النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) في روايات أهل بيته ( عليهم السلام )
ـ القسم الثاني ـ
مؤسَّسة الكوثر
تتمة القسم الأوّل :
4 ـ وارث الأنبياء .
لقد سبقت الإشارة إلى مدخلية قانون الوراثة في مسألة الاصطفاء للمقامات الإلهية ، وهذا ما أشارت له العديد من الآيات القرآنية ضمن عنوان : " الذرِّية " . وروايات أهل البيت تشير إلى هذه " الحقيقة " ، وتُؤكِّد على وراثة خاتم الأنبياء لعلوم الأولين والآخرين ، من الأنبياء والمرسلين ، ووراثتهم ( عليهم السلام ) لرسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) :
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ داود ( عليه السلام ) ورث علم الأنبياء ، وإنَّ سليمان ( عليه السلام ) ورث داود ( عليه السلام ) ، وإنَّ محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) ورث سليمان ( عليه السلام ) ، وإنَّا ورثنا محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) وإنَّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى ) .
كذلك عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يعط الأنبياء شيئاً إلاَّ وقد أعطاه محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) ) قال : ( وقد أُعطى محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) جميع ما أعطى الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وعندنا الصحف التي قال الله عزَّ وجلَّ : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) ( الأعلى : 19 ) ) .
وعن أبي الحسن الأول الإمام الكاظم ( عليه السلام ) سأله أحد أصحابه ، قال : قلت له : جعلت فداك ، أخبرني عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) ورث النبيين كلّهم ؟ قال : ( نعم ) ، قلت : من لدن آدم ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى نفسه ؟ قال : ( ما بعث الله نبياً إلاَّ ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله ) أعلم منه ) .
ثمَّ إنَّ الروايات الأخرى بيّنت جانباً من جوانب تلك الوراثة ، وهو " العلم الإلهي الخاص " الذي اصطفى به أولياءه . حيث ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله : ( إنَّ عيسى بن مريم ( عليه السلام ) أُعطي حرفين كان يعمل بهما ، وأُعطُيَ موسى أربعة أحرف ، وأُعطي إبراهيم ( عليه السلام ) ثمانية أحرف ، وأُعطي نوح خمسة وعشرين حرفاً . وإنَّ الله تبارك وتعالى جمع ذلك كلّه لمحمد ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وإنَّ اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرف ، أعطى محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) اثنين وسبعين حرف ، وحُجب عنه حرف واحد ) .
وعن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : ( سُئل علي ( عليه السلام ) عن علم النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال : علم النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) علم جميع النبيِّين ، وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة ) .
5 ـ الأعمال تُعرض على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) .
إنَّ مقام شهادة الأعمال من المقامات الرفيعة التي سجّلها القرآن الكريم لأولياء الله وأصفيائه ورسله ، واعتبر مقام الشهداء في مصاف مقام الأنبياء والصدِّيقين ، قال تعالى : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( الزمر : 69 ) ، وقال عزَّ وجلَّ أيضاً : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ ـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا ) ( النساء : 69 ) .
ثمَّ إنَّ الآيات القرآنية أكَّدت على أنَّ الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) هو أول الشهداء وأعظمهم وأعلاهم منزلة ، بل الآيات صرحت بأنَّ الرسول الأكرم بعث ليكون شاهداً وشهيداً على أعمال العباد ومسيرة الأُمَّة وحركة البشرية نحو الكمال الذي رصدته الحكمة الربّانية للإنسان ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ( الأحزاب : 45 ) ، وقال عزَّ وجلَّ : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ( البقرة : 143 ) ، وقال أيضاً تبارك وتعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا ) ( النساء : 41 ) .
ولا شك أنَّ الشهادة على البشرية من قبل النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، هي وليدة المراتب الفائقة من العلم التي وصل إليها الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) في مسيرته التكاملية إلى الله عزَّ وجلَّ ؛ فلعلمه الواسع الذي فيه تبيان كل شيء ، كان هو الشهيد على الخلق بكل ما للكلمة من معنى .
وقد أكَّدت روايات أهل البيت على هذه الحقيقة ، وأنَّ أعمال العباد في الدنيا تعرض على نبي الإسلام ( صلَّى الله عليه وآله ) . وإليك هذه الإشارة المختصرة عن بعض تلك الروايات :
1 ـ عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ أعمال العباد تعرض على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كل صباح ، أبرارها وفجّارها ، فاحذروا ! فليستحي أحدكم أن يُعرض على نبيه العمل القبيح ) .
2 ـ عن أبي بصير قال : قلت له ـ يعني الإمام الصادق ( عليه السلام ) ـ : إنّ أبا الخطاب كان يقول : إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) تُعرض عليه أعمال أُمَّته كل خميس ؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( ليس هو هكذا ، ولكن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) تُعرض عليه أعمال هذه الأُمَّة كل صباح ، أبرارها وفجَّارها ، فاحذروا ! وهو قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ( التوبة : 105 ) ) .
3 ـ عن الوشاء قال : سمعت الرضا ( عليه السلام ) يقول : ( إنَّ الأعمال تُعرض على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، أبرارها وفجَّارها ) .
فالرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) شاهد وشهيد على العباد يوم القيامة ؛ وذلك لوقوفه وإطلاعه على أعمالهم ، صغائرها وكبائرها ، في هذه الدنيا ، فهو ( صلَّى الله عليه وآله ) يشهد يوم القيامة على ما كان يراه في الدنيا في حياته وبعد الممات . وهذا ما تؤكِّده روايات الفريقين من الشيعة والسنّة كما سيأتي لاحقاً ، بل إنَّ بعض الروايات تُؤكِّد على أنَّ أعمال العباد عرضت عليه ( صلَّى الله عليه وآله ) قبل مماته ، كما جاء ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) ، حيث قال : ( قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : عُرضت عليَّ أُمَّتي البارحة لدى هذه الحجرة ، أولها إلى آخره ) ، قال : ( قال قائل : يا رسول الله ، قد عرض عليك مَن خُلِق ، أرأيت مَن لم يُخلَق ؟ قال : صوّر لي ـ والذي يحلف به رسول الله ـ في الطين حتى لأنا أعرف بهم مَن أحبِّكم بصاحبه ) .
6 ـ معاجزه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
لا شك أنَّ للمعجرة دوراً مهماً جدّاً في إثبات دعوى النبوة ؛ حيث توجد علاقة منطقية بين ذات المعجزة وبين صدق دعوى النبوة ، ولذا كانت الأُمَّم تطلب من أنبيائها المعاجز من أجل إثبات دعواهم النبوة والسفارة الإلهية ، كما جاء ذلك على لسان قوم صالح ، حيث قالوا لنبيهم صالح ( عليه السلام ) : ( مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( الشعراء : 154 ) .
وهكذا كان الأنبياء ( عليهم السلام ) يبادرون في كثير من الأحيان لطرح الآيات والحجج والمعاجز التي تكون شاهد صدق على دعواهم ، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة : ( حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( الأعراف : 105 ـ 106 ) .
والعلاقة المنطقية بين المعجزة وصدق النبوة واضحة ؛ إذ لو كان النبي صادقاً في دعواه النبوة والوحي ، كان لازم ذلك أنَّه مؤيَّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة ، وأنَّ الله سبحانه يريد بالإيحاء إليه خرق ما هو المعتاد لدى البشر . ولو كان هذا حقّاً ، فلا فرق بين خارق وخارق آخر للعادة ، ولو كان ذلك ممكناً ، كان من الممكن أيضاً أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع ، فيجري الله تعالى على يديه ذلك الخارق للعادة ليصدّق النبوة والوحي ؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد .
وبعبارة أوضح : إنّ الشخص إذا كان يدعي قدرته على أمر يعجز البشر عن الإتيان به ، كوحي النبوة من الله تعالى ، فمعنى ذلك أنّ هذا الشخص مُؤيَّد بقدرة إلهية تستطيع تزويده بكل ما هو خارج عن نطاق القدرات البشرية ، ومن هنا يكون طلب المعجزة والإتيان بها دليلاً برهانياً قاطعاً على صحة دعوة ارتباط ذلك الشخص بالسماء .
فلئن أراد الله تعالى هداية الناس بطريق النبوة والوحي ، فليؤيِّدها بما يشاكلها من خوارق العادة ، وهي المعجزة .
إذن للمعاجز دور هام جداً في إثبات ما يدَّعيه بعض الأشخاص من مقامات إلهية شامخة ، يعجز البشر العاديون عن نيلها أو الإحاطة به .
ولكون رسالة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) رسالة خاتمة وعامة ومهيمنة على الدين كلّه ، كانت حياته ( صلَّى الله عليه وآله ) حافلة بالمعاجز والكرامات التي كانت تبهر عقول الذين رأوا الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) وصحبوه . ولا شك أنَّ إحصاءها والوقوف عندها يحتاج إلى عدّة مقالات ، نكتفي بالإشارة إلى بعض ما ورد على لسان أهل البيت ( عليهم السلام ) في هذا المجال :
1 ـ إخباره ( صلَّى الله عليه وآله ) بالمغيبات .
حيث ورد عن الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) في حديث له طويل مع نفر من اليهود ، جاء في بعضه ، قوله ( عليه السلام ) : ( إنَّ وابصة بن معبد الأسدي أتاه ، فقال : لا أدع من البر والإثم شيئاً إلاَّ سألته عنه . فلمّا أتاه ، قال له بعض أصحابه : إليك ـ يا وابصة ـ عن رسول الله . فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) : دعه ! ادنُ يا وابصة ، فدنوت ، فقال : أتسأل عمّا جئت له أو أخبرك ؟ قال : أخبرني ، قال : جئت تسأل عن البر والإثم . قال : نعم . فضرب بيده على صدره ثمَّ قال : يا وابصة ، البرّ ما اطمأنَّت به النفس ، والبرّ ما اطمأنَّ به الصدر ، والإثم ما تردَّد في الصدر وجال في القلب ، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .
وليس هذا غريباً على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) الذي هو أفضل أنبياء أولي العزم ، وكان عيسى ( عليه السلام ) يخبر بني إسرائيل بما في بيوتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران : 49 ) .
2 ـ بركته ( صلَّى الله عليه وآله ) .
عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
( إنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري قال : رأيتُ الناس يوم الخندق يحفرون وهم خماص ، ورأيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) يحفر وبطنه خميص ، فأتيت أهلي فأخبرتها ، فقالت : ما عندنا إلاَّ هذه الشاة ، ومحرز من ذرة ، قال : فاخبزي ، وذبح الشاة ، وطبخوا شقّها وشووا الباقي ، حتى إذا أدرك ، أتى النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله ، اتخذت طعاماً ، فأتني أنت ومًن أحببت ، فشبك أصابعه في يده ثمَّ نادى ألا إنَّ جابراً يدعوكم إلى طعامه ، فأتى أهله مذعوراً خجِل ، فقال لها : هي الفضيحة ! قد جفل بها أجمعين ، فقالت : أنت دعوتهم أم هو ؟ قال : هو ، قالت : فهو أعلم بهم . فلمَّا رآنا ، أمر بالأنطاع ، فبُسطت على الشوارع ، وأمره أن يجمع التواري ـ يعني قطعاً من الخشب ـ والجفان ، ثمَّ قال : ما عندكم من الطعام ؟ فأعلمته ، فقال : غطوا السدانة والبرمة والتنور واغرفوا ، وأخرجوا الخبز واللحم وغطوا ، فما زالوا يغرفون وينقلون ولا يرونه ينقص شيئاً حتى شبع القوم وهم ثلاثة آلاف ، ثمَّ أكل جابر وأهله وأهدوا وبقي عندهم أيَّاماً ) .
3 ـ سجود الحجر والشجر له ( صلَّى الله عليه وآله ) .
كما جاء ذلك عن الإمام أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) أنَّه قال : ( كان في رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ثلاثة لم تكن في أحد غيره : لم يكن له فيء ، وكان لا يمر في طريق فيمر فيه بعد يومين أو ثلاثة إلاَّ عرف أنَّه قد مر فيه ؛ لطيب عرفه ، وكان لا يمر بحجر ولا شجر إلاَّ سجد له ) .
وفي حديث آخر عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( من الناس مَن لا يُؤمن إلاَّ بالمعاينة ، ومنهم مَن يُؤمن بغيرها . إنَّ رجلاً أتى النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال : أرني آية ، فقال بيده إلى النخل فذهبت يمنةً ، ثمَّ قال : هكذا ، فذهبت يسرة ، فآمن الرجل ) .
ونختتم هذه النقطة بالرواية التالية التي جاء في بعضها أنَّه :
( كان لكل عضو من أعضاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) معجزة : فمعجزة رأسه أنَّ الغمامة ظلّت على رأسه . ومعجزة عينيه أنَّه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه . ومعجزة أُذنيه هي أنَّه كان يسمع الأصوات في النوم كما يسمع في اليقظة . ومعجزة لسانه أنَّه قال للظبي : مَن أنا ؟ قال : أنت رسول الله . ومعجزة يده أنَّه أخرج من بين أصابعه الماء . ومعجزة رجليه أنَّه كان لجابر بئر ماؤها زعاق ، فشكا إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) ، فغسل رجليه في طشت وأمر بإهراق ذلك الماء فيها ، فصار ماؤها عذباً . ومعجزة عورته أنَّه ولد مختوناً . ومعجزة بدنه أنَّه لم يقع ظلّه على الأرض ، لأنّه كان نوراً ولا يكون من النور الظل كالسراج . ومعجزة ظهره ختم النبوة ، كان على كتفه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ) .
7 ـ عبادته .
لقد سبق أنَّ الآيات القرآنية أشادت بعبادة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وقد توجَّهت الخطابات الإلهية إلى نبي الإسلام تحثُّه على الإرفاق بنفسه ؛ لشدة وصعوبة الطقوس العبادية التي كان يمارسها ( صلَّى الله عليه وآله ) ، كل ذلك رحمة به وإشفاقاً عليه ، كما في قوله عزَّ وجلَّ : ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ( طه : 1 ـ 2 ) .
وقد أسلفنا القول في البحث القرآني حول الحالة العبادية والخضوع الذي كان يعيشه الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، ولكن نشير إلى بعض النقاط الإضافية التي تسجَّلها روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) :
1 ـ اعتكافه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : ( اعتكف رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) في شهر رمضان في العشر الأُول ، ثمَّ اعتكف في الثانية في العشر الوسطى ، ثمَّ اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر ، ثمَّ لم يزل يعتكف في العشر الأواخر ) .
وعنه أيضاً ( عليه السلام ) : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا كان العشر الأواخر ، اعتكف في المسجد وضربت له قبّة من شعر ، وشمَّر المئزر ، وطوى فراشه ) ، فقال بعضهم : واعتزل النساء ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( أمَّا اعتزال النساء ، فلا ) .
كذلك عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( كانت بدر في شهر رمضان ، فلم يعتكف رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) . فلمَّا أن كان من قابلٍ ، اعتكف عشرين : عشراً لعامه ، وعشراً قضاءً لِمَا فاته ) .
2 ـ صيامه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
جاء عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قوله : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) أول ما بُعث يصوم ، حتى يقال : ما يفطر ، ويفطر حتى يقال : ما يصوم ، ثمَّ ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً ، وهو صوم داود ( عليه السلام ) ، ثمَّ ترك وصام الثلاثة الأيام الغر ، ثمَّ ترك ذلك وفرّقها في كل عشرة يوماً : خميسين بينهما أربعاء ، فقبض ( عليه وآله السلام وهو يعمل ذلك ) .
وعنه أيضاً ( عليه السلام ) : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يصوم حتى يقال : لا يفطر ، ثمَّ صام يوماً وأفطر يوماً ، ثمَّ صام الاثنين والخميس ، ثمَّ آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر : الخميس في أول الشهر ، وأربعاء في وسط الشهر ، وخميس في آخر الشهر ، وكان يقول : ذلك صوم الدهر ) .
8 ـ دعاؤه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
كيفية دعائه ( صلَّى الله عليه وآله ) : لقد تقدَّم ذكر كيفية دعائه عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث قال : ( إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين ) .
1 ـ دعاؤه إذا نظر في المرآة .
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن آبائه ، عن علي ( عليه السلام ) : ( أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا نظر في المرآة قال : الحمد لله الذي أكمل خَلقي وأحسن صورتي ، وزان مني ما شان من غيري ، وهداني للإسلام ومنّ عليّ بالنبوة ) .
وبنفس المضمون ما ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بألفاظ مقاربة .
2 ـ دعاؤه إذا دخل المسجد وإذا خرج .
عن الإمام الحسين بن علي ، عن أبيه أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) ، قال : ( إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج قال : اللهم افتح لي أبواب رزقك ) .
3 ـ دعاؤه إذا مرّ بالقبور .
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله إذا مر بقبور قوم مؤمنين قال : السلام عليكم من ديارِ قومٍ مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ) .
4 ـ دعاؤه عند زيارة القبور .
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يخرج في ملأ من الناس من أصحابه كل عشية خميس إلى بقيع المدنيين ، فيقول : السلام عليكم يا أهل الديار ، رحمكم الله ) .
5 ـ دعاؤه إذا ورد عليه ما يسره أو ما يغمّه .
عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا ورد عليه أمر يسره قال : الحمد لله على هذه النعمة ، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال : الحمد لله على كل حال ) .
وعن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، عن آبائه ، عن علي ( عليه السلام ) : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا رأى ما يحب قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) .
6 ـ دعاؤه بعد الأذان والإقامة .
عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان إذا سمع المؤذّّن ، قال كما يقول ، فإذا انقضت الإقامة ، قال : اللَّهُم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة أعط محمداً سؤله يوم القيامة ، وبلّغه الدرجة الوسيلة من الجنَّة ، وتقبَّل شفاعته في أُمَّته ) .
7 ـ دعاؤه إذا أفطر .
عن جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) ، عن آبائه : ( أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان إذا أفطر قال : اللَّهُم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبَّله منا ، ذهب الظمأ وابتلت العروق وبقي الأجر ) .
8 ـ دعاؤه بعد الصلاة .
عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا فرغ من الشهادتين وسلّم ، تربع ووضع يده اليمنى على رأسه ، ثمَّ قال : بسم الله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، صلّ على محمد وآل محمد وأذهب عني الهم والحزن ) .
9 ـ دعاؤه في السجود .
عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان إذا وضع وجهه للسجود يقول : اللَّهُم مغفرتك أوسع من ذنوبي ، ورحمتك أرجى عندي من عملي ، فاغفر لي ذنوبي يا حياً لا يموت ) .
إلى غير ذلك من الروايات في هذا المجال ، وهي كثيرة جداً ، تتبعتُ جُلَّ الموارد التي كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يدعو فيها ربه ، واقتصرنا على المقدار المذكور رعاية للاختصار .
9 ـ صبره ( صلَّى الله عليه وآله ) .
لقد أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) بالصبر في مواطن عديدة ، فأصبح الصبر خُلقاً ربانياً تخلّق به النبي الأكرم في تلك الظروف العصيبة التي واجهها ، عندما صدع بإبلاغ الشريعة الإسلامية التي بعث به . ولما كانت رسالة الإسلام خاتمة الرسالات ، استدعى ذلك المزيد من التحمّل والصبر والتضحية والفداء بما يتناسب مع سعة تلك الشريعة وهيمنتها ودوامها إلى قيام الساعة ، وأهليَّتها لبناء حضارة دينية عادلة تقوم على أُسس تلك الشريعة الغرَّاء .
وأمَّا روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) في هذا المجال ، فقد تابعتْ تلك الحقيقة والصفة العظيمة في الشخصية المباركة لنبي الإسلام ( صلَّى الله عليه وآله ) .
ورد عن حفص بن غياث قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( يا حفص ، إنْ من صبرٍ صبرٌ قليل ، وإنْ من جزعٍ جزع قليل ) ، ثمَّ قال : ( عليكَ بالصبر في جميع أمورك ؛ فإن الله عزَّ وجلَّ بعث محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) فأمره بالصبر والرفق ، فقال : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) ( المزَّمل : 10 ـ 11 ) ، وقال : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (فصِّلت : 34 ـ 35 ) ، فصبر حتى نالوه بالعظائم ورموه بها ، فضاق صدره فأنزل الله عليه : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) ( الحجر : 97 ـ 98 ) .
ثمَّ كذَّبوه ورموه ، فحزن لذلك ، فأنزل الله : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَ ) ( الأنعام : 33 ـ 34 ) ، فألزم النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) نفسه الصبر ، فتعدّو ، فذكر الله تبارك وتعالى ، فكذَّبوه ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ، ولا صبر لي على ذكر إلهي ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) ( طه : 130 ) فصبر في جميع أحواله .
ثمَّ بُشِّر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر ، فقال عزَّ ثناؤه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة : 24 ) . فعند ذلك قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فشكر الله ذلك له فأنزل الله : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) ( الأعراف : 137 ) ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : إنَّها بشرى وانتقام ، فأباح الله له قتال المشركين ، فأنزل الله : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) ( النساء : 91 ) ، فقتلهم الله على يدي رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وأحبائه ، وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة . فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة ) .
وهذه الرواية الشريفة استعرضت مسيرة الصبر التي حفلت بها حياة الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وأوضحت أيضاً أهمية التدرّج في الصبر وتأثيره البالغ في نجاح الرسالة الإسلامية الخاتمة ؛ وذلك بالإشراف الإلهي المباشر ، حيث كان الله عزَّ وجلَّ هو الذي يوجّه نبيه الأكرم في كيفية تعاطي جرعات الصبر بصورة صحيحة ومناسبة ، تديم حركة الرسالة وتحفظ لها نظارتها وقوتها وحيويتها في المجتمع ؛ ولذا قال الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) بعد الرحلة الطويلة والشاقّة في مقامات الصبر : ( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ) .
10 ـ أخلاقه وآدابه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
لقد سبق منّا التعرّض لبعض الأخلاق النبوية الفاضلة في البحث القرآني وبعض الروايات أيضاً في هذا المجال ، وإليك بعض المعالم الأخلاقية الأخرى التي كان يتحلّى بها النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) في الأوساط الاجتماعية آنذاك :
1 ـ أخلاقه في العطاء .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( سمعته يقول : ( أُتي النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) بشيء فقسّمه ، فلم يسع أهل الصفّة جميعاً ، فخصّ بها أُناساً منهم ، فخاف رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء ، فخرج إليهم فقال : معذرة إلى الله عزَّ وجلَّ ، وإليكم يا أهل الصفّة ، إنا أُوتينا بشيء فأردنا أن نقسّمه بينكم فلم يسعكم ، فخصصت به أُناساً منكم خشينا جزعهم وهلعهم ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أيضا قال : ( ما منع رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) سائلاً قطاً ، إنْ كان عنده أعطى ، وإلاَّ قال : يأتي الله به ) .
كذلك عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( إنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلاَّ أعطاه ، فأرسلت إليه امرأة ابناً لها فقالت : انطلق إليه فاسأله ، فإنَّ قال لك : ليس عندنا شيء ، فقل : أعطني قميصك ، قال : فأخذ قميصه فرمى به إليه ) .
وهذه الروايات تكشف عن اهتمام النبي الأكرم بالطبقات المحرومة في المجتمع من الفقراء واليتامى وعيلولته لهم ، وأنَّ الجانب الخُلقي الكريم للرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) كان طابعاً عاماً شاملاً لكيفية التعاطي مع تلك الطبقات ، حيث كان يراعي في العطاء مشاعر الفقراء من أهل الصفة ، ولم يكن يردّ سائلاً إلاَّ بالعطية أو ميسور من القول .
2 ـ أخلاقه وآدابه في السلام والمصافحة .
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) قال : ( ما صافح رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) رجلاً قطاً فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده منه ) .
وعن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) قال : ( قال لنا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : لا تَغضبوا ولا تُغضبوا ، فقيل : يا رسول الله ، وكيف ذاك ؟ قال : إذا مرّ أحدكم المجلس فسلَّم فليُسمعهم ، وإذا ردّ أهل المجلس فليُسمعوه ) .
3 ـ أخلاقه وآدابه ( صلَّى الله عليه وآله ) في الجلوس والمأكل والمشرب .
عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يأكل أكل العبد ويجلس جلسة العبد ، وكان يأكل على الحضيض وينام على الحضيض ) .
وعن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يأكل أكل العبد ويجلس جلوس العبد ويعلم أنَّه عبد ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أيضاً قال : ( مرّت امرأة بدوية برسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وهو يأكل ، وهو جالس على الحضيض ، فقالت : يا محمد ، والله إنَّك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه ، فقال لها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ويحك ! أي عبد أعبد مني ؟! ) .
كذلك عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : ( ما أكل رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) متكئاً منذ بعثه الله عزَّ وجلَّ حتى قبض ، وكان يأكل أكلة العبد ، ويجلس جلسة العبد ، قلت : ولم ذاك ؟ قال : تواضعاً لله عزَّ وجلَّ ) .
وعنه أيضا ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل ) .
وكذا عنه ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله أكثر ما يجلس تجاه القبلة ) .
ونقلاً عن كتاب مواليد الصادقين : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يأكل كل الأصناف من الطعام ، وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ومع مَن يدعوه من المسلمين على الأرض ، وعلى ما أكلوا عليه وممَّا أكلو ، إلاَّ أن ينزل به ضيف فيأكل مع ضيفه .. وكان إذا وضعت المائدة بين يديه قال : بسم الله ، اللَّهُم اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعمة الجنة . وكان كثيراً إذا جلس يأكل ما بين يديه ، ويجمع ركبتيه وقدميه ، كما يجلس المصلّي في اثنتين ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( كان رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا عذْباً زلالاً ولم يسقنا ملحاً أجاجاً ، ولم يؤاخذنا بذنوبنا ) .
11 ـ زهده في الدنيا .
إنَّ الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) لمَّا بلغ اللهُ عزَّ وجلَّ به القمة في الكمالات والمقامات الإلهية ، وبُعث بأفضل الرسالات وخاتمتها ، لم تكن الدنيا لتؤثِّر على منازل القرب ومقاعد الصدق التي له عند ربه . ومن هنا نجد أنَّ الله عزَّ وجلَّ بعد أن بلغ بنبيه الأكرم ما بلغ ، عرض عليه الدنيا بما فيها من زبارج وملذَّات من دون أن ينقص شيء ممَّا أعطاه الله عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة ، ولكن مع ذلك نجد أنَّ الخلق المحمدي السامي أبى أن يركن إلى ملاذ الدنيا طرفة عين ، واختار أن يعيش عبداً فقيراً إلى ربه . وهذا ما نصّت عليه أيضاً روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حيث جاء عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنَّه قال : ( خرج النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) وهو محزون ، فأتاه ملَك ومعه مفاتيح خزائن الأرض ، فقال : يا محمد ، هذه مفاتيح خزائن الدنيا ، يقول لك ربك : افتح وخذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئاً عندي ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : الدنيا دار مَن لا دار له ، ولها يجمع مَن لا عقل له ، فقال الملَك : والذي بعثك بالحق ، لقد سمعت هذا الكلام من ملَك يقوله في السماء الرابعة حين أُعطيت المفاتيح ) .
وعنه أيضاً ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : عُرضتْ عليَّ بطحاء مكَّة ذهباً ، فقلت : يا رب ، لا ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك ، وإذا جعت دعوتك وذكرتك ) .
وهكذا كان الصحابة يلاحظون كيف كان قائد الحضارة الإسلامية يعيش الزهد في الدنيا والإعراض عن مغرياتها الفانية ، بينما كانت ملوك الحضارات الأخرى التي تحوطهم تعيش حالة من الجبروت والطغيان والبذخ والإسراف والغطرسة ؛ وكان ذلك عاملاً مهماً في حياة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) أدّى إلى اتساع رقعة الإسلام ودخول الناس في ذلك الدين الحنيف أفواجاً .
وقد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنَّه قال : ( دخل على النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) رجل وهو على حصير أثّر في جسمه ، ووسادة ليف قد أثّرت في خدّه ، فجعل ـ أي الرجل ـ يمسح ويقول : ما رضي بهذا كسرى ولا قيصر ، إنَّهم ينامون على الحرير والديباج ، وأنت على هذا الحصير ؟! قال : فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : لأنا خير منهما والله ، لأنا أكرم منهم ، والله ما أنا والدنيا ، إنَّما مثل الدنيا كمثل راكب مرّ على شجرة ولها فيء فاستظل تحتها ، فلمَّا أن مال الظل عنها ارتحل فذهب وتركها ) .
وعن ابن أبي يعفور قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : ( إنَّ رجلاً من الأنصار أهدى إلى رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) صاعاً من رطب ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) للخادمة التي جاءت به : ادخلي فانظري هل تجدين في البيت قصعة أو طبقاً فتأتيني به؟ فدخلت ثمَّ خرجت إليه فقالت : ما أصبت قصعة ولا طبق ، فكنس رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) بثوبه مكاناً من الأرض ، ثمَّ قال لها : ضعيه ها هنا على الحضيض ، ثمَّ قال : والذي نفسي بيده ، لو كانت الدنيا تعدل عند الله مثقال جناح بعوضة ما أعطى كافراً ولا منافقاً منها شيئاً ) .
12 ـ تواضعه ( صلَّى الله عليه وآله ) .
لقد تشاطر الزهد والتواضع في شخصية رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) التي نهضت بإرساء معالم الحضارة الإنسانية والإسلامية الدائمة والخالدة ، ولا زال الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) حاكماً وقائداً بشخصيته المباركة في تلك الحضارة ، بل ألقت بظلالها على الحضارات الأُخرى .
والروايات التي أشارت إلى جانب التواضع في مسيرة نبي الإسلام ( صلَّى الله عليه وآله ) كثيرة جداً ، نشير إلى بعضها :
1 ـ عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ما أكل رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) متكئاً منذ بعثه الله عزَّ وجلَّ نبياً حتى قبضه الله إليه ، متواضعاً لله عزَّ وجلَّ ) .
2 ـ عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يذكر ( أنَّه أتى رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ملَك ، فقال : ( إنَّ الله تعالى يخبرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً ، أو ملكاً رسولاً ، فقال : فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أنْ تواضع ، فقال : عبداً متواضعاً رسولاً ، فقال الرسول : مع أنَّه لا ينقصك ممَّا عند ربك شيئاً ، قال : ومعه مفاتيح خزائن الأرض ) .
3 ـ وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال في حق رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( قضم الدنيا قضماً ، ولم يعرها طرفاً ، أهضم أهل الدنيا كشحاً ، وأخمصهم من الدنيا بطناً ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ... .
ولقد كان رسول الله يأكل على الأرض ، ويجلس على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ... فأعرض عن الدنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ؛ لكيلا يتخذ منها رياشاً ، ولا يعتقدها قراراً ، ولا يرجوا فيها مقاماً ، فأخرجها من النفس ، وأشخصها عن القلب ، وغيَّبها عن البصر ... .
ولقد كان في رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ما يدلك على مساويء الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته .
فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمداً ( صلَّى الله عليه وآله ) بذلك أم أهانه ؟ فإنْ قال : أهانه ، فقد كذب وأتى بالأفك العظيم ، وإنْ قال : أكرمه ، فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له ، وزواها عن أقرب الناس منه ... خرج من الدنيا خميصاً ، وورد الآخرة سليماً ، لم يضع حجراً على حجر حتى مضى لسبيله ، وأجاب داعي ربه ) .
ثمَّ يُضيف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هذه الكلمة العظيمة في حق النبي الأكرم : ( فما أعظم منّة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتبعه ، وقائداً نطأ عقبه ) .
13 ـ حُبُّ أصحابه ( صلَّى الله عليه وآله ) له .
حيث ورد عن الحسن والحسين ( عن أبيهما علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) قال : ( جاء رجل من الأنصار إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله ، ما أستطيع فراقك ، وإنِّي لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي ، وأقبل حتى أنظر إليك حباً لك ، فذكرت إذا كان يوم القيامة وأُدخلت الجنة ، فرفعت في أعلى عليين ، فكيف لي بك يا نبي الله ؟ فنزل : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقً ) ( النساء : 69 ) ، فدعا النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) الرجل فقرأها عليه وبشّره بذلك )
source : alhassanain