عربي
Tuesday 5th of November 2024
0
نفر 0

شهادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) على رواية

بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اشتدَّ عليها الحزن والأسى ، ونزل بها المرض لِمَا لاقَتْهُ من هجوم أَزْلامِ الزُمرة الحاكمة آنذاك على دارها ، وَعَصْرِهَا بَين الحَائطِ والبَابِ ، وَسُقُوطِ جَنِينِها المُحسِن ( عليه السلام ) ، وَكَسْرِ ضِلعِها ، وَغَصبِ أَرضِهَا ( فَدَك ) .

فتوالت الأمراض على وديعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفَتك الحزن جِسمَها النحيلَ المُعذَّبَ حتى انهارت قواها ( عليه السلام ) .

فقد مشى إليها الموت سريعاً وهي ( عليها السلام ) في شبابها الغَض ، وقد حان موعد اللقاء القريب بينها ( عليها السلام ) وبين أبيها ( صلى الله عليه وآله ) الذي غاب عنها ، وغابت معه عواطفه الفَيَّاضة .

وَلَمَّا بدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة طَلَبتْ حضورَ أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، فَعَهدتْ إليهِ بِوَصِيَّتِها ، ومضمون الوصية : أن يُوارِي ( عليه السلام ) جثمانها ( عليها السلام ) المقدس في غَلس اللَّيل البهيم ، وأن لا يُشَيِّعُها أحد من الذين هَضَمُوهَا ، لأنهم أَعداؤها ( عليها السلام ) وأعداء أبيها ( صلى الله عليه وآله ) - على حَدِّ تعبيرها - .

كَما عَهدت إليه أن يتزوَّج من بعدها بابنة أختها أمَامَة ، لأنَّها تقوم بِرِعَايَة ولديها الحسن والحسين ( عليهما السلام ) اللَّذَين هما أعزُّ عندها من الحياة .

وعهدت إليه أن يعفي موضع قبرها ، ليكون رمزاً لِغَضَبِهَا غير قابلٍ للتأويل على مَمَرِّ الأجيال الصاعدة .

وضمن لها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جميع ما عَهدَت إليه ، وانصرف عنها ( عليها السلام ) وهو غارق في الأسى والشجون .

وفي آخر يوم من حياتها ( عليها السلام ) ظهر بعض التحسّن على صحتها ، وكانت بادية الفرح والسرور ، فقد علمت ( عليها السلام ) أنها في يومها تلحق بأبيها ( صلى الله عليه وآله ) .

وعمدت ( عليها السلام ) إلى ولديها ( عليهما السلام ) فَغَسَلت لهما ، وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم ، وأمرت ولديها بالخروج لزيارة قبر جدّهما ، وهي تلقي عليهما نظرة الوداع ، وقلبها يذوب من اللوعة والوجد .

فخرج الحسنان ( عليهما السلام ) وقد هاما في تيار من الهواجس ، وأَحسَّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان ، والتفت وديعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أسماء بنت عميس ، وكانت تتولى تمريضها وخدمتها فقالت ( عليها السلام ) لها : ((يا أُمَّاه .

فقالت أسماء : نعم يا حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

فقالت ( عليها السلام ) :  اسكبي لي غسلاً ،

فانبرت أسماء وأتتها بالماء فاغتسلت ( عليها السلام ) فيه ، وقالت ( عليها السلام ) لها ثانياً : إتيني بثيابي الجدد .

فناولتها أسماء ثيابها ( عليها السلام ) .

ثم هتفت الزهراء ( عليها السلام ) بها مرة أخرى :  اجعلي فراشي وسط البيت  .

وعندها ذعرت أسماء وارتعش قلبها ، فقد عرفت أنّ الموت قد حلّ بوديعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

فصنعت لها ما أرادت ، فاضطجعت الزهراء ( عليها السلام ) على فراشها ، واستقبلت القبلة ، والتفتت إلى أسماء قائلة بصوت خافت : يا أُمَّاه ، إنّي مقبوضة الآن ، وقد تَطَهَّرتُ فلا يكشفني أحد)) .

وأخذت ( عليها السلام ) تتلو آيات من الذكر الحكيم حتى فارقت الروحُ الجسد ، وَسَمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها ، لتلتقي بأبيها ( صلى الله عليه وآله ) الذي كرهت الحياة بعده .

وكان ذلك في ( 13 من جمادي الأول ) من سنة ( 11 هـ ) ، وفي رواية أخرى أنه كان في ( 8 ربيع الثاني ) من نفس السنة ، وفي رواية أخرى في ( 3 جمادي الثاني ) من نفس السنة أيضاً .

ورجع الحسنان ( عليهما السلام ) إلى الدار فلم يجدا فيها أمهما ( عليها السلام ) ، فبادرا يسألان أسماء عن أمّهما ، ففاجئتهما وهي غارقة في العويل والبكاء قائلة : يا سيدي إن أمّكما قد ماتت ، فأخبرا بذلك أباكما ، وكان هذا الخبر كالصاعقة عليهما .

فهرعا ( عليهما السلام ) مسرعين إلى جثمانها ، فوقع عليها الحسن ( عليه السلام ) ، وهو يقول : (( يا أُمَّاه ، كلميني قبل أن تفارق روحي بدني)).

وألقى الحسين ( عليه السلام ) نفسه عليها وهو يَعجُّ بالبكاء قائلاً :  يا أُمَّاه ، أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن ينصدع قلبي)) .

وأخذت أسماء تعزيهما وتطلب منهما أن يسرعا إلى أبيهما ( عليه السلام ) فيخبراه ، فانطلقا ( عليهما السلام ) إلى مسجد جدّهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهما غارقان في البكاء ، فلما قربا من المسجد رفعا صوتهما بالبكاء ، فاستقبلهما المسلمون وقد ظنوا أنّهما تذكرا جدّهما ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : ما يبكيكما يا ابنَي رسول الله ؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما ( صلى الله عليه وآله ) فبكيتما شوقاً إليه ؟

فهرعا ( عليهما السلام ) إلى أبيهما وقالا بأعلى صوتهما :  ((أَوَ ليس قد ماتت أُمُّنا فاطمة)) .

فاضطرب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهزَّ النبأ المؤلم كِيانَه ، وطفق يقول : (( بمن العزاء يا بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) كنتُ بِكِ أتعزَّى ، فَفِيمَ العزاء من بعدك )) ؟

وخَفَّ ( عليه السلام ) مسرعاً إلى الدار وهو يذرف الدموع ، ولما ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخذ ينشد ( عليه السلام ) :

 

لِكُلِّ اجتِمَاعٍ مِن خَلِيلَيْنِ فِرقَةٌ   وَكُلُّ الَّذي دُونَ الفِرَاقِ قَليلُ

وَإِنَّ افتِقَادِي فَاطماً بَعدَ أَحمَد    دَلِيلٌ عَلى أَنْ لا يَدُومَ خَلِيلُ

 

وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام ( عليه السلام ) وهم يذرفون الدموع على وديعة نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد انطوت بموت الزهراء ( عليها السلام ) آخر صفحة من صحفات النبوة ، وتذكروا بموتها عطف الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عليهم ، وقد ارتَجَّت المدينة المنورة من الصراخ والعويل .

وعهد الإمام ( عليه السلام ) إلى سَلمَان أن يقول للناس بأن مواراة بضعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) تأخّر هذه العشية ، وتفرقت الجماهير .

ولما مضى من الليل شَطرُهُ ، قام الإمام ( عليه السلام ) فغسَّل الجسد الطاهر ، ومعه أسماء والحسنان ( عليهما السلام ) ، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم .

وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها – الذين لم ينتهلوا من حنان أُمِّهم – ليلقوا عليها النظرة الأخيرة ، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وعويلهم ، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء عليها .

ولما حَلَّ الهزيع الأخير من الليل قام ( عليه السلام ) فصلّى عليها ، وعهد إلى بني هاشم وخُلَّصِ أصحابه أن يحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير .

ولم يخبر ( عليه السلام ) أي أحد بذلك ، سوى تلك الصفوة من أصحابه الخُلَّص وأهل بيته ( عليهم السلام ) .

وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب ، ووقف ( عليه السلام ) على حافة القبر ، وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، واندفع يُؤَبِّنها بهذه الكلمات التي تمثل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلاً : (( السَّلام عَليكَ يا رسولَ الله عَنِّي وعنِ ابنَتِك النَّازِلَة في جوارك ، السريعة اللحاق بك ، قَلَّ يا رسولَ الله عن صَفِيَّتِك صَبرِي ، وَرَقَّ عنها تَجَلُّدِي ، إِلاَّ أنَّ في التأسِّي بِعظِيم فرقَتِك وَفَادحِ مُصِبَيتِك مَوضِعَ تَعَزٍّ ، فَلَقد وَسَّدتُكَ فِي مَلحُودَةِ قَبرِك ، وَفَاضَت بَينَ نَحري وصَدرِي نَفسُكَ . إِنَّـا لله وإنَّا إليه راجعون ، لقد استُرجِعَتْ الوَديعةُ ، وأُخِذَتْ الرَّهينَة ، أمَّا حُزنِي فَسَرْمَدْ ، وَأمَّا لَيلِي فَمُسَهَّدْ ، إلى أَنْ يختارَ اللهُ لي دارَك التي أنتَ بِها مُقيم ، وَسَتُنَبِّئُكَ ابنتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ على هَضمِها ، فَاحفِهَا السُّؤَالَ ، واستَخبِرْهَا الحَالَ )) .

فأعلن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذه الكلمات شكواه للرسول ( صلى الله عليه وآله ) على ما أَلَمَّ بابنتِه من الخطوب والنكبات ، وطَلبَ ( عليه السلام ) منه ( صلى الله عليه وآله ) أن يَلحَّ في السُؤال منها ( عليها السلام ) ، لتخبِرَهُ ( صلى الله عليه وآله ) بما جرى عليها ( عليها السلام ) من الظُلم والضَيم في تلك الفترة القصيرة الأمد التي قد عاشتها ( عليها السلام ) .

وعاد الإمام ( عليه السلام ) إلى بيته كئيباً حزيناً ، ينظر إلى أطفاله ( عليهم السلام ) وهُم يبكون على أُمِّهم ( عليها السلام ) أَمَرَّ البكاء .

بَينَ يَدَيّ الخِطاب العظيم لِسَيّدَةِ نِسَاءِ العالَمِين

بِقَدِّها النَّحِيل، وَصَوْتِهَا المُضَمَّخ بالألَم، وبِعَقْلِها النيِّر الكبير، وقَلْبِها الشُّجاع البصِير .. وقَفَتْ فاطِمَةُ الزهْراء تُلقي خِطَابَها العظيم في مَسجِد أبِيها رسول الله ) صلّى الله عليه وآله وسلّم ( بالمَدِينَة لتَجْلُو دَرْبَ الرسُول الذي رشَّ النورَ على دَرب ِالإنسان، وضَوّى برسالَتِهِ أبعاد الزمانِ والمكانِ، ولِكَي تَرفَع عن كاهِل الإسلام ظُلْمَ الظالِمِين وعُدْوَانَ المُغتَصِبِين، ولِتَهُزّ الأرضَ مِن تَحتِ أقدام المُستَبِدّين الحاكِمين وحتّى قِيام ِالساعَة .

إنّ خِطاب الزهراء فاطمة (عليها السلام) في مسجد أبيها محمّد (صلّى الله عليه وآله) احتِجَاجاً على غَصْبِ ( فَدَك ) لم يَكُن مُجَرَّد صَرخة في وجه الظُلمِ، بل كان بالدرجة الأولى تَعرِيَةً لمَنهَج ٍ خاطِئ، و إنذاراً لمُستَقْبَلٍ خَطير تَتَرَقّبُهُ الجزيرةُ العربيّة جَزاءَ زَحْزَحَةِ الوصِيّ عن زَعَامَة الأُمّة بعد الرسول الأعظم .

لقد جَاء الخطاب في المَسجِد النبَوَيّ، وبِجِوار قَبْرِ المُصطَفى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لِيُسجّل اعتراض المَسجِد النبَوَيّ، الذي كان دائِماً مِحوَر الهُدى الدينيّ ،على سَقِيفَةِ بَنِي ساعِدَة الذي جَرتْ تَحْتَ سَقْفِه أوّل مُؤامَرة على خط ِّالمَسجِد وخطِّ بانِي المَساجِد رسول الله محمّد ) صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لم تكن فاطمة من النوع الذي يُقِيم لحُطام الدنْيَا وَزْنَاً ـ وهي التي أهدَت حتّى ثِياب عُرسِها لسائِلَةٍ مِسكِينَةٍ لَيلَة الزِّفَاف ـ وهي التي شَهِد القرآنُ لها ولآلِها في سُورةِ (هل أتى) بالإيثار في سبيلِ الله ولو كان بِهِم خَصَاصَة، وهي التي شَهِدَتْ لها آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) بالصدق والعفّة، ولكنّ اغتصاب فدَك كان حُجّةً على الذين َغَصَبُوا الخِلافَة، وسَنَدَاً واضِحَاً يُدِينَ فِعْلَ المُغتصِبين .

لقد أثْبَتَتْ الزهراء (عليها السلام) للتاريخ كلّه أنّ خلافة تقوم في أوّلِ خُطوَة لها بالاعتِدَاء على أملاك رسول الله ليست امتداداً للنبِيّ بِقَدَرِ ما هي انقلابٌ علَيه، كما هو شأن كلّ الانقلاباتِ الّتي تَتِمُّ في الدنيا حيثُ يُصَادِر الرئيس الجديد مُمتَلَكَات الرئيس السابِق الذي انقلب عليه، بِحجّةٍ أو بأُخرى، حتّى لا يستطيع أعوانه وأقربائه من الدفاع عن أنفُسِهِم والعودة إلى مَراكِز الحُكمِ والسلطة، إنّ أيّ شخصٍ يتَجَرّد من العصَبيّة المذهبيّة ويفهَم أوّليّات السياسة يُدْرِك مَغزى مُصادرة (فدك) وإخراج عُمّال فاطمة منها وبالقوّة

أو كما يُعبِّر صاحِب الصواعِق المُحرِقة : انتزاع فدك من فاطمة .. كما يُدرَك مَغزى إصرار فاطمة الزهراء (عليها السلام) على المطالَبَة بحَقِّها حتّى الموت ... فلم تكُن (فدك) هي المطلوبة، بل الخلافة الإسلاميّة ولم يَكُن إصرار الخليفة على مَوقِفه، إلاّ لكي يَقطَع المَدَد عن المُطالِبين بالخِلافة.

من هنا قامت فاطمة (عليها السلام) تُطالِب حقّها المُغتصب باعتباره نِحلَة من رسول الله إليها، فطالَبها الخليفة بالشُهود.. وشَهِدَ على ذلك عليّ وأمّ أيمَن و الحَسَنَان ، فَرُدَّتْ شهادة أُمِّ أيمَن، بِحُجّة أنَّها إمرأة ـ عِلْمَاً بأنّ الرسول قد شَهِدَ لها بأنّها من أهل الجنّة، ورُدَّت شهادَةُ عليّ ـ بحجّة أنّه يَجُرّ النار إلى قُرصِه !! ورُدّت شهادة سيّدَي شبابِ أهلِ الجنّة الحسَن والحسَين بحجّة أنّهما صغيران !! عِلماً ـ بأنّ صاحب اليد على المِلك، لا يُطالَب بالشُهود في أيّ مَذهَب ٍ من مذاهب الإسلام، ولا في أيّ قانونٍ من قوَانين الأرض أو السماء، فلا يَحُقّ لأيٍّ كان أنْ يَنْتَزِع يدّ أحدٍ على مِلك، ثمّ يُطالِبَهُ بإثباتِ مُلكيّتهِ له .

ولمّا رُفِضَت شُهودُ فاطمة بالنِّحلة.. قالت إذن : فهي مُلكي بالإرث، فَرَتّبوا على الفورِ حَدِيثاً على لِسانِ النبي الأكرم يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نُورّث ذهَباً ولا ديناراً .. ) ناسين أنّه مُخالِف لصَرِيح القُرآن الكريم في آياتٍ كثيرةٍ ومُتفَرِّقَة ، مذكورة في خطاب الزهراء ،

ولم يَكُن أمَام فاطِمةَ الزهراء (عليها السلام) إلا لتُلقِي حُجّتها في المسجِد وعلى رُؤوس الأشهاد.. فجاء خِطابُها قاصِعاً قامِعاً دامِغاً لا يدَع مَجَالاً للريبِ عند أحد..

المناورة

ولم يجد الخصم المَهزوم بمنطِق الزهراء المُؤزَّر بآياتِ الذكرِ الحكيم، إلاّ أنْ يُناوِر باسم الجماهير ويعتذِر عمّا فعل، بأنّه استجابةً لطلبِ الناس ! ولا أدري متى كان طلَب الاغتصاب مُبَرِّرَا للاغتصاب ، أياً كان الطالب وأياً كان المُغتصِب، فكَيفَ والغَصْب لأملاكِ النبيّ الأعظم التي انتَقَلَتْ إلى فاطمةَ نِحلَة أو إرثاً .. ( وذلك بنصّ الكتاب العزيز الذي يعطي الأنفال ـ وهي كلّ أرض لم يُحرّرها الجيش الإسلامي للنبيّ الأكرم( صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ ، وفدَك أرضٌ صالَح عليها أهلُها رسولَ الله وسُلِّمَتْ صُلحاً لا حَرباً.

وفي الأخير .. وبعد أخذٍ وردٍّ صَرّح الخليفة أمَام الجماهير بعدَم شرعيّة انتزاع (فدك)من الزهراء .. ولم يجِد بُدّاً من الاعتراف، ولكنّه حاوَل الالتِفَاف على حجّتها برَمْي الكرة في مَرمَى الجماهير الحاضرة في المسجِد .. فصار حقّ الزهراء المُسلّم رهناً بِرِضا قومٍ يَعرِفون تماماً وجهَ الحقّ ومَقصَد الخليفة من هذه المناورة، ولكنّ سَيفَ الإرهاب الذي شُهِرَ في السقيفة ما كان يدَع لأحدٍ مَجالاً للاعتراض ..

ولم يكن يَخفَى على أحدٍ حقُّ فاطمة في (فدَك) .. وما بعد فدك غَير أنّ البطش كان أقوَى .. وما فُعِلَ بالصحَابِي الجليل ( مالك بن نويرة ) أخمَدّ أصوات الجميع !

فدك .. عبر التاريخ

غير أنّ فدَك لَمْ تَذهَب إلى خَزِينة الدولة إلاّ لِفَترة ٍقَصِيرة .. ثُمّ سَلّمَها عُمَر لأبناء فاطمة، ثمّ انتزعها عثمان ليَعطِيها لصِهرِه مَروان بن الحكم، ثمّ عادت لِعَليّ في خلافَتِه ، وكان له مَعها موقفٌ حكيم ! وجاء معاوية فانتَزَعَها من أصحابِها ولم يَرُدّها إلى خزينةِ الدولة بل قسَّمَها بين أقرِباءِه ثلاثَ أقسام :

فثَلث لمروان وثَلث لعُمَر بن عثمان، وثُلث لولدِه يزِيد ) قاتل الحسين بن عليّ عليه السلام ( وهكذا بَقِيَت في كفِّ الأمَوِيّين حتّى صَفَتْ لمروان وحدَه .. ثمّ ورِثها عُمَر بن عبد العزيز فَرَدّها على أولاد فاطمة، ثمّ اضطرّ تحت ضغط أعوانه إلى توزيع غلّتها عليهم فقط واستبقاء الأصل في يده، ثمّ انتزعها يزيد بن عبد الملك لنَفْسِه، وبَقِيَتْ في يد ِ المَروانِيّين حتّى زالت دولّتُهُم ،

وعلى زمَن العبّاسِيّين .. ردّها أبو العبّاس السفّاح إلى أبناء فاطمة )عبد الله بن الحسن بن الحسن ( ثمّ انتزعها أبو جعفر المنصور ثمّ ردّها ولده المَهدِي بن المنصور إلى أبناء فاطمة، ثمّ انتزعها ولده موسى بن المهدي..

وبقيت في يد العبّاسيّين حتّى عام 210 فردّها المأمُون على أبناء فاطمة، وكتب بذلك كِتاباً ضمّنة أدلّة امتلاك فاطمة لفدك (1) .. ثمّ انتزعها المُتَوَكّل ووَهَبَهَا لابن( عُمر البازيار)، وكان فيها إحدى عشرةَ نخلَة غَرَسَها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده الكريمة فَوَجّه البازيار رجُلاً يُقال لهُ بشران فَصَرم تِلك النخيل، ثمّ عاد فَفَلِج(2) !! ولا يَذكُر التاريخ شيئاً عن فَدَك بعد ما صارت في يد البازيار المُعادِي للنبيّ وآلِهِ (عليهم السلام).

وهكذا كلّما كان الحُكمُ يميل للإنصاف لأهلِ البيت، كان يُعِيد فدَكاً إلى أبناء فاطمة وكُلّما جَنَحَ للظلم، اغتَصَبَها من جديد، ولكنّ حقّ فاطمة في فدك صار أظهر من الشمس في رابعة النهار وأصبح حديث ( نحن معاشر الأنبياء لا نُورِّث ) مثل قميص عثمان في التاريخ، يستمر من وراءه طلاّب الحُكًُم ليُقْصُوا عن الخلافةِ أهلَها الحقيقيِّين، وكفى بـ ( فدك ) شاهدةً على صِدْقِ، وطهارةِ، وحقّ مَنْهَج ٍوقَفِ على رأسهِ أهلُ البيت ، عليّ وفاطمة والحسن والحسين .. الحُماة الحقِيقِيّون للرسالة.

ومن المفارقات الطريفَة، أنّ الذين استَلَبُوا الخِلافَة في سَقِيفَةِ بَنِي ساعدة من أهلِ البيت كانوا يَشْعرون بالضَّعْفِ؛ لأنّه كان يَنقُصُهُم قوّة َ الحقّ في خلافَتِهِم، فَراحُوا يُرَمّمُون ذلك النقص بِقُوّةِ المال المُغتَصَب، والسيف المُشتَهِر .. أمّا عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ،والذي كان أزهَدَ النّاس في الدُّنيا، وأحرَصِهِم على الرسالة فما كان لِيَشعُر بشيء من الضعف في خلافَتِهِ حتّى يُغطّيه بالمال، فلا نقص الإجماع الجماهيري وقد تَدَافَعَتْ نحوه كالسيل وكأنّها تعتذِر عن تَقصِيرِها القديم .. ولا نقص النصّ الجَليّ وقد صَرّح الرسول الأكرم في غدير خمّ وغيرِ غدير خمّ بخلافته له من بعده، ولا نقص القرابة إلى الرسول وهو ابن عمّه وزوج سيّدَةِ نِساء أهل الجنّة فاطمة (عليها السلام) ولا الجهاد والأسبقيّة إلى الإسلام وقد كان الأوّل في كلّ تِلكَ المَناقِب؛ لذلك فإنّه ما أنْ امتلك السُّلطة حتّى رفَضَ أنْ يستفيد من فدك شَخصِيّاً، وكان يُنفِق جميع عائِداتها على الفُقراء ليُدَلّل على أنّ مطالبَة أهلِ البيت بفدك لم تَكُن لأجلِ الدنيا، وأنّ الذين اغتَصَبُوها منهم ما فعلو ذلك للآخرة !

المطالبة بفدك .. والمطالبة بالخلافة

ومِمّا يكشِف عن مَرمَى خطاب الزهراء في مسجِد الرسول خطابها الآخر في فِراشِ الموت، عندما جاء لزيارتها نِساء المُهاجرين والأنصار حيث لم تَتَطَرّق إلى فدك من قريب أو بعيد، بل كانت الخلافة هي المِحوَر .. أوّلاً وأخيراً .. (ويْلَهُم أنّى زَحزَحُوها عن مَراسِي الرسالة، ومَهبِط الوحي الأمِين، والطيّبين العالِمِين بأمر الدنيا والدّين، وما الذي نَقِمُوا من أبي الحسن ؟ نَقِمُوا منهُ ـ والله ـ نَكِيرَ سَيفِه، وشِدّة ّوقْعَتِه، وتَنَمُّرِه في ذاتِ الله).

ولقد أشار الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) ـ حفيد فاطمة ـ إلى قَضِيّةِ فدك، إذ حَدّدَ تِلك الجُنَينَة المَغْروسة في خِصْرِ الصحراء عندما طلب منه الخليفة هارون العبّاسي تحديد فدك ليَرُدَّها عليه فقال(عليه السلام) : (الحدّ الأوّل : عَدَنْ، والحدّ الثاني : سَمَرقند، والحدُّ الثالث : افريقية، والرابع : سَيفُ البَحر مِمّا يَلِي الجُزُر، وأرمينية) .

والسؤال : هل استطاعَت الزهراء بخِطابِها أنْ تسترجع فدك ؟

الجواب : لم تسترجع الزهراء فدَكاً ولكنّها استَرجَعَتْ صَوتَ الحقّ الذي كادَ يَضِيع في تَهرِيجِ السقِيفَة .

وهكذا هُزِم الخصم

لقد سَجّلَت الزهراء على خُصُومِها غَصْب الأرض ولم يستَطِع الحديث المَكذُوب على النبيّ أنْ يُثَبّت الشرعيّة لاغتصاب فدك، ورواية ( نحن معاشِر الأنبياء لا نورّث .. ) فِرْيَةٌ مَفضوحة ـ بلا ريب ـ فهي أوّلاً مخالِفة لنصوص القرآن الكريم في الآيات العامّة للإرْث وفي الآيات الخاصّة بخصوص إرث الأنبياء ـ كما تُشير إليه الزهراء في خطابها .

وثانياً : لأنّ الخصم تراجع في نهاية المَطاف عن التمسّك بهذا الحديث ليَتَشَبّث بموقف الحاضرين في المسجد والذين كان اغلبُهم من حِزبِه أو ممّن جرى تسليمَهم بالقوّة أو بالتَطمِيع .

وثالثاً : إنّ الخليفة قد ناقَض نفسَه في هذا الحديث، عندما استأذن عائشة حِصّتها من الإرث في بيت النبيّ، وأوصى بأنْ يُدفن عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)علماً بانّ الزوجة لا ترِث من الأرض، بل من البناء فقط ـ كيف ترث عائشة زوجة الرسول ولا ترِث فاطمة بنت الرسول ؟

وأيضاً إذا صَحّ هذا الحديث فلِماذا لم يُصادِر الخليفة بِيُوت النبيّ من أزواجِه ؟ ولكنّ المُشكِلة أنّ الدلائل على صِدقِ الزهراء لم تكنْ تَعوز الخليفة الجديد ، بل الدوافع والغايات، وإلاّ كانت تكفي شهادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عندما قال لعليّ (عليه السلام) :(عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ يدورُ معهُ حيثُمَا دار) وقول الله تعالى عن أهل البيت: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

كلّ ذلك كان كافِياً للرضُوخ لِلحَقّ، والحُكم لصالِح فاطمة الزهراء، ولكنّ كلّ تلك الشهادات قد رُدّت، ومعها آيات الذكر الحكيم في المِيراث .. وبقِيَ الحديث ـ الفِريَة صامِداً بِوجهِ كلّ الشهود والآيات... لماذا ؟ ؛ لأنّ الخليفة لم يَكُن حكَماً، بل كان طرَفاً .

ولذلك فإنّ الزهراء ـ وبعد اليأس من الخليفة وحاشِيَتِه ـ نادت : (فنِعمَ الحكَمُ الله، والزعِيم محمّد، والمَوعِد القيامَة، وعِندَ الساعَة يَخسَر المُبطِلُون) .

إنّ التناقض في مواقِف الخليفة من إرث الرسول ربّما كان هو سَبَب شعوره بالنّدَم العميق ممّا صَنَعه تجاه ( فدك فاطمة )، خصوصاً في اللحظات الأخيرة من حياتِهِ ولكنْ بعد أنْ كان كلّ شيء قد انتهى ..

لقد ماتَت فاطمة في ريْعانَة العمر مَقهورة متألّمَة وهي ساخِطة على الخليفة أشدّ السخط .. وعلى صاحِبِهِ أيضاً .. حتّى أنّها رفَضَتْ أنْ تَتَكلّم معهما بعد خطاب المسجِد ! وكانت تَدعوا عليهما في كلّ صلاة، وأوصَت بأنْ لا يَشهَد أحدٌ منهُما جنازتَها .. وشدّدَت في الوصيّة، حتّى أنّها أوصت أنْ تُدفن في مكانٍ مجهول .. حتّى لا تُتِيح لأحدٍ منهما الصلاة على قبرِها.. ولكي تُسجّل اعتراضها على ( سقِيفَة بني ساعِدة ) وجميع إفرازاتِها والى الأبد ..

ـــــــــــــــــــ

(1) كَتَبَ المأمُون العبّاسي الرسالة التالية إلى واليه على المدينة قَثم بن جعفر : ( أمّا بعد، فإنّ أميرَ المؤمنين بمَكانِه من دين الله وخلافةِ رسوله ( صلّى الله عليه وسلّم ) والقَرابة بِه، أولى مِن استَنّ بسُنّتِه، وسلّم لِمَن مَنَحَهُ مِنْحَة، وتَصَدّقَ عليه بصدَقة، منحته وصدّقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعِصمَته، واليه في العمل بما يقُرّه إليه رغبته، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أعطى فاطمة بنت رسول الله وتصدّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آلِ رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم )، ولم تدعى منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أميرُ المؤمنين أنْ يردّها إلى ورثَتِها، ويسلّمُها إليهم؛ تَقَرُّباً إلى الله تعالى، بإقامة حقّهِ وعدْلِه والى رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم ) بتَنفِيذ أمرِه وصدَقَتِه فأمَر بإثبات ذلك في دواوينه، والكتاب إلى عمّاله، فلَئن كان يُنادِي في كلِّ موسم بعد أنْ قُبض نبيّه ( صلّى الله عليه وسلّم ) أنْ يذكر كلّ من كانت له صدَقة أو هِبَة أو عدّة ذلك فيَقبل قوله وتنفّذ عدته إنّ فاطمة ( رضِي الله عنها ) لأوْلَى بأنْ يُصَدّق قولُها فيما جعل رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم ) لها، وقد كتَب أمير المؤمنين إلى المُبارك الطبَري مولى أمير المؤمنين بأمرِه بِرَدّ (فدك) على ورثة فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم ) بحدُودِها وجميع حقوقِها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلاّت وغير ذلك وتسليمها إلى محمّد بن يَحيَى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبد الله ابن الحسن بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ لتوليَة أمير المؤمنين إيّاها القيام بها لأهلها .
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهَمَه الله من طاعَتِه ووفّقه له من التقرُّب إليه وإلى رسوله ( صلّى الله عليه وسلّم ) وأعلِمه من قِبَلِك وعامل محمّد بن يَحيى ومحمّد بن عبد الله بما كُنت تعامل به المُبارك الطبَري وأعنهُما على ما فيه عمارتَها ومصلحَتَها ووفور غلاّتها إنْ شاء الله والسلام .
( راجع ص 28 كتاب فدك ).

(2) أُصِيبَ بمَرَض الفلج وهو الشلَلَ.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

وقوف فاطمة ( عليها السلام ) إلى جنب أبيها ( صلى ...
ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام
الشرافة العنصريّة
فدك عبر التاريخ
خطبة الزهراء ( عليها السلام ) لمّا منعت من فدك
شِعرها في رثاء أبيها (صلى الله عليه وآله )
كرامات فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
قول الإمام علي ( عليه السلام ) بعد دفن فاطمة ...
في ذکرى رحيل بضعة الرسول، فاطمة البتول (س)
زِيارَة اَئمَّة البَقيع عَلَيهِم السَّلام

 
user comment