من المؤكد أن مسلك أهل البيت (عليهم السلام)، والطريقة التي كانوا يتعاملون بها مع شرائح المجتمع المختلفة، كانا على أساس إيمان وإخلاص وإنسانية ذلك المجتمع، ولم يكونا أبداً على أساس معايير واعتبارات أخرى، ككثرة المال، أو علو المنصب والمقام، أو قوة القبيلة والعشيرة.
وهذا النحو من التعامل لم يكن موجوداً إلاّ عند جماعة قليلة من الناس يأتي في طليعتها الأئمة الأطهار (عليهم السلام).
أمّا أولئك الذين استلموا مقاليد الأمور وسدة الرئاسة في عهود مختلفة، فإنّ كل مَن حكم منهم وأمسك بزمام الأمور العالي منها والداني، صرف جلّ اهتمامه ليحتضن في فريق حكومته الشريحة الغنية والقوية المقتدرة، محاباة لها، مع العلم بأن قسماً كبيراً من الولاة والمسؤولين لم يكن ذا خبرة وكفاءة تخوّله المشاركة في شؤون البلاد والعباد.
ولا يخفى ما في ذلك من إجحاف وطمسٍ للقدرات والكفاءات التي كانت موجودة ومتوافرةً بحوزة المسلمين، والتي كان لابد من تشغيلها للنهوض بالأمّة الإسلامية نحو الأفضل والأكمل.
وهذا الأمر كان جلياً في الاختراق الأموي الذي حدث في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث استطاع الأمويون وآخرون من أمثالهم أن يسيطروا على مراكز ومواقع مهمة وحساسة، وقد أدّى ذلك إلى:
1 ـ استعادة الأمجاد التي فقدها الأمويون بعد مجيء الإسلام.
2 ـ تقوية الأمويين مادياً ومعنوياً.
3 ـ إضعاف قدرات كثير من المسلمين المخلصين.
4 ـ إبعاد البعض منهم عن المراكز الحساسة.
لأجل تلك الأسباب وغيرها، ادّخر الأمويون لأنفسهم المراكز المهمة والحساسة في الدولة، وأخذوا يبطشون بالناس الذين لا يرون رأيهم السياسي، أو الذين يشكلون المعارضة للنظام, وحرموهم من أبسط الحقوق: كحرية الكلمة، وحرية الانتماء والتبعية، وكالاستفادة من بيت المال الذي ظل حكراً على تلك الفئة، تستفيد منه لتلبية رغباتها وزيادة ثرواتها، ولتصرف مدخراتها على سهرات الطرب والغناء وشراء القصور الفاخرة والأراضي الواسعة والإماء(1).
ونسجل هنا الشاهدَين التاليَين:
1 ـ أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه)، الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)).
والذي قال فيه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام): ((وعى أبو ذر علماً عجز الناس عنه))(2).
هذا الرجل الصالح والصحابي الجليل تحول إلى رجل مبعد ومهان.
فقد أبعدته السلطات إلى الربذة في بلاد الشام، وطريقة الإبعاد لا عهد للمسلمين بها، حيث منعت السلطات الناس المحبين له من توديعه أو حتى التكلم معه.
2 ـ عمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
((إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق))، هذا الرجل من المسلمين الأوائل، ضُرِبَ ضرباً مبرحاً وأُلقي به على قارعة الطريق تحت الأمطار الغزيرة(3).
أمام هذه الصورة القاتمة من الحرمان والاستضعاف والقهر لشريحة من المسلمين كان أهل البيت (عليهم السلام) المتنفس الصادق والوحيد للأمّة، والصوت الهادر الذي ما زال يلقي بظلاله الخيرة على الرعية، لا سيّما الطبقة الفقيرة التي سماها أمير المؤمنين في عهده للأشتر النخعي بالطبقة السفلى داعياً إلى مشاركتها في إدارة شؤون البلاد، طارحاً أسساً ومبادئ عامة ليسلكها الناس ولاةً وحكاماً.
فماذا أوصى علي (عليه السلام) في هذا المجال؟
وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) للأشتر:
أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محباً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى، ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس وتقوية لبنية النظام والحكومة.
قال (عليه السلام): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)).
ثم أوصاه أن يعفو ويصفح عمن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته.
قال (عليه السلام): ((فأعطهم من عفوك مثل الذي تُحبُ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه)).
ثم دعاه إلى أن لا يميّز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بيت المال، لأن المسلمين سواء في تناول الحقوق المالية من بيت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء أثناء العهد السابق، فكان ذلك من الأسباب التي دعتهم إلى الثورة على الخليفة الثالث.
قال (عليه السلام): ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلاّ تفعل تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)).
ثم ذكّره بأن يكون هدفه وغايته إقامة العدل، وإحياء الحق، الغاية والهدف الذي من أجله أُرسل الأنبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة، فبالعدل فقط تقوم الأنظمة وتستمر، ويصير للحياة مفهومها ومعناها، أما الحياة في ظل حاكمٍ ظالم فهي بمثابة السجن.
قال (عليه السلام): ((وليكن أحبُ الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية)).
ثم أوصاه بأن يكون جلّ اهتمامه جلب رضا العامة، لأن رضا العامة يعني ثبات النظام، وإيجاد الدرع الواقي له من كيد الأعداء والمتضررين من وجوده، ومع رضا العامة لا قيمة لسخط الخاصة، فإنّ الخاصة يمكن لك أن تتخلى عنهم أما العامة فلا.
قال (عليه السلام): ((وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقلّ معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف... من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين، وجماعُ المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم)).
ثم دعاه لأن يختار لموازرته في إدارة شؤون البلاد أشخاصاً تتوفر فيهم الخصال الطيبة الحميدة التي يستدعي التحرك من خلالها تنشيط حركة البلاد سياسياً، وتقويتها اقتصادياً وحتى عسكرياً.
قال (عليه السلام): ((ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدلُ بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يُزينُ لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوءُ الظن بالله)).
ثم دعاه لأن يختار لوزارته طاقماً جديداً ممن لم يخدم الأنظمة الظالمة، وممن يثق بهم الناس، أُمناء على مستقبلهم وحياتهم.
قال (عليه السلام): ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكوننَّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة)).
ثم قال له بأن الناس فيهم المحسن والمسيء فلا تجوز المساواة بين الصنفين، لأن في ذلك قطعاً لسبل الإحسان وتقليلاً للفاعلين له وتشجيعاً للمسيئين على الإساءة، وهذا خلاف المباني الإلهية والإسلامية، لأن الله يأمرُ بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
قال (عليه السلام): ((ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة!)).
ثم دعاه إلى المحافظة على ما سنّه السلف الصالح وحذّره من نقض السنن الصالحة لأن في ذلك إماتة لشعائر الله وإحياءً لغيرها، والأمّة تغار على دينها وسننها الصالحة لأنها جاهدت وناضلت من أجل بقائها.
قال (عليه السلام): ((ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمّة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليه الرعية, ولا تحدثنَّ سنّة تضُرُ بشيءٍ من ماضي تلك السُّنن، فيكون الأجرُ لمن سنّها، والوزرُ عليك بما نقضت منها)).
ثم تعرض (عليه السلام) لأقسام الرعية وأصنافها، وبيّن أن كل قسمٍ منها يحتاج للقسم الآخر ومرتبط به ارتباطاً عضوياً، حيث إن كل تلك الأقسام تشكل نظاماً متكاملاً متماسكاً، فهي بمثابة الجسم الواحد، وعيّن لكل صنف مسؤوليته ومهمته حتى لا تتداخل الأمور وبالتالي تسود الفوضى.
وفي حديثه عن كل صنف من الأصناف كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد على ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويؤكد على اختيار أصحاب الكفاءات، وحذره من الاختيار القائم على المحاباة والذي تجرع الناس منه الغصص والويلات.
قال (عليه السلام): ((واعلم أن الرعية طبقات لا يصلحُ بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض:
فمنها جنود الله، ومنها كتّابُ العامة والخاصة، ومنها قضاة العدلِ، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلِمةِ الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنّة نبيه صلى الله عليه وآله )).
وأكثر ما تحدث أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه للأشتر (رضوان الله تعالى عليه) عن الطبقة السفلى أو الفقيرة، وهذه الطبقة تشكل القسم الأكبر من المجتمع في كل زمان ومكان، ولهذا جعل كل تلك الطبقات لحماية ومساعدة هذه الطبقة حتى تنهض مما هي فيه وتنعم بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولو يُصار إلى تأدية حقوقها كاملة في كل زمان لنهضت ولكن هيهات؟
فما إن ينتهي عهدٌ حتى يأتي عهدٌ جديد يعمّق هوة الفقر والمسكنة وهكذا تتوسع هذه القشرة وتكبر وتتأصل جذورها أكثر فأكثر.
وقد سعى أمير المؤمنين (عليه السلام) جاهداً لرفع الغبن والحيف عن هذه الطبقة خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها وهي خمس سنوات، وقد نجح إلى حدٍ بعيد في هذا الاتجاه، وإن كانت المدة التي حكم فيها غير كافية لقلع جذور الفقر والاستضعاف.
يقول جورج جرداق في كتابه (علي وحقوق الإنسان):
إن لعلي ابن أبي طالب في حقوق الإنسان أصولاً وآراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع(4).
وقال في مكان آخر من الكتاب: له شأن أيُ شأنٍ، وآراؤه فيها (حقوق الإنسان) تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي.
ومن عرف علي ابن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنه السيف المسلط على رقاب المستبدين الطغاة، وأنه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وحكومته وسياسته(5).
قال (عليه السلام): ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس (شدة الفقر) والزمن (أصحاب العاهات) فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم)).
وقد ذكر لهذه الطبقة حقوقاً مفصلة كحقوق العامة، إلاّ أنها أكثر إلحاحاً هنا، والملاحظ أن الأمير (عليه السلام) طلب من واليه على مصر أن يشرف بنفسه على أوضاع هذه الفئة مضافاً إلى الإشراف العام, وحذره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم وأداء حقوقهم المالية والقانونية والشرعية.
قال (عليه السلام): ((واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد)).
ثم قال (عليه السلام) في موضع آخر: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغُ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً تتواضع فيه لله الذي خلقك)).
ثم قال (عليه السلام): ((إياك والدماء وسفكها بغير حق... وإن ابتليت بخطإٍ وأفرط عليك سَوطُكَ أو سيفك أو يدُك بالعقوبةِ، فإنَّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنَّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتولِ حقهم)).
ــــــــــــــ
(1) يطالع في هذا الصدد كتاب (علي وعصره) للدكتور جورج جرداق، باب وجهاء الزمان، ص117.