عربي
Wednesday 25th of December 2024
0
نفر 0

النَّبيّ محمّد( صلىّ الله عليه وآله وسلّم) كان أُمّيّاً وكان يقرأ ويكتب

نريد في هذا البحث أن نضع النقاط على الحروف ، حول معنى لفظة (الأُمّيّ) ، لقد وردت هذه اللفظة في الكتاب في ستة مواقع وهي :

ـ (فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبعَنِ وَقُل للَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمِّيِّينَ أأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلمُوا فَقَدِ اهْتدَوا وَّإِن تَولَّوا فَإِنَّمَا عَليْكَ البَلاغُ واللهُ بَصيرٌ بِالعِبَادِ) (سورة آل عمران/ 20).

ـ (وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطارٍ يُؤَدِّهِ إِليكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِليكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِماً ذَلكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لَيْسَ عَليْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (سورة آل عمران/ 75).

ـ (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ والأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ فَأَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ النَّبيّ الأمّيّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلمَاتِهِ وَاتَّبعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (سورة الأعراف/ 158).

ـ (الَّذينَ يَتَّبعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ الأمّيّ الَّذِي يَجدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوراةِ والإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَ عَنِ المُنكَرِ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الخَبَائِثَ وَيَضعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ ... )الآية (سورة الأعراف/ 157).

ـ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهَم آيَاتهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (سورة الجمعة/ 2).

ـ (وَمِنْهُم أمّيّون لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاَّ أَمَانيَّ وَأَنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (سورة البقرة/ 78).

أوّلاً: لنعرف ما معنى كلمة الأُمّيّ التي وردت في الآيات السابقة ، لقد أطلق اليهود والنصارى على الناس الذين لا يدينون بدينهم أي ليسوا يهوداً ولا نصارى لفظ الأُمّيّ ، وجاءت من كلمة غوييم العبرية (الأُمم) ، وهو ما نعبّر عنه اليوم بالدهماء أو الغوغاء أو العامة ؛ لأنّ هؤلاء الناس كانوا جاهلين ولا يعلمون ما هي الأحكام في كتاب اليهود والنصارى ، والنبوات التي جاءت لهم ، ومن هنا جاء لفظ الأُمّيّ التي تعني:

1ـ غير اليهود والنصراني.

2ـ الجاهل بكتب اليهود والنصارى.

وهذا واضح في الآية رقم 20 من آل عمران : (وَقُل للَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمِّيِّينَ) فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى والباقي من الناس هم الأُميون.

وهذا المعنى واضح أيضاً في الآية رقم 75 من آل عمران ، عندما ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى فمنهم أي اليهود : (مَّنْ إِن تَأمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِليكَ وَمِنْهُم ) أي النصارى : (مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطارٍ يُؤَدِّهِ إِليكَ) ، فلماذا لا يؤدّي اليهود الأمانات لغيرهم ؟ لأنّهم يعتبرون (الغوييم) الأُمم خدماً لهم ، وأنّهم الدهماء وهؤلاء الأُمِّيُّونَ لا تنطبق عليهم وصايا الربّ ، حيث قال : (ذَلكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لَيْسَ عَليْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).

وفي سورة الأعراف الآية 157 : (الَّذينَ يَتَّبعُونَ الرَّسُولَ النَّبيّ الأمّيّ). أُميّ لأنّه ليس منهم ؛ لأنّه قال : (الَّذِي يَجدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوراةِ والإِنجِيلِ).

وكذلك جاءت في الآية 158 حيث أتبعها بأنّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو رسول الله إلى الناس جميعاً اليهود والنصارى والأُميين ، علماً بأنّه لم يكن أصلاً يهودياً ولا نصرانياً ، بل من الفئة الثالثة وهي الأُميّون.

وبمعنى الجهل في الكتاب قال : (وَمِنْهُم أمّيّون لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاَّ أَمَانيَّ) (سورة البقرة 78) أي : الذي لا يعلمون الكتاب ومحتوياته ، هم أُمّيّون بالكتاب ولذا أتبعها : (وَأَنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (سورة البقرة/ 78).

فإذا قلنا: إنّ فلاناً أُمِّيٌّ دون التعريف.. أُمِّيُّ بماذا ؟ وأراد أن يمحو أُميته فيدخل مدرسة محو الأُمية تحت اسم محمّد بن سعيد ويخرج تحت اسم هارون ، أمّا إذا قلنا فلان أُمِّيُّ وعرفناه بماذا ، فهذا صحيح ونكون قد استعملنا المعنى الوارد في الآية : (وَمِنْهُم أمّيّون لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاَّ أَمَانيَّ). فكاتب هذه السطور هو أُمّيّ بعلم البحار مع إنّه دكتور مهندس في الهندسة المدنية ، أي هو لا يعلم في علم البحار إلاّ اللمم ، وعندما يتكلم عن علم البحار فمعلوماته ظنّيّة غير يقينية: (وَأَنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ).

ومن هنا نرى أنّ النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أُميّاً بمعنى أنّّه غير يهودي وغير نصراني ، وكان أُمّيّاً أيضاً بكتب اليهود والنصارى ، وكانت معلوماته عن كتبهم هي بقدر ما أُوحي إليه بعد بعثته (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

أمّا إسقاط هذا المعنى على أنّ النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أُمّيّاً لا يقرأ ولا يكتب فهذا خطأ، إنّ الكتابة هي تجميع الأشياء بعضها إلى بعض لإخراج معنى مفيد (موضوع) ، فهل كان النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)  عاجزاً عن تأليف جملة مفيدة أو كتابة كتاب (تأليف) ؟ إنّ الكتاب الذي أرسله النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى كسرى هو كتاب النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؛ لأنّه هو الذي أملاه وصاغه ، والقراءة تعني العملية التعليمية (تتبع المعلومات) ، ثُمّ القدرة على استقراء نتائج منها ومقارنتها بعضها ببعض ، فالاستقراء والمقارنة جاءا من القراءة ، فهل كان النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يقرأ ؟!

قد يقول البعض ـ وهذه هي الحُجّة التي يوردها كثير من الناس ـ إنّه عندما جاء الوحي إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: اقرأ، فأجاب النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما أنا بقارئ ؛ واستنتجوا إنّه لا يقرأ ، وأقول: إنّه إذا أمر سعيد زيداً أن يذهب ، فقال زيد : (ما أنا بذاهب) فهل هذا يعني بالضرورة أنّ زيداً مشلول أو بلا أقدام ، هل هذا يعني أنّ زيداً لا يستطيع الذهاب أو إنّه لا يريد الذهاب ، ثُمّ هل يعني أنّ جبريل قدّم للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مادّة مخطوطة لكي يقرأها خطاً ، فهنا خلطنا بإرادة النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للقراءة وبين عدم استطاعته ، وظننا أنّ جبريل قدّم له مخطوطة على قرطاس ليقرأها ؛ لأنّه عندما قال له في المرة الثالثة : أقرأ فأجاب النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ما أنا بقارئ ؛ فقال جبريل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق/1)، فسكت النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد هذه الآيات ولم يقل ما أنا بقارئ.

قد يقول البعض : ألم يكن النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُمّيّاً بمفهومنا الخاطئ للقراءة والكتابة ؟! أقول : نعم لقد كان النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أوّل حياته إلى وفاته أُمّيّاً بالخط ، أي كان لا يخطّ ولا يقرأ المخطوط ، وجاء هذا المعنى في قوله تعالى : (وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَميِنكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ) (العنكبوت48). (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيَّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ وَمَا يَجْحدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالمُونَ) (العنكبوت/49).

لقد وضحت أُميّة النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شيئين : أوّلهما أنّ النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يتكلم في حياته قبل البعثة عن أيّ موضوع من مواضيع القرآن ، ولو فعل ذلك لقال له العرب: لقد كنت تتحدّث إلينا عن هذه المواضيع قبل أن تكون نبياً ، أي أنّ النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أُمّيّاً في مواضيع القرآن تماماً، وقوله : (مِن كِتَابٍ) منكّرة وتعني القرآن ؛ لأنّه أتبعها بقوله : (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيَّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ) أمّا مواضيع أُمّ الكتاب فلم يكن النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُمّياً بها كلها فمثلاً : الصدق والأمانة والوفاء بالكيل والميزان ، من مواضيع أُمّ الكتاب، أوَ لم يكن النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صادقاً وأميناً ويوفي الكيل والميزان قبل البعثة ؟! والناحية الثانية التي تقولها الآية : أنّ النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أُمّيّاً بالخط ، وأميته بالخط استمرت إلى أن توفي (صّلى الله عليه وآله وسلّم).

إنّ السرّ الأكبر في أُمية النَّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ناحية الخطّ وقراءة المخطوط هي أنّ أساس الكلام الإنساني هو الأصوات وليس الخطوط ، أي أنّ اللغة بالنسبة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت لساناً وأذناً (كلام وسمع) ؛ لأنَّ أيّ قوم إذا غيّروا أبجديتهم فلا يتأثرون أبداً في كلامهم بين بعضهم وفهمهم للغتهم ، بل يتأثرون بقراءة المخطوط ، علماً بأنّ الكتاب جاء إلى النَّبيّ وحياً ، أي جاءه بصيغة صوتية غير مخطوطة وسمّاه الكتاب.

فإذا سألني سائل : ما معنى قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ) ، (الأعراف145) الألواح هنا قرطاسية ، أي : ما يُخطّ عليه، فأقول : لو قال : (وخططنا له في الألواح) فيأتي السؤال: بأيّ خط ؟ أي بأيّة أبجدية ؟ ولكن قال: (وَكَتَبْنَا لَهُ) فالسؤال هنا : ماذا كتب ؟ ويأتي الجواب مباشرة : (مِن كُلّ شَيءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيءٍ) (الأعراف 145) فهنا بعد فعل (كتبنا) ذكر الموضوع مباشرة.

وإذا سأل سائل : ما معنى فعل (كتب) في آية المداينة في سورة البقرة وهي آية حدودية : (يَا أَيُّهَا الَّذينَ أمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَينٍ إلَى أَجلٍ مُّسمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعدْلِ...) الآية (البقرة/ 282) هنا (فاكتبوه) بمعنى تسجيل العقود حسب الموضوع، كأن نقول فريق أوّل وفريق ثانٍ، وموضوع العقد هل هو مال أو بيت أو تنفيذ أعمال.. مع الأجل.. إلخ ، حيث إنّ بنود العقد تشمل كُلّ صغيرة وكبيرة ، لذا قال : (فاكتبوه) وهنا ليس بالضرورة أن يكون الكتاب بالعدل خطيّاً أو العقد خطيّاً فيمكن أن يكون العقد شفهياً ، أي أنّ هذه الآية تشمل العقود الخطيّة أو الاتفاقات الشفهية ، لذا قال عن الشهادة : (فَرَجُلٌ وَامرأتَانِ مِمَّن تَرْضَونَ مِنَ الشُّهدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (البقرة 282) ، فكيف نفهم هذا الشرط في حالة توثيق العقد في كاتب العدل كما نفعل الآن ؛ لأنّه في حالة العقد الخطي بوجود الكاتب بالعدل لا داعي أصلاً أن تضلّ إحداهما لتذكرها الأخرى ، لأنّ محتويات العقد الخطية الموثّقة في كاتب العدل لا تحتاج بعد مدّة من الزمن إلى أي مراجعة ، وهذا الشرط صحيح للكتابة الشفهية للعقد (شروط العقد) ؛ لأنّ أساس التعامل بين الناس والدول هو الاتفاقات الشفهية أولاً ثُمّ تُنسخ أو لا تُنسخ (توثق أو لا توثق).

من معالم سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) الأخلاقية

تمثل سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) مسألة هامة في حياة المسلمين، وتعتبر ثروة تاريخية مهمة من الناحية العلمية والأخلاقية بالنسبة للمسلمين.

إن وجود النبي (صلى الله عليه وآله) مصدر إشعاع ينبغي أن نستضيء به، ونستفيد منه، إذ لا يصح الاكتفاء بجمع أقواله وأحاديثه، فتكون حالنا حال رواة لا يدركون شيئاً، ولا يكفي أن نذكر تاريخ حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونقول: إنه فعل كذا في المكان الفلاني، وكذا في المكان الفلاني.. بل المهم تفسير ذلك العمل، وتوجيهه.

إذن، مثلما أن هناك حاجة للتعمّق في أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وتفسيرها، هناك ـ أيضاً ـ حاجة للتعمّق في أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) وتفسيرها.

وكما هي الحال مع أقواله (صلى الله عليه وآله)، فإن أفعاله من الدقّة بحيث يمكن وضع القوانين على هدي تفاصيلها.

إنّ عملاً بسيطاً من أعماله (صلى الله عليه وآله) إنما هو مصباح، أو شعلة من نور كاشفٍ ينير الطريق أمام المرء لمسافات بعيدة. فيجب علينا أن نقتدي بسيرته التي تهدف إلى تحرر الناس من ذواتهم، من الأنانية، من حب الذات وحب مصالحها، نحو حب الله وحب الحق.

 

أهمية دراسة سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)

يؤكد القرآن الكريم على أن (لكم في رسول الله أسوة حسنة)، الأسوة الصالحة والمثل الأمثل لحياة إنسان كامل في كل ما ينطوي عليه هذا المصطلح الصغير من معنى ضخم، هو الإنسان الكامل، وحياته أسوة حسنة للبشرية في كل الأزمنة والأمكنة. كما أن للسيرة النبوية دور كبير أيضاً من الناحية الروحية والمعنوية، وهي أيضاً مصدر من مصادر الفكر الإسلامي، والمعتقدات التي لا بد أن يعتقد بها الإنسان المسلم، سواء فيما يرجع إلى فهم الإنسان المسلم عن الحياة، والإنسان، والتاريخ، والمبدأ، والمصير، والغيب… أو ما يرتبط بالجانب الاجتماعي..

لقد تميزت أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) بعدّة صفات يمكن أن نجملها بالعناوين التالية:

 

الأمّي العالم

لقد تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)(العنكبوت: 48) ولم ينشأ في بيئة علمٍ، وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذّب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن الكريم. قال تعالى: (ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشرٌ لسان الّذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ)(النحل: 103).

ونمى في قوم هُمْ من أشد الأقوام جهلاً، وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ومع ذلك فقد سمّى هو ذلك العصر بالعصر الجاهلي، ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلا من عالم خبير بالعلم والجهل والعقل والحمق.

فهو أمّي ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلى البشرية، وبشريعة عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ، فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.

لقد شرح الله له صدره، وأعدّه لقبول الوحي، والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانية والجاهلية، فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

إنها نقلة كبيرة أن يصبح الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً، ومدافعاً صلداً لكتاب الهداية، ومشعل العلم، ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف. إنها معجزة هذا الكتاب الخالد، والرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس في المجتمع الجاهلي ـ عن الخرافات والأساطير ـ إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.

 

أول المسلمين العابدين

إن الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظم قدرته ونفاذ حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي العقبة الأولى التي لا بد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد شهد القرآن الكريم لهذا النبي العظيم الذي فاق النبيين في كل شيء قائلاً عنه: ( قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ ِ رَبّ الْعَالَمِينَ* لَا شَرِيكَ لَهُ وِبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ) الإنعام: 161 ـ 163).

إنه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد العابد، وفاق فيه مَنْ سواه على الإطلاق. لقد قال (صلى الله عليه وآله) ((قرة عيني في الصلاة))(أمالي الطوسي:2:141) وأنها حُببت إليه كما حُبب إلى الضمآن الماء، فإذا شرب روى، ولكنه (صلى الله عليه وآله) لم يشبع من الصلاة، وكان ينتظر وقت الصلاة، ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه بلال: ((أرحنا يا بلال))(بحار الأنوار 83: 16). وكان يحدّثهم ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم، ولم يعرفوه (أخلاق النبي وآدابه: 251). وكان إذا صّلى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل)(م. ن: 201). ويبكي حتى يبلّ مصلاّة خشية من الله عزّ وجلّ، وكان يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً))(أخلاق النبي: 99).

وكان يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر، وكان إذا دخل شهر رمضان يتغير لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء. وإذا دخلن العشر الأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيا الليل وتفرّغ للعبادة. وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء في كل أمر وعمل. ولم يستيقظ من نوم قطّ إلا خرّ لله ساجداً. ونزل عليه جبرائيل مخففاً بقوله تعالى: (طه، ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى)(طه: 1 ـ2).

 

شجاعة فائقة

جاء عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي طأطأ له فرسان العرب قوله:(( كنا إذا إحمر البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فما يكون أحد أدنى من القوم منه))(فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1: 138).

وصف المقداد ثبات رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول الله وحده قائلاً: والذي بعثه بالحق ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ، تثوب إليه طائفة من أصحابه مرّة وتتفرق عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجروا (مغازي الواقدي: 1: 239 ، 240).

 

زهد منقطع النظير

قال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)(طه: 131).

وعن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه قال:(( عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا ياربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً.. فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ شكرتك وحمدتك))(سنن الترمذي: 4: 518، الحديث 2377).

ونام على حصير وقد أثّر في جنبه، فقيل له: يا رسول الله لو أتخذنا لك وطاءً؟ قال:(( مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت الشجرة ثم راح وتركها))( م. ن).

وقال ابن عباس: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير(م. ن: 501، الحديث).

وعن أنس بن مالك أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال:(( ما هذه الكسرة يا فاطمة))؟ قالت:(( قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة)). فقال:(( أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام))(الطبقات لأبن سعد 1: 400).

 

جود وحلم عظيمان

روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتى صاحب بزّ فاشترى منه قميصاً بأربعة دارهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله أكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصاً بأربعة دارهم، وبقي معه درهمان فإذا هو بجارية في الطريق تبكي فقال:(( ما يبكيك))؟ قالت يا رسول الله دفع إليّ أهلي درهمان اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فأودع النبي (صلى الله عليه وآله) إليها الدرهمين فقالت: أخاف أن يضربوني فمشى معها إلى أهلها فسلّم فعرفوا صوته، ثم عاد فسلّم، ثم عاد فثلّث، فردّوا، فقال:

 ((أسمعتم…. أول السلام))؟ فقالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا السلام. فما أشخصك بأبينا وأمنا؟ قال:(( أشفقت هذه الجارية أن تضربوها))، قال صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها. فبشّرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخير وبالجنة، وقال:(( لقد بارك الله في العشرة كسا الله نبيه قميصاً ورجلاً من الأنصار قميصاً وأعتق منها رقبة، وأحمد الله، هو الذي رزقنا هذه بقدرته))(المعجم الكبير للطبراني 12:337، الحديث 7، 136).

وكان إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل.

لقد عرف (صلى الله عليه وآله) بالعفو والسماحة طيلة حياته.. فقد عفا عن وحشي قاتل عمّه حمزة.. كما عفا عن المرأة اليهودية التي قدمت له شاة مسمومة، وعفا عن أبي سفيان، وجعل الدخول إلى داره أماناً من القتل. كما عفا عن قريش التي عتت عن أمر ربها، وحاربته بكل ما لديها.. وهو في أوج القدرة والعزّة قائلاً لهم:(( اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)).

لقد أفصح القرآن الكريم عن عظمة الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم)(آل عمران: 159).

 

حياؤه وتواضعه

عن علي بن أبي طالب (عليه السلام):(( كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم وإذا أراد أن لا يفعله سكت وكان لا يقول لشيء لا)).

وكان يسلّم على الصبيان، وشارك أصحابه في بناء المسجد، وحفر الخندق، وكان يكثر من مشاورة أصحابه بالرغم من أنه كان أرجح الناس عقلاً.

وكان يقول :(( اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين، وإنّ أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة)).

هذه صورة موجزة جداً عن بعض ملامح شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) وبعض جوانب سلوكه الفردي والاجتماعي.

وهناك صور رائعة وكثيرة عن سلوكه وسيرته الإدارية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والأسرية، والتي تستحق الدراسة المعمّقة للتأسّي بها والاستلهام منها.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الوداع الأخير
مشروعية اللطم عند نساء النبي(ص)
آداب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المأكل ...
مولدُ رسُول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
أخلاقيات الرسول الأعظم مع المرأة
ولادة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
يوم المباهلة
النبي (صلى الله عليه وآله) في روايات أهل بيته ...
النَّبيّ محمّد( صلىّ الله عليه وآله وسلّم) كان ...
زواجه

 
user comment