالمؤمن يؤمن ويصدق لأن المؤمنين هم الذين يؤمنون بالغيب ولا ينتظرون لأخبار أخر فمن انتظر بعد ذلك فقد استوجب العقوبة لأنه(ص) قال من شك في مهديته فقد كفر بالله ورسوله).

ثم يقول الدكتور شلبي: وماذا ينقص محمد أحمد حتى يكون مهديا؟! إنه عالم وصالح وشريف النسب، كما أنه أفرق الثنايا على خده خال وبينه وبين رسول الله شبه في الاسم وشبه في اليتم...

ثم يعرض لنا بعضا من أدبيات المهدي السوداني:

(من العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبابه في الله المؤمنين بالله وكتابه، أما بعد: فلا يخفى تغير الزمن وترك السنن ولا يرضي ذلك ذوو الإيمان والفطن بل أحق أن يترك لذلك الأوطار والوطن لإقامة الدين والسنن… ثم أحبابي كما أراد الله في أزله وقضائه تفضل على العبد الذليل بالخلافة الكبرى من الله ورسوله وأخبرني سيد الوجود(ص) بأني المهدي المنتظر وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مرارا بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام وأيدني بالملائكة المقربين وبالأولياء الأحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا وكذلك بالمؤمنين من الجن والإنس وفي ساحة الحرب يحضر معهم سيد الوجود(ص) بذاته الكريمة وكذلك الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام وأعطاني سيف النصر من حضرته ص وأعلمت أنه لا ينصر عليّ معه أحد ولو كان الثقلين الجن والإنس. ثم اخبرني سيد الوجود بأن الله جعل لي علامة أخرى تخرج راية من نور وتكون معي في حالة الحرب يحملها عزرائيل(ع) فيثبت بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله. وحيث أن الأمر لله والمهدية أرادها الله لعبده الحقير الذليل محمد المهدي بن عبد الله فيجب التصديق بذلك لإرادة الله وقد أجمع الخلف والسلف على تفويض العلم لله فعلمه سبحانه لا يتقيد بضبط القوانين ولا بعلوم المتفننين بل يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده علم الكتاب. هذا وقد أخبرني سيد الوجود بأن من شك في مهديتك فقد كفر بالله ورسوله كررها ثلاث مرات، وجميع ما أخبرتكم به من خلافتي على المهدية فقد أخبرني به سيد الوجود يقظة في حال الصحة خاليا من الموانع الشرعية، لا بنوم ولا بجذب ولا سكر ولا جنون بل متصفا بصفات العقل، أقفو أثر رسول الله(ص) بالأمر فيما أمر به والنهي عما نهى عنه.

وإني لا أعلم بهذا الأمر حتى هجم علي من الله ورسوله من غير استحقاق لي بذلك، فأمره مطاع وهو يفعل ما يشاء ويختار وحكم نبيه كحكمه ولما تكاثرت منه البشائر والأوامر لي في هذا المعنى امتثلت قياما بأمر الله وقد كنت قبل ذلك ساعيا في إحياء الدين وتقويم السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولما حصل يا أحبابي من الله ورسوله أمر الخلافة الكبرى أمرني سيد الوجود ص بالهجرة إلى ماسة بجبل قدير وأمرني أن أكاتب جميع المكلفين أمرا عاما فكاتبنا بذلك الأمراء ومشايخ الدين فأنكر الأشقياء وصدق الصديقون الذين لا يبالون بما لقوه في الله من المكروه وما فاتهم من المحبوب المشتهى بل ناظرون إلى وعده سبحانه وتعالى بقوله:

(تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).[5]

والهجرة المذكورة بالدين واجبة كتابا وسنة، قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[6]

وقال: من فر بدينه من أرض إلى أرض استوجب الجنة.. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، فإذا فهمتم ذلك فقد أمرنا جميع المكلفين بالهجرة إلينا لأجل الجهاد في سبيل الله وإلى أقرب بلد منكم لقوله تعالى (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) فمن تخلف عن ذلك دخل في وعيد قوله تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) الآية.. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) فإذا فهمتم ذلك فهلموا للجهاد في سبيله ولا تخافوا من أحد غير الله لأن الخوف من غير الله يعدم الإيمان بالله والعياذ بالله من أجل ذلك قال الله تعالى (فلا تخشوا الناس واخشون) فمن كان مهتما بإيمانه حريصا على أمر ربه أجاب الدعوة واجتمع مع من ينصر دينه. وليكن معلومكم: أني من نسل رسول الله فأبي حسني من جهة أبيه وأمه وأمي كذلك من جهة أمها وأبوها عباس والعلم لله إن لي نسبة إلى الحسين وهذه المعاني الحسان تكفي لمن أدركه الله بالإيمان فلا عبرة لمن يراها ولم يصدق بها.

ومن البشائر التي حصلت لنا أنه حصلت لي حضرة نبوية حضرها الفقيه عيسى فيأتي النبي ويجلس معه ويقول للأخ المذكور شيخك هو المهدي فيقول الفقيه عيسى إني مؤمن بذلك فيقول من لم يصدق بمهديته فقد كفر بالله ورسوله قالها ثلاث مرات، ثم يقول له الأخ المذكور: يا سيدي يا رسول الله: الناس من العلماء يستهزئون بنا والخشية من الترك فيقول إن قوي يقينكم إن أشرتم بأدنى قشة تنقضي حوائجكم...

يتعين علينا أن نتأمل في هذا الخطاب (المهدوي) خاصة عندما يكشف لنا المهدي السوداني أنه لم يكن يطمع في هذا المنصب الرفيع فضلا عن أنه لم يكن يعرف أنه المهدي المنتظر ولا أنه صاحب الزمان لولا أن رسول الله(ص) رجاه وألح عليه في القيام بهذه المهمة كما أنه لم يكن يرى نفسه أهلا لهذا المقام ولكنه اضطر للقبول بهذا المنصب!! بعد كثرة الإلحاح والرجاء خشية أن يخرب العالم ويفسد الدين لو لم يقبل القيام بهذه المهمة!! حيث يقول: (وإني لا أعلم بهذا الأمر حتى هجم علي من الله ورسوله من غير استحقاق لي بذلك، فأمره مطاع وهو يفعل ما يشاء ويختار وحكم نبيه كحكمه ولما تكاثرت منه البشائر والأوامر لي في هذا المعنى امتثلت قياما بأمر الله وقد كنت قبل ذلك ساعيا في إحياء الدين وتقويم السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

ولأنه قبل إلحاح رسول الله(ص) وصار مهديا بل وأصبح من (المعلوم من الدين بالضرورة) بعد أن لم يكن معلوما حتى لنفسه!!.

لذا فقد أوجبت عليه الديباجة السابقة أن يعلن للدنيا بأسرها أن من شك في مهديته فقد كفر بالله ورسوله خاصة، أن رسول الله أخبره بذلك شفاهة ويقظة لا نوما ولا سكرا!!

ومن ثم فلا حاجة لإقامة دليل أو برهان أو شهادة على صحة ما ادعاه هذا المهدي المزعوم من وجود اتصال مباشر بينه وبين رسول الله(ص).

مهدي وهابي!!


يقول الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه : عندما نعود إلى البيانات والمنشورات التي أصدرها المهدي نرى مطابقة أقواله وأحكامه لهذا الفكر السلفي ومنابعه حيث يقول: (لا تستغيثوا بأحد دون الله ولو كان نبيا رسولا أو ملكا فجميع الأنبياء دعوا إلى وحدانية الله فلا تتوهموا وتنسبوا إلى رجل صالح شيئا أو تطلبوا منه شيئا فإن ما سوى الله يقطع النظر عن الله تعالى، قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وقال تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).

ويضيف الدكتور شلبي (وفي هذا المنشور تجسيد آخر لتعاليم ابن تيميه وابن عبد الوهاب فيما يأتي: أولا: منع الاستغاثة بغير الله ولو كان نبيا أو ملكا، ثانيا: ألا ينسبوا أو يتوهموا أو يطلبوا من رجل صالح شيئا، ثالثا: اعتبار أي عمل من هذه الأعمال شركا، إنها نفس الآراء والأحكام التي أصدرها بن عبد الوهاب وابن تيميه وتكاد الألفاظ والعبارات أن تكون واحدة على نحو ما بينا في المقدمة).

ويذكر الدكتور شلبي أن التعايشي (خليفة المهدي) أعلن إلغاء المذاهب والطرق الصوفية حتى لا يبقى إلا الدين الخالص.

(التعايشي) والبحث عن مهدي!!


الدور الذي لعبه عبد الله التعايشي (خليفة المهدي) ووارث دولته بعد موته يحتاج أيضا إلى وقفة تأمل إذ أن هذا النوع من الرجال هو آفة من آفات الحركة الإصلاحية بل آفة من آفات هذا الدين فهو قد جمع بين خصلتين من أسوأ وأحط الصفات فهو من ناحية لا يبالي بما أفسد أو خرب حيث لم يمنعه من التقدم لقيادة مسيرة (اَلْفَسَادَ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ وَنَضِيضُ وَفْرِهِ) وهو من ناحية أخرى ممن (يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا بِعَمَلِ اَلْآخِرَةِ وَلاَ يَطْلُبُ اَلْآخِرَةَ بِعَمَلِ اَلدُّنْيَا قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَاِتَّخَذَ سِتْرَ اَللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى اَلْمَعْصِيَةِ) كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).

كان هذا التعايشي كما يذكر الدكتور شلبي تواقا إلى النفوذ والسلطة وقد بذل والده عناية خاصة في تعليم أبنائه ولكنه وجد عناء معه إذ اشتهر بانصرافه عن علوم الدين وحفظ القرآن فكان أن انشغل بهذا النوع من المغامرات والبطولات فانضم للرزيقات في حربهم مع الزبير رحمة باشا ووقع أسيرا في يديه فأمر بقتله لولا أن تشفع فيه الفقهاء ورجال الدين فأن أرسل إلى الزبير باشا رحمة أنه حلم حلما رأى فيه أنه المهدي المنتظر وأنه أي عبد الله التعايشي سيكون وزيره فزجره الرجل وأمره بألا يعود إلى هذا الدجل الرخيص!!.

ثم ذهب إلى الشيخ محمد شريف نور الدائم شيخ الطريقة السمانية وقال له: أنت المهدي المنتظر! أي أن الرجل كان يبحث عن مهدي منتظر ليكون مستشاره ووزيره (ووصيه ووارثه من بعده!!) وقد رفض الشيخ محمد شريف هذه اللعبة ثم قال له: إن كنت تبحث عمن يقول ذلك فعليك بتلميذي السابق محمد أحمد الذي كان في ذلك الوقت يقيم قبة على قبر شيخه القرشي وكان الشيخ القرشي قد أعلن أن من يختن أولاده ويبني قبة على ضريحه سيكون هو المهدي وبينما هو على هذا الحال إذ وفد عليه التعايشي وخر ساجدا بين قدميه يتمرغ ويبكي وحين سأله محمد أحمد عن سبب ذلك قال: كان لي أب صالح من أهل الكشف وقد أخبرني قبل وفاتي أنني سأقابل المهدي وأكون وزيره فلما حضرت إليك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي فابتهج قلبي لرؤية مهدي الله وخليفة رسوله.

ثم يقول الدكتور شلبي: لقد كان التعايشي هو الذي دفع محمد أحمد للمسارعة بإعلان دعوته ولو تأخر عشر سنوات (في إبلاغه بهاذ الكشف الهام والخطير!!) لتأخرت الدعوة عشر سنوات وقد حفظ محمد أحمد للتعايشي هذه اليد وجعله الوارث لدعوته وخلافته من بعده وهدد كل من يتناول أعماله وتصرفاته بالنقد (لأن جميع أعماله وأحكامه محمولة على الصواب ولأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب ولو كان حكمه على قتل نفس منكم أو سلب أموالكم ومن تكلم في حقه ولو بالكلام النفسي فقد خسر الدنيا والآخرة ويخشى عليه من الموت على سوء الخاتمة... وقد أتانا خبر من الخضر عليه السلام أن الأولياء اجتمعوا في بيت المقدس يقولون: الحمد لله الذي أظهر المهدي وجعل عبد الله وزيره ثم وجد أي الخضر اجتماع الشياطين وهم يقولون كان عيشنا بالغش والخداع فأتى المهدي وقطع علينا عيشنا ولولا أن عبد الله وزيره لكنا نجد في المهدية دخولا فحيث علمتم ذلك يا أحبابي أن الخليفة عبد الله مني وأنا منه فتأدبوا معه كتأدبكم معي فجميع ما يفعله بأمر النبي أو بإذن منه لا بمجرد اجتهاد منه ولا هو عن هوى بل هو نائب عنه في تنفيذ أمره).

انتهى الأمر بمهدي السودان المزعوم كما هو معلوم ولسنا في حاجة لسرد واستقصاء وقائع وأحداث التاريخ فهاهم أحفاده الآن في السودان يتحدثون عن الديموقراطية والليبرالية ولم يبق من ذكريات هذا المزعوم إلا بعض الألقاب والذكريات.

خلفاء المهدي


قام مهدي السودان بتعيين (خلفاء) ولكنهم ليسوا خلفاء له، بل كانوا خلفاء قادة الحكم الإسلامي الأوائل فالمهدي هو خليفة رسول الله أما عبد الله بن محمد (التعايشي) فكان خليفة أبي بكر أو (خليفة الصديق)، أما علي محمد حلو فكان (خليفة عمر بن الخطاب) ومنح قريب المهدي محمد شريف بن حامد منصب (خليفة علي) نسيب النبي وابن عمه (خليفة الكرار) وبقي مكان واحد ظل شاغرا هو منصب (الخليفة الثالث عثمان بن عفان)، وبعد أن استولى المهدي على الأبيض دعا محمد بن المهدي بن السنوسي زعيم الطائفة السنوسية في جغبوب لقبول منصب الخليفة الثالث ولكنه لم يتسلم ردا على خطابه ولم يتم ملء ذلك المنصب (فظل شاغرا إلى الآن!!).

أما كيف ملأ (المهدي) هذه المناصب فيحكي هولت نقلا عن محمد أحمد (ثم حصلت حضرة عظيمة عين فيها النبي(ص) خلفاء أصحابه من أصحابي فأجلس أحد أصحابي على كرسي أبي بكر الصديق وأحدهم على كرسي عمر وأوقف بكرسي عثمان وقال هذا الكرسي لابن السنوسي إلى أن يأتيكم بقرب أو طول وأجلس أحد أصحابي على كرسي علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين وما زالت روحانيتك معنا في بعض الحضرات مع بضع أصحابي الذين هم خلفاء رسول الله(ص)).[7]

إنها نفس الشعارات التي رفعتها وما زالت ترفعها أغلب الحركات الإسلامية عن مقاومة الظلم والفساد ومحاربة الشرك وانحراف العقيدة الذي ملأ أطباق السماوات والأرض فضلا عن تعطيل الحكم بما أنزل الله من دون أن يحاول أي من هؤلاء أن يحدد لنا متى ظهر هذا الفساد أو متى انتهى العمل بأحكام الشريعة الإسلامية ناهيك عن استبدال ظلم بظلم وقتلة ومصاصي دماء بقتلة آخرين ومصاصي دماء آخرين وكل ما هنالك أن الظلم الجديد يحمل راية الإسلام والتجديد أو راية المهدي السوداني أو خليفته التعايشي!!.

المهدي المنتظر: حدث داخل السياق


لسنا في وارد عرض ما هو معلوم من الأدلة والبراهين المتعلقة بإثبات حقيقة المهدي المنتظر أرواحنا لمقدمه الفداء خاصة تلك المتعلقة بشخصه الشريف فهو شخص معلوم لشيعة أهل البيت وهم ينتظرون ظهوره ويعدون أنفسهم ليكونوا من جنده وأعوانه لأن الأمر يتعلق بمنهجية أهل البيت(ع) التي هي امتداد للمنهج الإسلامي الذي جاء به رسولنا الأكرم محمد(ص) وبلغه للأمة الإسلامية وهو المنهج الذي أودعه رسولنا(ص) لوصيه علي بن أبي طالب من بعده ومن ثم فقد انتقل هذا المنهج من إمام إلى إمام حتى استقر عهدة صاحب الأمر والزمان الإمام الحجة المنتظر محمد بن الحسن العسكري(عج).

الأمر إذا (حدث داخل السياق)، السياق المنهجي والسياق التاريخي الذي شهد صراعا داميا بدأ عشية رحيل رسول الله(ص) وما زال مستمرا حتى هذه اللحظة بين النهج المحمدي العلوي الرسالي ونهج الانحراف المضاد عن منهج الله الذي حمل أمانته أهل بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.

الظلم باسم الإسلام لم يبدأ عشية الاحتلال التركي أو المصري للسودان ولكنه بدأ يوم أزيح علي بن أبي طالب من موقع ولاية أمر المسلمين وخلافة رسول الله(ص) وكان كل ما جرى من ظلم بعد ذلك فرعا على هذا الظلم الأصلي فاستحق بذلك من ظلموا آل محمد وقاتلوا عليا ثم قتلوا الحسين بن علي(ع) لقب (أصول الظالمين) الذين يتعين اقتلاع ظلمهم وفسادهم حتى تطهر الأرض من أدرانها.

من هذه الناحية لن يكون ظهور المهدي ليجتث أصول الظلم والظالمين مفاجأة لشيعته من حيث طبيعة الصراع الذي شنه ويشنه هؤلاء أمس واليوم انتهاء بالحرب التي سيعلنونها على صاحب الأمر والزمان عند ظهوره، ربما باستثناء التوقيت.

لن يكون ولا يمكن أن يكون هناك مهدي وهابي ولا مهدي يعمل برأي من عنده فالأئمة الحقيقيون مهديون بهداية الله وعنايته فكيف يكون المهدي تابعا لابن تيميه وتابعه الضال ابن عبد الوهاب (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[8] (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).[9]

المهدي إمام من أئمة أهل البيت يأتمر بأمر الله ويعمل بوصية رسول الله(ص) ومن سبقوه من الأئمة سلام الله عليهم أجمعين.

الأهم من هذا أن المهدي الحقيقي سيظهر ليقود المعركة النهائية والأخيرة، معركة اقتلاع الظلم والفساد والانحراف عن الشريعة الإسلامية من جذورها لا من فروعها كما يزعم أدعياء المهدية وقادة الإصلاح المزيفون.

قل من هؤلاء المصلحين المزعومين من توجه لمواجهة قادة الفساد الأصليين الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار وحولوا الدين إلى سلعة تباع وتشترى في سوق النخاسة السياسية المنصوب في قلب الأمة الإسلامية منذ أن انحرفت عن نهج الأئمة من آل محمد(ص).

المهدي الحقيقي (يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى وَيَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ) ومن ثم فمواقفه وأحكامه تأتي مطابقة لأمهات الأحكام القرآنية الجامعة لكل خير والمانعة لكل شر أما هؤلاء المزيفون فيعَطَفُون (الْهُدَى عَلَى الْهَوَى ويعَطَفُون الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ) فيستخرجون من كتاب الله ومن سنة سيد الهدى محمد(ص) ما يبررون به أهواءهم وجرائمهم للناس ولو لم يجدوا من النصوص الشرعية الثابتة ما يروجون به بضاعتهم لجئوا إلى الادعاء بوجود الإلهام والرؤى النبوية المكذوبة والكرامات المزيفة ومخاطبة الخضر لهم ومحاضر اجتماعات الأقطاب ولولم يقدروا على شيء من هذا لجئوا إلى أبواقهم الدعائية المزيِفة كهذا التعايشي الذي عاش يبحث عن مهدي يكون وزيره ومستشاره وخليفته من بعده.

المهدوية الحقيقية تهدف لاجتثاث الظلم والفساد من الجذور لا من الفروع كما يفعل هؤلاء البسطاء وسيكون يوم ظهوره يوم النصر الإلهي الموعود كما جاء في ختام (دعاء الندبة):

مَتى تَرانا وَنَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْرِ؟ تُرى أَتَرانا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ المَلاَ وَقَدْ مَلأتَ الأرْضَ عَدْلاً وَأَذَقْتَ أَعْدائَكَ هَواناً وَعِقاباً وَأَبَرْتَ العُتاةَ وَجَحَدةَ الحَقِّ وَقَطَعْتَ دابِرَ المُتَكَبِّرِينَ وَاجْتَثَثْتَ أُصُولَ الظَّالِمِينَ.

المهدوية الحقيقية مبدأها رسول الله وهي متصلة به ومن ثم فهي واصلة بالله عزوجل وهي الحبل والسَّبَبُ المُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّماء.

دعاء الندبة


يعطينا دعاء الندبة وهو المناجاة التي يبثها الشيعة المتألمون لغيبة إمامهم، المنتظرون لظهور أمره وقيادته المباشرة لمسيرة جهادهم من أجل إعلاء كلمة الله، تصورا شاملا عن رؤيتهم للصراع الدائر بين الحق والباطل، بين العدالة والظلم، تصورا منهجيا واضحا لطبيعة الصراع وجذور الظلم الحقيقية التي يتعين عليهم التصدي لها ومعالجتها بدلا من الاكتفاء بمواجهة الآثار والنتائج التي تستفز أصحاب الرؤى القاصرة فيستفرغون جهدهم وجهد أتباعهم في مواجهتها حتى ولو رفعت هذه المواجهة شعار المهدوية الكاملة أو تلك الناقصة فتكون النتيجة دوما هي الفشل مهما حققت هذه الحركات من نجاحات وانتصارات أولية على خصومها.

لسنا بحاجة إلى سرد كامل الدعاء وسنقتصر على ما يفيدنا في بيان أن التصور الأصلي (غير المزيف أو المفبرك) للمهدوية هو سياق متكامل يقوم على قاعدة المبتدأ والخبر.

المبتدأ:

فَلَمّا انْقَضَتْ أَيّامُهُ (رسول الله(ص)) أَقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِما وَآلِهِما هادِياً إِذْ كانَ هُوَ المُنْذِرَ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، فَقالَ وَالمَلاَ أَمامَهُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيُّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَقالَ: مَنْ كُنْتُ أَنا نَبِيَّهُ فَعَلِيُّ أَمِيرُهُ، وَقَالَ: أَنَا وَعَلِيُّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ وَسائِرُ النَّاسِ مِنْ شَجَرٍ شَتّى.

وَأَحَلَّهُ مَحلَّ هارُونَ مِنْ مُوسى فَقالَ لَهُ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى إِلاّ أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَزَوَّجَهُ ابنته سَيِّدَةَ نِساءِ العالَمِينَ، وَأحَلَّ لَهُ مِنْ مَسْجِدِهِ ما حَلَّ لَهُ، وَسَدَّ الأبواب إِلاّ بابَهُ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فَقالَ: أَنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَعَلِيُّ بابُها فَمَنْ أَرادَ المَدِينَةَ وَالحِكْمَةَ فَلْيَأْتِها مِنْ بابِها. ثُمَ قالَ: أَنْتَ أَخِي وَوَصِيِّي وَوَارِثِي، لَحْمُكَ مِنْ لَحْمِي وَدَمُكَ مِنْ دَمِي وَسِلْمُكَ سِلْمِي وَحَرْبُكَ حَرْبِي، وَالإيْمانُ مُخالِطٌ لَحْمَكَ وَدَمَكَ كَما خالَطَ لَحْمِي وَدَمِي، وَأَنْتَ غَداً عَلى الحَوْضِ خَلِيفَتِي وَأَنْتَ تَقْضِي دَيْنِي وَتُنْجِزُ عِداتِي، وَشِيعَتُكَ عَلى مَنابِرَ مِنْ نُورٍ مُبْيَضَّةً وَُجُوهُهُمْ حَوْلِي فِي الجَنَّةِ وَهُمْ جِيرانِي، وَلَوْلا أَنْتَ يا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ المُؤْمِنُونَ بَعْدِي. وَكانَ بَعْدَهُ هُدىً مِنَ الضَّلالِ وَنُوراً مِنَ العَمى وَحَبْلَ الله المَتِينَ وَصِراطَهُ المُسْتَقِيمَ لا يُسْبَقُ بِقَرابَةٍ فِي رَحِمٍ وَلا بِسابِقَةٍ فِي دِينٍ وَلا يُلْحَقُ فِي مَنْقَبَةٍ مِنْ مَناقِبِهِ، يَحْذُو حَذْوَ الرَّسُولِ صَلّى الله عَلَيْهِما وَآلِهِما وَيُقاتِلُ عَلى التَأوِيلِ وَلا تَأخُذُهُ فِي الله لَوْمَةُ لائِمٍ ؛ قَدْ وَتَرَ فِيهِ صَناديدَ العَرَبِ وَقَتَلَ أَبْطالَهُمْ وَناوَشَ ذُؤْبانَهُمْ فَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً وَغَيْرَهُنَّ، فَأَضَبَّتْ عَلى عَداوَتِهِ وَأَكَبَّتْ عَلى مُنابَذَتِهِ حَتى قَتَلَ النَّاكِثِينَ وَالقاسِطِينَ وَالمارِقِينَ.

الإصرار على نهج الانحراف:

وَلَمَّا قَضى نَحْبَهُ وَقَتَلَهُ أَشْقى الآخِرينَ يَتْبَعُ أَشْقَى الأوّلِينَ لَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ رَسُولِ‌الله(ص) فِي الهادِينَ بَعْدَ الهادِينَ، وَالأمَّةُ مُصِرَّةٌ عَلى مَقْتِهِ مُجْتَمِعَةٌ عَلى قَطِيعَةِ رَحِمِهِ وَإِقْصاءِ وُلْدِهِ إِلاّ القَلِيلَ مِمَّنْ وَفى لِرِعايَةِ الحَقِّ فِيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ وَأُقْصِيَ مَنْ أُقْصِيَ وَجَرى القَضاء لَهُمْ بِما يُرْجى لَهُ حُسْنُ المَثُوبَةِ.

قانون الله الحاكم:

إِذْ كانَتِ الأرْضُ للهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَسُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَلَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.

التمسك بنهج الحق والثبات عليه وانتظاره

الصفات المهدوية الكاملة


فَعَلى الأطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ صَلّى الله عَلَيْهِما وَآلِهِما فَلْيَبْكِ الباكُونَ وَإِيّاهُمْ فَليَنْدُبِ النّادِبُونَ وَلِمِثْلِهِمْ فَلْتَذْرِفِ الدُّمُوعُ وَلِيَصْرُخِ الصارِخُونَ وَيَضِجَّ الضَّاجُّونَ وَيَعِجَّ العاجُّونَ! أَيْنَ الحَسَنُ أَيْنَ الحُسَيْنُ أَيْنَ أَبْناءُ الحُسَيْنِ؟ صالِحٌ بَعْدَ صالِحٍ وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ! أَيْنَ السَّبِيلُ بَعْدَ السَّبِيلِ أَيْنَ الخِيَرَةُ بَعْدَ الخِيَرَةِ؟ أَيْنَ الشُّمُوسُ الطَّالِعَةُ؟ أَيْنَ الأقْمارُ المُنِيرَةُ؟ أَيْنَ الأنْجُمُ الزّاهِرَةُ؟ أَيْنَ أَعْلامُ الدِّينِ وَقَواعِدُ العِلْمِ؟ أَيْنَ بَقِيَّةُ الله الَّتِي لا تَخْلُو مِنَ العِتْرَةِ الهادِيَةِ؟ أَيْنَ المُعَدُّ لِقَطْعِ دابِرِ الظَّلَمَةِ؟ أَيْنَ المُنَتَظَرُ لإقامَةِ الأمْتِ وَالعِوَجِ؟ أَيْنَ المُرْتَجى لإزالَةِ الجَوْرِ وَالعُدْوانِ؟ أَيْنَ المُدَّخَرُ لِتَجْدِيدِ الفَرائِضِ وَالسُّنَنِ؟ أَيْنَ المُتَخَيَّرُ لإعادَةِ المِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ؟ أَيْنَ المُؤَمَّلُ لإحْياءِ الكِتابِ وَحُدُودِهِ؟ أَيْنَ مُحْيِي مَعالِمِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ؟ أَيْنَ قاصِمُ شَوْكَةِ المُعْتَدِينَ؟ أَيْنَ هادِمُ أَبْنِيَةِ الشِرْكِ وَالنِّفاقِ؟ أَيْنَ مُبِيدُ أَهْلِ الفُسُوقِ وَالعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ؟ أَيْنَ حاصِدُ فُروعِ الغَيِّ وَالشِّقاقِ؟ أَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغ‌ ِوَالأهْواءِ؟ أَيْنَ قاطِعُ حَبائِلَ الكِذْبِ وَالاِفْتِراءِ؟ أَيْنَ مُبِيدُ العُتاةِ وَالمَرَدَةِ؟ أَيْنَ مُسْتَأصِلُ أَهْلِ العِنادِ وَالتَّضْلِيلِ وَالإلحادِ؟ أَيْنَ مُعِزُّ الأوْلِياء وَمُذِلُّ الأعداء؟ أَيْنَ جامِعُ الكَلِمَةِ عَلى التَّقْوى؟ أَيْنَ بابُ الله الَّذِي مِنْهُ يُؤْتى؟ أَيْنَ وَجْهُ الله الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوجَّهُ الأوْلِياء؟ أَيْنَ السَّبَبُ المُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّماء؟ أَيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الفَتْحِ وَناشِرُ رايَةِ الهُدى؟ أَيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا؟ أَيْنَ الطّالِبُ بِذُحُولِ الأَنْبِياءِ وَأَبْناءِ الأَنْبِياءِ ؟ أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ المَقْتُولِ بِكَرْبَلاَء؟ أَيْنَ المَنْصُورُ عَلى مَنْ اعْتَدى عَلَيْهِ وَافْتَرى؟ أَيْنَ المُضْطَرُّ الَّذِي يُجابُ إِذا دَعا؟ أَيْنَ صَدْرُ الخَلائِقِ ذُو البِرِّ وَالتَّقْوى؟ أَيْنَ ابْنُ النَّبِيِّ المُصْطَفى وَابْنُ عَلِيٍّ المُرْتَضى وَابْنُ خَدِيجَةَ الغَرَّاءِ وَابنُ فاطِمَةَ الكُبْرى ؟!

بِأَبِي أَنْتَ وَأمِّي وَنَفْسِي لَكَ الوِقاءُ وَالحِمى يَابْنَ السّادَةِ المُقَرَّبِينَ يَابْنَ النُجباءِ الاَكْرَمِينَ يَابْنَ الهُداةِ المَهْدِيِّينَ يَابْنَ الخِيَرَةِ المُهَذَّبِينَ يَابْنَ الغَطارِفَةِ الأنْجَبِينَ يَابْنَ الأطائِبِ المُطَهَّرِينَ يَابْنَ الخَضارِمَةِ المُنْتَجَبِينَ يَابْنَ القَماقِمَةِ الاَكْرَمِينَ، يَابْنَ البُدُورِ المُنِيرَةِ يَابْنَ السُّرُجِ المُضِيئَةِ يَابْنَ الشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ يَابْنَ الاَنْجُمِ الزَّاهِرَةِ يَابْنَ السُّبُلِ الواضِحَةِ يَابْنَ الأعْلامِ اللائِحَةِ، يَابْنَ العُلُومِ الكامِلَةِ يَابْنَ السُّنَنِ المَشْهُورَةِ يَابْنَ المَعالِمِ المَأثُورَةِ يَابْنَ المُعْجِزاتِ المَوْجُودَةِ يَابْنَ الدَّلائِلِ المَشْهُودَةِ، يَابْنَ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ يَابْنَ النَّبَأ العَظِيمِ يَابْنَ مَنْ هُوَ فِي أمِّ الكِتابِ لَدَى الله عَلِيُّ حَكِيمٌ، يَابْنَ الآياتِ وَالبَيِّناتِ يَابْنَ الدَّلائِلِ الظّاهِراتِ يَابْنَ البَراهِينِ الواضِحاتِ الباهِراتِ يَابْنَ الحُجَجِ البالِغاتِ يَابْنَ النِّعَمِ السَّابِغاتِ يَابْنَ طهَ وَالمُحْكَماتِ يَابْنَ يسَّ وَالذّارِياتِ يَابْنَ الطُّورِ وَالعادِياتِ، يَابْنَ مَنْ دَنى فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى دُنُواً وَاقْتِراباً مِنَ العَلِيِّ الأعْلى!

هذه هي المهدوية الحقيقية التي يعرفها شيعة أهل البيت ويعملون في إطارها ويمهدون من خلالها لظهور خليفة رسول الله الحقيقي خليفة علي والأئمة من بعده، صالِحٌ بَعْدَ صالِحٍ وَصادِقٌ بَعْدَ صادِقٍ! فهم السَّبِيلُ بَعْدَ السَّبِيلِ والخِيَرَةُ بَعْدَ الخِيَرَةِ وهم الشُّمُوسُ الطَّالِعَةُ والأقْمارُ المُنِيرَةُ والأنْجُمُ الزّاهِرَةُ وهم أَعْلامُ الدِّينِ وَقَواعِدُ العِلْمِ وهم الأئمة الذين يهدون بأمرنا فاستحقوا بذلك لقب المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ* يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).[10]



--------------------------------------------------------------------------------

[1]. سورة طه / 96.

[2]. محمد عبد الله الخطيب: البنا أعجوبة الزمان، إخوان أون لاين، 15/2/2004.

[3]. http://www.ikhwanonline.com/ik/Article.asp? ID=24694&SectionID=111.

[4]. الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته، د عبد الودود شلبي، دار المعارف، مصر 1979.

[5]. سورة القصص / 83.

[6]. سورة الانفال / 24.

[7]. ب. م. هولت دولة المهدي في السودان عهد الخليفة عبد الله، دار الجيل بيروت، ط فبراير 1982.

[8]. سورة الانبياء / 73.

[9]. سورة السجدة / 24.

[10]. سورة الروم / 4ـ7.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عبد الله بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ( عليهم ...
قصة استشهاد الامام جعفر بن محمد الصادق عليه ...
كلمات الأئمة (ع) في علي الاكبر
جريمة اغتيال امير المؤمنين (ع) بداية للانعكاسات ...
دخول جيش السفياني الى العراق
شبهات وردود
باقة من رسائل تهنئة عيدالغدير
خصائص الحسين عليه السلام في علي الأكبر
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
الوقف فی الثقافه العامه

 
user comment