كان عهد الإمام الرضا عليه السلام عهداً متميزاً عن بقية العهود، فقد منحت له الفرصة الكافية للّقاء مع مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، وقد عاصرته عدة أحداث ومواقف منها الصراع بين العلويين والسلطة الحاكمة في بعض السنين، ثم إيقاف الصراع، والصراع بين البيت العباسي بين الأمين والمأمون وانصارهما، إضافة إلى انفتاح الدولة العباسية والمسلمين على التيارات العقائدية الوافدة من الدول الكافرة.
بقلم: السيد كاظم العذاري
المصلحة والوحدة الإسلامية في منهج الإمام على الرضا عليه السلام
ابنا: كان عهد الإمام الرضا عليه السلام عهداً متميزاً عن بقية العهود، فقد منحت له الفرصة الكافية للّقاء مع مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، وقد عاصرته عدة أحداث ومواقف منها الصراع بين العلويين والسلطة الحاكمة في بعض السنين، ثم إيقاف الصراع، والصراع بين البيت العباسي بين الأمين والمأمون وانصارهما، إضافة إلى انفتاح الدولة العباسية والمسلمين على التيارات العقائدية الوافدة من الدول الكافرة.
ففي المجال الأخلاقي كان يحث على مداراة الناس والصبر في البأساء والضرّاء، وهي عوامل مهيّئة لتقريب القلوب ووحدة الصفوف.
قال عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربّه، وسنّة من نبيّه، سنّة من وليّه.
فأمّا السنّة من ربّه فكتمان سرّه...
وأمّا السنّة من نبيّه فمداراة الناس، فانّ الله عزّ وجلّ أمر نبيّه 2 بمداراة الناس...
وأمّا السنّة من وليّه فالصبر في البأساء والضرّاء".
وحثّ على الحلم والصبر والعفو ومقابلة الاساءة بالاحسان والتعاون والتآزر.
وفي المجال السياسي توقفت الحركات العلوية المسلحة عن الخروج على الحكومة العباسية بعد أن غيّر المأمون سياسته تجاه الناس عموماً وتجاه العلويين خصوصاً، وكانت هذه الحركات تابعة في الانتماء والولاء إلى الإمام الرضا عليه السلام لأنها ترى فيه الإمام عليه السلام لمفترض الطاعة، وقد توقفت حركتها المسلحة حينما أصبح الإمام عليه السلام ولياً للعهد.
وكان كثير النصح للحاكم العباسي المأمون بما فيه صلاح الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
فقد كان ينصحه بالعفو عن المخطئين والمسيئين ويقول له: "انّ الله لا يزيدك بحسن العفو إلاّ عزّاً".
وكان يكثر من وعظ المأمون إذا خلا به ويخوّفه بالله ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه.
وكان قد أخبره يما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قُتل اخوه، وبما كان بعض الوزراء يسترون عليه الأخبار، وانّ الناس ينقمون عليه مكان الفضل بن سهل ومكان أخيه ومكان بيعته من بعده.
والظاهر انّ المقصود من الناس هم البيت العباسي وأتباعهم، وإلاّ فانّ عموم الناس قد فرحوا بولاية العهد.
ومن نصائحه قوله للمأمون: "اتق الله في أمة محمد، وما ولاّك من هذا الأمر ونصّبك به، فانّك قد ضيعت أمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك".
وصدرت من الإمام عليه السلام توجيهات قيمة في كيفية ادارة البلدان المفتوحة.
وتدخل الإمام عليه السلام لحماية المأمون من القتل بعد أن هجم عليه أنصار الفضل بن سهل، حيث قال له المأمون: يا سيدي ترى أن تخرج إليهم وتفرّقهم، فركب الإمام عليه السلام وقال للناس: تفرّقوا فتفرقوا.
فقد منع الإمام عليه السلام أنصار الفضل بن سهل من قتل المأمون لكي لا تحدث فتنة بين المسلمين وتضطرب الأمور ويحدث التفكّك والتصدع في الكيان الإسلامي الموحد ضمن دولة واحدة، فهو ليس حفاظاً على شخصه بل حفاظاً على وحدة الدولة المهددة من قبل أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
مستقبل الرسالة والإمامة
سئل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن علّة تنصيب الإمام أجاب: "لعلل كثيرة؛ منها: أن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود، وأُمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم... من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام".
ومنها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس...
ومنها: أنه لولم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغُيّرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون...
وتأتي ضرورة القائد والقيادة لدوره الخطير والعظيم في المجتمع، وتتوقّف جميع المهام والتكاليف على وجوده، وفي ذلك يقول الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء... إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدين وعز المؤمنين. إنَّ الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي؛ بالإمام تقام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف...".
والإمامة هي تنصيب من الله تعالى كما ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ومنهم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث قال: "... انّما يوصي بأمر الله عزّ وجلّ... لا والله ما هو إلاّ عهد من رسول الله' رجل فرجل مسمّى".
وتظافرت الروايات أن الإمام أوصى بإمامة الإمام محمد الجواد عليه السلام من بعده.
وبما ان الإمامة هي التي تواصل المسيرة وتتبنى التغيير الشامل، فانّ الله تعالى ثم رسوله قد اولاها أهمية استثنائية، ووجه انظار المسلمين اليها; في شروطها وخصائصها، وفي تشخيصها في الواقع، فأعلن عنها إعلاناً جلياً وآخر خفياً، ابتداءً من أوّل مراحل البعثة حتى آواخر أيامه الشريفة، فلم يترك مناسبة أو واقعة إلاّ وأشار إليها، واكدّ ضرورة الاقتداء بها ومناصرتها، وجعلها عدلاً للقرآن الكريم، فلم يترك الأمة سدىً، وإنّما جعل لها إعلاماً بارزة اتّفق المسلمون على عددهم واختلفوا في مصاديقهم، فهم اثنى عشر إماماً وخليفة أولهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وآخرهم الإمام محمد المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف الذي تختم به الإمامة، يحقق حلم الأنبياء، وآمال البشرية جمعاء باقامة العدل والقسط وانقاذها من جميع ألوان الانحراف الفكرية والسلوكية، وتحريرها من ضلال الأوهام وظلمة الخرافات، وتحريرها من عبادة الإلهة المصطنعة، وانقاذها من الإنسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب النفوس من بواعث الإنانية والحقد والعدوان، وانقاذ السلوك من الرذيلة والانحطاط; بتهيئة العقول والقلوب للتلقي والاستجابة للمنهج الإلهي المرسوم، واستتباعها بالعمل الإيجابي الذي يترجم الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وممارسات وعلاقات متجسدة في الواقع; ليكون الإنسان والمجتمع بمستوى المسؤولية المناطة به في الحياة والمتمثّلة بحمل الإمانة وخلافة الله تعالى في الأرض، والترقي في سلم الكمال والسمو الروحي والسلوكي.
انّ ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف هو مقدمة لإقامة الحكومة الاسلامية العالمية وإنقاذ البشرية من حالة الفراغ العقائدي والخواء الروحي، وإنقاذها من القلق والاضطراب الفكري والروحي والسلوكي، وانّ ما تعيشه من فوضى ومن إحباطات متتالية جعلها تتوجه نحو المنقذ ونحو المصلح الذي بشرت به جميع الديانات ليحقق لها النموذج الأمثل سياسياً واجتماعياً واخلاقياً وإقتصادياً الذي يحقق لها الهداية والصلاح والعدالة والسعادة الدائمة بعد قرون من الضلالة والظلم والتعاسة.
وقد أولى الإمام الرضا عليه السلام اهتماماً خاصاً بتوجيه انظار المقربين الى غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشريف والتمهيد لها.
عن أيوب بن نوح قال :قلت للرضا عليه السلام: انّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ،وأنه يردّه الله عز وجل إليك من غير سبق ؛فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك.
فقال عليه السلام: "مامنا أحد اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الإصابع وحملت إليه الأموال إلا اغتيل ... حتى يبعث الله عز وجل لهذا الأمر رجلاً خفي المولد والمنشأ غير خفي في نسبه".
ودخل دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت على الإمام علي الرضا عليه السلام وأنشد قصيدته التائية الشهيرة:
(مدارس آيات خلت من تلاوة) إلى أن قال: قال لي الرضا عليه السلام: أفلا ألحق بيتين بقصيدتك؟ قلت بلى يابن رسول الله (ص) فقال:
وقبر بطوس يالها من مصيبـة
إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً
ألحت على الأحشاء بالزفرات
يفرج عنا الهـم والـــكربات
قال دعبل: ثم قرأت باقي القصيدة عنده، فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خـارج
يميز فينا كل حـق وباطــل
يقـوم على اسـم الله والبركات
ويجزي على النعماء و النقمات
بكى الإمام الرضا عليه السلام بكاءً شديداً، ثم رفع رأسه إلى دعبل، وقال له: "يا خزاعي .. نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين .. فهل تدري من هذا الإمام"؟
فقال: لا يامولاي .. إلا إنى سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد و يملأها عدلاً كما ملئت جوراً..
فقال: "يادعبل الإمام بعدي: محمد ابني، وبعده علي ابنه، وبعد علي: ابنه الحسن، وبعد الحسن: ابنه الحجة القائم، وهو المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم، حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً".
وبعد ان أدّى الإمام مسؤوليته في ربط الكثير من المسلمين بمنهج أهل البيت عليهم السلام. وقد أحسّ المامون بتنامي شعبية الإمام عليه السلام حتى داخل الدولة والبلاط الحاكم، وحينما لم يجد مصلحة في ولاية العهد أقدم على التخلّص من الإمام عليه السلام باغتياله عن طريق السم في آخر صفر سنة 203 هجرية كما هو المستفاد من اغلب الروايات.
source : www.abna.ir