تمثل نصوص القرآن الكريم أقدم النصوص التاريخية التي تتمتع بالصحة والدقة والمعاصرة لأحداث عصر الرسالة الإسلامية، والمنهج العلمي يفرض علينا أن لا نتجاوز نصوص القرآن الكريم فيما يخص عصر النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) الذي نزلت فيه الآيات حين بعثته واستمرت بالنزول حتي وفاته. وإذا عرفنا أن الروايات التاريخية المتمثلة في كتب الحديث والسيرة قد تأخّر تدوينها عن عصر وقوع الحوادث أوّلاً، كما أ نّها قريبة من الدس وتطرق التزوير إليها ثانياً؛ كان من الطبيعي والمنطقي أن نعرضها علي محكمات الكتاب والسنة والعقل لنأخذ ما يوافقها ونرفض ما يخالفها. وينبغي أن لا يغيب عنا أن النبوة سفارة ربّانية ومهمة إلهية تتعيّن من قبله سبحانه وتعالي لغرض رفد البشرية بالهداية اللازمة لها علي مدي الحياة. وأن اللّه إنما يصطفي من عباده مَن يتمتّع بخصائص فذة تجعله قادراً علي أداء المهامّ الكبري المرادة منه وتحقيقها بالنحو اللائق. إذن لابدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالي مستوعباً للرسالة وأهدافها وقادراً علي أداء الدور المطلوب منه علي مستوي التلقيّ والتبليغ والتبيين والتطبيق والدفاع والصيانة . وكل هذه المستويات من المسؤولية تتطلب العلم والبصيرة (المعرفة ) وسلامة النفس وصلاح الضمير والصبر والإستقامة والشجاعة والحلم والإنابة والعبوديّة للّه والخشية منه والإخلاص له والعصمة (التسديد الرباني ) علي طول الخط. ولم يكن خاتم المرسلين بدعاً من الرسل بل هو أكملهم وأعظمهم فهو أجمع لصفات كمالهم واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. ومن أبده القضايا ومن مقتضيات طبائع الأشياء أن يكون المرشَّح لمهمّةٍ ربانيّة كبري علي استعداد تام لتقبّلها وتنفيذها قبل أن يتولّي تلك المهمة أو يرشّح لأدائها. إذن لابد للنبي الخاتم أن يكون قد أحرز كل متطلّبات حمل هذه المسؤولية الإلهية وتوفّر علي كل الخصائص اللازمة لتحقيق هذه المهمة الربانية قبل البعثة المباركة. وهذا هو الّذي تؤيده نصوص القرآن الكريم. 1 ـ قال تعالي: (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)1. 2 ـ وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَي )2. 3 ـ وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَ نَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ )3. 4 ـ وقال أيضاً: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)4. إذن مصدر الوحي هو اللّه العزيز الحكيم. والمرسَلون رجالٌ يُوحي اليهم اللّه سبحانه معالم توحيده وعبادته ويجعلهم أ ئمةً يهدون بأمره كما يوحي إليهم تفاصيل الشريعة من فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهم القدوة لغيرهم في العبادة والتجسيد الحي للاسلام الحقيقي للّه سبحانه. وفيما يخص خاتم النبيين يقول سبحانه وتعالي : 1 ـ ( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَي وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ...)5. 2 ـ (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ*... فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)6. 3 ـ (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)7. 4 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَي عَلَي اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَي قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)8. 5 ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ* وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)9 . إنّ الذين عاصروا الرسول الكريم قبل بعثته وحتي وفاته لم يقدّموا لنا تصويراً صحيحاً وواضحاً عن الرسول قبل بعثته بل وحين البعثة. ولعلّ أقدم النصوص وأتقنها هو ما جاء عن ربيب الرسول وابن عمه ووصيّه الذي لم يفارقه قبل بعثته وعاشره طيلة حياته، إلي جانب أمانته في النقل ودقته في تصوير هذه الشخصية الفذة. فقد قال عن الفترة التي سبقت البعثة النبوية وهو يتحدّث عن الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم): «ولقد قرن اللّه به (صلي اللّه عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم. ليله ونهاره. ولقد كنت أ تّبعه اتّباع الفصيل أ ثَر اُمّه. يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً. وقد كان يُجَاور في كلِّ سَنَة بحراء فأراه ولا يراه غيري»10. ويتوافق هذا النص مع قوله تعالي: (وإنك لعلي خلق عظيم)11. فقد نزل هذا النص في بداية البعثة. والخُلق ملكة نفسية متجذرة في النفس لا تستحدث خلال أيام، فوصفه بعظمة خُلُقه يكشف عن سبق اتصافه بهذه الصفة قبل البعثة المباركة. وتتضح بجلاء بعض معالم شخصيته (صلي اللّه عليه وآله وسلم) قبل البعثة من خلال نص حفيده الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له الأدب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم فوّض اليه أمر الدين والاُمّة ليسوسَ عباده»12. علي أنّ الخلق العظيم جامع لتمام المكارم التي فسّرها النص الوارد عن النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) حيث يقول: «إنما بُعثت لاُتمم مكارم الأخلاق»13. فكيف يراد له تتميم مكارم الاخلاق وهو لم يتصف بها بعدُ؟! اذن لابدّ من القول بأنّ النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) كان قبل البعثة قد أحرز جميع المكارم ليكون وصفه بالخلق العظيم وصفاً صحيحاً ومنطقياً. فالرسول قبل بعثته كان مثال الشخصية المتّزنة المتعادلة والواعية المتكاملة والجامعة لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وحميد الأفعال. والنصوص القرآنية التي تشير الي ظاهرة الوحي الرسالي وكيفية تلقي الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) له تصرّح بشكل لايقبل الترديد بما كان عليه الرسول من الطمأنينة والثبات والاستجابة التامة لأوامر اللّه تعالي ونواهيه التي كان يتلقّاها قلبه الكريم. لاحظ ما سقناه اليك من نصوص سورة الشوري، واقرأ أيضاً ما جاء في غيرها مثل قوله تعالي: 1 ـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَي* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَي* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَي* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَي* فَأَوْحَي إِلَي عَبْدِهِ مَا أَوْحَي* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَي)14. 2 ـ ( قُلْ إِنِّي عَلَي بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي )15. 3 ـ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ)16. 4 ـ (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْي )17. 5 ـ (قُلْ إِنَّمَا يُوحَي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ )18. 6 ـ (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)19. 7 ـ (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَـا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي )20. 8 ـ ( قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَي اللَّهِ عَلَي بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )21. واذا عرفت ما جاء في هذه النصوص القرآنية المباركة تستطيع أن تولّي وجهك شطر المصادر الحديثية والتأريخية لتقف علي محكماتها ومتشابهاتها. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أ نّها قالت: «أول ما بدئ به رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يري رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب اليه الخلاء. وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه... ثم يرجع الي خديجة فيتزود لمثلها، حتي جاءه الحق وهو في غار حراء». وليس في بداية هذا النص ما يدعو للإستغراب سوي أن عائشة لم تكن حين بدأ الوحي، والنص لا يفصح أ نّها عمّن استقت هذه المعلومات؟ وهي لم تروه عن رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) مباشرة. ولكن في ذيل النص ما هو مدعاة للاستغراب طبعاً. قالت: «ثم انطلقت به خديجة حتي أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امريءً قد تنصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربيّة من الإنجيل ـ ما شاء اللّه أن يكتب ـ وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ما تري؟ فأخبره رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ما رأي. فقال ورقة: هذا الناموس الذي اُنزل علي موسي (عليه السلام)، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً حين يخرجك قومك، فقال رسول اللّه : «أَوَمُخرِجيّ هم؟ فقال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب22 ورقة أن توفي»23. إن ورقة الذي لم يُسلِم بعد هو عارفٌ بما سيجري علي النبيّ فضلاً عن علمه بنبوته! بينما صاحب الدعوة والرسالة نفسه لم يتضح له الامر بعد! وكأنّ ورقة هو الذي يفيض عليه الطمأنينة! والقرآن قد صرّح بأنّ النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) علي بيّنة من ربّه، كما عرفت ذلك في أكثر من آية تنصّ علي أن الرسل هم مصدر الهداية للناس وهم أصحاب البيّنات وليس العكس هو الصحيح، بينما يشير هذا الحديث الي أن ورقة هو الذي عرف رسالة النبيّ قبله فبعث فيه الطمأنينة. وهذا هو الذي فتح الطريق لأهل الكتاب للغمز في رسالة النبيّ محمد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) إذ قالوا بأن نبيّكم ـ بموجب نصوصكم هذه ـ لم يطمئن الي أنه رسول من اللّه إلاّ بعد تطمين ورقة المسيحي له، وقد تجرأ البعض حتي ادّعي أن محمداً (صلي اللّه عليه وآله وسلم) قسيس من القساوسة الذين ربّاهم ورقة استناداً إلي هذا النص الذي نقلته كتب الحديث وتداوله المؤرخون! وهذه ثغرة حصلت من الإبتعاد عن محكمات العقل والكتاب والسنة جميعاً. وهل يصدّق بهذا عاقل عرف المنطق القرآني وتعرّف علي شخصية الأنبياء في القرآن الكريم؟ وكيف يمكن له أن يؤمن بمضمون هذا النص علي أنه حقيقة؛ لمجرد زعم انتسابه إلي عائشة زوجة النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم)؟! وثمة نصّ آخر في تاريخ الطبري هو أكثر فظاعة من هذا وأدعي للريب في محتواه حيث يذكر أن النبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) كان نائماً وجاءه الملك وعلّمه مطلع سورة العلق.. يقول النص بعد ذلك: «وهببت من نومي وكأنما كتب في قلبي كتاباً. قال: ولم يكن من خلق اللّه أحدٌ أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر اليهما، قال: قلت: إن الأبعد ـ يعني نفسه ـ لشاعر أو مجنون! لا تحدّث بها عني قريش أبداً! لأعمدنّ إلي حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها فلأستريحن. قال: فخرجت أريد ذلك حتي إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبريل»24. إن اضطراب النبيّ وخوفه يبلغ به النهاية حتي يريد الانتحار بينما يريد اللّه اختياره للنبوة وهداية الناس ودعوتهم إلي الحق، فهل يتناسب ما في الرواية مع حقائق الرسالة التي هي من الوضوح بمكان ؟ ! وهكذا نستطيع أن نعرض نصوص التاريخ علي محكمات العقل والكتاب والسنّة لنخرج بنتائج واضحة تاركين ما لا يصمد أمام النقد العلمي البنّاء. وبعد ملاحظة النصوص الصريحة من الكتاب العزيز ـ إذا لاحظنا ما ورد في بعض مصادر الحديث والسيرة مما يرتبط باللقاء الأوّل للرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) مع الوحي الإلهي وما رافقه من غرائب تأباها النصوص القرآنية ـ جاز لنا أن نطمئن الي تَسرُّب الإسرائيليات إليها. ويحسن بنا أن نقارن بين هذا النص الروائي وبين نص آخر ورد في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (رضوان اللّه تعالي عليه ) فيما يخصّ إرهاصات الوحي الرسالي وماتبعه من نتائج لوحظت علي نفس الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وشخصيته وسلوكه. فعن الإمام علي بن محمد الهادي (عليهما السلام): أنّ رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) لمّا ترك التجارة إلي الشام وتصدّق بكل ما رزقه اللّه تعالي من تلك التجارات كان يغدو كلَّ يوم إلي حراء يصعده وينظر من قُلله الي آثار رحمة اللّه ، وإلي أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته وينظر إلي أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكّر بتلك الآيات، ويعبد اللّه حقّ عبادته. فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر اللّه عزّ وجلّ إلي قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فاُنزلت عليه من لدن ساق العرش إلي رأس محمد وغرّته، ونظر إلي جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه25 وهزّه وقال: يا محمد اقرأ، قال: وما اقرأ ؟ قال يا محمّد (اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم)26. ثمّ أوحي إليه ما أوحي إليه ربّه عزّ وجلّ ثمّ صعد إلي العلو. ونزل محمّد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال اللّه وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمّي والنافض ... وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم إيّاه إلي الجنون، وإنّه يعتريه شياطين، وكان من أوّل أمره أعقل خلق اللّه ، وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يشرح صدره؛ ويشجّع قلبه، فأنطق اللّه الجبال والصخور والمدر، وكلّما وصل إلي شيء منها ناداه: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا وليّ اللّه ، السلام عليك يا رسول اللّه أبشر، فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد فضّلك وجمّلك وزيّنك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأوّلين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش إنّك مجنون، وعن الدين مفتون، فإنّ الفاضل من فضّله ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربّك أقصي منتهي الكرامات، ويرفعك إلي أرفع الدرجات، وسوف ينعّم ويفرّح أولياءك بوصيّك عليّ بن أبي طالب، وسوف يبثّ علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك: علي بن أبي طالب، وسوف يقرّ عينك ببنتك فاطمة، وسوف يخرج منها ومن عليّ : الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، وسوف ينشر في البلاد دينك وسوف يعظّم اُجور المحبّين لك ولأخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك عليّ، فيكون تحته كلّ نبيّ وصدّيق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلي جنّات النعيم27. وحين نقارن بين هذا النص الروائي وما سبقه مما رواه الطبري نلاحظ البون الشاسع والفرق الكبير بين الصورتين عن بداية البعثة وشخصية الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم). فبينما كانت تصوّره الرواية الاُولي : شاكّاً ومضطرباً ـ اضطراباً ناشئاً عن الجهل بحقيقة ما يجري له! ـ تصوّره الرواية الأخيرة : عالماً مطمئناً متفائلاً بمستقبل رسالته منذ بداية الطريق . وهذه الصورة هي التي تنسجم مع محكمات الكتاب والسنّة والتاريخ . * * *
-----------------------------
1. الشوري 42: 3. 2. يوسف 12 : 109.
3. الأنبياء 21 : 25.
4. الأنبياء 21: 73.
5. الشوري 42: 7 .
6. الشوري 42: 13 ـ 15.
7. الشوري 42: 17 .
8. الشوري 42: 24.
9. الشوري 42: 51 ـ 52.
10. نهج البلاغة: 311 /ضمن الخطبة 192 الخطبة القاصعة.
11. القلم 68 : 4 .
12. الكافي 1: 266 / ح 4 (باب التفويض الي رسول اللّه صلي اللّه عليه وآله وسلم).
13. بحار الأنوار 16: 210، مجمع الزوائد 9: 15 باب في حسن خلقه صلي اللّه عليه وآله وسلم.
14. النجم 53 : 1 ـ 11.
15. الأنعام 6: 57.
16. الكهف 18: 110.
17. الأنبياء 21: 45.
18. الأنبياء 21: 108.
19. طه 20 : 114.
20. سبأ 34: 50.
21. يوسف 12: 108.
22. لم ينشب: لم يلبث.
23. مسند أحمد 6: 232 - 233، ما أسند عن عائشة.
24. تاريخ الطبري 2: 48-49 (ذكر الخبر عمّا كان من أمرالنبيّ (صلي اللّه عليه وآله وسلم) عند ابتداء نزول الوحي).
25. الضبع: وسط العضد وفي المصدر: بضبعيه. وهزه: حركه.
26. العلق 96: 1 ـ 5.
27. بحار الأنوار 18: 205 ـ 208/ ح 36 نقلاً عن التفسير المنسوب الي الإمام العسكري عليه السلام.
source : www.abna.ir