من موقف الأقوياء والمقتدرين، كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ولم تكن مسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكّة في تلك السنة لغرض الحرب وإعمال السيف في رقاب المشركين، بقدر ما كانت دعوة إلهية لبّاها رسول الله لضيافة ربّه في البيت المعمور.. ولكنّه آثر الرجوع إلى المدينة بعد أن عقد صلحه المشهور مع مشركي مكّة، حقناً لدماء أصحابه ودماء قومه، ويعود بأصحابه إلى حيث خرج، ولتكون حجة بالغة عليهم، لتأتي ثمارها في فتح مكّة الميمون دون إراقة دماء.
ذلك النصر الباهر، الذي أحرق حشاشة المشركين في ذلك الوقت، وانكفأ إلى داخل النفوس يستعر حقداً وحسداً على تلك الإنتصارات التي حققها هذا الدين. تلك الأحقاد أخذت سباتها الطويل نسبياً في نسيج شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي آنذاك، لتخرج إلى العلن مرة أخرى برداء إسلامي في حادثة التحكيم الشهيرة في موقعة صفين التي أدار رحى حربها أمير المؤمنين (عليه السلام).
المجتمع الإسلامي هو نفسه، وإن طاله تغيير طفيف، مشركوا مكّة والمنافقون في صلح الحديبية، ومسلمو صفين، الأسم دون المعنى، في غالبيتهم، وقلّة آثرت خط الإمام الرافض لمهزلة التحكيم.
وظهرت تداعيات هذا التحكيم، وانقسم جيش الكوفة إلى صفّين: صفّ يدعو إلى القتال ونقض العهود التي دافعوا عن إبرامها، بعد أن يعلن الإمام عن توبته لأنّه كفر على حد زعمهم، وصفّ يدعو للسلم والرجوع إلى الكوفة وكان ما كان من فتنة الخوارج، وإبادة عديدهم دون فكرهم في معركة النهروان.
وتتأكد اكثر تداعيات هذا التحكيم حين تثاقل أهل الكوفة وتخاذلوا عن تلبية نداء الإمام دفاعاً عن مواقعهم التي يغير عليها جند معاوية ويستبيح المال والبشر.
يقول (عليه السلام) مخاطباً جيشه:
((أحمد الله على ما قضى من امر، وقدّر من فعل، أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب، إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجئتم إلى مشاقة نكصتم، لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم والجهاد على حقكم.. الموت أو الذل لكم، فوالله لئن جاء يومي وليأتيني ليفرقنّ بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير..
لله أنتم: أما دين يجمعكم، ولا حمية تشحذكم، أو ليس عجباً، أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم، وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس، إلى المعونة أو طائفة من العطاء فتتفرقون عني وتختلفون عليّ)).
التركة الثقيلة
بعد مقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة، ورث تلك التركة الثقيلة المتمثلة بهذا الخليط العجيب - من المقاتلة - الذي تجمعت فيه عدة اتجاهات متعاكسة وعناصر متضادة يمكن تصنيفها إلى فئات: