المسلمون جميعهم يعتقدون بأن الله جعل للناس أحكاماً وواجبات، أوحى بها بواسطة جبرائيل الى النبي (ص)، وقد بلّغها الى الناس دون زيادة أو نقصان.
وقد سعى المسلمون في ضوء اعتقادهم في طول التاريخ للوصول الى طرق يمكن من خلالها معرفة تلك الأحكام.
وفي زمن التشريع كان الحصول على الأحكام متيسراً لوجود الرسول (ص)، فالمسلمون كانوا يرجعون إليه (ص) دون أية واسطة، لطرح قضاياهم وسماع أجوبتها مباشرة منه. ومَن كان منهم بعيداً عن الرسول، فانه يرجع إلى موفدي الرسول، وبذلك فهو يحصل على الأحكام بواسطة غير بعيدة عن الرسول وكان الناس يعملون بأقوال الرسول (ص) على أساس أنها حكم الله دون أي اختلاف أو شك. وعلى أساس ذلك، فالمسلمون في عصر الرسول (مَن كان في المدينة منهم أو خارجها) كان من اليسير عليهم تعلم واستماع أحكام الدين، ولم يواجهوا أية مشكلة في هذا المجال، ولهذا السبب لم تكن هناك أرضية لظهور المذاهب.
- عصر الصحابة والتابعين:
في عصر الصحابة أيضاً لم تكن هناك مذاهب بين المسلمين، بالمعنى المتداول اليوم، لأن المسلمين في المدينة، كانوا يرجعون إلى العلماء والقراء من الصحابة الذين كانوا فيها، وأما مسلمو سائر المناطق فكانوا يرجعون إلى العلماء والقراء من الصحابة الذين هاجروا من المدينة بعد وفاة الرسول (ص) وسكنوا هناك. وكان هؤلاء العلماء والقراء يجيبون في ضوء كتاب الله وسنة رسوله (ص)، وإذا لم يجدوا حكماً في الكتاب والسنة، أجابوا على أساس الاجتهاد أو القياس أو الاستحسان. ومع ذلك لم يكن هناك اختلاف كبير في آراء العلماء والقراء من الصحابة، بسبب ندرة رجوعهم إلى مصادر غير الكتاب والسنة، ولذلك لم يؤد ذلك إلى بروز ظاهرة المذاهب.
وقد أشار الى ذلك ـ بصراحة ـ عدد من علماء وباحثي أهل السنة في كتبهم، منهم: ولي الله الدهلوي الحنفي، وكمال الدين بن همام، وابن القيم الجوزية الحنبلي.
وفي عصر التابعين كان الناس يرجعون في مسائلهم الشرعية الى تلامذة الصحابة، الذين كانوا المرجع في الأحكام الشرعية، وكان هؤلاء أيضاً يجيبون فيء ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص)، وإذا لم يجدوا حكماً فيهما، حكموا على أساس اجتهاداتهم أو بالقياس والاستحسان. فمصادر التشريع في ذلك العصر لم تكن محصورة بالكتاب والسنة، بل كانت هناك مصادر أخرى كالاجتهاد بالرأي والاستحسان والقياس، ولهذا كان يحدث بعض الاختلاف بين آراء العلماء ـ فيما لم يكن فيه نص من الكتاب والسنة ـ لكن الأمر ـ وكما كان في عصر الصحابة ـ لم يكن بالحد الذي يؤدي الى ظهور مذاهب مختلفة، وسبب ذلك يعود إلى أنه لم تكن هناك ضرورة كبيرة لاستخدام الاجتهاد في المصادر الظنية كالقياس أو الاستحسان لاستخراج الحكم.
- عصر ظهور المذاهب:
في أواخر أيام التابعين وبداية أيام ما بعد التابعين، تخرج علماء في مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، إلى جانب مدرسة أهل البيت (ص)، وصار لهم عنوان المرجع. وكان هؤلاء يصدرون الأحكام في البلاد، من جملتهم: في الكوفة أبو حنيفة (المتوفى سنة 150هـ) وعبدالله بن شبرمة (المتوفى سنة 172هـ)، وابن أبي ليلى (المتوفى سنة 148هـ)، وسفيان بن سعيد الثوري (المتوفى سنة 161هـ)، وفي مكة ابن جريح (المتوفى سنة 150هـ)، وسفيان بن عيينة (المتوفى سنة 198هـ). وفي المدينة مالك بن أنس الأصبحي (المتوفى سنة 179هـ). وفي مصر ليث بن سعد (المتوفى سنة 175هـ)، ومحمد بن إدريس الشافعي (المتوفى سنة 204هـ). وفي الشام عبدالرحمن الأوزاعي (المتوفى سنة 204هـ). وفي نيسابور إسحاق بن راهويه (المتوفى سنة 238هـ). وفي بغداد أبو الثور (المتوفى سنة 246هـ)، وأحمد بن حنبل الشيباني (المتوفى سنة 241هـ)، وداود الظاهري الاصبهاني (المتوفى سنة 237هـ)، ومحمد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 230هـ) وغيرهم.
وقد ظهرت المذاهب نتيجة الاختلاف الشديد الذي ظهر بينهم في بيان أحكام الموضوعات، بسبب المصادر الأخرى التي أوجدها لاستنباط الأحكام، من قبيل \"المصالح المرسلة\" و\"قاعدة الاستصلاح\" و\"العرف وسنة الاحكام\"، وبسبب انتاجهم طريق المصادر الظنية.
وعلى حد قول \"سايس\" في كتاب \"تاريخ الفقه الاسلامي\" لقد تأسس منذ أوائل القرن الثاني وحتى منتصف القرن الرابع ما يقرب من (138) مذهباً، مدوناً ومقلداً من قبل الناس، وأصبح الكثير من البلاد الاسلامية لها مذاهبها الخاصة، لكنها انقرضت وتلاشت على مرور الأيام. ويمكن مشاهدة آراء ونظريات أئمة تلك المذاهب في كتب الفقه المقارن، مثل \"كتاب الخلاف\" و\"علم الخلاف\" و\"مسائل الخلاف\" و\"الخلافيات\" لكن المذاهب أخذت بالانحسار خصوصاً بعد القرن الرابع الهجري. وقد ثبت منها مذاهب: الإمامية والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وكذلك المذهب الظاهري الذي أخذ ينقرض شيئاً فشيئاً.
- نواة نشوء المذاهب:
في عصر الصحابة ظهرت بدايات تأسيس المذاهب على يد علماء ذلك العصر، نتيجة للآراء والنظريات المختلفة في أدلتهم الاجتهادية والفقهية، لأن بعضهم ـ على سبيل المثال ـ كان يرى اعتبار الاستحسان وقياس التشبيه والمصالح المرسلة بمعناها العام، والمصالح المرسلة بمعناها الخاص، وقاعدة استصلاح مذهب صحابي شريعة السلف، وغيرها من القواعد في مقام الاستنباط، فيما كان البعض الآخر لا يرى اعتبار ذلك. هذه الخلافات، اضافة الى الخلافات الأخرى التي كانت بينهم، أدت الى ظهور أساليب فقهية ـ اجتهادية متنوعة في مقام استنباط الأحكام الشرعية وقد انتهى هذا التنوع في الأساليب الى تنوع المدارس فيما بعد:
أ) مدرسة أهل البيت (ع) في المدينة المنورة، والتي ظهرت بظهور الأسلوب الفقهي ـ الاجتهادي عن طريق المصادر والأدلة (الكتاب، السنة، الإجماع والعقل).
ب) مدرسة الحديث في المدينة المنورة، والسبب في ظهورها هو ظهور الأسلوب الفقهي ـ الحديثي في مقام الاستنباط. ومؤسس هذه المدرسة \"عبدالله بن عمر وزيد بن ثابت\"، وقد سمي أتباعهم بالفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبدالرحمن، وعبيدالله بن عبدالله، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد. وقد توفي جميع هؤلاء سنة 94 هجرية التي عرفت بـ\"سنة الفقهاء\".
ج) مدرسة الرأي في المدينة المنورة، والسبب في بروزها هو ظهور الأسلوب الاجتهادي – الفقهي بمعناه العام في مقام الاستنباط، وهو عبارة عن الاستنباط عن طريق الأدلة المعتبرة السابقة، بالاضافة الى الأدلة الظنية، كالقياس والاستحسان وغير ذلك. ومؤسس هذه المدرسة، وهو \"عبدالله بن مسعود\"، الذي كان له أتباع كثيرون، من جملتهم: علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومسروق بن أجدع الهمداني، وعبيد بن عمر، وسلمان بن شريح بن الحارث، والحارث الأعور، وابراهيم بن يزيد النجعي.
ومع ان سبب اختلاف المذاهب في عصر الصحابة ظهر عهن طريق علماء ذلك العصر، لكنه لم ينته في ذلك العصر وحتى أوائل عصر التابعين إلى ظهور المذاهب، ولهذا السبب لم يكن هناك أثر لظاهرة المذاهب المصطلحة. ولم يكن في ذلك العصر سوى المذاهب غير المصطلحة (أي المذاهب الفردية) مثل مذهب عبدالله بن عباس، ومذهب عبدالله بن مسعود، ومذهب عبدالله بن عمر.. الخ.
فالبذور التي زرعت في عصر الصحابة أخذت تظهر نتائجها في أواخر عصر التابعين، وبسبب الاختلاف الشديد الذي حصل بين علماء ذلك العصر في مقام الفتوى (الاختلاف في الأدلة وكيفية الاستظهار منها) ظهرت مذاهب متنوعة، كان لكل منها أتباع كثيرون.
لكن يجب أن تعرف ان هذا الاختلاف قد أجيز في المسائل الفقهية الاجتهادية، والتي فيها للمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ. ولهذا لم تنطو هذه القضية على خطر بالنسبة للمسلمين، لأن الهدف كان الوصول إلى الحكم الإلهي. والخطر لا يكون إلا عندما تؤدي هذه الاجتهادات إلى الفرقة والتشتت، والتي نهى عنها الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) أو إنها تؤدي إلى النزاع (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إلى الله مع الصابرين).
- أسباب ظهور الخلاف في مقام تبيين الأحكام:
الاختلاف بين العلماء المسلمين في القضايا النظرية، والذي أدى إلى ظهور مذاهب مختلفة، متنوعة، يمكن أن يكون بسبب العوامل التالية:
1 ـ الاختلاف في بعض الأدلة والمصادر الاجتهادية، كالاختلاف في اعتبار الاستحسان والمصالح المرسلة.
2 ـ الاختلاف في حدود وشرط الأدلة والمصادر الاجتهادية، مثل الاختلاف في اعتبار التواتر في حجية الخبر.
3 ـ الاختلاف في نوع الأدلة، مثل الاختلاف في اعتبار قياس التشبيه والتمثيل، لا قياس المنصوص العلة وقياس الأولوية.
4 ـ الاختلاف في كيفية اعتبار بعض الأدلة وحجيتها، مثل اختلافهم في اعتبار حجية الإجماع في نفسه.
5 ـ الاختلاف في مقام فهم الدليل (الاستنباط)، مثل اختلافهم في الاستنباط من آية الوضوء حول طهارة الأرجل، أهي غسل أم مسح.
6 ـ الاختلاف في الجمود على ظاهر الألفاظ الواردة في الأدلة الاجتهادية، أو عدم الجمود عندها، مثل اختلافهم في شرعية الرهان والفوز والخسارة في غير الخيل، وفي النبل في السبق والرماية.
7 ـ الاختلاف في الاكتفاء باللعناوين الواردة في عناصر الاستنباط الخاصة أو عدم الاكتفاء بها.
8 ـ الاختلاف حول الاكتفاء بالمواضيع الواردة في لسان الأدلة.
9 ـ الاختلاف حول ضرورة بحث خصائص المواضيع على اساس تطورات العصر وعدم ضرورة بحثها.
10 ـ تعارض الأحاديث، وهذا التعارض يمكن رفعه في بعضها عن طريق قانون الجمع الموضوعي أو الحكمي. أما أسباب التعارض فهو أمر خارج عن نطاق هذا المقام.
وعلى الرغم من وجود اختلاف بين علماء المسلمين (أصوليين وأخباريين) في اعتبار بعض المباني والأدلة الشرعية، إلا أنه ليس بالحد الذي لا يمكن معه أي تقريب بينهم. وخلال الأبحاث التي قمت بها، ثبت لدي أن التقريب موجود بين أكثرها وفي البقية مع عدم وجود القرب بينهم ـ فإن هذا الاختلاف لا يختص بمذهب مع المذاهب الأخرى، وإنما نراه حتى بين علماء المذهب الواحد أيضاً. وسبب ذلك يعود إلى أن الاختلاف لا ينشأ من المذهب وإنما آراء العلماء أنفسهم، فالاختلاف في المسائل النظرية وفي الآراء أمر طبيعي.
- أسباب انتشار المذاهب:
ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ اتساع الاسلام، واتجاه مختلف الأقوام والشعوب نحوه، والإيمان به، هذا الاتساع والانتشار الذي شهده الاسلام، أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة من المسائل والقضايا التي لابد من استخدام الاجتهاد في الإجابة عنها.
2 ـ التكامل التدريجي والبطيء للبحوث الاجتهادية، لأن مجتهدي عصر التابعين بدأوا الاجتهاد من حيث ما انتهى إليه مجتهدو عصر الصحابة، وكذلك مجتهدو عصر أتباع التابعين فقد بدأوا مسيرتهم الاجتهادية من حيث انتهى إليه مجتهدو عصر التابعين.
3 ـ ورود علوم كثيرة من سائر البلاد إلى بلاد المسلمين، وكذلك دخول الكثير من علماء البلاد الأخرى الاسلام، وقد أثّر هذا التلاقح والتبادل في الآراء والأفكار في أسلوب الاستدلال والبحث الفقهي. وهنا نجد من الضروري ذكر بعض النقاط:
أ) ان أكثر أحكام المذهب الإمامي (مذهب أهل البيت) هي على أساس نصوص وأحاديث الرسول (ص) والأئمة المعصومين (ع)، وليست على أساس الاجتهاد.
ب) الاجتهاد في هذا المذهب يعتبر على أساس كونه وسيلة وليس هدفاً، ولذلك فهو لا يقع في عرض النص وإنما في طوله وضمن إطاره، من أجل إرجاع الفروع المستجدة إلى أصولها، وتطبيق القوانين العامة والكلية على مصاديقها الخارجية، لكنه ـ أي الاجتهاد ـ يعتبر هدفاً عند مذاهب أهل السنة.
ج) مع ان مذاهب أهل السنة لا تقول بعصمة أئمة أهل البيت (ع) كما يقول المذهب الإمامي، إلا أن أتباع تلك المذاهب يحبون آل البيت حباً شديداً، ويرون لهم مكانة سامية ورفيعة، كمراجع في القضايا الدينية والعلمية. لهذا يمكن القول ان المسلمين جميعاً هم شيعة، لأنهم يحبون أهل البيت، وهم سنة أيضاً، لأنهم جميعاً يعملون بسنة رسول الله (ص)، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الشيعة عملوا بسنة أئمة أهل البيت على أساس العصمة بعد وفاة رسول الله (ص)، وكذلك أهل السنة أخذوا بسنة الصحابة على أساس الوثاقة، لكنهم جميعاً يشتركون في الهدف والغرض من ذلك، وهو سنة رسول الله (ص)، ولهذا فان هذا الاختلاف، لا يعتبر خطراً على المسلمين، لأن هدفهم من ذلك واحد، بيد أن الخطر يأتي عندما يؤدي هذا الاختلاف إلى العداء والنزاع والفرقة، وهو ما نهى عنه الله تعالى والرسول (ص) والأئمة (ع).