قارئ أهل الجنة النبي داود (عليه السلام)
الحاكم الذي كان يقتات من عمل يده:
قال تعالى في كتابه العزيز: (( وَلَمّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ )) البقرة / 250ـ 251 .
تشير الآيتان الكريمتان إلى القوم من بين إسرائيل الذين جعل الله عليهم طالوت ملكا, ليقودهم ويقاتل بهم أعداءهم في فلسطين آنذاك وهم جالوت ومعه العمالقة. وبالفعل التقى الجمعان و رجا المخلصون نصر الله سبحانه ولكن ما ينبغي التوقف عنده هنا , ما أشار إليه القرآن الكريم بإيجاز:
(( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ)) . إذ إن جالوت المتجبر دعا إلى البراز مستهزئا بكل جند طالوت , مستصغرا شأنهم , متعاليا عليهم ! وكما في كل موقف مماثل تبرز أمور ليست في الحساب والتوقعات , حيث يتأخر المتقدمون ليسبق المجهولون . . الذين لا يحسبون للمادة حسابها.
فداود (عليه السلام) لم يكن من بين الجند ـ فيما يروى ـ وليس له من الشهرة ما يجعل تقدمه على غيره مقبولا أو متوقعا , فلقد كان مجرد راع ابن راع يدعى آشي من سلالة لاوى بن يعقوب (عليه السلام) . ومع ذلك كان يرى الأمور بمنظار آخر, فيفكر بوجوب قتل جالوت لاستكباره دون أن يهتم أو يأبه بقوته وبطشه وبما يحتمي من حديد ودروع , وكان يرى السعي لذلك واجبا والتوكل إنما هو على الله سبحانه.
ويصر داود (عليه السلام) على البراز والاستعداد لقتل جالوت. . فيقبل طالوت أخيرا بعد أن رده مرات برفق ليفسح المجال للأبطال ولكن دون جدوى ويلبسه الدرع ـ درع موسى (عليه السلام) ـ التي كانت في تابوت السكينة كما في الروايات . واستوت الدرع على داود . . فيحمل مقلاعا وبضعة أحجار كريمة ويتحرك . . وما انكشفت الصورة إلا عن داود يقف على رأس جالوت بعد أن أرده وصرعه بحجر, ثم قتله بسيفه محققا بذلك النصر الحاسم.
وذاع صيت داود (عليه السلام): قاتل جالوت, وأضحى صهر الملك طالوت ووارثة وفقا للوعد الذي قطعه طالوت على نفسه . . وهكذا جعل النصر لبني إسرائيل على يدي داود (عليه السلام) في معركة غير متوازنة , حيث كان أكثر القوم يخشى نتائجها : ((. . . قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ . . .)) البقرة / 249.
داود النبي (عليه السلام):
وتهيأ الجو لداود (عليه السلام) فجعله الله نبيا بعد ما آتاه الملك: (( وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (النبوة) وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ. . .)) البقرة /251 .
ومع الملك والنبوة ورغم وجود التوراة عند بني إسرائيل آتاه الله الكتاب الثاني لهم, المۆكد والمصدق للكتاب الأول : (( وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً ))النساء/163
وقال تعالى : ((. . . وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً )) الإسراء /55 . والزبور (هو الكتاب بمعنى المكتوب )(1).
وفي الروايات : (( . . . وأنزل عليه الزبور فيه توحيد وتمجيد ودعاء وأخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . . . ))(2).
شخصية داود (عليه السلام):
غالبا ما يتشابه الأنبياء (عليهم السلام) في كثير من الصفات , ومع ذلك يختص كل واحد بصفة تتعلق بشخصه الكريم أو بما جاء به من معجزة ومۆيد لرسالته ودعوته . قال تعالى عن داود (عليه السلام) : (( . . . وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنّهُ أَوّابٌ * إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لّهُ أَوّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ )) ص/17 ـ 20.
هذا هو داود الأواب (عليه السلام) . . لا يترك أمرا بعيدا عن الله سبحانه , يرجع في أموره كلها إلى ربه , بل يكاد يكون ذكره وكلامه ومشيه وعمله وحياته كلها متصلة بالله سبحانه , ولقد رزقه الله صوتا جميلا مميزا لدرجة تفاعلت معه كل المخلوقات الأخرى , فما شعر داود (عليه السلام) ومن معه إلا والجبال تردد تسبيحه , والملائكة تتلو معه , والطير كذلك صافات , والوحوش ذليلة منكسرة متأثرة بذاك الصوت الصادر من أعماق النفس البشرية الشفافة العرفانية , تلك النفس التي لا تسعد ولا تنشغل إلا بمناجاة الله وذكره سبحانه . بل ولقد أصبحت بعض المخلوقات تفهم لغته ويفهم لغتها , ولقد سمي بصاحب المزامير (وهي ما كان يتغنى به من الزبور) وبقارئ أهل الجنة .
وليس غريبا أن تُخرج تلك الحنجرة المباركة ذاك النغم المقدس الممتزج بريح ذلك الصوّام , ـ صوّام الدهر ـ العبد الأواب, النبي البكاء داود (عليه السلام) ففي رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): (( . . . وأما داود فأنه بكى حتى هاج العشب من دموعه , وإن كان ليزفر الزفرة فيحرق ما نبت من دموعه ))(3).
وكان يسيح في الأرض وينتشر صوته في الفضاء الفسيح تنقله الريح التي أحبت ذلك الصوت وصاحبه, تنقله للآخرين من محبيه من الحيوانات التي عطف عليها وأحبها , بل يروي أنه قد عالج بعض مشاكلها وداواها بعد ما علمه الله منطقها , وآتاه القدرة على فهم لغتها: لغة التسبيح ولغة الحياة. ورغم انشغاله الدائم بتضرعه وبكائه وذكر ربه وتلاوة مزاميره, لم يكن ليهمل حاجات الناس من رعيته فهو راع وهو المسۆول عن رعيته. . لذا كان يفكر بوسائل تسهل لهم النصر على أعدائهم, وتخفف عنهم ثقل الحديد وجهد القتال ومشقة الجهاد.
وما كان ليظن أن الحديد أيضاً ـ رغم صلابته ـ سيتفاعل مع الجسد المبارك , كما تفاعلت الوحوش مع الصوت الحنون صادق اللهجة . . فإذا بالصلب لين, وهو عليه هين. قال تعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيد * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِي السّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) سبأ / 10ـ 11 .
وقال سبحانه : ((. . . وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْرَ وَكُنّا فَاعِلِينَ * وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ)) الأنبياء / 79ـ 80 .
فلقد كان شكل الدروع , وطريقة صنعها ترهقهم وتعيق تحركهم في المعارك , فألان الله له الحديد ليسهل علية صنع السابغات (الدروع) :
(( وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِن بَأْسِكُمْ)). . ونعم لبوس الحرب الدروع من صنع داود (عليه السلام) . . . وبالفعل انتشرت دروع داود (عليه السلام) وكثرت وساهمت في عملية انتصارهم في معاركهم بسبب خفتها وطريقة صنعها الجديدة آنذاك , وتلك نعمة أخرى على بني إسرائيل فهل هم شاكرون؟!
المصادر:
1ـ التفسير المبين/محمد جواد مغينة/ ط2 دار الجواد/ص 131.
2ـ بحار الأنور/ العلامة المجلسي / ج14 / ص3. (نسبة إلى تفسير ألقمي/ص476).
3ـ النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين/ نعمة الله الجزائري/ الأعلمي للمطبوعات / ط8 /ص390.
source : www.tebyan.net