يعد موضوع حقوق الانسان احدى الركائز الاساسية في ظل ما يسمى بـ "النظام الدولي الجديد" الذي لم تنته عمليو تشكيل ملامحه بشكل كامل, ولا خلاف ان النظام الامريكي المهيمن بعد زوال الاتحاد السويفاتي قد تبنى هذه القضية كأحد الاسس الهامة لسياسته الخارجية من دون نفي الدور الهام الذي تقوم به المصالح الامريكية الاقتصادية في هذا المجال. بذلك تكون قضية حقوق الانسان احدى ادوات الضغط الغربي (الامريكي بشكل خاص) على المجتمعات غير ذات الثقافة الليبرالية, ومن بينها المجتمعات العربية ذات الثقافة الاسلامية.
اذا كان بامكان بعض المجتمعات تجاهل هذا الموضوع الحيوي والهام لاسباب دينية او عقائدية سياسية, او عدم التعامل معه بما يتناسب وأهميته, فان ذلك ليس متيسراً في ظل النظام الدولي الجديد, حيث لا بد من حسم هذا التجاهل والتردد بشأن قضية حقوق الانسان خاصة وان الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة, قادرة على فرض هذه القضية في علاقاتها الدولية على الاخرين بشتى الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية (من حيث المساعدات) واذا كان بالامكان تخطي عقبات العقيدة السياسية (كما في الصين مثلاً), فان عقبات العقيدة الدينية تمثل عائقاً حقيقياً بما تملكه من قوة معنوية قادرة على اطالة امد المماطلة لوقت غير قصير, ولعل ارتباط العقيدو الدينية بالجانب التشريعي في حياة بعض المجتمعات ما يزيد من تعقيد المشكلة. لذلك فان قدر هذه المجتمعات ان تعاصر مواجهة قادمة لا محالة بين معتقدها الديني وقضية حقوق الانسان المعاصر العلمانية المنشأ.
المجتمعات العربية وغير العربية ذات الثقافة الاسلامية تعيش منذ القرن التاسع عشر حالة من الازدواجية لم يحدث ان واجهتها منذ ظهور الاسلام في القرن السابع الميلادي. هذه الازدواجية تتمثل في ضياع او فقدان الهوية الحضارية, من خلال التناقض القائم بين الثقافة الدينية والسلوك العلماني, وان ما تتمناه شيء وما تفعله شيء مخالف تماماً.
وفي الوقت ذاته لا تستطيع ان تحدد موقفها الفكري نظراً الى ارتباط الثقافة الدينية بالنص الديني المقدس. لذلك تعيش هذه المجتمعات في ظل ما يسميه البعض بـ "ثقل الواقع", من دون اي قدرة على دفع هذا الثقل او خلق قوة دينية مساوية له, ولعل هذا يفسر هيمنة روح "فكر ردة الفعل" لدى الداعيين للتمسك بالهوية الدينية. ونقصد بـ "فكر ردة الفعل" ان هؤلاء الدعاة لا يقدمون تأصيلاً فكرياً لمختلف القضايا المعاصرة مثل الديمقراطية, حقوق الانسان, الاقتصاد الرأسمالي.. الخ, بقدر ما يكونون بانتظار ما يقدمه الاخر (الغربي) ثم يقومون بصياغة رد فعل فكري, غالباً ما تطغى عليه الانفعالات واللاموضوعية وفي ظل سيطرة تامة لها جس فضل سبق الاسلام على غيره من الثقافات والاديان, ودائماً يكون النموذج هو ذلك الماضي البعيد, دولة النبوة والخلافة الراشدة.
قضية الديمقراطية احدى القضايا التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد, ففي ظل هيمنة الفكر الديمقراطي وتبني جميع الدول والانظمة السياسية له باستثناء بعض الدول اخذ المنتون الى التيار الديني بطرح فكرة الشورى التي وردت في القران مرتين فقط لا غير, لكنهم كانوا عاجزين تماماً عن تقديم تجسيد مادي متناسق وموضوعي للكيفية التي يمكن من خلالها ممارسة الشورى كنظام سياسي. وكانت نتيجة ذلك كله ان فكرة الشورى ظلت منحصرة في الاطار النظري, في حين كانت الممارسة (انتخاب, ترشيح, برلمان, دستور, أحزاب...الخ) مقتبسة من الفكر الديمقراطي, كذلك الامر مع موضوع حقوق الانسان بمفاهيمه الغربية, هذا الموضوع الذي لا يوجد فيه ولا حتى مؤلف في الفكر الاسلامي التراثي, كما انه لم يحدث ان كان محور بحث لدى المؤتمرات الاسلامية, وحين اخذ الكتاب المعاصرون في البحث في هذا الموضوع اضطروا الى اعتبار الفكر الغربي المرجعية الاساسية في هذا الموضوع, وحين اعوزهم الاستدلال من الحياة المعاصرة اودوا الحجج الشفهية لاحداث تاريخية غير متيقنة, فضلاً عن عدم قدرتها (نقصد الحجج) على الصمود امام البحث الدقيق والعقلاني.
مجال حقوق الانسان من الموضوعات التي يتباهى معظم الكتاب الاسلاميون باسبقية الفكر الاسلامي, لذلك سيكون محور هذه الدراسة البحث عن مدى التواجد الفعلي لحقوق الانسان في الفكر الاسلامي, ويقصد بذلك: البحث في مدى توافر المادة النصية في القران الكريم والسنة النبوية واراء الفقهاء من جهة, والتطبيق العملي لهذه المادة على صعيد الممارسة الفعلية من جهة ثانية. وحتى نتجنب مزالق العمومية اللفظية, لابد أولاً من تحديد المقصود بـ "حقوق الانسان", بداهة القول تقتضي اعتبار الحقوق التي اقرها "الاعلان العالمي لحقوق الانسان", اساس البحث في الدراسة, لذلك ينصب الاهتمام حول هذه الحقوق في الفكر الاسلامي وهذا بدوره يقتضي مبدأ الحياد, والمؤدي بدوره الى نقد الذات. ليس هدف الدراسة الدفاع عن الفكر الاسلامي أو البحث عن التبريرات, بل الوصول الى الحقيقة حتى وان كانت مؤلمة وقد لا ترضي المسلمين بشكل عام. وفي الدراسة الاكاديمية ليس مهماً ان يغضب فريق ويرضى اخر, بل المهم الوصول الى الحقيقة المجردة.
حقوق الانسان هي بايجاز الحقوق الثلاثون التي اقرتها منظمة الامم المتحدة في العاشر من ديسمبر/كانون الاول 1948, وهي ذات الحقوق الصادرة عن الجمعية الوطنية الفرنسية ابان الثورة الفرنسية, والتي اعترفت بموجبها بالمساواة بين جميع المواطنين, اضافة الى الحريات الاساسية.
اعلان حقوق الانسان حقوقاً ذات طبيعة عالمية بديهية معترفاً بها من قبل جميع الانظمة الدينية العلمانية على حد سواء, على سبيل المثال ما نصت عليه المادة الاولى:
[يولد جميع الناس احراراً متساوين في الكرامة والحقوق, وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الاخاء].
وكذلك الامر بالنسبة الى المواد الثالثة والخامسة والسادسة وغيرها مما يتسم بالعمومية, هذه الحقوق لا تحتاج الى الوقوف او البحث فيها لكونها انسانية التوجه وذات بعد كوني, بمعنى انها سابقة على جميع الاديان السماوية وغير السماوية, حيث نادى بها الكثير من الفلاسفة والمفكرين قبل الميلاد, مثل المدارس الفكرية كالرواقية والكلبية, لذلك سيقتصر البحث على النصوص التي تتميز بالخصوصية نظراً الى تعارضها مع النصوص الدينية المقدسة او الاحاديث النبوية او الاجماع الذي يعد احد المصادر الاساسية للشريعة الاسلامية.
قد يحتج البعض ان مناقشة "حقوق الانسان" ذات المنشأ العلماني في اطار الفكر الاسلامي امر لا يتفق مع الاساس الديني للفكر الاسلامي, بمعنى ان حقوق الانسان انما قامت على اساس العلمانية الاوروبية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة, في حين يقوم الفكر الديني على النصوص الدينية ذات الطبيعة الالهية والتي بطبيعتها تفرض قيوداً على الفكر حتى لا ينحرف عن وجهة النظر الدينية, والامثلة على ذلك كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: انكار الدين الاسلامي لحق المرأة المسلمة بالزواج بمن تريد. اذ يفرض القيد الديني حرمة زواج المسلمة بغير المسلم حتى ولو كان ذمياً, استدلالاً بعدم جواز ولاية الكافر على المسلم مصاقاً للاية القرانية: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا", وكذلك عدم حق المسلم في الارتداد عن الدين الاسلامي والدخول في اي دين يشاء, أو اختياره بأن يبقى من دون دين مهما تكن الاسباب الداعية لذلك!.
لا خلاف ان للفكر الاسلامي طبيعته الدينية الخاصة, ومما لا خلاف فيه ايضاً ان اختلاف المقدمات يقضي الى اختلاف النتائج, لذلك دعونا منذ بداية الدراسة الى ضرورة البحث الجاد والحياد العلمي والبعد عن العاطفية الدينية, ولا يعني ذلك توجه الدراسة الى ممارسة جلد الذات, أو اشعار المسلمين بالمهانة الفكرية للدين الاسلامي نظراً الى عدم اتفاق بعض نصوصه مع نصوص اعلان حقوق الانسان, بل يتمركز التوجه نحو اثبات خصوصية الاسلام والدعوة الى تجديد روح الدين الاسلامي من خلال اثبات صدقية الفكر الاسلامي وذلك باستجلاء المفاهيم الدينية الكامنة في الفكر الاسلامي وتوضيح ذلك للغرب, اذ ليس مهماً ان يتطابق الفكر الاسلامي مع اعلان حقوق الانسان او يناقضه بل المهم الوصول الى حقيقة الفكر الاسلامي, ولا يحق لعلماء الاسلام المعاصرين الادعاء للفكر الاسلامي بما ليس فيه, كما ليس من حقهم التفاخر والتعالي على الحضارات الاخرى ومن ثم تحميل الفكر السلامي اكثؤ مما يحتمل, سواء من ناحية تجاهل الحقائق العلمية او من ناحية تأةيل النصوص بما لا يطيقه العقل الانساني.
ان المحاولات اليائسة لتبرير مواقف الفكر الاسلامي والمضامين الدينية للنصوص موقف مرفوض عقلياً وعلمياً. الاصل ان الفكر الاسلامي لا يعمل الا في اطار الدولة الاسلامية بغض النظر عن عدم وجودها في الواقع المعاش, فذلك لا يلغي النص الديني ولا ينفيه من التعامل الفكري, فالنص الديني ثابت وملزم لجميع المسلمين وان لم يتعاملوا بموجبات هذا النصوص, ولا يستطيع اي مسلم, مثقفاً كان ام غير مثقف, ان يتخلص من اسار النص الديني, وان ينسلخ عن هذا الالتزام المعنوي الا بالارتداد عن الدين الاسلامي, حينئذ نكون قد خرجنا عن الموضوع برمته.
حقوق الانسان في الفكر الاسلامي المعاصر
|
* د. رضوان السيد - إشكالية التقدّم والمدنية: يقول خير الدين التونسي في (أقوم المسالك): إن التمدن الأوربايوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوةُ تياره المتتابع. فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حذوا حذوه وجَرَوا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق.. تأتي مقولة خير الدين هذه في التمدن ـ كما عند غالبية نهضويي القرن التاسع عشر لتَحسِمَ أمرين اثنين: أن التمدن أو التقدم هو المسألة التي تؤَسس عليها علاقات الغلبة بين الغرب الأوربي وعالم الاسلامي ـ وأنه لا مفهوم آخر لهذا التمدن أو ذاك التقدم غير المفهوم الأوربي أو الأورباوي، كما يذكر خير الدين. ولذا يكون من باب تحصيل الحاصل دعوة المسلمين ـ إذا أُريدت لهم النجاة ـ إلى أن يحذروا حذوه ويجروا مجراه، في مسائل (التنظيمات الدنيوية) على الخصوص. ولا يختلف رفاعة الطهطاوي ـ الذي بدأ الكتابة قبل التونسي بزُهاء الثلاثة عقود ـ عن التونسي في فهمه لطبائع الصراع الحضاري ومعناه، إلا في طرائق العرض، واهتمامات الموقع وأولوياته. فقد كان الطهطاوي رجل تربية وثقافة، بينما كان التونسي رجل حُكم وسلطة. ولذا فإن قوة الدولة وتنظيمها هي الأساس عند التونسي في حسم المسألة المدنية، بينما يجد الطهطاويُّ أنه من الضروري أن يكون هناك تساوقٌ بين المجتمع والنظام السياسي في هذه المسألة لكي يستقيم (أمر العمران). فقد أسست الممالك ـ حسب الطهطاوي ـ (لحفظ حقوق الرعايا بالتسوية في الأحكام والحرية وصيانة النفس والمال والعرض على موجب أحكام شرعية وأصول مضبوطة مرعية). وتقوم مسألة الحقوق هذه لدى الإنسانية جمعاء على معنيين هما مما ميّزَ الله سبحانه بني البشر: العقل والحرية فـ(الحرية منطبعةٌ في قلب الانسان من أصل الفطرة). وهي التي تضمنُ استمرار (الهيئة الاجتماعية التي ينبغي أن يتصف كل فرد من أفرادها) بأنه حُرٌّ يُباحُ له أن ينتقل من دار إلى دار، ومن جهة إلى جهة بدون مضايقة مضايق ولا إكراه مُكرِه، وأن يتصرف في نفسه ووقته وشغله فلا يمنعه من ذلك غلا المانع المحدود بالشرع أو بالسياسة، مما تستدعيه أصول مملكته العادلة..) واستناداً إلى فهم نابعٍ من ثقافته الفرنسية، وتجربته الطويلة، وفهمه لأصول الاجتماع البشري، كما يقول: يقسّم الطهطاوي الحرية إلى خمسة أقسام: 1 ـ حرية طبيعية. 2 ـ حرية سلوكية. 3 ـ حرية دينية. 4 ـ حرية مدنية. 5 ـ حرية سياسية. أما الفكرة نفسها، وأما تجلياتها الخمسة المذكورة آنفاً فتنبع عنده من وعي بما يسميه هو: المنافع العمومية، التي تضع هذه الحريات في اطارها الانساني والاجتماعي والدولتي، فلا يكون هناك افتئاتٌ على الشرع أو على السياسة التي تستدعيها أصول المملكة العادلة. ويخترق هذه المنظومة القائمة على فكرتي المنافع العمومية والتنظيمات، والتي تبلورت تماماً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعيٌ غلاّب بأنّ الشريعة الاسلامية التي تأسست عليها قديماً حضارة عالمية، يمكن أن تشكل في روحها وأحكامها، الحافز للنظام المدني الجديد. ذلك أن التنظيمات العلمية والسياسية والاقتصادية إنما مناطُها المصلحةُ والاجتهاد في تحصيلها، وهو ما لا تكتفي الشريعة بإباحته بل تندُبُ إليه وتحضُّ عليه. ولذا فقد قام شبهُ تحالف بين رجالات الدين والعلم من جهة، ورجالات الشان السياسي أو العام من جهة ثانية، في المجال الديني: لتجديد الشريعة ودعوتها ـ وفي المجال العام: لتجديد البُنى السياسية في عالم الاسلام. وكان الطهطاوي ومن بعده التونسي، قد تحدثنا عن صون النفس والعرض والمال في شرائع الاسلام ـ ربما استناداً إلى المستصفى للغزالي ـ ، وفي القوانين الحديثة. لكن الفقهاء النهضويين ما لبثوا في خمسينات أو ستينات القرن التاسع عشر أن اكتشفوا الفقيه المالكيّ الكبير الشاطبي، الذي توفي بعد 790هـ وكتابه الموافقات، فانتظمت تحت عنوان مقاصد الشريعة ـ التي يدعو إليها الكتاب ـ المنظومة التي تضامّت أجزاؤها خلال العقود السابقة. وقد أفاد منها المجددون المسلمون في إغناء آليات القياس التقليدية أو تجاوزها لصالح المقاصد العامة للتشريع الأعلى سقفاً، والتي تسمى باسم ضرورات المصالح بتبني نشاء المؤسسات الحديثة العسكرية والسياسية والتربوية. بل إن الاجتهادات الكبرى فيا لقرن التاسع عشر: مثل التنظيمات العثمانية، ومفاهيم المواطنية، وتجاوز مسألة داري الحرب والسلم والتجديد في قضايا المال والثروة والملكية الخاصة: كلُّ ذلك تم تحت لواء المصلحة ومقاصد الشريعة. ومن هذا الباب أيضاً، ومن خلال كتابات الطهطاوي والمرصفي، ومقاربات محمد عبده، ورفيق العظم، وعبدالله العَلمَي، وصولاً الى قاسم أمين والكواكبي، ظهرت الفكرة التي استظلت بظلها فيما بعد مسألةُ حقوق الانسان في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر. فمقاصد الشريعة كما تجلّت لدى الشاطبي (ونعلمُ منذ سنوات فقط أن أصلها نصوص إمام الحرمين الجويني في البرهان) حفظُ ضروريات الحياة الإنسانية، بما يعنيه ذلك من صون للنفس والعقل والدين والنسل والمِلك. هناك إذن عند النهضويين أربعة أفكار تداولوها بأشكال مختلفة طوال قرابة القرن من الزمان ـ من آخر الثلث الأول للقرن التاسع عشر وإلى آخر الثلث الأول من القرن العشرين؛ وهي: 1 ـ أن علاقة أوروبا بالمسلمين قائمة على الغَلَبة. وعلّةُ هذه الغَلَبة التقدم الأوروبي، وتخلف المسلمين. 2 ـ أن السبيل لتعديل الموازين في الصراع هو التعلم منهم ومنافستهم بحسب الطرائق والأساليب التي اتبعوها هم؛ إذ لا مفهوم للتقدم غير ما سنَّهُ أولئك الأوروبيون. 3 ـ انه لا تناقض بين الاسلام والتقدم، بل إن ذلك هو مقتضى الاسلام، والمقصد العام لشريعته؛ والمسلمون هم المقصرون لا الاسلام. 4 ـ أن الإطار الاجتماعي والسياسي للتقدم أمران: المنافع العمومية، والتنظيمات. - المسلمون والخصوصية: تبلُغُ النزعةُ للتجديد والدخول في العالم الحديث ذروتها في العقد الأول من القرن العشرين؛ في مثل إجابة السيد محمد رشيد رضا بمجلة المنار عام 1907 على تساؤل قارئ للمجلة، لماذا لا نُسمّي الحكم الدستوري حكم الشورى ما دام هو هو؟! يقول السيد رشيد: (لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم المقيد بالشورى أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبارُ بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الاسلام..). ويعني هذا أنه حتى في حالة وجود معنىً ما أو مؤسسة ما في الشريعة؛ فإن الوعي بها وإعادة اكتشافها إنما أتيا في ضوء الاعتبار مجال الغرب ثقافة ومؤسسات. على أن هذا الانضواء الظاهر تحت لواء فكرة التقدم الغربية؛ كانت له حدوده أيضاً. يبدو ذلك في نقاشات جمال الدين ومحمد عبده مع رينان وهانوتو. وفي جدل محمد عبده مع فرح أنطوان حول التقدم بالذات في علاقته بالمسيحية والاسلام والغرب. ثم استجدت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين أمور وأحداث ومتغيرات زعزعت أسس تلك التوافقية الثقافية والسياسية، وتركت آثارها الغائرة والعميقة في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر. فقد روّع المسلمين هجوم الايطاليين على ليبيا عام 1911 واحتلالها دونما اعتراض جدي من القوى الأوروبية الكبرى، التي كانت هي نفسها تستعمر أكثر أجزاء العالم الاسلامي. وانهزمت السلطنة العثمانية (المرتدية رداء الخلافة الاسلامية) في الحرب الأولى مع التحالف الأوروبي الذي ضمّها وألمانيا، فقامت القوى الأوروبية بتقسيمها، واستعمرت بأشكال مختلفة أجزاء الدولة المتساقطة. وفي النظام المتكون عقب الحرب العالمية الثانية، بإشراف القوى الأوروبية، بدأت تظهر في عالم الاسلام الدول الوطنية، المعادية للاسلام (تركيا) أو المحايدةُ إزاءه. وسرعان ما بدا ذلك في الثقافة، في أطروحات عبد الغني سني بك (الفصل بين السلطنة والخلافة)، وحسن تقي زادة (التغريب الكامل)، وعلي عبد الرازق (فصل الدين عن الدولة)، وطه حسين (إعادة النظر في الموروث الديني). وبدأ الإصلاحيون وتلامذتهم، يرون في الثقافة الجديدة، والدولة الجديدة أموراً تتهدد هويتهم الاجتماعية والثقافية، فتسارعت ردود الفعل في الظهور بأشكال مختلفة. ففي الجانب الاجتماعي- الديني ظهرت جمعيات وهيئات للحفاظ على الهوية، وممارسة الدعوة والتربية من أجل ذلك، مثل: (الشبان المسلمون-1927)، و(الإخوان المسلمون-1928)، أنصار السنة والجمعية الشرعية (1931)، واتحاد الشبيبة الاسلامية (1933). وفي الجانب الثقافي كثرت الردود على أطروحات عبد الغني سني بك وعلي عبد الرازق وطه حسين، كما بدأت شرائح من الإنتلجنسيا العربية والاسلامية تعالجُ في نتاجها الثقافي موضوعات وشخصيات اسلامية. لقد شهدت عشرينياتُ هذا القرن وثلاثينياته عملية (فك ارتباط) من نوع ما بين المثقفين الاسلاميين، والدولة الطالعة. وجرى تحول تدريجي عن الغرب من الناحية الثقافية، بعد أن كان الإصلاحيون الاسلاميون على الخصوص، يفصلون بين السياسة والثقافة في العلاقة مع الغرب. ولعل خير مثال على التحول في أوساط المثقفين المسلمين، وفي حياة رجل واحد، السيد محمد رشيد رضا نفسه، الذي سبق أن استشهدنا بمقولته في الاعتبار بحال الأوروبيين لإعادة اكتشاف القيم الاسلامية الأصيلة. فالسيد رشيد الذي سبق له أن قرّظ كتابي قاسم أمين تحرير المرأة (1899)، والمرأة الجديدة (1901) حين صدورهما، عاد في (نداءً للجنس اللطيف-1921) فردّ على تلك المقولات داعياً المرأة للالتزام بأحكام الشريعة، ونشر نصوص عبد الغني سني بك في فصل السلطنة عن الخلافة ثم هاجمها (1922-1923)، وأصدر كتابه في الإمامة العظمى (1923)، وامتلأت صفحات الأخبار في مجلته في العشرينات بالشكوى من الفرنسيين والإنجليز، ذاهباً عام 1927 إلى أن (الحكم الدستوري) الذي سبق له ـ كسائر الإصلاحيين ـ أن أثنى عليه، لم يردع الأوروبيين والصهيونيين المثقفين بثقافتهم عن الطغيان واستعباد الشعوب بسبب الشَرَه المادي والسلطوي. وفي الأربعينات بدأ الربط الواضح بين التبشير والاستعمار والاستشراق، وبدأ النعي على مادية الغرب ووحشيته وحربه الضروس على نفسه وعلى العالم. كما اتضحت المسألة التي بدأ الحديث فيها في الثلاثينات من أن الغرب يملك نُظماً اجتماعيةً وسياسيةً جيدةً؛ لكن النظم الاسلامية أفضل ـ إلى أن حدثت القطيعةُ بين التيارين الاسلامي والقومي في الخمسينات؛ فصار الغرب، كما صار أفراخه (أنظمةً وحكّاماً) نموذجاً لحكم الطاغوت وثقافته وقيمه، واستشرت في الستينات وما بعد أحاديث الغزو الثقافي، والمؤامرة العالمية على الاسلام، فسادت العقائدية الجوّ العربي والاسلامي حتى لدى غير المتدينين تجاه ثقافة الغرب وسياساته بعامة. فأنهت ثقافة الهوية والقطيعة المستجدة آخر آثار أطروحات الإصلاحية، لصالح خصوصية متعملقة تضع ـ حسب سيد قطب ومحمد قطب ومحمد محمد حسين وآخرين ـ نظام السماء في مقابل نظام التراب، ونور الاسلام في مقابل حنادس الجاهلية. - خصوصية الرؤية الاسلامية للانسان وحقوقه: في موازاة هذا التطور أو التحول الى الهوية والخصوصية لدى المسلمين، صدر الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948م، بعد ميثاق الأمم المتحدة عام 1945م. ومع أن بعض الدول الاسلامية كانت حاضرة وفاعلة في الميثاقين، وكانت لبعضها تحفظات على بعض بنود إعلان حقوق الإنسان بالذات؛ فإن المثقفين المسلمين كانت لهم ردود فعل تجاوزت كثيراً مواقف الدول والأنظمة والهيئات. وتنوعت تلك الردود بين رافض للميثاق مبدئياً، إلى متحفظ على بعض بنوده، إلى ناقد لازدواجية المعايير في التطبيق. والنقد الأخير هذا هو الأعلى صوتاً حتى اليوم. والواقع أن الثمانينات شهدت عودة لشيء من التروي والتوازن في نطاق الفكر الاسلامي في سائر المسائل، ومن بينها مسألة حقوق الانسان. لكن العودة للتوازن ما عنت انفتاحاً مشدوهاً بفكرة التقدم كما نعرفها عن بعض إصلاحيي مطالع القرن. بل الذي حدث أمر ثالث غير القبول المطلق، والرفض المطلق الذي عرفته الستينات والسبعينات. ففي العقدين الأخيرين من السنين بدأ المفكرون الاسلاميون يتحدثون عن تأسيسٍ إسلامي لحقوق الانسان في نطاق الخصوصية والندّيّة ـ كما تحدثوا في مجالات أخرى عن انفتاح في نطاق الخصوصية أيضاً مثل عدم تناقض الشورى مع الديمقراطية أو قبول التعددية السياسية أو المشاركة في السلطة دون أولوية لتطبيق الشريعة.. الخ. وكان التأسيس الإسلامي لحقوق الانسان قد بدأ في الحقيقة أواخر الأربعينات مع العودة لاستخدام المقولة القرآنية حول الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض، في مواجهة مقولة (القانون الطبيعي) التي تأسس عليها الإعلان العالمي. وأحسب أن أول مَن استخدمها الاستاذ عبد القادر عودة في كتابه الصغير: الاسلام وأوضاعنا السياسية (1951م)، ثم شاعت الفكرة بين سائر الكاتبين في الإنسان وحقوقه حتى اليوم. وقد طوّر الأستاذ محمد عبدالله دراز فكرة التكريم الإلهي هذه استناداً إلى القرآن، فقال: إن الإنسان كُرّم من الله بأربع كرامات هي: كرامة الإنسانية، وكرامة الاستخلاف، وكرامة الإيمان، وكرامة العمل. ويعمد الإسلاميون بعد هذا التأسيس إلى إكمال البنيان، لا حسبما هو متوقع باللجوء إلى (مقاصد الشريعة) التي استخدمها الإصلاحيون؛ بل بالقول إن الأمانة الواردة في القرآن تعني التكليف، ولا تكليف إلا بعبادة الله عزوجل، أي تطبيق شريعته في الأرض، واقامة الدولة الاسلامية التي تحقق العدالة الكاملة، والانضواء الكامل في مفهوم العبودية لله. ومعنى ذلك أن الحاكمية هي لله وحده، كما أن العبودية لله وحده، غير انهم في الثمانينات، عاودوا الاهتمام بالشاطبي ومقاصد الشريعة؛ لكن في نطاق الأساسين السابقين: الاستخلاف، والتكليف. وهذا معنى قولهم إن حقوق الانسان في الاسلام هي في الواقع ضرورات (أو واجبات) لا حقوق ـ وفي ظنهم أن ذلك يعطيها قوة أكبر، ومصداقية أوقع لاستنادها إلى الوحي الإلهي لا إلى الحق الطبيعي؛ مع أن الشاطبي الذي استندوا إليه قال عن هذه المصالح الضرورية: (وقد قالوا إنها مُراعاة في كل ملة)، أي أن إدراكها ومراعاتها عامان وشاملان وضروريان للمصالح الإنسانية، وليسا قصراً على الدين الاسلامي. - حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر: مقارنات في نطاق نزعات الهوية والخصوصية والذاتية والتأصيل، صيغت في القعود الثلاثة الأخيرة عدة دساتير اسلامية، وعشرات الإعلانات لحقوق الانسان في الاسلام من جانب أفراد أو جماعات أو هيئات رسمية أو دول. وكانت السيدة (Ann Elisabeth Mayer) قد درست عدداً من هذه الإعلانات والبينات في كتاب لها صدر عام 1991م، مع اجراء مقارنات بين تلك البيانات من جهة وميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواثيق والمعاهدات الصادرة فيما بعد حتى مطلع الثمانينات من جهة ثانية. وأريدُ هنا أن أُجري مقارنة بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والمعاهدات الأخرى من جهة، وبين بيانين صادرين عن شخصيات اسلامية من جهةٍ ثانية. ما البيانات المعنيان فيحمل أولهما عنوان: (البيان الإسلامي ـ العالمي لحقوق الانسان) الذي عكف عليه خمسون مفكراً وشخصيةً اسلامية، برعاية المجلس الاسلامي بلندن، وأُعلن في اجتماع عقد بمقر منظمة اليونيسكو بتاريخ 19 سبتمبر 1981م. والبيان أو الإعلان الثاني أوصت به منظمة المؤتمر الاسلامي عام 1980م، وصاغته لجنةٌ مكونة من السادة: عدنان الخطيب، وشكري فيصل، ووهبة الزحيلي، ورفيق جويجاتي، وإسماعيل الحمزاوي. ولكن هيئة المؤتمر لم تنظر فيه بعد ذلك، فأصدره أحد مؤلفيه (عدنان الخطيب) عام 1992م بدمشق بعنوان: (حقوق الإنسان في الإسلام) مع شرح عليه. وأما موضوعات المقارنة فبعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مثل حق العمل، حق العلم، وحقوق الأسرة والطفل، وحق التملك. - أولاً: حق العمل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: 1 ـ تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بالحق في العمل، الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له امكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق. 2 ـ يجب أن تشمل التدابير التي تتخذها كل الدول الأطراف في هذا العهد لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق توفير برامج التوجيه والتدريب والتقنيين والمهنيين، والأخذ في هذا المجال بسياسات وتقنيات من شأنها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية مطردة، ولحالة كاملة ومنتجة في ظل شروط تضمن للفرد الحريات السياسية والاقتصادية الأساسية. البيان الإسلامي ـ العالمي لحقوق الانسان: لكل إنسان أن يعمل وينتج، تحصيلاً للرزق من وجوهه المشروعة: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)، (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). حقوق الانسان في الاسلام: أ) العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادرٍ عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل المشروع الذي يلائمه. ب) على العامل إتقان عمله والإخلاص فيه، وله حقه في الأجر العادل الكافي مقابل عمله، وله الحق في كل الضمانات المتعلقة بالسلامة والأمن. ت) إذا اختلف العمال وأرباب العمل فمن حقهم على الدولة والقضاء التدخل دون تمييزٍ لرفع الظلم وإقرار الحق. - ثانياً: حق العلم العهد الدولي الخاص: 1 ـ تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فردٍ في التربية والتعليم. وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها، وإلى توطيد احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية. وهي متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع في مجتمع حر، وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم. 2 ـ وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن ضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب: أ) جعل التعليم الابتدائي إلزامياً وإتاحته مجاناً للجميع. ب) تعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه، بما في ذلك التعليم الثانوي التقني والمهني، وجعله متاحاً للجميع بجميع الوسائل المناسبة، ولا سيما بالأخذ تدريجياً بمجانية التعليم. ت) جعل التعليم العالي متاحاً للجميع على قدم المساواة، تبعاً للكفاءة، بجميع الوسائل المناسبة، ولا سيما بالأخذ تدريجياً بمجانية التعليم. ث) تشجيع التربية الأساسية و تكثيفها، إلى أبعد حد ممكن، من أجل الأشخاص الذين لم يتلقوا أو لم يستكملوا الدراسة الابتدائية. ج) العمل بنشاط على إنماء شبكة مدرسية على جميع المستويات، وإنشاء نظام منحٍ وافٍ بالغرض، ومواصلة تحسين الأوضاع المادية للعاملين في التدريس. 3 ـ إمكان اختيار مدارس غير حكومية. الإعلان الاسلامي ـ العالمي: أ) التعليم حق للجميع وطلب العلم واجب على الجميع ذكوراً وإناثاً على السواء: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). والتعليم حق لغير المتعلم على المتعلم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)، (ليبلغ الشاهد الغائب). ب) على المجتمع أن يوفر لكل فرد فرصة متكافئة ليتعلم ويستنير: (مَن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله عزوجل يعطي)، ولكل فرد أن يختار ما يلائم مواهبه وقدراته: (كلٌّ ميسر لما خلق له). حقوق الإنسان في الاسلام: 1 ـ طلب العلم فريضةٌ على كل إنسان. 2 ـ التعليم واجبٌ على المجتمع والدولة، وعليهما تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة الجماعة، ويتيح للإنسان معرفة دين الله تعالى، وحقائق الكون وتسخير الطبيعة لصالح البشرية وغيرها. وهو إلزامي في مراحله الأولى. - ثالثاً: حقوق الأسرة والطفل الإعلان العالمي لحقوق الانسان: 1 ـ للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ، حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما يتساويان في الحقوق لدى التزويج، وخلال قيام الزواج، ولدى انحلاله. 2 ـ لا يُعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملاً لا إكراه فيه. 3 ـ الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة. العهد الدولي الخاص: وجوب اتخاذ تدابير حماية ومساعدة خاصة لصالح جميع الأطفال والمراهقين، دون أي تمييز بسبب النسب أو غيره من الظروف. ومن الواجب حماية الأطفال والمراهقين من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي. كما يجب جعل القانون يعاقب على استخدامهم في أي عمل من شأنه إفساد أخلاقهم أو الإضرار بصحتهم أو تهديد حياتهم بالخطر أو إلحاق الأذى بنموهم الطبيعي. وعلى الدول أيضاً أن تفرض حدوداً دنيا للسن يحظر القانون استخدام الصغار الذين لم يبلغوها في عملٍ مأجورٍ ويعاقب عليه. الإعلان الإسلامي ـ العالمي: حق بناء الأسرة: أ) الزواج ـ بإطاره الإسلامي ـ حق لكل إنسان، وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية وإعفاف النفس: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء).. ب) لكل طفل على أبويه حق إحسان تربيته وتعليمه وتأديبه: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً). ولا يجوز تشغيل الأطفال في سنٍ باكرة، ولا تحملهم من الأعمال ما يرهقهم أو يعوق نموهم أو يحول بينهم وبين حقهم في اللعب والتعلم. ت) إذا عجز والدا الطفل عن الوفاء بمسؤولياتهما نحوه، انتقلت هذه المسؤولية إلى المجتمع.. ث) لا يُجبر الفتى أو الفتاة على الزوج ممن لا يرغب فيه: (جاءت جارية بكر إلى النبي(ص) فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيّرها النبي(ص) ). حقوق الإنسان في الإسلام: أ) الأسرة عماد المجتمع المسلم، والزواج أساس وجودها، وهو واجب على الرجال والنساء، يرغب الإسلام في ممارسته، ولا يحول دون التمتع به أي قيد منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إلا لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة. ب) على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير وسائله. ت) التراضي أساس في عقد الزواج، وإنهاؤه لا يكون إلا وفق أحكام الشريعة. ث) الرجل قيّم على الأسرة ومسؤولٌ عنها، وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة، وتحتفظ باسمها ونسبها. ج) لكل طفلٍ منذ ولادته، حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية والرعاية المادية والأدبية. ح) على المجتمع والدولة حماية الأمومة وتعهدها برعاية خاصة. خ) من حق الأب أن يختار لطفله التربية الملائمة في ضوء القيم الأخلاقية الإسلامية. - رابعاً: حق التملك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: 1 ـ لكل فردٍ حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. 2 ـ لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً. البيان الإسلامي ـ العالمي: الملكية الخاصة مشروعة ـ على انفراد مشاركة ـ ولكل إنسان أن يقتني ما اكتسبه بجهده وعمله: (وأنه هو أغنى وأقنى). والملكية العامة مشروعة، وتوظف لمصلحة الأمة بأسرها: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرن فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم). حقوق الإنسان في الإسلام: لكل إنسان الحق في الكسب المشروع، على ألا يحتكر ولا يغشّ ولا يضرّ بفرد أو جماعة. - نتائج المقارنات: إن الثبت السابق الذي يتضمن ذكراً لنصوص المواثيق العالمية، وبيانين اسلاميين، فيما يتصل بحقوق العمل والعلم والأسرة والطفل، والتملك؛ يُظهر تقاطعات ولقاءات كما يُظهر فروقاً واضحة. والواقع أن (جدول أعمال) إعلان حقوق الانسان، والعهد الدولي الخاص فرض نفسه على البيانين الإسلاميين اللذين اضطرا إلى ذكر ما ذكر الميثاقان مع إضافات تفصيلية قليلة. بيد أن الاختلافات ما تزال واضحةً تحت العناوين المشتركة. فالملاحظ أن الإعلانات الدولية تذكر أموراً كثيرةً باعتبارها حقوقاً طبيعية. بينما يؤصّل الإعلان الاسلامي ـ العالمي نفسه على القرآن والسنة، والآخر على الشريعة. ولذا تتمايز اللهجة. فتظل الإعلانات الدولية حققواً، بينما تُصبح الإعلانات الإسلامية تكاليف. وهذا تمايز تبدو أهميته فيما بعد عند التفصيل. فهناك إصرار من جانب واضعي البيانيين الاسلاميين على التقيد بأحكام الاسلام أو الرجوع إليها في الزواج، والقوامة، وحضانة الأطفال.. الخ. وهناك إصرار على استخدام المصطلح والتعابير الفقهية والقرآنية. وهناك إصرار أيضاً على أن ذلك لا يُعتبر تمييزاً بل هي نصوص شرعية لابد من اتباعها. وخلاصة الأمر أن هناك نزعة تأصيل (في بيان المجلس الاسلامي أكثر مما لدى جماعة المؤتمر الاسلامي)، كما أن هناك إصراراً على إبراز خصوصيات شريعتنا؛ وصولاً إلى الإحساس بالاستقلالية عن أنماط الغرب ونماذجه ـ فالموجه إليهم البيانان ليسوا هم المسلمين في ديار الاسلام، بل أطراف المجتمع الدولي الذين ينبغي ـ حسب البيانين ـ أن يعلموا إصرار المسلمين على التمايز والندّيّة بسبب خصوصية نصوصهم وأعرافهم، وبالتالي شخصيتهم؛ فلا يمكن أن يذوبوا في المجتمعات الغربية، كما ذاب أسلاف لهم على الاطلاق. وفيما عدا ذلك فإن البيانين لا يعرضان جديداً إلا في (التقنين) كما يذكر إعلان حقوق الانسان في الاسلام ـ والتقنين نزعة بدأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتبلورت مع العمل على مجلة الأحكام العدلية العثمانية. ثم استمرت على تقطع في النصف الأول من القرن العشرين، وتعود في الأعوام الأخيرة للبروز على مستوى وضع الدساتير، وإعلانات حقوق الانسان، وتقنين أحكام المعاملات ـ وهدفها أمران: إثبات صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، والتهيئة لقيام الدولة الاسلامية التي قويت فكرتها بعد انتصار الثورة الاسلامية الايرانية، وإعلان الدستور الاسلامي هناك. يرى الباحث المعروف جورج مقدسي أن التقليدين، الإنسانوي Humanism والسكولائي ظهرا في عالم الاسلامي، ثم تسربا إلى الغرب عن طريق إيطاليا والأندلس لكن الفرق بين عالم الاسلام، والعالم الأوروبي؛ أن العالم الاسلامي عرف الحركة الإنسانوية أولاً ثم النظام التعليمي السكولائي، بينما عرفت أوروبا، السكولائية أولاً ثم الأنسنة. فالذي يبدو لي أن مشكلاتنا الثقافية مع الغرب ناجمة عن التشابه الشديد في الأصل لا الاختلاف. ولستُ على بينة مما إذا كان التأصيل والخصوصية، السبيلين الأكثر جدوى لحفظ الهوية أو استنقاذها. على أن ظاهرة الإعلانات الاسلامية لحقوق الانسان ليست سلبية مطلقاً. فقد مرت فترة كنا فيها نرفض العالمي والكوني رفضاً باتاً، ونحن نقول الآن من خلال هذه الإعلانات: إننا نقبل بالدخول والمشاركة، لكن بشروط نعتبرها شروطاً حاجية أو تحسينية وليست ضرورات. بيد أن المسألة المطروحة هنا تظل خياراً وجودياً وتاريخياً كبيراً. وشروط هذا الخيار الوعي بالمجال والزمان ـ وهو ما تحاول هذه المقالة أن تتطلع إليه.
|