بسم الله وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين
من أحداث شهر رمضان المبارك وفاة أبي طالب ابن عبد المطلب (ع)، وذلك في 7 رمضان في السنة 10 للبعثة الشريفة. (وإن كان قيل في رجب أيضاً.) ولأن لهذا الرجل فضلاً على كل مسلم ومسلمة منذ فجر البعثة، ولأنه لم يظلم في التاريخ الإسلامي أحد كما ظلم هو، فإني سأحاول القيام بشيء بسيط من الواجب تجاهه في هذه الأيام المباركة.
أولاً: لم يظلم أحد كما ظلم /السائد عند الناس
عندما كنت في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، أقف مع بعض أصدقاء المحلة - محلتنا الشهيرة نجيب باشا في بغداد التي يحد حدها الغربي شارع الإمام الأعظم (أي أبو حنيفة) الممتد من ساحة باب المعظم إلى جسر الأئمة حيث مرقد أبي حنيفة، ويحد حدها الشرقي شارع أبي طالب الممتد من ساحة باب المعظم إلى راغبة خاتون - وكان في رأس الشارع عمود عليه القطعة المعدنية التي تحمل اسم الشارع " شارع أبي طالب" - أشار أحد الأصدقاء إلى القطعة وقال: "تصوروا اسم الشارع على اسم أبي طالب وهو قد مات كافراً". لم أفاجأ بهذا لأن الذي كنت قد تعلمته منذ بدء المرحلة الابتدائية في الدراسة الدينية (ومعه ما نسمعه من التلفزيون وغيره، ويسمعه أي مسلم سنّيّ) أن أبا طالب عم النبي (ص) لم يؤمن بالإسلام حتى مات كافراً. ولكن صاحبي فاجأني بمعلومة جديدة لم أكن أعرفها عندما قال: "إنه في النار التي عند قدميه تصعد إلى رأسه ويغلي منها دماغه"!
هذا الوصف السريالي ظل غير مستساغ عندي، وبقي ملازماً لما بقيت أجده مفارقة كبرى أن يقيض الله تعالى لإيواء نبيه (ص)، وتربيته وكفالته، ثم نصرته عندما يعلن دعوته، عمه سيد قومه ويبقى هذا العم معانداً حتى يموت كافراً بتلك الرسالة التي نصرها أشد نصرة.
بعد ذلك بسنين قرأت ما رواه روى البخاري ومسلم وغيرهما عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله: هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم، هو في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار!
وبعد أن عرفت حقيقة الأمر، كجزء من الانفتاح على مذهب أهل البيت (ع)، وانكشاف الأكاذيب والافتراءات الأموية العباسية ومنها هذا الافتراء، يكفي تعليقان لنسف هذا الحديث:
1- الضحضاح يستخدم للسوائل كالماء وليس للنار!
2- لماذا في الدرك الأسفل؟ أليس الدرك الأسفل للمنافقين؟!
ثانياً: حنيفية أبي طالب (ع)
بعض الرواة الذين نقلوا أحاديث عن عدم إسلام أبي طالب يروون عن آخرين أنهم كانوا أحنافاً
كزيد بن عمرو بن نفيل: أنه كان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان ومات قبل البعثة، وأن النبي(ص) "ترحم عليه وقال رأيته في الجنة يسحب ذيولاً".
وهذا قس بن ساعدة يقول فيه الرسول(ص): ((رحم الله قساً أني أرجو أن يبعثه الله أمة واحدة)). فما فعله قس سوى أنه اعتزل قومه وانصرف إلى الحنيفية، وكذلك فعل عبد المطلب وأبو طالب.
قال الإمام علي(ع): «والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ»، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: «كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به».
فلماذا، ترى، لا يكون أبو طالب من الأحناف الذين لم يعبدوا الأصنام، وهو ما أكده ابنه علي (ع)، وأكيد أنه أعرف بأبيه من البخاري ومسلم وجميع الناس؟ فإذا كان من الأحناف، هل يعقل أنه لا يؤمن برسالة ابن أخيه (ص) مع أنه سبق أن سمع من أبيه عبد المطلب أنه (ص) سيكون له شأن إضافة إلى ما روي من الإرهاصات منذ ولادته (ص)؟
ثالثاً: إستغفار النبي (ص) لأبي طالب (ع)
1- وهناك حادثة لا يجوز تجاوزها وهي حادثة الاستسقاء
"وقد روي أن أعرابياً جاء إلى الرسول(ص) في عام جدب فطلب من النبي (ص) العون:
وليسَ لنا إلاّ إلَيكَ فِرارُنا ***** وأينَ فِرارُ الناسِ إلاّ إلى الرُّسْلِ
فقام النبي(ص) فحمد الله وقال: ((اللهم اسقنا غيثاً مريئاً هنيئاً مريعاً ....)) فما رد يده إلى نحره حتى أمطرت السماء وجاء الناس يضجون: الغرق الغرق يا رسول الله!!
فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)).
فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل، فضحك رسول الله(ص) حتى بدت نواجده ثم قال: ((لله درّ أبي طالب لو كان حياً لقرّت عينه، من ينشدنا قوله؟)) فقام علي فقال: ((يا رسول الله لعلك أردت:
وأبيض يُستَسقى الغَمامُ بوَجِهِهِ ثمالُ اليَتامى عِصمَةٌ للأرامِلِ
قال: أجل)) فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة ورسول الله(ص) يستغفر لأبي طالب على المنبر".
فلو كان أبو طالب قد مات مشركاً فإن النبي (ص) لا يخالف الأمر القرآني ﴿ما كانَ للنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنوا أنْ يَستَغفِرُوا للمُشرِكِين﴾.
2- وحين مات أبو طالب قال(ص) لعلي(ع): ((إذهب فاغسله وكفّنه وواره غفر الله له ورحمه)). و"جعل رسول الله(ص) يستغفر له أياماً لا يخرج من بيته" كما روي.
رابعاً: بل إسلامه (ع) الصريح
جاء في السيرة النبوية "أن أبا طالب عند وفاته جمع قريشاً وخطبهم خطبة يحثّهم فيها على اتّباع النبي(ص) وقال لهم أيضاً: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا".
فهل من عاقل يدعو قومه إلى إطاعة وتصديق رجل يكون فيه فلاحهم ورشدهم ولا يتبعه هو!!
• وأما أن النبي (ص) حاول معه جاهداً كي ينطق بلا إله إلا الله كي يتوسل بها الله ليشفع له بينما كان كفار قريش يمنعونه وأن أبا طالب رفض وقال: "بل على ملة عبد المطلب" فهذه رواية كاذبة لأن النبي (ص) لا يتوسل بكلمة يقولها الإنسان استجابة لابن أخيه وليس اعتقاداً بها. على أية حال، ملة عبد المطلب هي ملة إبراهيم (ع).
خامساً: حجية شعر أبي طالب (ع)
1- العرب يعتنون بالشعر وقائليه والتعليق عليه، حتى ولو كان قصيدة واحدة (كما فعل والدي في كتابه المرجع "شعراء الواحدة") وهذا لم يحصل مع أبي طالب لأن في شعره (أولاً) صدعاً بإيمانه الواضح (ثانياً) فضحاً لبطون قريش الكافرة (ثالثاً) ما يقابل ذلك من تصدي آل أبي طالب لنصرة النبي (ص) بعد الإيمان به.
بحيث أن الغالبية الساحقة من المسلمين لا يعلمون أنه قال شعراً.
2- (شبهة أولى) بأن هذا الشعر منسوب، فنقول أن كل شعر العرب منسوب. وأن أي شك في المنسوب يجب أن يستند إلى حقائق تاريخية، فلو نسبت قصيدة في مدح الرسول(ص) إلى رجل كان من عتاة المشركين لشككنا في صحة نسبتها. أما أن ينسب إلى أبي طالب وهو الذي ربّاه وحماه وفضّله على أبنائه فما هو موضع الشك فيه؟
3- (شبهة ثانية) أن شعر أبي طالب موضوع، وهي تهمة باطلة، لأن معظم شعره رواه ابن إسحق وابن هشام. وبما أن ابن إسحق قد جمع شعر أبي طالب في أوائل القرن الثاني الهجري وذلك حوالي مائة عام قبل أن يتم جمع الحديث وما ضمه من روايات مختلفة عن عدم إسلامه، فمن هو الذي تنبأ في القرن الأول الهجري بأن التدوين في القرن الثاني للهجرة سوف يكفّره لذا قام بوضع الشعر لسد الطريق أمام ذلك؟
سادساً: شعر أبي طالب (ع) في نصرة النبي (ص) ودينه
كتاب "الرسول والرسالة في شعر أبي طالب" (الذي استعرته عنواناً لهذه المحاضرة) للشيخ الأزهري معوض عوض ابراهيم، في الكويت، وكان الشيخ له برنامج في تلفزيون الكويت، وكان هادئاً له قبول في كلامه. عندما وقع نظري على كتابه في مكتبة "وكالة المطبوعات" في الكويت، قمت بشرائه. الكتاب يقع في 98 أو 100 صفحة، كلها تروي أبيات أبي طالب في نصرة النبي (ص) والدين، ما عدا الصفحتين الأخيرتين فقط، بحيث لو قطعتهما وأعطيت الكتاب لأي عاقل لما شك في عمق إيمان هذا الرجل... ولكن...
ولكنه أسير العقيدة الفاسدة في أبي طالب، فكان لا بد أن يجد لها حلاً، فقال بأن أبا طالب مصداق قوله تعالى ((إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء))...
وهو نفس ما قاله عمرو خالد أن "شخصية أبي طالب عجيبة"، فأرسلت إليه رسالة أخبره بأن كلامه هذا هو العجيب، مع أبيات أبي طالب في ذلك...
فقد روي له شعر يتحدث عن النبي (ص) ما قبل البعثة. فبخصوص ذهاب النبي (ص) معه إلى الشام، في مطلع قصيدة:
إنَّ ابنَ آمنةَ النَّبيَّ محمّداً **** عِندِي يَفوقُ مَنازِلَ الأولادِ
يذكر تحذير الراهب بحيرا له لتجنب شر اليهود، يقول:
أتبغونَ قتلاً للنبيِّ محمَّدٍ **** خُصِصتُمْ على شُؤمٍ بطولِ أثام
وهكذا نرى أنه من عهد مبكر حدثنا أبو طالب عن ابن أخيه بصفة النبوة.
وحين يسلم حمزة يهتز أبو طالب فيخاطبه
وَحُطْ من أتى بالحقِّ منْ عندِ **** ربِّهِ لقد سرَّني إذ قلتَ أنَّكَ مؤمنٌ
بصدقٍ وعزمٍ لا تكنْ حَمْزُ **** كافرا فكُنْ لرسولِ اللهِ في اللهِ ناصرا
ولما اجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب معه ورأى أن قد أمتنع بهم فقال:
نصرتُ الرسولَ رسولَ المليكِ ***** بِبِيضٍ تلألأُ لَمعَ البُروق
أذبُّ وأحمـي رسولَ الإلـهِ ***** حِمايةَ حـامٍ عليهِ شَفِيـق
وقال في قصيدة، لم يذكر البعض غيرها من شعره لأن فيها شبهة التوقف عن الدخول في الدين:
واللهِ لن يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ ***** حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دَفينا
فاصدَعْ بأمرِك ما عليكَ غَضاضة ٌ ***** وأبشِرْ بذاكَ، وقرَّ منهُ عُيونا
ودَعَوْتَني، وزَعمتَ أنك ناصحٌ ***** ولقد صدقْتَ، وكنتَ ثَمَّ أَمينا
وعَرضْتَ دِيناً قد علمتُ بأنَّهُ ***** مِن خيرِ أديانِ البريَّة ِ دِينا
لولا المَلامة ُ أو حِذاري سُبَّة ً ***** لوجَدْتني سَمحاً بذاك مُبِينا
البعض شكك في البيت الأخير. ولكن حتى لو افترضنا أنه لأبي طالب، فهو اعتذار عن عدم التصريح بها في قوله (مبينا) أي أنني كنت صرحت بذلك الإيمان لولا حذارى سبة.
قال الإمام علي(ع): «كان والله أبو طالب عبد مناف بن عبد المطّلب مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش».
وعندما هاجر المسلمون هجرتهم الأولى إلى الحبشة، أرسل أبو طالب للنجاشي:
تعلم خيارَ الناسِ أنَّ محمداً ***** نَبيٌّ كموسى والمسيحِ بنِ مريمِ
أتى بالهُدى مِثلِ الذي أَتَيا بِهِ ***** وكُلٌّ بأمرِ اللهِ يهدِي ويعصِمِ
وأنَّكُمُ تتلُونـَهُ في كتابِكـُـمْ ***** بِصِدْقِ حديثٍ لا حديثِ التَّرَجُّمِ
فكتبت قريش صحيفة وعلقوها بالكعبة، يعلنون مقاطعة بني هاشم. ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وخرج الهاشميون وبعض أوليائهم إلى الشعب. ولكن أبا طالب أعلن موقفه من ابن أخيه أنه إيمان بنبوته:
ألمْ تعلموا أنّا وَجَدنا محمّداً ***** نبيّاً كموسى خُطَّ في أوَّلِ الكُتْبِ
وأنَّ عليهِ في العبادِ مَحبَّـةً ***** ولا خيرَ مِمَّنْ خَصَّهُ اللهُ بالحُبِّ
وفي قصيدة أخرى يقول:
يرجُونَ أنْ نَسخِي بقتلِ محمّدٍ ***** ولمْ تَختَضِبْ سُمرُ العَوالِي مِنَ الدَّمِ
على ما مَضى مِنْ مَقتِكُمْ وعُقوقِكُمْ ***** وغشيانِكُمْ في أمركُمْ كُلَّ مَأثَمِ
وظُلمِ نَبِيٍّ جاءَ يدعو إلى الهُدى ***** وأمرٍ أتى مِنْ عندِ ذِي العَرشِ قَيِّمِ
نبيٌّ أتاهُ الوَحيُ مِنْ عندِ ربِّهِ ***** ومَنْ قالَ لا يقرَعْ بها سِنَّ نادِمِ
فكانت نصرته لا مثيل لها، فقد كان النبي(ص) إذا أخذ مضجعه وصار مكانه معروفاً، جاءه أبو طالب بعد مدة فينهضه عن فراشه ويضجع ابنه علياً(ع) مكانه.
((هذا الجزء اختصرته لضيق الوقت... فقال له (ع) ليلة: «يا أبتاه إنّي مقتول»، فيجيبه أبو طالب بأبيات منها:
قد بذلناك والبلاء شديد **** لفداء الحبيب وابن الحبيب
فيوضح علي (ع) موقفه:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ***** ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد ***** نبيّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا»
فهؤلاء قوم يحامون عن نبي الهدى، لا أنهم يفعلون ذلك حمية عشائرية.))
لامية أبي طالب
ومما قاله أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة التي لم يستطع الخصوم إخفاءها لأن الكثير منها جاء في عدة روايات وشواهد، وهي مما كتبه حين كان المؤمنون في الشعب / أي بعد كتابة الصحيفة:
كذبتُمْ وبيتِ اللهِ نُبزي محمداً ***** ولمّا نُطاعِنُ دونَهُ ونناضِلِ
ونُسلِمُهُ حتى نُصَرَّعَ حولَهُ ***** ونُذهَلُ عنْ أبنائنا والحلائِلِ
وأنّا لَعَمرُ اللهِ أنْ جدَّ ما أرى ***** لتَلتَبِسنْ أسيافُنا بالأنامِلِ
ويذكر فيها أبا سفيان صخر بن حرب، وكيف أنه يعرف دخيلة نفسه:
ومَرَّ أبو سُفيانَ عنِّي مُعرِضاً ***** كما مَرَّ قِيلٌ مِنْ عِظامِ المَقاوِلِ
ويُخبِرُنا فِعلَ المُناصِحِ أنَّهُ ***** شَفِيقٌ ويُخفِي عارِماتِ الدَّواخِلِ
ويمتدح زهير ابن أبي أمية المخزومي أخا أم سلمة أحد الذين سعوا في نقض الصحيفة:
وَنِعْمَ ابنُ أُختِ القومِ غيرُ مُكذّبٍ ***** زُهيرٌ حُساماً مُفرَداً مِنْ حَمائِلِ
ويذكر غيرها من بطون قريش، ما حري بكل باحث أن ينظر فيه ليعلم كيف كانوا ومنازلهم وكيف تم تصوير البعض منهم بشكل يختلف عن الحقيقة.
ثم يخبرهم بالمستقبل وحتمية انتصار الدين:
فأبلِغْ قَصيّاً أنْ سيُنشَـرُ أمرُنــا ***** وبشِّرْ قَصيّاً بَعْدَنا بالتخاذُلِ
ثم يعلن ذلك الإعلان الواضح الواضح:
لقد علِموا أنَّ ابنَنا لا مُكذَّبٌ ***** لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِلِ
فأيّدهُ ربُّ العبـادِ بنصــرِهِ ***** وأظهرَ دِيناً حقُّهُ غيـرُ ناصِلِ
وعندما أخبره النبي (ص) أن الأرضة قد أكلت الصحيفة ما عدا اسم الله:
وأنْ كانَ أحمُد قد جاءهم ***** بحَقٍّ ولمْ يأتِهِم بالكذب
ولكنهم أصروا على المقاطعة رغم ما رأوه من الآيات في شأن الصحيفة، فقال:
وقد كانَ في أمرِ الصحيفةِ عِبرةٌ ***** متى ما يُخَبَّرُ غائبُ القومِ يَعجَبِ
مَحا الله منها كُفرَهُمْ وعُقُوقَهُمْ ***** وما نَقِموا من باطِلِ الحَقِّ مُعْرَبِ
وأمسى ابْنُ عبدِ اللهِ فينا مُصَدَّقاً ***** على سَخَطٍ مِنْ قَومِنا غيرِ مُعتَبِ
وجاء أبو جهل إلى الرسول(ص) مرة وبيده حجر وقد عزم أن يضربه به حين يسجد في صلاته فانقبضت أصابعه على الحجر، فقال أبو طالب:
وأعجَبُ مِنْ ذاكَ في أمرِكُمْ ***** عجائِبُ في الحَجَرِ المُلصَقِ
بكَفِّ الذي قامَ في حينِهِ ***** إلى الصابِرِ الصادِقِ المُتَّقِي
فأيبَسَهُ اللهُ في كَفِّهِ ***** على رَغْمِهِ الْخائِنِ الأحمَقِ
ونظم أبو طالب أبياتاً يطري فيها ابن أخيه وصدقه منذ طفولته ويؤكد انتصاره له فقال:
أنتَ النبيُّ محمّدُ ***** قَرْمٌ أغَرٌّ مُسَوّدُ
أنّى تُضامُ ولَمْ أَمُتْ ***** وأنا الشجاعُ العَربَدُ
وبنو أبيكَ كأنَّهُمْ ***** أُسْدُ العَرينِ توقَّدوا
ولقد عَهِدتُكَ صادِقاً ***** في القولِ لا تَتَزَيَّدُ
ما زِلْتَ تنطِقُ بالصَّوابِ ***** وأنتَ طِفـلٌ أمـرَدُ
سابعاً: شاعر يقف جميع شعره في قضية واحدة
قضية ملفتة جداً، إذ ربما فيما عدا ما قاله في عثمان بن مظعون، والذي هو في نفس السياق، فإن جميع ما روي من شعر أبي طالب هو في نصرة النبي (ص) والإسلام. حتى الأبيات في ابن مظعون تعلن الإيمان بالرسالة المحمدية:
فعندما عدت بنو جمح على عثمان بن مظعون قال أبو طالب:
ألا ترونَ أذَلَّ اللهُ جمعَكُمُ ***** أنّا غَضِبنا لعُثمانِ بْنِ مَظعُونِ
أوْ تؤمنوا بكتابِ مُنزَلٍ عَجَبِ ***** على نبيٍّ كموسى أو كِذِي النُّونِ
ثامناً: الدرجة الحقيقية لأبي طالب (ع)
بعد كل هذا الإعلان الصريح، ومن رجل قام بذلك الدور المفصلي الحاسم في تلك الفترة الأولى العصيبة، هل نعجب من قول إمامنا الصادق(ع) وهو يعلق على رواية ضحضاح النار الآنفة: ((كذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً))؟
أو من تعليقه الآخر عليها أيضاً: ((كذبوا، والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان، لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم))؟
أخيراً: أول الأنبياء ميثاقاً
روي أن النبي (ص) قال بأنه آخر الأنبياء مبعثاً ولكنه أول الأنبياء ميثاقاً. وهذا نجده بشكل غير مباشر في بيتين لأبي طالب يرسم صورة عن العلاقة بين الله تعالى وصفيه من دون خلقه:
لقد أكرمَ اللهُ النبيَّ محمّداً ***** فأكرَمُ خَلْقِ اللهِ في الناسِ أحمدُ
وشَقَّ لَهُ مِنْ أسمِهِ لِيُجِلَّهُ ***** فَذُو العَرشِ مَحمودٌ وهذا محمّدُ
فهو يؤكد هذا الاسم الفريد الذي عندما سماه به جده عبد المطلب تعجبوا منه وسألوه "ما محمد؟" أجاب أنه يجمع صفات الحمد أو الصفات المحمودة.
هنا أبو طالب يقول أن حتى اسمه (ص) إنما هو اختيار من عند ربه سبحانه وتعالى.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على محمد وآله الهداة.
غسان نعمان ماهر
source : sibtayn