عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

« الجماهيريّة في سيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام »

« الجماهيريّة في سيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام »

مقدّمة
من الأبعاد البارزة في شخصيّة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، ومن المعالم الشاخصة في حكومته.. اهتمامه بالجماهير وسياسته الحكيمة في رعايتهم والتعامل معهم. وهذه الأبعاد يمكن للباحث أن يعثر عليها بيُسر من خلال التأمّل في الأسس الفكريّة التي كانت تتمثل في الإمام عليه السّلام خطّاً وفكراً وعقيدة، وفي الممارسات العمليّة التي كان ينتهجها ويعيشها حياةً وممارسة وسلوكاً.
وقد كان أمير المؤمنين عليه السّلام يتبنّى رؤية خاصّة في التعامل مع جماهير الأمّة، تتجلّى بوضوح على مستوى الأخلاق الفرديّة والاجتماعية، بل في طريقته عليه السّلام في إدارة أمور الحكم، وفي طبيعة إدراكه للعلاقة الصحيحة التي يرسمها الإسلام بين الحاكم والرعيّة، والواجبات المترتّبة على كلٍّ من هذين الطرفَين تجاه بعضهما.
وتطالعنا جملة من النصوص النبوية للرسول المصطفى صلّى الله عليه وآله تصف أمير المؤمنين عليه السّلام بالرأفة بالرعيّة والعدل في سياستهم، كقوله صلّى الله عليه وآله: « أنت أوّلُ المؤمنين بالله إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومُهم بأمر الله، وأرأفُهم بالرعيّة، وأقسمُهم بالسَّويّة، وأعلمُهم بالقضيّة، وأعظمُهم مَزيّة يوم القيامة » (1).
وقوله صلّى الله عليه وآله: « يا عليّ، إنّ الله تعالى قد زيّنَكَ بزينةٍ لم يُزيَّن العِبادُ بزينةٍ أحبَّ إلى الله تعالى منها، هي زينة الأبرار عند الله عزّوجلّ: الزهد في الدنيا؛ فجعلك لا تَرزَأ من الدنيا شيئاً ولا تَرزأ الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حُبَّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً ويَرضَون بك إماماً » (2).
وشاهدنا أمير المؤمنين عليه السّلام، خلال أدوار حياته، لا تشوب سيرتَه شائبة من مُصانعة أو مُداهنة قد يعمد إليها البعض لتثبيت حكمهم وإرساء دعائم دولتهم، أو كسب تأييد الجمهور لهم وتعاطفه معهم، لكنّ عدم المداهنة في دين الله تعالى شيء والرفق بالرعية ومواساتهم والتأسّي بحال أضعفهم شيء آخر.

أسس التعامل مع الجماهير
من الأسس التي يمكن العثور عليها في تعليمات أمير المؤمنين عليه السّلام للتعامل مع جماهير الأمّة:
1 ـ احترامه العميق للحقوق الإنسانيّة للأمّة.
2 ـ المساواة بين الحاكم والرعيّة في رعاية الحقوق الإلهيّة والإنسانيّة.
3 ـ التزام الرعيّة بحقوقها تجاه الحاكم، والتزام الحاكم ـ في المقابل ـ برعاية حقوق الرعيّة.
4 ـ الاهتمام بالناس ومداراتهم والإحسان إليهم باعتبارهم مخلوقات الله تعالى وعباده في أرضه.
5 ـ النظر إلى الرعية باعتبارهم أولياء النعمة، وليس باعتبارهم طُعمة للغنيمة والنهب والاعتداء.
6 ـ رعاية القيم الإنسانيّة للجماهير.
7 ـ التزام الحاكم بإحقاق حقّ الجماهير، وخاصّة المستضعفين والمحرومين منهم. ذلك أنّ الله تعالى قد أخذ على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّةِ ظالم ولا سَغَب مظلوم (3).
8 ـ التعامل الإنسانيّ اللائق مع الناس باعتبارهم إخوةً في الدين أو نُظَراءَ في الخَلق. قال عليه السّلام يصف الناس: « فإنّهم صِنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نَظيرٌ لك في الخَلْق » (4).
9 ـ الإقرار بدور الجماهير في انعقاد أمر القيادة الاجتماعيّة، والاعتقاد بأنّ الحجّة تتمّ على الشخص المسؤول في تقبّله لمسؤوليّة قيادة الجماهير إذا ما بايعته تلك الجماهير طواعية.
10 ـ تأكيده عليه السّلام على مبدأ اختيار الرجل الأصلح والأفضل في تعيين الولاة والعمّال، وصولاً إلى تأمين رفاه الجماهير وتوفير أجواء الأمن لها.
11 ـ تأكيده المستمر على الولاة في الدولة الإسلاميّة في رعاية حقوق الجماهير وصيانتها عن التضييع.

الجماهير في السيرة العملية للإمام عليه السّلام
أمّا الأمور التي يمكن العثور عليها من خلال مطالعة السيرة العمليّة لأمير المؤمنين عليه السّلام ونهجه في التعامل مع الجماهير، فيمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ مساواته عليه السّلام لنفسه مع أضعف الناس حالاً.
2 ـ البساطة في العيش، والابتعاد عن مظاهر البذخ والترفّع التي يمارسها الحكّام الظلمة.
3 ـ الاهتمام بتأمين حوائج الناس، وعدُّه ذلك من نِعم الله تعالى عليه.
4 ـ مواساة الناس، وخاصّة المستضععفين، والسعي الدؤوب في تأمين مستوى معيشيّ لائق لهم.
5 ـ التقسيم العادل لبيت المال بين عامّة الناس، والابتعاد عن المحسوبيّة والمنسوبيّة.
6 ـ الاهتمام بتطبيق العدل والمساواة في المجتمع، وإزالة المزايا الموهومة التي يحاول البعض التمسّك بها لتأمين فارق بينه وبين عامّة الجماهير.
7 ـ حفظ كرامة الجماهير، ومعاملتهم بإحسان والتواضع أمامهم.
8 ـ عزل الولاة الذين يظهر منهم فساد أو ظلم، ومعاقبتهم بما يتناسب مع ما صدر منهم.
9 ـ إعمال الرقابة الشديدة على أعمال الولاة، تحسّباً لأيّ انحراف عن الأصول الإنسانيّة في التعامل مع الجماهير.
10 ـ الحيلولة دون تضييع الأموال العامّة، وخاصّة من قِبل الولاة والعمّال.
11 ـ التسهيل على الناس وعدم مضايقتهم في أمر جباية الخراج والضرائب، والاهتمام بمشاكلهم، والسعي في رفع احتياجاتهم.
12 ـ اعبتارُه نفسَه وولاتَه مّالَه خَدَماً للجماهير،وحُرّاساً لرعاية مصالحهم.
13 ـ رعاية حقوق آحاد الناس في المجتمع الإسلاميّ، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينيّة أو العِرقيّة.
14 ـ عدم الحدّ من الحريّات المشروعة للجماهير، حتّى بالنسبة إلى الذين خالفوه ولم يُبايعوه، وتحذيرُه ولاتَه من إيقاع العقاب بأحدٍ إلاّ بعد ارتكابه جريمةً يعاقب عليها الشرع.
15 ـ الاهتمام بعامّة الناس ومستضعفيهم، وعدم إبعاده عليه السّلام لهم تزلّفاً إلى خواصّ المجتمع الذي كان يسير عليه في حكومته.

رفاه الجماهير وبسط الأمن
تحقيق رفاه الجماهير وبسط الأمن بينها من الأمور التي شكّلت الأهداف الهامة التي سعى أمير المؤمنين عليه السّلام إلى تحقيقها، وكان الفقر والبؤس بين الطبقات المحرومة أمراً يشغل باله عليه السّلام ويُقلقه، حيث يقول عليه السّلام: « هَيهاتَ أن يَغلِبَني هَواي، ويَقودَني جَشَعي إلى تَخيُّرِ الأطعمة؛ ولعلّ بالحجازٍ أو اليمامةِ مَن لا طَمَعَ له في القُرص، ولا عَهْدَ له بالشبع، أوَ أبِيتُ مِبْطاناً وحَولي بُطونٌ غَرْثى وأكبادٌ حَرّى ؟! أو أكون كما قال القائل:
وحَسْبُكَ داءً أن تَبيتَ ببِطنةٍ
وحَوْلَك أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ!

أأقنع من نفسي بأن يُقال « هذا أمير المؤمنين » ولا أشاركهم في مَكارهِ الدهر، أو أكون أُسوةً لهم في جُشوبةِ العيش ؟!» (5).
لقد كانت عقيدة أمير المؤمنين عليه السّلام « انّ الله فَرَض على أئمّة الحقّ أن يُقَدِّروا أنفسَهُم بضَعَفةِ الناس؛ كيلا يَتَبيَّغَ بالفقيرِ فَقرُه » (6).
لقد كان الإمام عليّ عليه السّلام يتألّم من مشاهدة سُحنات وجوه المحرومين والبائسين واليتامى في مجتمعٍ يتكفّل هو بقيادته ورعاية أموره، وكأن يتأسّف من كون أعدائه الذين تربّصوا بدولته الدوائر وحاكوا ضدّها المؤامرات لا يتركون له الفرصةَ الكافية لتسكين آلام المستضعفين ومعالجة مشكلاتهم وإسعاف طلباتهم وحاجاتهم، بل كان يتألّم ويتأسّف حين يبلغه أنّ ذمّيّاً يعيش في كَنف حكومته قد تعرّض لإحجافٍ أو ظُلم. ولا تزال كلماته التي قالها حين طَرَق سمعَه أنّ أحدَ قادة جيش معاوية أغارَ على أطرافِ ( الأنبار ) ونهب أموال سكّانها، في قوله عليه السّلام: « ولقد بَلَغني أنّ الرجلَ منهم كان يدخُلُ على المرأةِ المسلمة والأخرى المُعاهدةِ فينتزع حِجْلَها وقُلُبَها وقلائدها ورعاثَها، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام، ثمّ انصرفوا وافِرين، ما نال رجلاً منهم كَلِم، ولا أُريقَ لهم دَم؛ فلو أنّ امرءاً مسلماً ماتَ من بعد هذا أسَفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً! » (7).
وكان من الأمور التي تُقلق أمير المؤمنين عليه السّلام أن يرى أفراداً من أمثال معاوية يحكمون في ناحية من البلاد الإسلاميّة ويتحكّمون في مقدّراتها، ويحكمون بما لم يُنزل الله به سلطاناً، وأن يرى هؤلاء الحكّام جاهدين في إشغال نار النَّعرات الجاهليّة، وينهبون أموال عباد الله ظلماً، ويَدَعُون فقراء المسلمين يتضوّرون من الفقر والجوع.
وشاهدنا أمير المؤمنين عليه السّلام وهو يُرسي دعائم حكمه وأسس مُجتمعه على الأسس الإسلاميّة الرصينة، ويجهد في تأمين فضاء من العدل والاستقرار يمكّن الرعية من العيش في راحة بال، ويفتح أمامهم المجال واسعاً للسير في طريق الكمال الحقيقيّ. وشاهدناه في برامجه الاصلاحيّة وطريقته في الحكومة وهو يستأصل كلّ تفرقةٍ بين العباد، ويقضي على كلّ ظُلم، ورأيناه وهو يُعيد أموال بيت المال التي نهبها البعض بغير حقّ، ويقسّم بيت المال بين الناس سواسية، يستوي أمامَه القريبُ والبعيد، والغنيُّ والفقير، والشريفُ والوضيع، فالمال مال الله عزّوجلّ، والخلق عيال الله تبارك وتعالى، وإنّما التفاضل بين الناس في التقوى، وهو أمر يُؤجرون عليه لدى الله سبحانه لا من بيت مال المسلمين (8).
قال عليه السّلام: « الذليلُ عندي عزيزٌ حتّى آخُذَ الحقَّ له، والقويُّ عندي ضعيفٌ حتّى آخُذَ الحقَّ منه »
(9).

مداراته للناس وحدبه عليهم
عُرف أمير المؤمنين عليه السّلام بمداراة الناس والإحسان إليهم، وهو أمر أكّد عليه في رسائله وكتبه التي بعثها إلى ولاته على سائر الأمصار، يأمرهم فيها بالإحسان إلى الناس، ويحذّرهم من معاملة الجماهير بخشونة، ويأمرهم باجتناب الظلم، وبرعاية حقوق الناس، وصيانة بيت المال، حتّى بلغ به الأمر إلى توبيخ أو معاقبة الولاة الذين عُرف عنهم أنّهم فَرّطوا في صيانة بيت المال.
كتب عليه السّلام إلى محمّد بن أبي بكر عاملِه على مصر يقول له: « فاخفِضْ لهم جَناحَك، وألِنْ لهم جانبَك، وابسُطْ لهم وجهَك، وآسِ بينهم في اللَّحْظة والنَّظْرة، حتّى لا يطمعَ العظماءُ في حَيفِك لهم، ولا ييأسَ الضعفاءُ مِن عطفِك عليهم... واعْلَمْ ـ يا محمّد بن أبي بكر ـ أنّي قد ولّيتُك أعظمَ أجنادي في نفسي: أهلَ مصر، فأنت مَحقوقٌ أن تُخالفَ على نفسِك، وأن تُنافِح عن دِينِك، ولو لم يكن لك إلاّ ساعة من الدهر، ولا تُسخِطِ اللهَ برضى أحدٍ من خَلْقِه؛ فإنّ في الله خَلَفاً مِن غيرهِ، وليس من الله خَلَفٌ في غيره » (10).
وكتب عليه السّلام إلى أحد عمّاله يقول: « أمّا بعد، فإنّك ممّن أستَظهِرُ به على إقامةِ الدين، وأقمعُ به نخوةَ الأثيم، وأسُدُّ به لَهاةَ الثَّغر المَخُوف؛ فاستعِنْ بالله على ما أهمَّك، واخلِطِ الشدّةَ بضِغْثٍ من اللِّين، وارفُق ما كان الرِّفقُ أوفَق... واخفِضْ للرعيّةِ جناحَك، وابسُطْ لهم وجهَك، وألِن لهم جانبَك» (11).
وكتب عليه السّلام إلى عبدالله بن عبّاس ـ عاملِه على البصرة ـ يأمره فيها أن يحادث أهلَها بالإحسان إليهم، ويَحلُلَ عُقدةَ الخوف عن قلوبهم (12).
وكتب عليه السّلام إلى قُثَم بن العبّاس ـ عاملِه على مكّة ـ يقول: «... واجلِس لهم العَصْرَين... ولا يكن لك إلى الناس سَفيرٌ إلاّ لِسانُك، ولا حاجِبٌ إلاّ وَجهُك، ولا تحجُبَنَّ ذا حاجةٍ عن لقائك بها، فإنّها إن ذِيدَت عن أبوابِك في أوّلِ وِرْدِها لم تُحمَدْ فيما بَعدُ على قضائِها. وانظُر إلى ما اجتمع عندك من مالِ الله فاصْرِفه إلى مَن قِبَلَك » (13).

رعاية حقوق الناس
أكّد أمير المؤمنين عليه السّلام، في توصياته لعمّاله على الصدقات والخراج، معاملةَ الناس بالرفق، وحذّرهم من التشديد على الناس في جباية الأموال التي فرضها الله تعالى عليهم.
وقد كتب عليه السّلام إلى أحد عمّاله على الصدقات يقول: «... ولا تُرَوِّعَنّ مُسلماً ولا تَجتازَنّ ( تحتازنّ ) عليه كارهاً، ولا تأخُذْ منه أكثرَ مِن حقِّ الله في ماله. فإذا قَدِمتَ على الحَيّ، فانزِلْ بمائهم من غير أن تخالط أبياتَهم، ثمّ امْضِ إليهم بالسَّكينة والوَقار حتّى تقومَ بينهم فتُسلّم عليهم، ولا تُخْدِج بالتحيّةِ لهم، ثمّ تقول: عبادَ اللهّ! أرسَلَني إليكم وليُّ اللهِ وخليفتُه لآخُذَ منكم حقَّ الله في أموالكم، فهَل للهِ في أموالِكُم من حقٍّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟ فإن قال قائلٌ « لا » فلا تُراجِعْه؛ وإن أنعَمَ لك مُنِعمٌ فانطلِقْ معه مِن غير أن تُخيفَه أو تُوعِدَه أو تُعْنِفَه أو تُرْهِقَه، فخُذ ما أعطاك من ذهبٍ أو فضّة، فإن كان له ماشيةٌ أو إبلٌ فلا تَدخُلْها إلاّ بإذنِه، فإنّ أكثرَها له. فإذا أتيتَها فلا تَدخُل عليها دخولَ مُتسلّطٍ عليه ولا عَنيفٍ به، ولا تُنفّرنَ بهيمةً ولا تُفزِعَنّها، ولا تسوءنّ صاحبَها فيها. واصدَعِ المالَ صَدْعَيْن ثمّ خَيِّرْه، فإذا اختارَ فلا تَعرْضنّ لما اختارَه، ثمّ اصدع الباقي صَدعَيْن ثمّ خَيِّره، فإذا اختارَ فلا تعرضنّ لما اختاره، فلا تزالُ كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاءٌ لحقِّ الله في ماله؛ فاقبِض حقّ الله » (14).
وكتب عليه السّلام إلى بعض عمّاله ممّن بعثه على الصدقات يأمره أن لا يَجْبَهَ الناس ولا يرغب عنهم تفضّلاً بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدِّين، والأعوان على استخراج الحقوق. ثمّ إنّه عليه السّلام حذّره من أن يكون خصمَه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابنُ السبيل، وأخبره أنّ أعظم الخيانة خيان الأمّة، وأفظع الغِشّ غشّ الأئمّة (15).
وكتب عليه السّلام إلى جُباة الخراج وعمّال البلاد الذين يمرّ بهم الجيش الإسلاميّ، يقول: « أمّا بعد، فإنّي قد سيّرتُ جنوداً هي مارّةٌ بكم إن شاء الله، وقد أوصيتُهم بما يجب عليهم من كفِّ الأذى وصَرْفِ الشَّذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمّتكم من مَعَرّة الجيش، إلاّ من جَوْعةِ المضطرّ لا يجد عنها مَذْهباً إلى شبعه، فنَكِّلُوا مَن تناول منهم شيئاً ظُلماً عن ظُلمهم، وكُفّوا أيدي سُفهائكم عن مُضارَّتهم والتعرّض لهم فيما استثنَيناه منهم، وأنا بين أَظهُرِ الجيش، فارفعوا إليّ مظالمكم وما عَراكم ممّا يَغلبُكم مِن أمرهم، وما لا تُطيقون دَفْعَه إلاّ بالله وبي، فأنا أُغيّره بمعونةِ الله، إن شاء الله » (16).
وكتب عليه السّلام إلى أُمرائه على الجيش يعِظهم ويقول لهم: « أمّا بعد، فإنّ حقّاً على الوالي ألاّ يُغيّره على رعيّته فضلٌ نالَه، ولا طَوْلٌ خُصَّ به، وأن يزيدَه ما قَسَمَ اللهُ له من نِعمه دُنُوّاً من عبادِه، وعَطفاً على إخوانه » (17).
وكتب عليه السّلام إلى من استخلف من أمراء الأجناد يُشير إلى علّة الانحطاط الذي يصيب المجتمعات خلال المسيرة التاريخيّة، ودور القادة والأمراء في ذلك الانحطاط، ويذكّرهم بسُنن الله تعالى في تغيير أحوال المجتمعات، في قوله عليه السّلام:
« أمّا بعد، فإنّما أهْلَكَ مَن كان قَبْلكم أنَّهم مَنَعوا الناسَ الحقَّ فاشتَرَوهُ، وأخَذُوهُم بالباطل فاقتَدَوهُ» (18).

تفقّده لأحوال الناس وعطفه عليهم
كتب عليه السّلام إلى مالك بن الحارث الأشتر لمّا ولاّه على مصر يقول: «... وأشْعِرْ قلبَك الرحمةَ للرعيّةِ والمحبّةَ لهم واللُّطفَ بهم، ولا تكونَنّ عليهم سَبُعاً ضارياً تَغتَنِمُ أكْلَهم، فإنّهم صِنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق... فأعطِهم من عفوكَ وصفحك مثلَ الذي تُحبّ وترضى أن يُعطيَك اللهُ من عفوِه وصفحِه، فإنّك فوقَهم، ووالي الأمر عليك فوقك، واللهُ فوق مَن ولاّك... أنصِفِ اللهَ وأنصِف الناسَ من نفسك ومِن خاصّةِ أهلك ومَن لك فيه هوىً من رعيّتك، فإنّك إلاّ تَفعلْ تَظِلمْ، ومَن ظَلَم عبادَ الله كان اللهُ خصمَه دونَ عباده... وليس شيءٌ أدعى إلى تغييرِ نِعمةِ الله وتعجيلِ نِقمته من إقامةٍ على ظُلم؛ فإنّ الله سميعٌ دعوةَ المضطَهَدين، وهو للظالمين بالمرصاد... وَلْيكُن أحبَّ الأمور إليك أوسطُها في الحقّ وأعمُّها في العدل وأجمعُها لرِضى الرعيّة... وإنّما عِماد الدين وجِماع المسلمين والعُدّة للأعداء: العامّةُ من الأمّة، فليكُن صِغْوُكَ لهم ومَيْلُك معهم... واعلَمْ أنّه ليس شيءٌ بأدعى إلى حُسنِ ظنِّ راعٍ برعيّتِه مِن إحسانِه إليهم، وتخفيفهِ المؤوناتِ عليهم، وتَرْكِ استِكراهه إيّاهم على ما ليس له قِبَلَهم... ثمّ اللهَ اللهَ في الطبقةِ السُفلى مِن الذين لا حِيلَة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البُؤسى والزَّمنَى؛ فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومُعْتَرّاً، واحفَظْ لله ما استَحفَظَكَ مِن حقِّه فيهم... وتَفَقَّدْ أُمورَ مَن لا يَصِلُ إليك منهم مِمّن تَقتحمُه العُيون وتَحْقِرُه الرِّجال... وتَعَهَّدْ أهلَ اليُتْم وذوي الرِّقّة في السِّنّ ممّن لا حيلةَ له ولا يَنْصِبُ للمسألة نَفْسَه... واجعَلْ لذوي الحاجاتِ منك قِسماً تُفرِّغ لهم فيه شَخصَك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه لله الذي خَلَقَك... فإنّي سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقول: « لَن تُقَدَّسَ أُمّةٌ لا يُؤخَذُ للضعيفِ فيها حَقُّه من القويّ غَيرَ مُتَتَعْتِعٍ »... فلا تُطوِّلنّ احتجابَك عن رعيّتك؛ فإنّ احتجابَ الولاةِ عن الرعيّة شُعبةٌ من الضِّيق، وقِلّة عِلمٍ بالأمور... وإن ظنّتِ الرعيّةُ بك حيفاً فأصحِرْ لهم بعُذرِك، واعْدِلْ عنك ظُنونَهُم بإصحارك، فإن في ذلك رياضةً منك لنفسك، ورِفقاً برعيّتك، وإعذاراً تَبلُغُ به حاجتَك من تقويمهم على الحقّ... وإيّاك والمنَّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّدَ فيما كان من فِعلك، أو أن تَعِدَهم فتُتْبِع مَوعدَك بخُلْفِك، فإنّ المنَّ يُبطلُ الإحسان، والتزيّدَ يَذهبُ بنور الحقّ، والخُلْف يوجب المَقْت عند الله والناس، قال تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولوا ما لا تَفْعَلون (19) (20).

حقوق الناس على الحاكم
اعتبرَ أميرُ المؤمنين عليه السّلام الحكّامَ والقادةَ في الحكم الإسلاميّ أُمناءً ينبغي عليهم حفظُ ورعاية الأمانة المقلّدة في أعناقهم، وحذّرهم من أن تكون مناصبُهم وسائلَ للتسلّط على الرعيّة وآلةً للاعتداء على حقوق الناس. وقد أشار عليه السّلام في رسالةٍ بعثها إلى الأشعث بن قيس إلى هذا الأمر في قوله:
« وإنّ عَمَلَكَ ليس لك بطُعْمَة، ولكنّه في عُنُقكَ أمانة، وأنت مُسترعىً لمَن فَوقَك، ليس لك أن تَفتات في رعيّة، ولا تُخاطِرَ إلاّ بوثيقة؛ وفي يديكَ مالٌ من مال الله عزّوجلّ، وأنت من خُزّانه حتّى تسلّمه إليَّ »
(21).
وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يحذّر ولاته على الأمصار من أن يفسحوا مجالاً لأقاربهم وأعوانهم في استغلال مراكزهم في جلب المنافع لأنفسهم دون الرعيّة، فيكون في ذلك ظُلم للرعيّة وإحجاف بحقّها. كتب عليه السّلام إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر عهداً يقول فيه: «... ثم انْظُر في أُمور عمّالك فاستعمِلْهم اختِباراً ولا تُوَلِّهم مُحاباةً وأثَرَة... ثمّ تَفقّدْ أعمالهم وابعَثِ العُيونَ من أهلِ الصدقِ والوفاء عليهم، فإنّ تَعاهُدَكَ في السرّ لأمورِهم حَدْوةٌ لهم على استعمالِ الأمانة والرِّفق بالرعيّة » (22).
وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يرى أن مسؤوليّة الحكم أمانة استودعها اللهُ تعالى، ينبغي على الحاكم رعايتها:
« السلطانُ وَزَعة الله (23) في أرضه » (24).
ويعتبر أمير المؤمنين عليه السّلام حقوق الحاكم على الرعيّة وحقوق الرعيّة على الحاكم من الحقوق المتقابلة، ويرى أنّ سلامة المجتمع لا تتحقّق إلاّ برعاية هذه الحقوق المتقابلة التي هي من أهم الحقوق الإلهيّة الواجبة.
ويرى عليه السّلام أنّ الناس لا يصلحون إلاّ بصلاح حكّامهم، وأنّ الحكّام لا يصلحون إلاّ بصدق الرعيّة واستقامتهم. قال عليه السّلام: « أمّا بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولايةِ أمركم، ولكم عليَّ من الحقّ مِثلُ الذي لي عليكم... وأعظَمُ ما افتَرضَ سُبحانه من تلك الحقوق: حقّ الوالي على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على الوالي، فريضةٌ فَرَضَها اللهُ سبحانه لكلٍّ على كُلّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية؛ فإذا أدَّت الرعيّةُ إلى الوالي حقَّه، وأدّى الوالي إليها حقَّها عَزَّ الحقُّ بينهم، وقامت مَناهجُ الدين، واعتدلت معالمُ العدل... وإذا غَلَبت الرعيّةُ واليها، أو أجحَفَ الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمةُ، وظهرت معالمُ الجَور، وكَثُر الإدغال في الدِّين، وتُركت مَحاجّ السُّنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام... » (25).
وقال عليه السّلام: « أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم علَيَّ حقّ: فأمّا حقُّكم عليَّ فالنصيحةُ لكم، وتوفير فَيْئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأمّا حقّي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمَغيب، والإجابةُ حين أدعوكم، والطاعةُ حين آمُرُكم » (26).
ويظهر من كلامه عليه السّلام أنّ رسالة الحاكم تتجسّد في أبعاد الإرشاد والتعليم، وفي الأمور الماليّة والاقتصاديّة، والأمور التربويّة والثقافيّة، وأنّ على الحاكم أن يبذل قصارى جهده في هذه المجالات.
وجاء في خطبة أخرى له عليه السّلام: «... ولكم علينا العملُ بكتاب الله تعالى وسيرةِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، والقيام بحقّه، والنَّعْش لسُنّته » (27).
ولقد محض أميرُ المؤمنين عليه السّلام الرعيّةَ نُصحَه، ولم يَألُ جُهدَه في نُصحهم، حتّى إذا رآهم قد انحرفوا عنه إلى غيره، وأسلموا قيادهم إلى سواه، لم يغيّره ذلك قيد شعرة، يقول عليه السّلام « لقد عَلِمتُم أنّي أحقُّ الناس بها مِن غيري، وواللهِ لأُسلمنَّ ما سَلِمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يكن فيها جَورٌ إلاّ عَلَيّ خاصّة، التماساً لأجرِ ذلك وفضلهِ، وزُهداً فيما تنافستموه من زُخرفهِ وزِبْرِجه » (28).

 


source : www.imamreza.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

موقف الإمام علي ( عليه السلام ) في غزوة الخندق
أمير المؤمنين شهيد المحراب
سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
دور الإمام علي ( عليه السلام ) في إرساء الحضارة ...
خطبة الإمام علي ( عليه السلام ) المعروفة بالوسيلة
معانات الإمام علي ( عليه السلام ) وأهل بيته من ...
ما هي قصة درع أمير المؤمنين (ع) الذي وجد بيد رجل ...
كتاب الإمام علي إلى ابنه الحسن ( عليهما السلام )
ممن اعترض على تنصيب الإمام علي ( عليه السلام )
آداب الأخوة عند الإمام علي ( عليه السلام )

 
user comment