روى العلامة الطبرسي في كتابه الاحتجاج بسنده عن عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه ( عليهم السلام ) : انه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة ( عليها السلام ) فدكا وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها واقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت انة اجهش القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس ، ثم امهلت هنيئة حتى اذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلما امسكوا عادت في كلامها ، فقالت ( عليها السلام ) : الحمد لله على ما انعم ، وله الشكر على ما الهم ، والثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن اولاها ، جم عن الاحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء امدها ، وتفاوت عن الادراك ابدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، واستحمد إلى الخلائق باجزالها ، وثنى بالندب إلى امثالها ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص بأولها ، وضمن القلوب موصلها ، وأنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الابصار رؤيته ، ومن الالسن صفته ، ومن الاوهام كيفيته ، ابتدع الاشياء لا من شيء كان قبلها ، وانشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، الا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، واظهارا لقدرته ، تعبدا لبريته ، اعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، زيادة لعباده من نقمته ، وحياشة لهم إلى جنته ، واشهد ان أبي محمدا عبده ورسوله ، اختاره قبل ان ارسله ، وسماه قبل ان اجتباه ، واصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الاهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بما يلي الامور ، واحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بموقع الامور ، ابتعثه الله اتماما لامره ، وعزيمة على امضاء حكمه ، وانفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها وجلى عن الابصار غممها وقام في الناس بالهداية ، فانقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثم قبضه الله اليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وايثار ، فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حف بالملائكة الابرار ، ورضوان الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه ، وأمينه ، وخيرته من الخلق وصفيه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت : انتم عباد الله بصب امره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وامناء الله على انفسكم ، وبلغائه إلى الامم ، زعيم حق له فيكم ، وعهد قدمه اليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبطة به اشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ، مؤد النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ، ومحارمه المحذرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .
فجعل الله الايمان : تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة : تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة : تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيام : تثبيتا للاخلاص ، والحج : تشييدا للدين ، والعدل : تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا : نظاما للملة ، وامامتنا : امانا للفرقة ، والجهاد : عزا للاسلام ، والصبر : معونة على استيجاب الاجر ، والامر بالمعروف : مصلحة للعامة ، وبر الوالدين : وقاية من السخط ، وصلة الارحام : منساه في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص : حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر : تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكائيل والموازين : تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر : تنزيها عن الرجس ، واجتناب القذف : حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة : ايجابا بالعفة ، وحرم الله الشرك : اخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن الا وأنتم مسلمون ، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فانه انما يخشى الله من عباده العلماء .
ثم قالت : ايها الناس اعلموا ، اني فاطمة وأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) اقول عودا وبدوا ، ولا اقول ما اقول غلظا ، ولا افعل ما افعل شططا لقد جاؤكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين روؤف رحيم .
فان تعزوه وتعرفوه : تجدوه أبي دون نسائكم ، واخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزى اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فبلّغ الرسالة ، صادعا بالنِذارة مائلا عن مدرجة المشركين ، ضاربا ثبجهم آخذا باكظامهم داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجف الاصنام وينكث الهام ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه واسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين وطاح وشظ النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص في نفر من البيض الخماص وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونُهزة الطامع ، وقبسة العجلان وموطئ الاقدام تشربون الطَرق وتقتاتون القِد اذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ، ومردة اهل الكتاب ، كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله ، ان نجم قرى الشيطان او فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهَوَاتها فلا ينكفيء حتى يطأ جناحها باخمصه ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وانتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الاخبار وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال ، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ، ومأوى اصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق الغاوين ، ونبغ خامل الاقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ، واحشمكم فألفا غضابا فوسمتم غير ابلكم ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب والكُلم رُحيب والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ، وان جهنم لمحيطة بالكافرين ، فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وانى تؤفكون ، وكتاب الله بين اظهركم ، اموره ظاهرة ، واحكامه زاهرة ، واعلامه باهرة ، وزواجره لايحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ ام بغيره تحكمون ؟ بئس للظالمين بدلا ، ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين .
ثم لم تلبثوا الا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ، ثم اخذتم تورون وقدتها وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، واطفاء انوار الدين الجلي ، واهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسوا في ارتغاء وتمشون لاهله وولده في الخَمرة والضَراء ويصير منكم على مثل حز المدى ، ووخز السنان في الحشاء ، وانتم الان تزعمون : أن لا إرث لنا ، افحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ! أفلا تعلمون ؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية : أني ابنته .
ايها المسلمون أغلب على ارثي ؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا ارث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ اذ يقول : ( وورث سليمان داود ) [ النمل : 16 ] وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا اذ قال : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) [ مريم : 6 ] وقال : ( واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ) [ الانفال : 75 ] وقال : ( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) [ النساء : 11 ] وقال : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) [ البقرة :180 ] وزعمتم : ان لا حظوة لي ولا ارث من أبي ، ولا رحم بيننا ، افخصكم الله بآية اخرج أبي منها ؟ ام هل تقولون : أن اهل ملتين لا يتوارثان ؟ أو لست انا وأبي من اهل ملة واحدة ؟ أم انتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي ؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم اذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.
ثم رمت بطرفها نحو الانصار فقالت : يامعشر النقيبة واعضاد الملة وحضنة الاسلام ، ماهذه الغَميزَة في حقي والسِنة عن ظلامتي ؟ أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) ؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما احاول ، وقوة على ما اطلب وأزاول ، أتقولون مات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فخطب جليل ، استوسع وهنه واستنهر فتقه وانفتق رتقه ، واظلمت الارض لغيبته ، وكسف الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، واكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، اعلن بها كتاب الله جل ثناؤه ، في افنيتكم ، وفي ممساكم ، ومصبحكم ، يهتف في افنيتكم هنافا ، وصراخا ، وتلاوة ، والحانا ، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم : ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] .
ايها بني قيلة أهضم تراث أبي ؟ وانتم بمرئ مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وانتم ذوو العد والعدة ، والاداة والقوة ، وعندكم السلاح والجُنة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وانتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الامم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح او تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام ، ودر حلب الايام ، وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الافك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنى حزتم بعد البيان ؟ واسررتم بعد الاعلان ؟ ونكصتم بعد الاقدام ؟ واشركتم بعد الايمان ؟ بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم ، وهموا باخراج الرسول ، وهم بدؤكم اول مرة ، اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين .
ألا وقد أرى أن قد اخلدتم إلى الخفض وابعدتم من هو احق بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ماوعيتم ، ودسغتم الذي تسوغتم فان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا ، فان الله لغني حميد .
ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القناة وبثة الصدر ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ، موسومة بغضب الجبار ، وشنار الابد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الافئدة ، فبعين الله ما تفعلون ، وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون .
وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعلموا أنا عاملون ، وانتظر أنا منتظرون .
فاجابها ابو بكر عبد الله بن عثمان وقال : يا بنت رسول الله ، لقد كان ابوك بالمؤمنين عطوفا كريما ، روؤفا رحيما ، وعلى الكافرين عذابا اليما ، وعقابا عظيما ، ان عزوناه وجدناه اباك دون النساء ، واخا إلفك دون الاخلاء آثر على كل حميم ، وساعده في كل امر جسيم ، لا يحبكم الا سعيد ، ولا يبغضكم الا شقي بعيد ، فأنتم عترة رسول الله ، والطيبون الخيرة المنتجبون ، على الخير ادلتنا ، إلى الجنة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء ، وأبنة خير الانبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ماعدوت رأي رسول الله ، ولا عملت الا بإذنه ، والرائد لا يكذب أهله ، واني اشهد الله وكفى به شهيدا ، أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( نحن معاشر الانبياء ، لا نورث ذهبا ولا فضة ، ولا دارا ولا عقار ، وإنما نورث الكتاب والحكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة ، فلولي الامر بعدنا ، ان يحكم فيه بحكمه ) وقد جعلنا ماحولته في الكراع والسلاح ، يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة الفجار ، وذلك باجماع من المسلمين ، لم انفرد به وحدي ، ولم استبد بما كان الرأي عندي ، وهذه حالي ومالي ، هي لك وبين يديك ، لاتزوى عنك ، ولا ندخر دونك ، وانك وانت سيدة امة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا ندفع مالك من فضلك ، ولا يوضع في فرعك واصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين ان اخالف في ذلك أباك ( صلى الله عليه وآله ) ؟
فقالت ( عليها السلام ) : سبحان الله ما كان أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن كتاب الله صادفا ولا لاحكامه مخالفا ! بل كان يتبع اثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائلفي حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، وناطقا فصلا ، يقول : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) [ مريم : 6 ] ويقول : ( وورث سليمان داود ) [ النمل : 16 ] وبين عزوجل فيما وزع من الاقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، واباح من حظ الذكران والاناث ، ما ازاح به علة المبطلين ، وأزال التظني والشبهات في الغابرين ، كلا بل سولت لكم انفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون .
فقال ابو بكر : صدق الله ورسوله ، وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجة ، لا ابعد صوابك ، ولا انكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلدوني ما تقلدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ، ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود .
فالتفتت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الناس وقالت : معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، افلا تتدبرون القرآن ؟ أم على قلوب أقفالها ؟ كلا بل ران على قلوبكم ما اسأتم من اعمالكم ، فأخذ بسمعكم وابصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشر ما منه اغتصبتم ، لتجدن والله محمله ثقيلا ، وغبه وبيلا ، اذا كشف لكم الغطاء ، وبان باورائه الضراء ، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون .
ثم عطفت على قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالت :
قـد كـان بـعدك انباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
انـا فـقدناك فقد الارض وابلها واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وكـل اهـل لـه قربى ومنزلة عـندالاله على الادنين مقترب
ابدت رجال لنا نجوى صدورهم لما مضيت وحالت دونك الترب
تـجهمتنا رحـال واستخف بنا لما فقدت وكل الارض مغتصب
وكـنت بدرا ونورا يستضاء به عليك ينزل من ذي العزة الكتب
وكـان جـبريل بالآيات يؤنسنا فـقد فقدت وكل الخير محتجب
فـليت قبلك كان الموت صادفنا لما مضيت وحالت دونك الكثب
ثم انكفئت ( عليها السلام ) ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يتوقع رجوعها اليه ، ويتطلع طلوعها عليه ، فلما استقرت بها الدار ، قالت : لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يابن أبي طالب ، اشتملت شملة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الاجدل فخانك ريش الاعزل هذا ابن ابي قحافة يبتزني نحلة أبي وبغلة ابني ! لقد اجهد في خصامي ، والفيته الد في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، اضرعت خدك يوم اضعت حدك إفترست الذئاب ، وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا اغنيت طائلا ولا خيار لي ، ليتني مت قبل هنيئتي ، ودون ذلتي عذيري الله منه عاديا ومنك حاميا ، ويلاي في كل شارق ! ويلاي في كل غارب ! مات العمد ، ووهن العضد ، شكواي إلى أبي ! وعدواي إلى ربي ! اللهم انك اشد منهم قوة وحولا ، واشد بأسا وتنكيلا .
فقال امير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا ويل لك بل الويل لشانئك ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقية النبوة ، فما ونيت [ أي ماكللت ولا ضعفت ولا عييت] عن ديني ، ولا اخطأت مقدوري فان كنت تريدين البغلة ، فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما اعد لك اضل مما قطع عنك ، فاحتسبي الله .
فقالت : حسبي الله وامسكت .
عندما نقدّس الصدّيقة الزهراء(عليها السلام)، فإننا لا نقدس انتسابها للرسول(صلى الله عليه وآله)فحسب، وإنما نقدّس فيها صفاتها المثلى وخصالها الحميدة التي تجعلها قدوة نقتدي بها ونبراساً نستضيء بنوره، ومثلاً أعلى نسير على هديه ونستلهم منه الدروس والعبر، فقد انطلقت الزهراء البتول بعلمها وعبادتها وإخلاصها لله ورعايتها لرسول الله ولأمير المؤمنين حتى ارتفعت إلى مقام العصمة وسمت إلى مرتبة القداسة، لا تدنِّسها الآثام، ولا تقترب منها الذنوب، وتركت لنا المثل الأعلى عن المرأة التي عاشت حياتها من أجل الله وأغمضت عينيها مفارقةً الحياة وهي تلهج بذكر الله.
إننا نعتقد أن الزهراء(عليها السلام) معصومة عن الخطأ والزلل والسهو والنسيان، فلم ترتكب في حياتها معصية مهما كانت صغيرة.
ويمكن أن نستدل على عصمتها بثلاثة أدلّة تضاف إلى ما تقدم من قول النبي(صلى الله عليه وآله): ((فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني)).
الأول: إننا لو درسنا حياتها منذ ولادتها إلى حين وفاتها؛ حياتها مع أبيها ومع زوجها ومع أولادها ومع الناس جميعاً، لما وجدنا لها خطأً في فكر أو زلّة في قول أو اشتباهاً في فعل، فقد كانت حياتها(عليها السلام) تجسد العصمة أتمّ تجسيد.
الثاني: إنها من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فتشملها آية التطهير:(إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) في ما تشمل من أهل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، والذين كانت الآية دليلاً على عصمتهم. فآية التطهير هذه شهادة حق لا ينال منها الباطل على عصمة الزهراء(عليها السلام).
وعندما نستدل بآية التطهير على عصمتها، فهذا لا يعني أبداً أنها وقبل نزول الآية لم تكن معصومة، بل كانت(عليها السلام)معصومة حتى قبل نزولها عصمةً كاملة يشهد لها بها سلوكها، وآية التطهير إنما جاءت لتكشف عن عصمتها لا أنها تمنحها العصمة.
الثالث: إن فاطمة الزهراء(عليها السلام)هي سيدة نساء العالمين كما جاء في الحديث المشهور عند الفريقين، ولا يمكن أن تكون امرأة في مستوى سيدة نساء العالمين إلا وتكون الإنسانة التي تعيش الحق كله في عقلها وقلبها وحركتها، ولا يمكن أن يزحف الباطل إلى شيء منها في ذلك كله.
حقيقة العصمة:
إنّ رأينا في عصمة أهل البيت(عليها السلام) بما فيهم الزهراء(عليها السلام)، هو أنّ الله سبحانه أودع فيهم من عناصر العلم والروح وخصائص القدس ما يذهب به الرجس عنهم ويحقق الطهارة فيهم، لقد أعطاهم نوراً يتحركون فيه من خلال وعيهم لكل خطوط النور وآفاقه، وأعطاهم العلم والروحانية التي تلتقي بوعي الله ومعرفته، ووعي الإسلام في عمقه وامتداده، بحيث يتحركون بالطهر بوعي، ويبتعدون عن الشر بوعي، لأن هذه العناصر التي أعطيت لهم هي التي تعمّق الوعي والإرادة فيهم، ولكنها لا تحرّكهم تلقائياً وبغير اختيار. فلا يقولنَّ قائل إن معنى العصمة التكوينية المستفادة من الآية الشريفة(إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ ...) تعني أن الله سبحانه يسلبهم الاختيار فيكونون الطاهرين بغير اختيارهم والبعيدين عن الرجس بغير اختيارهم، بحيث يتحركون بالطهر تحركاً آلياً كما تتحرك الآلة من دون وعي، فإن هذا التوهّم فاسد، لأنّا وإن قلنا إن الله هو الذي أودع فيهم عناصر القداسة والروحانية والعلم، لكن هذا لا يستلزم سلبهم الاختيار وأن يصيروا كالآلة الجامدة أو العصا في يد صاحبها، لأن هذه العناصر الآنفة تعمق الوعي فيهم كما أسلفنا، لا أنها تسلبهم الاختيار.
إذاً، كانت عصمة الزهراء(عليها السلام)عصمة إرادية انطلقت من وعيها ومن لطف الله الذي كرّم وجهها عن السجود للأصنام وفعل المعاصي، كما كرّم وجه زوجها علي(عليه السلام)عن السجود للأصنام قبل البعثة وبعدها، وهذا بخلاف كثير من رجال المسلمين ونسائهم ممن سجدوا قبل الإسلام للصنم، أما الزهراء(عليها السلام) فكان سجودها لله منذ عرفت السجود، وكان ركوعها لله منذ عرفت الركوع، وكان قيامها تسليماً لله مذ عرفت القيام.
لماذا هم دون سواهم؟
وقد يقول قائل: لماذا أعطى الله أهل البيت(عليهم السلام) العصمة ولم يعطها لغيرهم؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بجوابين:
الأول: هو قوله تعالى:( لاَ يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) .
الثاني:إن الله سبحانه وتعالى سخّر الكون للإنسان وعمل على أن يصلح أمره في الدنيا والآخرة، وأعطى الكون شمساً لا ظلمة فيها، وأنزل للإنسان قرآناً منيراً، وقضت حكمته أن يخلق نماذج بشرية تكون نوراً متكاملاً في عقلها وقلبها وكل حركاتها، لتكون شمساً للإنسانية بإزاء القرآن، كما أن للكون شمساً ترفده بالضياء، فاختار من خلقه نماذج ليكونوا الشمس التي تبعث بالنور والهداية للإنسان كله :( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ )،(إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، اختار هؤلاء وجعلهم أنبياء وحمّلهم رسالاته، لأن مصلحة الإنسانية الغارقة في الظلمات أن يكون هناك إنسان يعمل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهذه وظيفة الأنبياء، فهم الكتاب الناطق ويحملون معهم الكتاب الصامت، ليتكامل الكتابان ـ الصامت والناطق ـ ويسيران معاً في رحلة الهداية والتزكية(هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ـ ولا يكتفي بتلاوتها ـوَيُزَكّيهِمْ ـ بأن يعطيهم التزكية في قلوبهم وعقولهم وحياتهم ـ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ) ـ بما في الكتاب من أسرار ومفاهيم ـ والحكمة ـ في حركة الواقع). فدور النبي هو دور الإبلاغ والتعليم والتربية والتزكية، حتى يعطي الناس نوراً من عقله الذي هو عقل الكتاب، ونوراً من قلبه الذي هو قلب الكتاب، ونوراً من خُلقه الذي هو خلق القرآن، كما قالت زوجته عائشة: (كان خلقه القرآن)، ونوراً من حياته التي هي حركة الكتاب في الواقع. وهذا بعينه ينطبق على الأئمة(عليهم السلام)، فإنهم في معنى الإمامة امتداد للنبوّة:((يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))، فالإمامة نبوة في المضمون لا العنوان، ودور الإمام كدور النبي، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وحراسة الإسلام وحياطته من كل تحريف أو تشويه أو ظلمة تزحف إليه، لهذا كان لا بد أن يعطى الإمام من اللطف الإلهي ما يعطاه النبي .
سرّ عصمتها:
وهنا سؤال آخر يفرض نفسه وهو: ما السر في عصمة الزهراء(عليها السلام)، مع أنها لم تكن في موقع النبوّة أو الإمامة الذي يحتّم ـ بمقتضى ما تقدم ـ أن يكون صاحبه معصوماً، لأن مهمته، وهي تغيير العالم على صورة الحق، تفرض أن لا يكون فيه شيء من الباطل، ولكن الصدّيقة فاطمة(عليها السلام) لم تكن إماماً ولا نبياً ـ وإن كانت بنت النبوّة وسر الإمامة، لأنها والدة الأئمة المعصومين وزوجة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ فما السر في عصمتها؟
أولاً: إن الله عندما لطف بالزهراء(عليها السلام) فأعطاها العصمة وأذهب عنها الرجس وطهرها تطهيراً، أراد أن يوحي للناس رجالاً ونساءً أن المرأة يمكن أن ترتفع وتسمو في تكريم الله لها فتصل إلى أعلى المراتب وهي مرتبة العصمة.
ثانياً: إن الله يريد أن يجعل للمرأة دوراً في الحياة يقارب دور النبوة والإمامة التي كانت من نصيب الرجال، فإن هذا ما نستوحيه من وصول المرأة ـ كالزهراء ـ إلى مرتبة العصمة المختصّة بالأنبياء.
ثالثاً: أراد الله أن يجعل المرأة، ممثلة بالزهراء(عليها السلام)، مثلاً أعلى للناس جميعاً لتكون قدوةً للنساء والرجال، والنموذج الأمثل الذي يحمل عقلاً نورانياً وقلباً نورانياً وعلماً ينفتح على الناس آخذاً بدور النبوة والإمامة في هذه المجالات.
لقد كانت الزهراء(عليها السلام) معصومة لأن لها دوراً في طبيعة موقعها وفي امتداد تأثيرها في الحياة، ليقال من خلال ذلك للمرأة بأن الله كرّمك وفتح أمامك الآفاق لترتقي وتصلي إلى أعلى المراتب إذا ما تحركت على خطى هذا النموذج واقتديت به، وليقال من خلالها للرجال إنّ عليكم أن تقتدوا بالمرأة المعصومة كما تقتدون بالرجل المعصوم، لأن الوصول إلى مقام العصمة لا فرق فيه بين الرجل والمرأة.
هكذا كرّم الإسلام الزهراء(عليها السلام) ومن خلالها المرأة، كما كرّم الرجل، كرّمهما معاً من خلال تكريمه لإنسانيتهما وعناصر الخير التي يختزنانها( وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ ) ، فالتكريم الإلهي ليس مختصاً بالرجل، بل هو شامل لكل بني آدم على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأنواعهم، ذكوراً وإناثاً، بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً..
رواية مخالفة للقرآن:
ولهذا فإننا نرفض كل الروايات التي تحط من شأن المرأة وإنسانيتها، كما نرفض الروايات التي تحط من شأن بعض الأقوام والأعراق، ونعتقد أن المعصوم لا يصدر عنه أمثال هذه الروايات المخالفة للقرآن الكريم .
فمن الروايات التي تحط من شأن المرأة ما نُسب إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال:((المرأة شر كلها وشر ما فيها أنه لا بد منها))، فإننا نشك أن هذه الكلمة للإمام علي(عليه السلام)، وذلك:
1_ إن الإمام علي(عليه السلام) وسائر الأئمة المعصومين ومن قبل جدهم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قد علّمونا أنهم لا يقولون ما يخالف كتاب الله، وأن كل ما ينسب إليهم مما يخالف كتاب الله فهو زخرف، وهذه الرواية تخالف كتاب الله، إذ كيف تكون المرأة شراً كلها والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: ( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً )، ويقول:( وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) . فالإنسان لم يخلق شريراً في أصل خلقته، بل خلق على: (فِطْرَتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ )،وفي الحديث الشريف :((كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه)).
2_ ما المراد بكون المرأة شراً؟ هل ذلك باعتبار عنصر الإغراء، فالرجال يمثلون عنصر إغراء للمرأة كما المرأة عنصر إغراء للرجل، وأغلب النساء يغريهن الرجال ويخدعونهن، وقد عبّر أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
خدعوها بقولهم حسناء والغـواني يغرّهن الثنـاء
3_ وعلى فرض أن عنصر الإغراء عندها شر، فكيف توصف المرأة بأنها شر بقول مطلق والإغراء عنصر من عناصر شخصيتها وليس جميع عناصرها؟! فهل فكرها شر، أو أن عاطفتها التي تحضن من خلالها أطفالها شر، وهل عباداتها شر؟!
4_ ثم إذا كانت المرأة شراً كلها، فكيف يعاقبها الله تبارك وتعالى إذا كان هو الذي خلقها كذلك؟! ألا يحق لها أن تحتجّ بالقول: أنت خلقتني من الشر وجعلتني شراً، فلم تعاقبني على فعل الشر وهو مودع في أصل خلقتي التي لا دخل لي فيها؟!
5_ ما معنى (وشر ما فيها أنه لا بدّ منها)، هل من جهة الحاجة إليها في التناسل؟ فالرجل كذلك، فإنه طرف في عملية التناسل فلمَ لم يكن شراً؟! وهل يعقل أن يكون الإنسان الذي يمثل ضرورة شراً كله؟! فالشمس تمثل ضرورة للحياة حتى تستمر وتبقى، فهل يصح أن نقول إنها شر؟!
6_ على أننا نربأ بعلي(عليه السلام) أن يتكلم بهذه الطريقة، وسيرته تكذّب صدور هذه الكلمة عنه، لأنه أكرم المرأة أيّما إكرام، وأحسن إليها أيّما إحسان، وهو العارف أن في النساء من يفيض الخير منهن وأن في الرجال من هم في غاية الشر، وأن في النساء من تفوق الرجال أدباً وعلماً وعملاً.. وإن حياته مع الزهراء(عليها السلام) تؤكد ذلك، فهو الذي أحبّها واحترمها وأجلّها وآلمه فقدها أشدّ الإيلام، مع أنّها(عليها السلام) امرأة من النساء وإن امتازت عنهن بخصائص عديدة جعلتها تجسد العصمة والطهارة والقداسة في أقوالها وأفعالها، ولكن هذا الامتياز يؤكد المسألة ولا ينفيها، أي يؤكد عدم صدور هذه الكلمة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، لأنها كلمة غير مفهومة ولا نجد لها محملاً صحيحاً، وإذا كان هناك من يحاول صرفها إلى امرأة بعينها لتكون ( أل) التعريف عهدية وليست للجنس، فهذا لا يصح، لأن الكلمة حسب ما يظهر منها واردة على نحو الإطلاق.
وقد قرأت في كتاب (بهجة المجالس) أنّ هذه الكلمة هي للمأمون العباسي، وربما نسبت خطأً لأمير المؤمنين (عليها السلام).
الصدّيقة الطاهرة فاطمة، سيدة نساء العالمين، بنت رسول الله..
امرأة استثنائية :
بالقطع واليقين فإنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليست امرأة عادية، بل هي استثنائية في جوهر تكوينها، كما هي استثنائية في موقفها، وجهادها، وعبادتها، وإيمانها، وطاعتها أيضاً. فقد جرت سنّة الله تعالى على أن يخلق من الرجال من هم استثنائيون كالأنبياء، حيث يخلقهم بشكل مختلف كما فعل بالنسبة إلى آدم، وعيسى بن مريم، أو يتدخل في شؤونهم، ويحافظ على وجودهم مثل موسى بن عمران. وكما في الرجال كذلك في النساء، فقد اختار الله مريم لتكون سيدة نساء زمانها، فكان ربّ العباد يطعمها كما يقول القرآن الكريم: ( وإذا كان الله تعالى (يتقبّل) مريم وينبتها نباتاً حسناً وهي سيدة نساء زمانها، فكيف بمن أرادها الله تعالى لتكون سيدة نساء العالمين؟ لقد خلق الله فاطمة لتؤدي دوراً إلهياً... وتكون سيدة النساء، ونموذجاً للمؤمنين والمؤمنات في الحياة الدنيا... ولولا أنّ فاطمة (امرأة استثنائية) لما جعل الله رضاه معلقاً على رضا فاطمة، وغضبه كذلك معلقاً على غضب فاطمة. يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رضا الله من رضا فاطمة، وغضبه من غضبها). ويقول: (من أرضاها فقد أرضى الله، ومن أغضبها فقد أغضب الله). ولو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: (رضا فاطمة من رضا الله، وغضبها من غضبه) لكان أمراً مهماً، حيث كان يعني التزام فاطمة برضا الله... ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) قال العكس، فعلق رضا الله على رضا فاطمة، وغضب الله على غضبها. فقال: رضا الله من رضا فاطمة وغضبه من غضبها... وكأن الله تعالى (فوّض) إلى فاطمة رضاه كما فوض إلى رسول الله دينه... وذلك أمر استثنائي... لامرأة استثنائية. أمّ النبوة: من الأحاديث النبوية التي أجمع المسلمون على صحتها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق فاطمة: (فاطمة أمّ أبيها). ترى كيف تكون (البنت) أمّاً لوالدها؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟ في تاريخ الإسلام هنالك (أمومة) اعتبارية كان لها أهميتها في حياة المسلمين وهي أمومة نساء النبي (صلى الله عليه وآله) للمؤمنين، (ونساؤه أمهاتهم). وفي تلك الأمومة امتيازاً لرسول الله وكرامة لنسائه. إلاّ أنّ (أمومة) فاطمة لأبيها ليست امتيازاً وكرامة لفاطمة فحسب، بل فيها ضمانة لاستقامة الأمة. وميزاناً لمعرفة الحقّ من الباطل والخير من الشرّ. كما أنّ (أمومة) فاطمة كانت ميزاناً لأمومة نساء النبي للمؤمنين... فإذا كنا نرى أنّ إحدى زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) تخرج على الإمام علي (عليه السلام) وهي التي أمرها الله تعالى بأن لا تفعل قائلاً: لقد كان رسول الله يريد بإعلان هذه الأمومة الاعتبارية أن يصون (النبوة)، في (الولاية) ويكشف الحقّ عن الباطل، ويجد الصراط المستقيم عن المتاهة، والخير عن الشرّ. إنّ أمومة فاطمة التي تمثلت في موقفها الحازم بعد وفاة رسول الله، دفاعاً عن الولاية هي بحقّ موقف رسول الله لو كان حياً، ومخالفتها كانت مخالفة لرسول الله. وإذا كان البعض قد استغلّ أمومة نساء النبي (صلى الله عليه وآله) للمؤمنين، فإنّ أمومة فاطمة تكشف عن بطلانها. فأين أمّ النبيّ من أمّ المؤمنين؟ وأين فاطمة من بقية النساء؟ فداءاً لفاطمة : لا يُفدى الغالي إلا للأغلى... فحتى في المجاملات فإنّك لا تقول لولدك: (فداك أبي) ولكنك تقول لأبيك: (فداك أولادي). إنّ المؤمنين يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله): (بأبي أنت وأمي) لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عن فاطمة: (فداها... أبوها). ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، فإنّ لهذه الكلمة تكون ضلالاً بحجم الكون، وثقلاً بحجم الرسالة. وهكذا... فإنّ في فاطمة سرّاً عظيماً. لن يكشف لأحد... ألا نقرأ في الدعاء المأثور: (اللهم بحقّ فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسرّ المستودع فيها، صلي على محمد وآل محمد، بعدد ما أحصاه علمك).