وكانت مرارة هذا الانحراف وصدمة هذا الانحراف التي كان من الممكن ان تمتد وتقضي على الإسلام ومصالحه وعلى الأمة الإسلامية، فتصبح قصة في التاريخ لا وجود لها في خط الزمن المستمر.
الأئمة (عليهم السلام) في هذه المرحلة عاشوا صدمة الانحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الامكان، بكل العناصر الاساسية للرسالة ضد صدمة الانحراف، فحافظوا على الرسالة الاسلامية نفسها.
كل هذه الأركان والمقومات حصنوها تجاه صدمة الانحراف، هذه هي المرحلة الاولى وتبدأ بعد وفاة رسول اللّه ا، وتستمر الى حياة الامام الرابع من قادة اهل البيت (عليهم السلام).
المرحلة الثانية: ثم تبدأ المرحلة الثانية والامام الباقر (عليهم السلام) شبه البداية لها. وحينما نقول شبه البداية، لأن تصور هذا العمل ليس حدّياً، حيث يمكن ان نقف، على اللحظة، فنقول: هذه اللحظة هي نهاية المرحلة وبداية اخرى، وانما هذا التصور يتفق مع طبيعة الاحداث المتصورة في خط تاريخ الاسلام.
والمرحلة الثانية، هي المرحلة التي شرع فيها قادة اهل البيت (عليهم السلام) - بعد ان وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الاساسية ضد صدمة الانحراف - ببناء الكتلة، بناء الجماعة، المنطوية تحت لوائهم، الشاعرة بكل الحدود والابعاد من المفهوم الاسلامي المتبنى من قبلهم (عليهم السلام)، منذ زمان الإمام علي بن الحسين (عليهم السلام)، وعلى زمان الإمام الباقر والصادق (عليهم السلام) كان هذا العمل يبلغ القمة، وليس معنى ذلك، ان هذا العمل الاول الذي كان اللبنة الرئيسية للمرحلة، قد انقطع، وانما معنى هذا ان العمل الاول استمر، لكن حيث ان صدمة الانحراف، كان قد امكن تقليل خطرها، خلال ما قام به الائمة الاربعة الاول من جهود وتضحيات في سبيل حفظ الاسلام، وهذا يحتم ان يواجه قادة اهل البيت (عليهم السلام) المهمة الجديدة، مهمة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الامة، التي حصنت بالحد الادنى من التحصين، ولا بد ان تُنتَخبَ مجموعة من هذه الامة، فيحَصّنَّون بأعلى درجة ممكنة من التحصين، ويوعون باعلى درجة ممكنة من التوعية، حتى تكون هذه الجماعة، هي الرائد والقائد والحامي للوعي الاسلامي الذي حصن بالحد الادنى.
هذا العمل مارسه الامام الباقر (عليهم السلام) على مستوى القمة وقلنا ان هذه المرحلة استمرت الى زمن الامام الكاظم (عليهم السلام)، وفي زمان الامام الكاظم (عليهم السلام) بدأت المرحلة الثالثة.
وهذه المرحلة الثالثة: لا تحدد بشكل بارز من قبل الأئمة (عليهم السلام) انفسهم، بل يحددها بشكل بارز، موقف الحكم المنحرف من الأئمة انفسهم، وذلك لان الجماعة التي نشأت في ظل المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الاولى، نشأت ونمت في ظل المرحلة الثانية، وهذه الجماعة غزت العالم الاسلامي، وقتئذ، وبدا للخلفاء ان قيادة اهل البيت (عليهم السلام)، اصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعود بالمجتمع الإسلامي الى حظيرة الإسلام الحقيقي، وهذا خلّف بشكل رئيسي ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمة (عليهم السلام) من ايام الامام الكاظم (عليهم السلام).
هذه هي المراحل الثلاث التي سوف نستوعبها بالتأريخ، خلال تاريخ كل واحد من الأئمة (عليهم السلام) الى ان يكملوا، وخصيصة هذه المرحلة الرئيسية، ان الأئمة الاربعة (عليهم السلام) قاموا بتحصينات المقومات الاسلامية للحضارة الاسلامية، ضد صدمة الانحراف، هذا الانحراف وعمقه وخطورته يمكن ان ننتبه حينئذ لجلالة وعظمة منجزات الأئمة (عليهم السلام).
صدمة الانحراف: خطورة هذا الانحراف الذي يمكننا ان نوجزه في جملة بسيطة قصيرة جداً، هي ان شخصاً غير علي بن ابي طالب (عليهم السلام) تولى الامر بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، واصبح سلطان المسلمين بعده.
هذه الجملة البسيطة هي التي تشكل كل هذا البلاء العظيم بكل مضاعفاته ونتائجه التي سوف نتحدث عنها، وليست هذه الجملة معبرة فقط، عن ظلم وغبن شخصي للإمام (عليهم السلام)، واستيلاء على حق خاص من حقوقه، ليس هكذا، لو كان مجرد مظلومية علي (عليهم السلام)، لوقف على مستوى العقيدة الدينية، ولم يسر الى الحياة الاسلامية في كل مجالاتها الخارجية، لم تكن المسألة مسألة عقيدة فحسب، او نزاع بين شخصين في حق مشروع يدعيه المدعي وينكره المنكر، لم يكن هذا وانما كان تغيير شخص الحاكم، تعريضاً للتجربة الاسلامية للفشل المحقق فعلاً، ثم خطر الانهيار الكامل في المستقبل.
بيان ذلك، ولكي يتضح هذا المعنى تماماً، لا بد وأن نعرف ما هي الرسالة التي بمجرد تغيير شخص الحاكم فيها، بمجرد استيلاء ابي بكر علي الحكم بدلاً من الشخص المعين من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالنص، يزعزع كيان هذه الرسالة ثم يمحقها محقاً كاملاً، لولا جهود الأئمة (عليهم السلام).
كيف ان مجرد تغيير هذا الحاكم ، يوجب هذا العمق في الخطر وهذا المحق في نهاية الشوط، وما هي الرسالة الاسلامية حتى نعرف على ضوء ذلك كيف يكون هذا الخطر عميقاً، ثم نفهم بعد هذا ما هي التحصينات ضد هذا الخطر العميق، هناك منذ البدء نظرتان اساسيتان للكون ولموقف الانسان من الكون.
احدى هاتين النظرتين: أن يرى ان الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة، هذه هي النظرة الأولى التي يتحدد بها موقف الانسان من الكون وطبيعة هذا الكون، وهذه النظرة، تستبطن حتماً الشعور بأن وجود الانسان في الكون، هو وجود الأمين ووجود الخليفة، لا وجود الأصيل والمتحكم، لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود، بما فيها نفس الانسان، هي مملكة ذاك المليك القدير المراقب من وراء الستار، وهذا يشعر بانه يقوم بأعباء الأمانة والخلافة، هذه الخلافة التي قام فيها آدم (عليهم السلام)، وقامت به بعد ذلك الأجيال الصالحة لبني آدم. هذه الخلافة والامانة تستبطن معنى آخر هو ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير، لأنه خليفة وأمين، والامين لا بد له ان يطبق على الامانة التي استؤمن عليها قرارات المالك، فلا بد للانسان اذن ان يكون رهن ذلك المليك القدير.
ثم ان الجزء الآخر لهذه النظرية الاساسية، المليك القدير المراقب من وراء الستار، يراقب ويحاسب ويدقق. لكن بطريقة خاصة في المراقبة والتدقيق، فانه يراقب من وراء الستار، لا يتجلى للانسان في مملكته جهاراً فكل من عصاه ينزل به العقوبات، بل يختفي عن مملكته بحسب المنطق الحسي، ويراقب اهل هذه المملكة، فكرة يراقب من وراء الستار، تستبطن المسؤولية تستبطن الثواب والعقاب، والحساب والعقاب يستبطن وجود عالم آخر، وراء هذا العالم، لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة، الغير السافرة والعاجلة من قبل ذلك المليك القدير، اذن جاءت فكرة عالم آخر للجزاء والحساب والعقاب، حينئذ تجيء فكرة الاهداف الكبيرة، وحينئذ الانسان لا يكون قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، يمتد من ذلك العالم المنظور، وحينئذ يكون الانسان على مستوى الاهداف الكبيرة، الاهداف التي لا يستطيع هو ان يستفيد منها ويمتصها ويستنزفها، اعظم الاهداف واجل الاهداف واسمى الاهداف، هي تلك الاهداف التي تكون اوسع من عمر الانسان.
واحد من هذه الاهداف كيف يمكن ان تحمل الانسانية بها وتحمل الانسانية على تحقيقها، اذا كانت الانسانية لا ترى الامر في نظرها الا هذا الشوط القصير، اذن هذا الهدف ليس هدفها، لأنها لا تستلزم خسارة هذا الهدف، ولا تشرب نخبه فتكون هذه الاهداف معطلة، وتبقى الانسانية رهن الاهداف القصيرة وهي غايات المادة المحدودة، وهذه الغايات المحدودة هي منطلق الوان كثيرة من الكفاح والصراع ما ين الاسرة البشرية بين فرد وفرد، بين مجتمع ومجتمع، بين قومية وقومية، بين امة امة، اما اذا اصبحت البشرية على مستوى الاهداف الكبيرة لانها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها الى أكثر من حدود هذه الدنيا، حينئذ تستطيع ان تقوم بأعباء تلك الاهداف الكبيرة. من خرج من بيته مهاجراً في سبيل اللّه، فمات وقع اجره على اللّه، كم من الناس درسوا وماتوا قبل ان يحققوا النتيجة، كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب واستشهدوا قبل ان يذوقوا لذة النصر والانتصار، كم من آلاف من المجاهدين والمعلمين طافوا وتحملوا في سبيل مباحثهم من الاذى والظلم والاهانة، وماتوا قبل ان يذوقوا لذة الانتصار، الا ان هؤلاء حيث انهم خرجوا من بيوتهم هاجروا في سبيل اللّه سبحانه وتعالى وماتوا وسط الطريق، فوقع اجرهم على اللّه سبحانه وبذلك انفتح امام هؤلاء طريق هذه الاهداف الكبيرة، فلا يهم هذا الانسان القصير العمر ان يموت خلال الخطوة الأولى او الثانية، ما دام يسير في خط، في أي مرحلة منه يموت يقع اجره على اللّه، هنا انفتح طريق الاهداف الكبيرة، انفتح باب أن القيم الخلقية لا معنى لها ما لم تكن على مستوى الاهداف الكبيرة والجزاء الكبير الغير المنظور. والقيم الخلقية من التضحية والفداء والحب والايثار ونحو ذلك من الامور، كل هذه انفتح بابها لانها جميعاً طرق اللّه سبحانه وتعالى، كل من يمشي في طريق من هذه الطرق ويموت ويخسر ويبتدئ تجاهها بصدمة يقع اجره على اللّه سبحانه وتعالى، كل من يضحي فلا يلاقي جزاء تضحيته يقع اجره على اللّه. كل من يقوم بخدمة للآخر فلا يلاقي جزاء من الآخر يقع اجره على اللّه. لانه يدخل في ملاك من خرج من بيته مهاجراً في سبيل اللّه فمات وقع اجره على اللّه.
هذه النظرة الاساسية تشعبت منها كل هذه الشعب وكل هذه الفروع التي بكاملها تشكل الحضارة الاسلامية.
فالحضارة الاسلامية عبارة عن هذه النظرة الاساسية بكل شعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية الى تجسيد كامل للعلاقة مع اللّه سبحانه وتعالى، في تفاعل الانسان مع كل مجالاته الحيوية والكونية. هذه هي النظرة الأولى وفي مقابلها نظرة اخرى.
والنظرة الثانية هي ان يرى الانسان نفسه بانه اصيل في هذا الكون، وحينما ينظر في نفسه على انه اصيل في هذا الكون، وان هذا الكون مستقل وغير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار، حينما تتركز في نظره هذه الاصالة والاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، واذا انعدمت المسؤولية في المقام، بقي عليه هو ان يتحمل المسؤولية بنفسه.
يعني، بدلاً من ان يشعر بانه مسؤول ومراقب امام جهة علياً تضعه امام اهداف كبرى في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، يصنع هو المسؤولية وحينما يتحمل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، تمام المحتوى الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وشهوة، وحينئذ حينما يريد الانسان ان يحدد لنفسه مسؤولياته، يحددها على ضوء اهدافه، التي سوف يحددها على ضوء مدى طريقه، وحيث ان طريقه محدود، وحيث ان طريقه منكمش في نطاق المادة، فسوف تكون الاهداف على مستوى الطريق، وحينما يكون كذلك، فسوف تكون المسؤوليات في نطاق هذه الاهداف، وبعد هذا سوف يخسر القيم الاخلاقية، ويتولد عن ذلك الوان من الصراع والنزاع بين البشرية حيث تصبح جماعات ووحداناً وهذه النظرة غير اسلامية.
لماذا جاء الاسلام: الاسلام جاء لأجل ان يربي الانسان على النظرية الاولى، لا لأجل ان يكون مجرد عالم يجيء بنظرية ليكتبها في كتاب، بل جاء الاسلام ليربي الانسان على هذه النظرية بحيث تصبح جزءاً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه، مع فكره وعواطفه وتنعكس على كل مجالات تصرفه وسلوكه مع اللّه سبحانه وتعالى، ومع نفسه ومع الآخرين.
فعليه لا بد للاسلام ان يهيمن على هذا الانسان، وعلى كل طاقاته وعلاقاته، ليستطيع ان يربيه، فالمربي لا يستطيع ان يربي شخصاً ما لم يهيمن عليه، اذا لم يهيمن عليه يكون مجرد استاذ وتلميذ، الاستاذ يلقي النظرية العلمية للتلميذ، فان شاء التلميذ قبل وان شاء رفض وهذا باب التلمذة والبحث.
واما باب التربية فانه باب الهيمنة، الاب يستطيع ان يربي ابنه فيما اذا هيمن عليه، وعليه فالهيمنة هي الشرط الاساسي للتربية، والهيمنة كلما كانت اوسع نطاقاً واوسع مجالاً، كانت اكثر إنجاحاً لعملية التربية، قلنا ان الاب يستطيع ان يربي ابنه، لكن قد لا يستطيع ان ينجح، لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته وسيطرته لان هذا الابن هو ابنه، وايضاً ابن المجتمع، ابن مجتمع كبير يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه، ويتبادل معه العواطف والمشاعر والافكار والانفعالات وقد يقيم معه علاقات بالحقول الاخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع ايضاً.
الاب اقوى حقيقة وابوته مجازية، فبنوة المجتمع لهذا الولد، أكثر بكثير من بنوته لهذا الاب الذي ولد منه، ولهذا قد يعجز كثير من الآباء عن تربية ابنائهم في المجتمع الفاسد، كم سمعت من أب يتذمر اذ انه لا يستطيع ان يربي ابنه في آخر الزمان ومع هذا الفساد مثلاً، كل هذا لانه يوجد أب آخر لهذا الابن وهو المجتمع.
كيفية وجود التربية الكاملة: والتربية الكاملة لا يمكن ان تكون لهذا الفرد، الا اذا هيمن المربي عليه، على علاقاته الاجتماعية وروابطه مع غيره ايضاً، يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، بحيث يصير شخص واحد هو الاب ويكون هو المجتمع، فحينئذ يصبح هذا مربياً كاملاً مطلقاً بالنسبة الى هذا الابن.
وهذا ما صنعه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، هيمن على العلاقات الاجتماعية، لأنه تزعم بنفسه المجتمع، لأنه انشأ مجتمعاً وقاده بنفسه، ووقف رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الاطار الاجتماعي، علاقه الانسان مع نفسه، علاقته مع ربه، علاقته مع عائلته، علاقته مع بقية ابناء مجتمعه، علاقته في مختلف المجالات والحقول الاجتماعية والشخصية، فكان هو الذي يخطط، لذا كل هذه الأمور صارت تحت هيمنته، فحينئذ استكمل الشرط الاساسي للتربية الناجحة.
ولا شك ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، لو كان قد امتد به العمر، او كان قد امتدت التجربة الاسلامية من بعده على يد خلفائه المعصومين الميامين من اهل بيته من أمير المؤمنين (عليهم السلام)، وأولاده (عليهم السلام) اذن لقدّر لهذه التجربة والتربية ان تؤتي ثمارها بشكل عجيب، هذه الثمار نقرأها الان بعنوان المعجزات والكرامات من احوال الناس بعد ظهور الحجة، وتلك المعجزات والكرامات ليست معجزات وكرامات، وانما هي نتيجة تربية، هل يمكن أن يبلغ المجتمع البشري الى مستوى من التعاون والتعاضد، الى مستوى من التوحيد والترفع، بحيث يستغني عن النقد، عن التعبير المادي القاسي جداً في حياة الانسان، الروايات وقعت تقول بان هذا سوف يقع في عهد الحجة (عليهم السلام). ونتيجة هذه التربية المخططة على يد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ويد الخلفاء المعصومين من اهل بيته (عليهم السلام)، فالتجربة الاسلامية اذن كانت تشمل عناصر ثلاثة، باعتبار انها عملية تربية من فاعل وهو المربي، ومن تنظيم يستمد من قبل الشريعة، ومن حقل لهذا التنظيم وهو الامة أي المجتمع، هذه هي العناصر الثلاثة المزدوجة في هذه التجربة.
ولكن الانحراف بدأ يغير العناصر الرئيسية لهذه التجربة.
أحد هذه العناصر لهذه التجربة تهدّم بعد وفاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بمعنى ان ثلث التجربة الاسلامية تهدم، تهدم ذاك البناء الذي لأجله جاءت اربع وعشرون الف رسالة من السماء، وكان تهدم هذا الجزء الواحد كفيلاً بهدم الجزئين الآخرين، لأن هذه التجربة متفاعلة في عناصرها، فبهدم جزء منها يتهدم الجزءان الآخران. لا ندري ان المسلمين وقتئذ، هل كانوا يتصورون عمق هذا الانحراف بعد هذا...؟! أكبر الظن انهم لم يكونوا يتصورون ذلك، بل غاية ما كانوا يتصورونه ان المسألة مسألة تغيير حكم من احكام اللّه لا أكثر، ان اللّه سبحانه وتعالى جعل علياً، وهم جعلوا ابا بكر، اما باقي الجهات فيبقى الوضع فيها على حاله، بقيت الصلاة على حالها، بقيت الزكاة على حالها تجبى، بقي الفقراء يُعطَونَ منها، بقي كتاب اللّه يقرأ في المساجد، بقيت الجماعات تقام ظهراً وعصراً، ومغرباً وعشاءً وصباحاً، بقي بيت اللّه يحج اليه عشرات الآلاف من الناس، بقي الجنود والمرابطون يفتحون بلاد اللّه الواسعة، بلداً بلداً، وعليه لم يتغير شيء سوى ان شخصاً كان اسمه علي، هو أعدل وأعلم من أبي بكر، أقصي من مقام الحكم لغلبة الأهواء والشهوات ولامور اخرى سوف تذكر في حياة أمير المؤمنين (عليهم السلام)، وجعل مكانه ابو بكر لا أكثر من هذا المقدار.
وفي الحقيقة لم يكن الأمر كذلك، وانما كان هذا نذير شؤم بالنسبة الى التجربة الاسلامية كلها، لما بدل شخص الحاكم وجعل مكانه آخر، هذا الحاكم الآخر لم يكن معصوماً، ولم يكن مصمماً من قبل واضع التجربة، ومعناه ان هذا الانسان على أقل تقدير، حتى لو أخذنا بمفهوم السنة عن ابي بكر، فهو انسان تحتشد في نفسه افكار كثيرة خاطئة، تحتشد في نفسه شهوات كثيرة تعرضه للانحراف، لم يكن معصوماً لا من ناحية المفاهيم الفكرية ولا من الناحية العملية، هذا الانسان جاء ليتسلم زمام التجربة الاسلامية في بداية امرها بدلاً من ذلك الانسان المعصوم، حينئذ من هو الحاكم الآن، هو ابو بكر، ابو بكر يعني المجموعة الكثيرة من العواطف والمشاعر والانفعالات، اذن فالحاكم هو هذه الكومة من الافكار والعواطف. هذا هو ابو بكر، اذن فالحاكم هو هذه الحفنة، فلنفرض ان فيها 50% افكاراً وعواطف اسلامية لكن فيها 50% من العواطف مما هو ليس باسلامي اذن فقد اصبح الحاكم مزدوج الشخصية، اصبح الحاكم في المقام عبارة عن 50% من الافكار. والعواطف الاسلامية من جهة رأي السنَّة و 50% من العواطف والافكار غير الاسلامية والجاهلية في المقام، فبطبيعة الحال ان هذا النصف الثاني على أقل تقدير لو لم نقل بان كلا النصفين حاله هكذا، واخذنا بنظرية من يقول ان القصة قصة مناصفة، لا اقلّ من ان يكون هذا الشخص عرضة للانحراف، من هو الضامن لعدم الانحراف، هل الضامن هو الامة، الامة لم تكن على مستوى العصمة وقتئذ، كما ان ابا بكر لم يكن معصوماً، لقد كان من الممكن ان تبلغ الأمة درجة العصمة خلال تربية طويلة، لو ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) قد توالوا على امة واحدة، ومارسوا عملية التجربُة، كان من الجائز ان تبلغ الامة بوصفها المجموعي مستوى العصمة بحيث لا تحتاج بعد هذا الى قائد معصوم، بل هي تحكم نفسها بنفسها، هذا امر جائز عقلاً، ولكن بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لم تكن الامة معصومة، والدليل على هذا يأتي بعد ذلك، فاذا لم تكن الامة على مستوى العصمة، اذن فسوف ينفتح من هذا الحكم الغير المعصوم الخطر على الاجزاء الاخرى للتجربة ، للمقومات الاساسية للرسالة الاسلامية، سوف ينفتح الخطر على المصادر الاخرى، على الكتاب والسنة، ومن البديهي انه لم يكن الكتاب والسنة في عهد الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله)، مدونين في كتاب، لم يكن هذا الكتاب في ايدي المسلمين بوصفه كتاباً او قرآناً، محدوداً من الفه الى يائه، وانتم تعلمون ان السنة لم تكن مكتوبة اصلاً وانما كانت محفوظة في صدور المسلمين وقتئذ والسنة كانت هي في الصدر الثاني للاسلام، ماذا يترقب من شخص حاكم منحرف في المقام ان يقف من هذين المصدرين وان يعمل في حمايتهما، لم يكن هناك تحصين من الخارج من قادة اهل البيت (عليهم السلام) بالنحو الذي سوف نشرحه ان شاء اللّه، كان من الطبيعي ان يترقب ان السنة سوف تكون عرضة للضياع والانحراف والتزوير على اساس الانحراف في هذا الحكم، فالمقومات الاسلامية للاسلام سوف تتطور وتزور، الاسلام نظرية للحياة، هذه النظرية سوف تتطور وتزور وتشوه بشكل آخر، بشكل جاهلي لا يختلف عن نظرية جاهلية لأن المصدر الاساسي للاسلام عرضة للتحريف وللاقصاء عن مجالاته الذهنية والاسلامية وحتى لو لم تكن عرضة فان النصوص الموجودة في امهات الكتب، لم تكن تعطي النظرية الحقيقية للناس، الناس حسيون اكثر منهم منطقيون، الناس يعيشون ما يرون لا يعيشون ما يقرأون حبراً على ورق، اذن فيعيشون ما يرون النظرية التي يمارسها ابو بكر ويمارسها الخلفاء الذين تولوا من بعده، يمارس هذا الخط المنحني، من الانحراف الذي اشتد انحناؤه بالتدريج حتى بلغ الى الهاوية من الانحراف، سوف يعيشون هذا الواقع وهذا المجسَّد للنظرية الاسلامية للحياة وسوف لن تبقى هناك اطروحة اخرى للنظرية الاسلامية للحياة، وبذلك يفقد الاسلام اطروحته على المستوى النظري، وعلى المستوى النضالي، بعد ان فقده على المستوى الواقعي والمستوى الاجتماعي والخارجي، بعد هذا سوف تزول الامة نفسها لأن هذه الامة سوف ينعكس فيها، بعد اقصاء مصادر الرسالة عنها، وبعد تشويه معالم النظرية الاسلامية في وجهها، وبعد تعمق الحاكم في انحرافه، ومعنى انحراف الحاكم انه سوف يتميع في حفظ مصالح الأمة وسوف يتحيز في حاكميته، وسوف ينعكس هذا التميع للامة في الظلم والفساد والتناحر والصراع فيما بين افراد الأمة، لان الوالي لا يحفظ مصالحه الحقيقية، وسوف ينعكس على الامة في الضياع والذل وفقدان الارادة وفقدان الشعور بالمسؤولية.
اذن سوف تصبح الأمة، بعد شوط طويل من الزمن، ملؤها الفساد وانعدام الارادة، وهذه التجربة الاسلامية المنحرفة، سوف تسقط حتماً في يوم من الايام، لأنها منحرفة، ولو كانت اسلامية وسوف تجيء بتجربة اخرى لا اسلامية مكانها وحينما تجيء تلك التجربة مكانها، سوف تواجه امة متميعة لا يوجد لديها أي مناعة ضد الكفر، وسوف تندمج هذه الامة اندماجاً كاملاً بالتجربة الكافرة، وبذلك يضيع الاسلام والرسالة، والنظرية الاسلامية للحياة، وتضيع الامة نفسها. هذه هي الاخطاء التي كان يترقب ان تنجم من منطلق الانحراف يوم السقيفة.
بقلم : آية الله العظمى السيد الشهيد محمّد باقر الصدر