قال تعالى: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَى الْکَعْبَیْنِ وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ کُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ وَأَیْدِیکُمْ مِنْهُ مَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ وَلِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ) (1)
وقع الکلام فی دلالة الآیة الکریمة على وجوب مسح الأرجل.
وفی الآیة الکریمة ثلاث قراءات نأتی علیها تباعاً إن شاء الله تعالى:
القراءة الأولى: (أرجُلَکُم) بالنصب. وهی قراءة نافع وابن عامر والکسائی ویعقوب والأعشى وحفص. وهی القراءة المعروفة والمنتشرة فی أرجاء العالم الإسلامی.
وفی معنى هذه القراءة احتمالان:
الاحتمال الأول: العطف على (الأیدی) لاشتراکهما فی النصب.
الاحتمال الثانی: العطف على (الرؤوس) لأنه منصوب محلاً فیصح عطف المنصوب علیه وعامله أقرب من عامل (الأیدی) فمع التردد بین عاملین یحمل على الأقرب ما لم یدل دلیل على خلافه.
ویرد على الاحتمال الأول بعدُ المعطوف علیه عن المعطوف والفصل بینهما بالأجنبی وهو جملة (وامسحوا برؤوسکم) وهذا لا یکون فی المتعارف من فصیح الکلام فضلاً عن القرآن الکریم.
وهل من المقبول أن یقال: (جاء رجلٌ وصبیٌ وما فی الدار من امرأة وشابٌ). بدعوى عطف (شاب) على (صبی) ؟!. فالأصل عدم الفصل بین أجزاء الجملة بمفرد فکیف بجملة.
وأما الجمل المعترضة فلها ضوابطها وأسالیبها الخاصة ولیس ما نحن فیه من ذلک الباب کما هو واضح.
وقیل: إن المصحح لهذا الفصل هو بیان الترتیب بین أعضاء الوضوء، فجاءت الآیة بحسب الترتیب الواجب.
وأقل ما یرد به هذا القول هو أنه تحکم محض وحمل للکلام على غیر سیاقه.
وهل یصل الأمر بالقرآن الکریم إلى اتباع أسلوب شاذ لمجرد بیان فکرة بسیطة کالترتیب، وهل یعجز الله تعالى عن بیان الترتیب بطریقة أدبیة تناسب سائر آیات المعجزة البلاغیة الخالدة، وهل قعدت اللغة العربیة العملاقة عن أداء هذا الغرض ؟!.
فدعوى العطف على (الأیدی) لیس لها مبرر سیاقی أو صناعی، بل الصناعة على خلافها، ولا تصل النوبة إلیها مع وجود وجه آخر صحیح.
فیتعین القول بالعطف على محل (الرؤوس) وهو النصب، ویکون مفاد الآیة الکریمة وجوب مسح الرجلین لا غسلهما.
القراءة الثانیة: (أرجُلِکُم) بالکسر وهی قراءة ابن کثیر وحمزة وعکرمة وابن عباس والشعبی وغیرهم.
وهی صریحة فی العطف على لفظ (الرؤوس) إذ لیس فی الکلام مجرور سواها، فتدل على لزوم المسح مباشرة، لأن المعطوف على اللفظ معطوف على المحل أیضاً فیتحدان فی العامل وهو (امسحوا).
وذهب أصحاب القول بوجوب الغسل إلى أن الجر هنا لیس بسبب العطف وإنما بسبب المجاورة.
وأول من قاله ـ بحسب المصادر المتوفرة لدینا ـ هو الأخفش ت 207 ه فی کتاب (معانی القرآن) 2 / 465، وأبو عبیدة ت 210 ه فی کتاب (مجاز القرآن) 1 / 155
الوضوء مسحاً او غسلاً
وهذا من غریب القول وذلک لما یلی:
أولاً: أن المجاورة لو صحت فهی من ضعیف القول ولا تناسب الأسلوب القرآنی الرفیع.
قال الفخر الرازی فی تفسیره الکبیر: (أنه لا یجوز الکسر بالجوار، لأنه معدود فی اللحن، ولأنه إنما یکون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم یتکلم به العرب).انتهى
وقد أهمل الجر بالمجاورة جملة من علماء العامة، ولم یحتجوا به فی تفاسیرهم، ولا فی کتبهم الفقهیة، کما رده آخرون صراحة. قال الزجاج ت 311 ه ( فأما الخفض على الجوار فلا یکون فی کلمات الله) (2). انتهى
وقال النحاس ت 338 ه فی کتاب (إعراب القرآن) 2/9 ردا على الأخفش وأبی عبیدة: وهذا القول غلط عظیم لأن الجوار لا یجوز فی الکلام أن یقاس علیه، وإنما هو غلط. انتهى
وقال ابن خالویه ت 370 ه فی کتاب (إعراب القراءات السبع) 1/143، فهو (أی: جر الجوار) غلط، لأن الخفض على الجوار لغة لا یستعمل فی القرآن، وإنما یکون لضرورة شاعر، أو حرف یجری کالمثل، کقولهم:: جحر ضب خرب. انتهى
وقال القیسی ت 437 ه فی کتاب (مشکل إعراب القرآن) 1/220 رقم 670 عن الجر بالمجاورة: وهو بعید، لا یحمل القرآن علیه. انتهى
وقال أبو حیان النحوی الأندلسی ت 754 ه فی کتاب (البحر المحیط) 3/437 عن الجر بالمجاورة: وهو ضعیف جدا، ولم یرد إلا فی النعت حیث لا یلبس، على خلاف فیه قد قرر فی علم العربیة. انتهى
وقال السمین الحلبی ت 756 ه فی کتاب (الدر المصون) 2/495: وهذه المسألة - أی: مسألة الجر بالمجاورة - لها شرط، وهو أن یؤمن اللبس کما تقدم تمثیله - یعنی قولهم: جحر ضب خرب - بخلاف: (قام غلام زید العاقل)، إذا جعلت (العاقل) نعتا للغلام امتنع جره على الجوار لأجل اللبس. انتهى
ثم نقل بعد ذلک عددا کثیرا من الآیات القرآنیة والشواهد الشعریة التی زعم جرها بالمجاورة وناقشها نقاشا علمیا رائعا مطولا، وأثبت بطلان الاحتجاج بها على وقوع الجر بالمجاورة ونفاه عن ساحة القرآن الکریم نفیا باتا.
وقال النیسابوری ت 850 ه فی تفسیره 6/73: ولا یمکن أن یقال إنه کسر على الجوار کما فی قولهم: جحر ضب خرب لأن ذلک لم یجئ فی کلام الفصحاء، وفی السعة أیضا، وأیضا أنه جاء حیث لا لبس، ولا عطف، بخلاف الآیة لما فیها على الجر بالمجاورة - من لبس، وعطف. انتهى
وقال سلیمان بن عمر الشافعی الشهیر بالجمل ت 1204 ه فی کتاب (الفتوحات الإلهیة) بتوضیح تفسیر الجلالین: وهذا، وإن کان واردا، إلا أن التخریج علیه ضعیف لضعف الجوار من حیث الجملة، وأیضا فإن الخفض على الجوار إنما ورد فی النعت لا فی العطف، وقد ورد فی التوکید قلیلا فی ضرورة الشعر. انتهى
وقال النووی الشافعی ت 1316 ه فی تفسیره: ولا یجوز هنا الکسر على الجوار على أنه منصوب فی المعنى عطفا على المغسول لأنه معدود فی اللحن الذی عد یحمل [کذا فی المصدر الذی نقلنا عنه، ولعل الصحیح (قد یحمل)] لأجل الضرورة فی الشعر، ویجب تنزیه کلام الله عنه ولأنه یرجع إلیه عند حصول الأمن من الالتباس... وفی هذه الآیة لا یحصل الأمن من الالتباس، ولأنه إنما یکون بدون حرف العطف(3). انتهى
وقد حاول بعضهم الاستدلال على جواز المجاورة حتى مع الفصل بالعاطف وذکروا له شواهد، ولکن لا نجد ضرورة للاستغراق فی مناقشتها بعد أن تبین ضعف هذا الأسلوب فی التعبیر وعدم مناسبته للقرآن الکریم، هذا لو کان صحیحاً من الأساس، وأما لو کان لحناً وغلطاً فالأمر أوضح.
خصوصاً وأنهم إنما استدلوا على صحة هذا الأسلوب، وجواز الاتباع على المجاورة ـ حتى مع الفاصل، (مع أن الاتباع إنما هو حکم لفظی ناشئ من المجاورة، وتشابه اللفظین وتقاربهما، ومع وجود الفاصل یضعف التقارب إلى أبعد حد ولا یبقى للتشابه اللفظی ذلک الأثر) وأنه غیر مختص بالنعت دون غیره أو به وبالتوکید ـ وأهملوا أمرین أساسیین:
الأول: فصاحة هذا الأسلوب وعدم فصاحته. إذ لیس کل تعبیر عربی صحیح یکون لائقاً بالقرآن الکریم، ولیس کل ما قالته العرب یصح حمل القرآن علیه. فکیف إذا کانت المجاورة ضعیفة فی نفسها، یضاف إلیها ضعف استعمالها فی غیر النعت والتوکید ـ على فرض صحته ـ ویضاف إلیهما ضعف استعماله مع الفاصل.
الثانی ـ وهو الأهم ـ: أن صحة هذا الأسلوب ـ لو کان صحیحاً ـ إنما تکون مع أمن اللبس ووضوح المراد، ولیست الآیة الکریمة کذلک.ودعوى ان (الجر محمول على مسح الخف والنصب على الغسل إذا لم یکن خف) مردودة بعدم المبرر لها مادامت الآیة صریحة بالمسح.
وکذا قولهم: لو ثبت ان المراد بالآیة المسح لحمل المسح على الغسل جمعا بین الأدلة والقراءتین لان المسح یطلق على الغسل کذا نقله جماعات من أئمة اللغة: منهم أبو زید الأنصاری وابن قتیبة وآخرون وقال أبو علی الفارسی العرب تسمی خفیف الغسل مسحا.
إذ ورد مسح الرأس والرجلین بأمر واحد فکیف یحمل فی أحد مفعولیه على المسح وفی المفعول الآخر على الغسل ؟!. وقد تقدم أن القراءة الأولى غیر دالة على مدعاهم. ولا مجال لإقحام الأخبار فی المقام حیث إننا نبحث عن دلالة الآیة الکریمة بالخصوص، لا فی معناها بعد تجمیع القرائن الخارجیة.
وأما دعوى عدم اللبس فی الآیة الکریمة لأن فیها تحدید بالکعبین والمسح لا یکون إلى الکعبین بالاتفاق.
فأضعف من أن یرد علیها. وأهون ما فیها أن البحث إنما هو عن دلالة الآیة الکریمة بقطع النظر عن الأخبار والفتاوى.
ومجرد وجود التحدید فی الیدین المغسولات وعدم وجوده فی الرأس لا یکفی لتوضیح أن المطلوب فی الرجلین هو الغسل. کما هو واضح. فالإبهام على هذا التقدیر باقٍ على حاله.
ومن أعجب ما رأیت فی هذا الباب کلام الزمخشری حیث قال: قرأ جماعة وأرجلکم بالنصب فدل على أن الأرجل مغسولة. فإن قلت فما تصنع بقراءة الجر ودخولها فی حکم المسح ؟ قلت: الأرجل من بین الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء علیها، فکانت مظنة للإسراف المذموم المنهی عنه فعطفت على الرابع الممسوح لا لتمسح ولکن لینبه على وجوب الاقتصاد فی صب الماء علیها، وقیل (إلى الکعبین) فجئ بالغایة إماطة لظن ظان یحسبها ممسوحة، لان المسح لم یحضر له غایة فی الشریعة(4). انتهى
لیت شعری کیف اکتشف الزمخشری مراد المولى من الآیة الکریمة وکیف اطلع على قصده، ثم ألیس من العجب أن ینزل القرآن الکریم آمراً بالمسح وهو یقصد الاعتدال فی الغسل ؟! وأنَّا لتالی القرآن استنباط ذلک وأین القرینة علیه ؟!. فمجرد اشتراک بعض الأفراد بالحد لا یعنی أبداً اشتراکهما فی الحکم، وهذا من الظهور بحیث لا یستحق الوقوف عنده کثیراً.
ثم إن الوجه لم تذکر له غایة أیضاً فهلا حملنا الأمر بغسل الوجه على الأمر بمسح الرأس حیث یشترکان فی عدم إحضار الغایة، ویکون المقصود من غسل الوجه هو مسحه بالماء الکثیر. وهذا لم یقل به أحد لعدم صلاحیة الاشتراک فی (عدم القرینة) على ذلک.
ولذا فلا مناص من حمل قراءة الجر على العطف على (الرؤوس).
القراءة الثالثة: (أرجُلُکُم) بالرفع، وهی قراءة الولید بن مسلم عن نافع، والحسن البصری.
والرفع فیها على الابتداء، والمعنى إما: (وأرجلکم مغسولة ـ أو فاغسلوها ـ إلى الکعبین) أو (وأرجلکم ممسوحة ـ أو فامسحوها ـ إلى الکعبین)، وهنا یتجلى ترجیح الحمل الثانی بسبب قرب الجملة الإسمیة من الأمر بالمسح، وبُعدها عن الأمر بالغسل ووجود الفاصل بینهما، فإن لم نقل بتعینه فلا أقل من أولویة الحمل على المسح، وانصراف الذهن إلیه.
والله تعالى هو العالم وهو أحکم الحاکمین
المصادر :
1- المائدة /6
2- فی کتاب (معانی القرآن وإعرابه) 2/153
3- تفسیر النووی 1/193
4- الکشاف 1/597
source : .www.rasekhoon.net