إن استقراء ما نزل من آيات مكية تتحدّث عن أسلوب الدعوة في مكة ، وكيفية التعامل مع الخصوم ، والتأمل في المسيرة التي انتهجها الرسول وأصحابه في حمل الدعوة والتبشير بالاسلام ، تكشف لنا أنّ الرسول (ص) كان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويتبع أسلوب الحوار الفكري ، والإقناع العلمي ، ولم يستعمل العنف ، ولم يشرع باستعمال القوة في مكة ، رغم ما لاقى هو وأصحابه من أذى واضطهاد ، وفرض للحصار الاقتصادي والاجتماعي عليه ، وعلى أصحابه وأعمامه ، في السنة العاشرة من البعثة . . والقرآن رغم كل ذلك أمر النبي محمداً (ص) بالصبر والتحمل ، وفتح الآفاق النفسية ، وشرح الصدر ، واللجوء إلى أسلوب الحوار العلمي ، والاقناع المنطقي لهداية الناس ، وإصلاحهم . . فهو نبي جاء بالهدى والاصلاح ، وليس متسلطاً يخضع الناس بالقوّة والارهاب .
ولكي يتّضح أسلوب الدعوة ، ونمط الخطاب فلنقرأ بعضاً من النصوص القرآنية التي حدّدت موقف الرسول (ص) من الأذى والعدوان والاضطهاد والارهاب الذي استعمل ضدّه وضد أصحابه ، وضد مَن يستمع إلى خطابه ودعوته . .
قال الله تعالى : (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل / 12.
(ولا تستوي الحسنة ولا السيِّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأ نّه ولي حميم * وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم ) فصلت / 34 ـ 35.
(قل إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ / 24.
( .. لكم دينكم ولي دين ) الكافرون / 6.
(أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيِّئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) القصص / 54 ـ 55.
(وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفحْ عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ) الزخرف / 88 ـ 89.
(وما خلقنا السّموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ وإنّ الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) الحجر / 85.
(وعباد الرّحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) الفرقان / 63.
(قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون * من عمل صالحاً فلنفسه ومَن أساء فعليها ثمّ إلى ربّكم ترجعون ) الجاثية / 14 ـ 15.
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً ) الإسراء / 53.
(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ) المزمل / 10.
(فاصبر صبراً جميلاً ) المعارج / 5.
(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرُّسُل .. ) الأحقاف / 46.
وهكذا نجد القرآن يثبت منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة . . إنّه يدعو إلى الحوار والتفاهم إذ يقول: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة .. ).
(وجادلهم بالتي هي أحسن ) .
(قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) .
(إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .. ) .
إنّه لم يتهم الطرف الآخر ولم يستفزه ، بل دعا إلى رحلة حوار للبحث عن الحقيقة ، ليعرف الطرفان أين الحق والصواب . . بل ويتخذ أسلوباً سلمياً آخر حينما يقول لهم : (لكم دينكم ولي دين ) .
إنّه يدعو الآخر إلى التعايش ، وإن لكل دينه وعقيدته وليدع كل منهما بدعوته ، وليتحمل مسؤوليته ; فالإنسان الذي يستعمل عقله وضميره وحسّه الأخلاقي . . سيكتشف أين الحقيقة . . فإنّه مطمئن إلى انتصار منهج العلم والعقل . .
ويتسامى منهج الدعوة ونمط الخطاب وأخلاقية الإنسان الحامل للدعوة الإسلامية ، يتسامى بالدعوة إلى الصبر والتحمل ، وعدم استعمال الرد والعنف . . جاء ذلك في قوله تعالى :
(واصبر على ما يقولون ) .
(فاصبر صبراً جميلاً ) .
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرُّسُل ) .
ثمّ ينتقل إلى مرحلة أخلاقية أسمى من مراحل المنهج الأخلاقي والسلوكي فيدعو إلى المغفرة والصفح الجميل . . (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله ) .
(فاصفح عنهم وقل سلام ) .
(فاصفح الصفح الجميل ) .
(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
ويتسامى منهج الدعوة في التعامل والخطاب إلى موقع أعلى فينادي بمقابلة الإساءة بالإحسان ، لرفع الحواجز النفسية والفكرية ، وتوفير الأجواء والظروف الكافية لفتح العقول والقلوب على مبادئ الحق والإيمان . . يتضح ذلك من قوله تعالى : (إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأ نّه ولي حميم ) .
ثمّ يسترسل في الثناء على هذا الأسلوب في الدعوة فيوضح أنّ الذين يرتقون إلى هذا المستوى هم ذوو حظ عظيم ، وأصحاب إرادة وصبر جميل . . (وما يُلَقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم .. ) .
إنّه الصبر والعفو والصفح والسلام ، ومقابلة الإساءة بالإحسان . . ذلك منهج القرآن في دعوته ، وتلك سيرة رسول الله (ص) العملية في الدعوة وتبليغ الرسالة ، ولكنّ الأشرار لم يستجيبوا لكل ذلك ، فواجهوه وأصحابه بالعنف والارهاب والقتل والتعذيب والحصار والحرب النفسية والإشاعات والتهم الباطلة . . ومع ذلك صبر وغفر .
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هذه الآيات ، وإن نزلت في مكة ، ورسمت أسلوب الدعوة في تلك البيئة والظروف ، إلاّ أن تلك الآيات لم تنسخ ، ولم تفقد دورها كأسلوب وطريقة في نشر الدعوة الإسلامية ، وإنّ ما جاء من آيات الجهاد كان لردع الطغيان والفساد وحماية حريّة الفكر ، والدفاع عن الحق والعدل والهدى ، وليست أسلوباً ناسخاً لما جاء في هذه الآيات وأمثالها . .
والمرحلة الثانية من مراحل الدعوة في العهد النبوي . . عصر التشريع ، ونزول الوحي ، واكتمال الرسالة . . المرحلة الثانية ، كانت في المدينة المنورة ، وهي الفترة التي امتدت عشر سنوات ، من يوم هجرة الرسول (ص) إليها وحتى وفاته فيها .
وفي المدينة المنورة تمّ بناء الدولة والمجتمع الاسلامي إلى جانب الدعوة إلى الإسلام . . وكما هو واضح وثابت تأريخياً فإنّ سبب الهجرة ، هو الارهاب والظلم والعدوان ضدّ النبي (ص) ودعوته والمؤمنين به والمتعاطفين معه ، كما هاجر الآخرون إلى الحبشة قبل ثمان سنوات من الهجرة إلى المدينة . . فقد مارست قريش القتل والتعذيب والحصار الاقتصادي ، والارهاب الفكري والاضطهاد الاجتماعي ، فلم تفلح في تحقيق أهدافها . . فقرّرت قتل النبي (ص) والتخلّص منه .
وهكذا خططوا لقتله وقرّروا ذلك . . وليلة التنفيذ أخبر الله سبحانه نبيه بما يريده أولئك الأعداء ، فخرج مهاجراً إلى المدينة المنورة ، بعد أن أصبحت له قاعدة فيها وأنصار ، وبيعة تعهّد فيها زعماء المدينة بنصرته ، والدفاع عنه ، وعن الدين الذي يدعو الناس إليه . . وحين استقر النبي (ص) في المدينة التي تبعد عن مكة حوالي (450) كم شرع ببناء الدولة والمجتمع على أساس مبادئ الإسلام . . مبادئ الحق والعدل والإيمان ، وقيم الأخلاق التي بشّر بها القرآن . . لقد نصّ القرآن على بناء الدولة على أساس العدل وسيادة القانون واحترام إرادة الأمّة . . جاء ذلك في النصوص الآتية : (إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) النساء / 58.
وثبت مبدأ سيادة القانون في الدولة فخاطب النبي (ص) بقوله : (ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) الجاثية / 18.
فالنبي (ص) الحاكم مكلّف باتباع القانون وتنفيذه . . وفي الآية الآتية يؤكِّد القرآن احترام إرادة الأمّة والتشاور معها ، والتعامل الانساني الشفاف ، فخاطبه بقوله : (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله ) آل عمران / 159.
وهكذا انتقل الإسلام بالمجتمع العربي في المدينة من الحياة القبلية ، والصراعات التي كانت بين القبائل ، إلى الدولة وبنائها على أرقى الأسس الحضارية ، على أساس العدل ، وسيادة القانون ، واحترام إرادة الأمّة ورأيها . . وراح الرسول (ص) يواصل دعوته إلى الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية كافّة ، منطلقاً من هذه القاعدة السياسية ، الدولة التي يقودها في المدينة . .
ولما كانت هناك موجبات لحماية الدعوة والدولة ، وأنّها مهدّدة بغارات الأعداء ، والقوى المعادية من حولها . . دولة الفرس في الشرق ، والروم في الغرب . . وتكتل اليهود في المدينة ، وقوى قريش في مكة التي أخرجته منها ، وما زالت تتعقبه ، وتعمل على القضاء عليه ، وعلى دعوته . . وكما يشهد الواقع التأريخي فإن كل الظروف القائمة من حول الدعوة آنذاك تُشعر بالخطر على الوضع الحضاري الجديد . . وان لغة العصر ، وظروف المرحلة لا تعرف غير العنف والقوة . . والرسول (ص) يدعو بوسائل الفكر والحوار العلمي ، وبالحكمة والموعظة الحسنة ، كما شهدت المرحلة التأريخية التي عاشتها الدعوة في مكة ثلاثة عشر عاماً . .
وإذاً فمن المنطقي والضروري أن يتبنى هذا الدين أداة القوّة للدفاع والحماية والوقوف بوجه الطغيان والارهاب الموجه ضدّه ، وضدّ المستضعفين فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في ذلك العالم الذي يسعى هو لتحريره وانقاذه . . إنّه يريد أن يحرر الإنسان من العبودية ، ولتلك الأوضاع قوى مسلّحة تحميها وتضطهد الإنسان ، ولا تستجيب لمنطق العقل ، ودعوة العلم والمعرفة . . من هنا كان لا بدّ من أن يُشرّع الجهاد لمواجهة تلك الأسباب مجتمعة ، ولهذا دعت الضرورة لتشريع الجهاد والقتال للدفاع ، وإزالة الظلم والطغيان الذي تحصن بالعنف والقوّة والإرهاب . .
ولمزيد من حفظ الأمن والسلام ، وكف نذر الحرب والقتال ، شرع الإسلام نظام المواثيق والعهود ، ووضع له قوانينه وأحكامه الخاصّة ، وابتدأ بمعاهدة سلام مع اليهود المقيمين في المدينة ، في السنة الأولى من وصول الرسول (ص) إليها . . ثمّ توقيع معاهدة صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة . . وبهذا النظام ثبت أسلوباً حضارياً آخر من أساليب الدعوة العقائدية والسياسية . .
*المصدر : البلاغ