ما كان بدعاً من محاولات معاوية فيما يهدف اليه، أن يبتدر هو الى طلب الصلح، فيعطي الحسن كل شرط، ليأخذ عليه شرطاً واحداً هو «الملك». هذا هو الصحيح كما دل عليه خطاب الامام الحسن علیه السلام فيما استشار به اصحابه في «المدائن» فقال: «ألا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة..»، وكما دلت عليه مصادر أخرى خلافاً لبعض المؤرخين الآخرين، والترجيح لخطاب الامام الحسن عليه السلام.
وكانت الجيوش والاسلحة والحركات السوقية في الزحف الى المعسكرات، هي الاخرى بعض وسائله الى الصلح، ولم يشأ أن يبدأ بهم غاراته على العراق، لانه لن يلتحم مع الامام الحسن علیه لاسلام بقتال، الا اذا اعيته الوسائل كلها، والوسائل في عرف معاوية، غير الوسائل في عرف الناس أو في عرف الدين الجديد.
ومن الحق أن نقول: ان وسائله في هذا الميدان، كانت من النوع المحبوك الصنع، الدقيق الاساليب، الموفق كل التوفيق، في سبيل الغرض الذي رمى اليه، من اصطناع الظرف الخاص الذي يذكر عدوه بالصلح.
فاذا باع القائد في جبهة العراق ضميره لمعاوية بالمال، وباع معه أكثر الرؤساء ضمائرهم بالعِدات.
واذا أصبح المعسكران في مسكن والمدائن يعجان بالشائعات التي راحت تمطرهما بوابل من الويل والثبور والمخاوف.
واذا أصبح الحسن نفسه لا يتسنى له تنفيذ أوامره في جيشه بما فعلته الاراجيف من حوله، بل لا يستطيع الظهور بشخصه أمام الكثرة من جنوده، الا ليغتال بين مضاربه وعلى سواعد أصحابه.
فهل من سبيل الا الصلح ؟..
وقرر معاوية خطته هذه، في بحران نشاط الفريقين للحرب، وكان في توفره على تنفيذ هذه الخطة، أعنف منه في عمله لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب. ورأى ان يبادئ الحسن بطلب الصلح، فان أجيب اليه فذاك، والا فلينتزعه انتزاعاً، دون أن يلتحم والحسن في قتال.
وكان عليه قبل كل شيء، أن يصطنع في سبيل التمهيد الى غايته، ظرفاً من شأنه ان ينبّه خصومه الى تذكر الصلح.
ومن هنا طلعت على معسكرات الحسن عليه السلام، الوان الاراجيف، وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي خلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة اموية !!.. وجاء في أرقام رشواته النقدية الف الف مليون!.
واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فاذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج اهدافه.
انه الظرف الذي استعصى صلاحه بفساد ناسه، ولا تثريب على الحسن من ظرفه اذا فسد، وناسه اذا فشت فيهم الفتنة، وان لانحراف الطبائع حكمه، ولحداثة الاسلام خاصتها، في القلقين من المسلمين أو في المفروضين على الاسلام فرضاً.
واذا قدرللامام الحسن علیه السلام أن يخسر بخيانة جنوده، أو ببراعة الفتن التي تسلح بها عدوه «معركته الاولى»، فليكن منذ اليوم عند «معركته الثانية» التي لا تنالها خيانة الجنود، ولا يضيرها انحراف الطبائع، ولا تزيدها دسائس العدوّ ولا أساليب فتنه البارعة الا مضاءً ونفوذاً وانتصاراً مع الايام.
وتلك هي «الفذلكة» التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الاجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً.
انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه الا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية الا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس - اذا هو فعل ذلك - الا ان يجاهروه السخط والانكار، فاذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الاجيال، واذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ.
وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه الى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الامام المظلوم.
وأيّ غضاضة على الحسن - بعد هذا - اذا هو وقّع الصلح وفق الخطط المرسومة.
وان له من حراجة ميدانه الاول، ومن الامل بنتائج ميدانه الثاني ما يزين له حديث الصلح، فضلاً عما يستأثر به هذا الحديث من ظاهرة الاصلاح في الامة، وما يتفق معه من حقن الدماء وصيانة المقدسات، وتحقيق وجهة النظر الاسلامي.
وكانت اشهراً لم تناهز عدد الاصابع العشر، ولكنها ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع، وكانت قطعة من الزمن يتجه اليها القلب بكل ما يملكه من حبٍّ واعجاب، فاحت بروائح النبوة، وتجلت فيها مزايا الامامة الصادقة، وتكشفت على قلتها وقصر مدتها عن حقائق كثير كثير من الناس هنا وهناك. وهي الاشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الاعمال في الاصلاح، ووصلت بخاتمتها الفضلى مصلحة الدنيا بمصلحة السماء.
واذا بالحسن بن علي، هو ذلك المصلح الاكبر، الذي بشّر به جده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الحديث الذي سبق ذكره: «ان ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
وان اللّه سبحانه عوّد أهل هذا البيت أن يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه وفي مختلف ميادينه، فان لم يكن بالانتصار بالسلاح، فليكن بالشهادة الكريمة في اللّه وفي التاريخ. وان لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالاصلاح وجمع الكلمة وتوحيد أهل التوحيد. وكفى بالاصلاح شرفاً وكفى ببقاء الشرف انتصاراً. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب يدفع الى الحياة ويقوم على السيادة.
ومن السهل ان نفهم دوافع الحسن الى الصلح مما ذكرنا.
أما دوافع معاوية التي اندلف بها من جانبه الى طلب الصلح، فقد كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره الى العجز عن القتال، ولا ينظر في واقعه الى وجهة نظر دين أو اصلاح أو حقن دماء، فلا الاصلاح ولا حقن الدماء بالذي يعنى به معاوية فينزل له عن مطامعه في الفتح. وفي غاراته على المدينة ومكة واليمن، ومواقفه الجريئة بصفين، ما يزيدنا بصيرةً في معرفة الرجل وان قلّ عارفوه.
اذاً، فليكن طموحاً نفعياً خالصاً، هو الاشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه باسطورة.
انه خُيّل اليه بأن تنازل الحسن له عن الحكم، سيكون معناه في الرأي العام، تنازله عن «الخلافة». وظن أنه سيصبح - على هذا -
«الخليفة الشرعي في المسلمين» وللحسن البصري كلمته الذهبية في هذا الموضوع [انتظرها فيما تقرأه عن «معاوية والخلافة» في الفصل 17]. وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى والترمذي وابن حيان وأبو داود والحاكم قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك بعد ذلك» وبلفظ ابي نعيم في الفتن والبيهقي في الدلائل وغيرهما: «ثم تكون ملكاً عضوضاً». والحديث عند جماعة أهل السنة صحيح على شرطهم، وقال قائلهم فيما علق عليه: «انتهت الثلاثون سنة بعده صلى اللّه عليه وآله وسلم بخلافة الحسن بن علي عليهما السلام»، وأخرج أبو سعيد عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: «هذا الامر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل احد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء».
أقول: أما بيعته التي أخذها على الناس بأساليبها المعروفة، فلن تجعل غير الجائز جائزاً.
وكان الحلم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كل غال، وخفي عليه أن الاسلام أعز جانباً من أن يهضم الاساليب الهوج، أو يعطي اقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.
هذا، ولا ننكر ان يكون لمعاوية بواعث أخرى جعلت منه انساناً آخر ينكر الحرب ويمد يده الى الصلح ويوقع الشروط ويحلف الايمان ويؤكد المواثيق. ولكنا - اذ نتحرى بواعثه الاخرى - لا نزول عن الاعتقاد بأن الحلم اللذيذ الذي ذكرنا، كان أكبر دوافعه وأشد بواعثه.
وفيما يلي قائمة مناسبات، تصلح لان تكون بعض دوافعه الى الصلح:
1- انه كان يرى أن الحسن بن علي عليهما السلام، هو صاحب الحق في الامر، ولا سبيل الى اقتناص «الامر» الا من طريق اسكات الحسن - ولو ظاهراً -، ولا سبيل الى اسكاته الا بالصلح.اما رأيه بأولوية الحسن بالامر، فقد جاء صريحاً في كتاب اليه قبيل زحفهما للصراع في مَسكِن، بقوله له: «انك أولى بهذا الامر وأحق به». وجاء صريحاً فيما قاله لابنه يزيد على ذكر أهل البيت: «يا بنيَّ ان الحق حقهم»، وفيما كتبه الى زياد ابن ابيه حيث يقول له على ذكر الحسن عليه السلام: «وأما تسلطه عليك بالامر فحق للحسن أن يتسلط» (1)وكذلك رأيناه يستفتي الامام الحسن، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بامامته(2)ويعترف للحسن بأنه «سيد المسلمين». وهل سيد المسلمين الا امامهم ؟.(3)
2- انه كان - على كثرة الوسائل الطيعة لامره - شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن، ولم يكن كتوماً (كما يدّعي لنفسه) يوم قال في وصف خصومه العراقيين: «فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس على عقلي»(4)، ويوم قال فيهم «ما لهم غضبهم اللّه بشر، ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد»(5)، فكان يرى في الجنوح الى الصلح، مفراً من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المغافر !!.
3- انه كان يهاب موقع الحسن ابن رسول اللّه (صلی الله علیه وآله وسلم) في الناس، ومقامه الروحيّ الفريد في العقيدة الاسلامية، فيتقي حربه بالصلح.وكان يرى من الجائز، أن يقيض اللّه لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه الى حقيقة أمر الحسن وفظاعة موقفهم منه، الامر الذي من شأنه ان لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن الانتقاض عليه والنكول عنه، وبالجيش كله عن الانهيار اخيراً.
وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه على الحسن، حديث النعمان بن جبلة التنوخيّ معه في «صفين» - وهو اذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين -، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شاميّ آخر، وسخر منه بما لم يسخر بمثله رعية من سلطان. وما يؤمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه - اليوم - شعور ذلك التنوخي المغلوب على أمره - يومئذ.
وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين: «واللّه لقد نصحتك على نفسي، وآثرت ملكك على ديني، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه، وحدت عن الحق وأنا ابصره، وما وافّقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأول مؤمن به ومهاجرٍ معه، ولو اعطيناه ما اعطيناك، لكان أرأف بالرعية وأجزل في العطية، ولكن قد بذلنا لك الامر، ولابد من اتمامه كان غياً أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً. وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها، اذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها» !..(6)
وكان من سياسة معاوية، حبس أهل الشام عن التعرف على أحد من كبراء المسلمين - خارج الشام - لئلا يكون لهم من ذلك منفذ الى انكاره أو الانقسام عليه. ولذلك فلا نعرف كيف تسنى لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول اللّه (صلی الله علیه وآله وسلم) ومعرفة سبقه الى الايمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولوّيته بالامر.
وحرى معاوية على تجهيل أهل الشام بأعلام الاسلام الى آخر عهده، وكانت سياسته هذه، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين اولاً، ولحرب الحسن بن علي في مسكن أخيراً.
وتجد ظاهرة هذه السياسة - بما فيها من اعلان عن ضعف صاحبها - فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وفد تحدّى الحسن بن علي (عليهما السلام)، فردّ عليه الحسن بحدّياه البليغة التي لم يسلم منها المحرّض عليها - ايضاً -، فقال معاوية لعمرو: «واللّه ما أردت الا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أنَّ أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا»(7)
4- وكان من الرشاقة السياسية التي لا يخطئها معاوية في سبيل طموحه الاناني الا نادراً، أن يدعو الى «الصلح» فيلح عليه ويشهد على دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في القطرين - الشام والعراق - وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الاسلام. ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة - على ظاهرتها - الا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الحسن. وكان أحد الوجهين المحتملين، أن يدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحرب وذيولها على الحسن والحسين وعلى من اليهما من أهل بيتهما وشيعتهما. ولا تدبير - يومئذ - للعذر من هذه البائقة الكبرى أروع من أن يلقي معاوية مسؤوليتها على الحسن نفسه، ويقول للناس - غير كاذب - «اني دعوت الحسن للصلح، ولكن الحسن أبى الا الحرب، وكنت اريد له الحياة، ولكنه أراد لي القتل، وأردت حقن الدماء، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه...».
ولمعاوية من هذه اللباقة الرائعة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)تصفيته الاموية الاخيرة، وهو اذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالانصاف، الذي يشهد له على انصافه كل من كان قد أشهده - قبل الحرب - على ندائه بالصلح. أما الحسن عليه السلام، فلم يكن الرجل الذي تفوته الرشاقة السياسية ولا الاساليب الدقيقة التي يبرع فيها عدوه للنكاية به. وانما كان - على كل حال - أكبر من عدوه دهاء، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة اللّه وكلمة المصلحة معاً. فرأى من ظروفه المتداعية، ومن سوء نوايا عدوّه فيما أراد من الدعوة الى «الصلح»، ما استدعاه الى الجواب بالايجاب.
ثم لم يكفه أنه قضى بذلك على خطط معاوية وشلها عن التنفيذ، حتى أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء على خصومه باسم الصلح.
وروى فريق من المؤرخين، فيهم الطبري وابن الاثير: «أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه»، وكتب اليه: «أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك».(8)
ثم بتروا الحديث، فلم يذكروا بعد ذلك، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام، فرض أنها [النص الكامل لمعاهدة الصلح]، ولكنها جاءت - في كثير من موادّها - منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً، وتزيدها عدداً.
ولنا لو أردنا الاكتفاء، أن نكتفي - في سبيل التعرّف على محتويات المعاهدة - برواية (الصحيفة البيضاء)، كما فعل رواتها السابقون، فبتروها اكتفاءً باجمالها عن التفصيل، ذلك لان تنفيذ الصلح على قاعدة «اشترط ما شئت فهو لك» معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها، بشتى شروطه التي أرادها، فيما يتصل بمصلحته، أو يهدف الى فائدته، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه، ولا شيء يحتمل غير ذلك.
واذا قدّر لنا - اليوم - أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن،ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه، كنتيجة قطعية لحرية الحسن عليه السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء.
ورأينا بدورنا، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرّف ما كتبه الحسن هناك، أن ننسق - هنا - الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن على معاوية في الصلح، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالاصح الأهم، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة، فوضعنا الصورة في مواد، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها، لتكون - مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل - أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه.
صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان
المادة الاولى:
تسليم الامر الى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله(9) (صلى اللّه عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين((10)
المادة الثانية:
أن يكون الامر للحسن من بعده(11)، فان حدث به حدث فلأخيه الحسين(12)، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد(13)
المادة الثالثة:
أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة(14)، وأن لا يذكر علياً الا بخير(15)
المادة الرابعة:
استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد(16)
المادة الخامسة:
«على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة»(17)
«وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا..»(18)
«وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لاخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق»(19)
الختام:
قال ابن قتيبة: «ثم كتب عبد اللّه بن عامر - يعني رسول معاوية الى الحسن (علیه السلام) - الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به الى عبد اللّه ابن عامر، فاوصله الى الحسن»(20)
وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق اللّه عليه من الوفاء بها، بما لفظه بحرفه:
«وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك، عهد اللّه وميثاقه، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطى اللّه من نفسه»(21)
وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 - على أصح الروايات .
المصادر :
1- ابن ابي الحديد /ج 4 ص 5 وص 13 وص 73
2- اليعقوبي في تاريخه (ج 2 ص 201 وص 202)/ابن كثير في البداية والنهاية (ج 8 ص 40)/البحار (ج 10 ص 98)
3- الامامة والسياسة (ص 159 - 160)
4- المسعودي هامش ابن الاثير (ج 6 ص 67)
5- الطبري /ج 6 ص 3
6- المسعودي /هامش ابن الاثير ج 5 ص 216
7- المحاسن والمساوئ للبيهقي (ج 1 ص 64).
8- الطبري (ج 6 ص 93) وابن الاثير (ج 3 ص 162).
9- المدائني - فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج - (ج 4 ص 8).
10- فتح الباري/ شرح صحيح البخاري - فيما رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية - (ص 156 الطبعة الاولى)، والبحار (ج 10 ص 115).
11- تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 194)، وابن كثير (ج 8 ص 41)، والاصابة (ج 2 ص 12 و13)، وابن قتيبة (ص 150) ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي (ج 3 ص 443 الطبعة الثانية)
12- عمدة الطالب لابن المهنا (ص 52)
13- المدائني - فيما يرويه عنه في شرح النهج - (ج 4 ص 8)، والبحار (ج 10 ص 115)، والفصول المهمة لابن الصباغ .
14- أعيان الشيعة (ج 4 ص 43)
15- الاصفهاني في مقاتل الطالبيين (ص 26)، وشرح النهج (ج 4 ص 15)
16- الامامة والسياسة (ص 200) والطبري (ج 6 ص 92) وعلل الشرائع لابن بابويه (ص 81) وابن كثير (ج 8 ص 14)
17- مقاتل الطالبيين (ص 26)، ابن أبي الحديد (ج 4 ص 15)، البحار (ج 10 ص 101 و115)، الدينوري ( ص 200)
18- الطبري (ج 6 ص 97)، وابن الاثير (ج 3 ص 166)، وأبي الفرج في المقاتل (ص 26)، وشرح النهج (ج 4 ص 15)، والبحار (ج 10 ص 115)، وعلل الشرائع (ص 81)، والنصائح الكافية (ص 156).
19- البحار (ج 10 ص 115)، والنصائح الكافية ص 156
20- الامامة والسياسة (ص 200)
21- البحار (ج 10 ص 115)
source : .www.rasekhoon.net