ابنا : قال تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)).
اتفقت كلمة المسلمين على أن هذه الآية المباركة نزلت في معركة أحد، عندما فر المسلمون من المعركة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله مع مجموعة قليلة ممن كانوا معه، وذلك بعدما أشيع خبر يفيد بوفاته صلى الله عليه وآله، فهذا هو سبب النزول باتفاق جميع المسلمين، حيث أنهم متفقون في سبب نزول هذه الآية ولا خلاف بينهم في ذلك، ولكنهم مختلفون في المصاديق التي يمكن الاستشهاد أو الاستدلال بهذه الآية عليها.
لذلك، ذهب فريق من المسلمين، (وهم الشيعة الإثني عشرية) للاستشهاد بهذه الآية المباركة على حركة الانقلاب التي حدثت بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، والتي تسببت في إقصاء أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) عن الخلافة السياسية، في حين ذهب فريق آخر من المسلمين، (وهم بعض أهل السنة) للاستشهاد بهذه الآية على شرعية الحروب التي شنها الخليفة أبو بكر على المرتدين في فترة خلافته، والتي تسمى في التاريخ بحروب الردة.
ونحن هنا لا نريد أن نناقش هذه القضية من ناحية تصويب فريق من المسلمين على حساب تخطئة فريق آخر، فذاك أمر خارج عن هدفنا من هذا المقال، لأننا إذا أردنا أن نناقش هذه القضية بهذه الكيفية، فإننا لن نأتي بجديد في ذلك، وسنكرر حينها ما ذكره الآخرون. والأمر الآخر الذي يجعلنا ننأى بأنفسنا عن ذلك، هو أننا لا نريد أن نعيش في الماضي ونفهم الانقلاب على أنه حدث تاريخي وقع في الماضي وانتهى، بل نريد أن نقترب في معالجتنا لهذه القضية من الحاضر لنعيش فيه، ولنفهم الانقلاب فهماً آخر (أعمق) يجعلنا نتفاعل معه بصفته حدث مستمر ومتواصل لم تسجل نهايته بعد.
إنني أعتقد أن حركة الانقلاب على رسالة الرسول الأكرم (ص) لم تكن فقط بإقصاء أمير المؤمنين (ع)، ولم تكن فقط بحركة الردة عن الإسلام، وإنما هي تشمل ذلك وغيره، فباعتقادي بأن أي حركة تخالف الإسلام في مبادئه وأصوله أو في تعاليمه وأحكامه يمكن أن نفهمها بأنها حركة انقلابية على الرسالة المحمدية بوجه من الوجوه. وصحيح أن الانقلاب العقائدي هو أوضح المصاديق لهذه الآية المباركة، غير أنه يمكن أن يكون هناك بالإضافة إلى ذلك انقلاب فقهي على الأحكام والشريعة الإسلامية، وانقلاب أخلاقي على الأخلاق والقيم الإسلامية، فكل هذه انقلابات -إن صح التعبير- ينبغي أن تثار وتناقش في أوساط المسلمين، وينبغي أن يركز عليها حتى من قبل الذين يؤمنون بولاية الإمام علي (ع)، وبأنه هو الخليفة الشرعي لرسول الله صلى الله عليه وآله بالنص الإلهي.
وهناك العديد من الروايات عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ربما نستطيع أن نستدل بها على هذا المعنى، منها ما روي عنه صلى الله عليه وآله من قوله لأصحابه -كما جاء في بعض الروايات- بأنهم سيتبعون سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه... إلى آخر الرواية، وهذا يعني فيما يعنيه بأن الانقلاب بعده ليس كما يتصوره البعض منا بأنه محصور فقط وفقط في الانقلاب على الخلافة والحكم. كلا، بل إنه أوسع من ذلك بكثير، ويشمل بالإضافة إلى ذلك الكثير من الموارد الأخرى.
وكذلك من هذه الروايات التي نستفيد منها لتأكيد هذا المعنى، ما نقله أحمد بن حنبل في مسنده عن أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ جاء فيه ما رواه عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: ((يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فأنطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها الآخرة شر من الأولى)) .
وكذلك ما نقله الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد من أن النبي صلى الله عليه وآله لما أحسّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي (ع) واتبعه جماعة وتوجه إلى البقيع وقال: إنّي أُمِرت بالاستغفار لأهل البقيع فانطلَقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يَتْبَع أولها آخرها، ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً... إلى آخر الرواية.
وفي هذه الكلمات التي نقلناها من بعض الروايات، نجد أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله كان يعيش القلق على الأمة من هذه الفتن التي وصفها بقوله: كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، وذلك لأنها ستنتج انقلاباً على الرسالة في مضمونها ومبادئها وتعاليمها، وإلا فالرسالة من حيث اسمها ستبقى باقية إلى الأبد، ولهذا نجده صلى الله عليه وآله يقول فيما يروى عنه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء). والمقصود طبعاً هو غربته في مبادئه وتعاليمه وأحكامه، وإلا فالإسلام كاسم لا يزال موجوداً وسيظل موجوداً.
ومما يؤكد ذلك، ما روى عنه صلى الله عليه وآله في قوله: (يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا أسمه ومن القرآن إلا رسمه)، فالانقلاب إذاً هو على مبادئ الإسلام وتعاليمه، وليس فقط على اسمه بالردة عنه أو على بعض تعاليمه فقط كعدم إتباع أمر الرسول صلى الله عليه وآله في خلافة المسلمين، فالانقلاب كما نفهمه من الروايات الواردة عنه يشمل ذلك وغيره أيضاً.
ومن المؤسف حقاً أن يكون من المسلمين ممن ينقلب على الرسالة المحمدية بهذه الصورة، أي أن ينقلب على مبادئها وأصولها وأحكامها وتعاليمها، ولا نحتاج لإثبات وقوع ذلك لعناء كبير، فيكفينا أن نقارن بين الإسلام كرسالة جاءت من الله سبحانه وتعالى من خلال النبي صلى الله عليه وآله، وبين إسلامنا اليوم الذي نعيشه ونتعاطاه ونمارسه نحن المسلمون باسم الإسلام، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر به الإسلام عاد عندنا غريباً، والأفضلية بالتقوى كمعيار وضعه الرسول صلى الله عليه وآله، وتحدث عنه بقوله: (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى.كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تراب)، وتحدثت عنه الآية القرآنية في قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أصبح عندنا غريباً أيضاً، لأن الأفضلية عادت بالنسب أو بالغنى والثروة أو بالعلم أو بالوجاهة والمكانة الاجتماعية أو بغيرها من الأمور التي لا يقرها الإسلام، كما أن إقامة الحد على المخطأ بغض النظر عن مكانته الاجتماعية كما شرع الإسلام عاد فينا غريباً كذلك، لأن المخطأ ذو الشأن لا يعاقب وربما لا يعاتب أصلاً، أما المخطأ المسكين والضعيف، فلا يتردد أحد في معاقبته حتى ولو كان جرمه أقل من جرم الأول، وكذلك نجد أن قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لا يعمل به كما وجه الإسلام. وهكذا عاد الإسلام غريباً كما بدأ غريباً في الكثير من الموارد والأمور كما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد سمعت مقولة أعجبتني ومن المناسب ذكرها في هذا المقام، لأنها معبرة جداً، وهي عبارة نقلها بعضهم عن بعضهم وهي قوله: (اللهم انصر الإسلام على المسلمين)، فهذه العبارة تلخص الكثير من الكلمات التي يمكن أن تُقال في هذا الصدد.
وقد يستنكر البعض علينا ويقول: بأن الالتزام ببيعة الإمام علي (ع) وبخلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله هو التزام بمبادئ الإسلام وبشريعته، فمن التزم بذلك فلقد التزم بمبادئ الرسالة الإسلامية وتعاليمها، ولذلك لا يصح أن نسم هؤلاء بالانقلاب بالشكل الذي تطرقتم إليه.
وهذا الأمر قد يكون صحيحاً من الناحية النظرية، أما على صعيد الواقع، فالمسلمون منقلبون على الإسلام في الكثير من الأمور والموارد، ولقد ذكرنا بعضاً منها فيما سبق، وحتى الذين يدعون الالتزام ببيعة الإمام علي (ع) وبخلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله هم منقلبون عليه أيضاً بنحو من الأنحاء، فصحيح أن هؤلاء يمكن أن يُقال بأنهم أفضل حالاً من غيرهم من هذه الناحية إلا أنه لا يمكن تبرئتهم عن الانقلاب بكل صوره وأشكاله، ويمكننا أن نقارن واقع هؤلاء مع مبادئ الإسلام وتعليماته لنرى إن كانوا متطابقين معه فعلاً أو منقلبين عليه !
ختاماً نقول: لابد أن يكون اهتمامنا بقضية الانقلاب على الرسالة الإسلامية بكافة صورها وأشكالها، سواءً في الارتداد عنها، أو في التخلف عن بعض مبادئها أو بعض تعاليمها وأحكامها، كما ينبغي أن لا نقتصر في حديثنا فقط على قضية الخلافة والحكم بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وإن كان فيها ما فيها من الدلالة على ذلك، لأننا لو فعلنا ذلك فسوف ننشغل بها عنها، (أي سوف ننشغل بهذه القضية عن الرسالة) كما يفعل الكثيرون.
source : www.abna.ir