عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

صور التقية في كتب العامة

صور التقية في كتب العامة

روى العامة الكثير من التقية القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الأخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامة في هذا المجال لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقية واقعا ، لا سيما فيما سيأتي من الصور الفعلية ، لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقية ، وإلا فهو على أقل تقدير من التقية ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعا .
ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقية ما يأتي :
تقية عمار بن ياسر وجماعته : وهي أوضح من نار على علم ، والإطالة فيها إطالة في الواضحات ، ويكفي أنه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآنا مبينا ، وقد علم الكل منزلة عمار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنه ملئ إيمانا من فرقه إلى قدمه .
تقية ابن مسعود : عن الحارث بن سويد قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به . أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ( 1 ) .
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري : أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنه كان يقول : إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم ( 2 ) . وقد بينا سابقا من نسب هذا القول إلى أبي موسى الأشعري ، كما ورد نظيره عند الإمامية منسوبا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تقدم أيضا .
تقية ثوبان وإباحته الكذب في بعض المواطن : أورد عنه الغزالي أنه كان يقول : الكذب إثم إلا ما نفع به مسلما ، أو دفع عنه ضررا(3)
علما بأن التقية لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عز وجل : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ( 4 ) . قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء ( 5)
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبد الله ، قال : إن ميمونا ( 6 ) كان جالسا وعنده رجل من قراء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير .
فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلا وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟ ما كنت فاعلا ؟ قال : كنت أقول : لا . قال : فذاك (7)
على أن الكذب هو ما عقد كذبا ، والتقية إنما تعقد للإحسان ، والإصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : إنما الأعمال بالنيات ، ثم كيف تكون التقية كذبا ! وقد اتقى قومه أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟
تقية أبي هريرة : أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم ( 8) .
وقد صرح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي تبين أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنه كان يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم ، كقوله : ( أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ( 9 ) .
تقية ابن عباس من معاوية : أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنه قال : قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوتر بواحدة ؟ - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس : أصاب معاوية .
هذا في الوقت الذي بين فيه الطحاوي ما يدل على أنكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟ .
قال الطحاوي بعد ذلك : وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : ( أصاب معاوية ) على التقية له ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث (10)
وهذه هي عين التقية ، إذ كيف يستصوب حبر الأمة صلاة حمار !
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الأمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟ ! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لأخبرك (11)
وأخرج أيضا عن قتادة أنه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه . قال الدكتور الهراس في هامشه : يظهر أن سعيدا رحمه الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت (12)
هذا وقد أورد العلامة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (13)
تقية رجاء بن حيوة : قال القرطبي المالكي : وقال إدريس بن يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالأخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه . فقال : يا رجاء ! أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ؟ ! فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلا هو . قال : الله الذي لا إله إلا هو . فأمر الوليد بالجاسوس ، فضرب سبعين سوطا . فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يستسقى المطر وسبعين سوطا في ظهري ! ! فيقول رجاء : سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم (14)
أقول : إن تقية رجاء هنا مضاعفة . أما أولا ، فبإظهاره خلاف الواقع تقية . وأما ثانيا ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضا .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس - صاحب مالك بن أنس - مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلا يطلبه السلطان ، ولما أحضر أنكر ذلك وحلف بأنه ما آواه ولا يعلم له مكانا (15)
تقية واصل بن عطاء : قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفرا في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا .
فقال : كيف تستحلون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لأي شئ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا
مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج - والله - معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا (16)
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي : بعد ثورة إبراهيم بن عبد الله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور - يوما - لعمرو بن عبيد : بلغني أن محمدا بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا قال عمرو : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه . قال : فبم أجبته ؟ قال : أو ليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا ، أني لا أراه ؟ ! قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي ! ! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لأحلفن لك تقية . قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر (17)
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى : أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعت أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟
فقال : مخلوق . فقال : تتوب وإلا أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله . قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق . فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟ قال : يا بني خفت أن يقدم علي فأعطيته التقية(18)
ولعدم جدوى الإكثار من صور التقية القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني - بهذا الصدد - فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره . قال : وزاد الحق غموضا وخفاء أمران : أحدهما : خوف العارفين - مع قلتهم - من علماء السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق . .(19)
المصادر :
1- المحلى / ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409
2- صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس
3- إحياء علوم الدين / الغزالي 3 : 137
4- سورة النحل : 16 / 105 - 106
5- الدر القيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي 5 : 537 - 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين
6- هو ميمون بن مهران التابعي ( ت / 117 ه‍ )
7- الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي الدنيا : 118 / 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1412 ه‍
8- صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ العلم
9- فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 1 : 173
10- شرح معاني الآثار / الطحاوي 1 : 389 ، باب الوتر ، ط 2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1407 ه‍
11- كتاب الأموال / أبو عبيدة القاسم بن سلام : 567 / 1813
12- كتاب الأموال : 565 / 1801
13- الغدير / العلامة الأميني 1 : 380 ، ط 5 ، دار الكتاب العربي ، بيروت / 1403 ه‍
14- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 124
15- الجامع لأحكام القرآن 10 : 124
16- كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : 136 ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1405 ه‍
17- تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 12 : 168 - 169 / 6652 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي
18- تاريخ بغداد 13 : 379 - 380 / 7297
19- محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط 2 ، دار الفكر ، بيروت / 1398 ه‍


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التشيّع إتجاه فكري وسياسي
الحياة العلمية والسياسية في زمن الإمام الباقر ...
البدعة الحسنة والسيئة
المعصومة سلام الله علیها
فکرة عمل الدیود باعث للضوء
حبّ أهل البیت علیهم السلام فی السُنّة المطهّرة
الإمام الباقرعليه السلام وإصلاح الأمّة
استهداف نبي الرحمة (ص) من الراهب بحيرى حتى براءة ...
مع الثورة الحسينية
رساله الامام الهادي ( عليه السلام ) فى الرد على ...

 
user comment