روى العامة الكثير من التقية القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الأخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامة في هذا المجال لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقية واقعا ، لا سيما فيما سيأتي من الصور الفعلية ، لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقية ، وإلا فهو على أقل تقدير من التقية ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعا .
ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقية ما يأتي :
تقية عمار بن ياسر وجماعته : وهي أوضح من نار على علم ، والإطالة فيها إطالة في الواضحات ، ويكفي أنه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآنا مبينا ، وقد علم الكل منزلة عمار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنه ملئ إيمانا من فرقه إلى قدمه .
تقية ابن مسعود : عن الحارث بن سويد قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به . أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ( 1 ) .
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري : أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنه كان يقول : إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم ( 2 ) . وقد بينا سابقا من نسب هذا القول إلى أبي موسى الأشعري ، كما ورد نظيره عند الإمامية منسوبا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تقدم أيضا .
تقية ثوبان وإباحته الكذب في بعض المواطن : أورد عنه الغزالي أنه كان يقول : الكذب إثم إلا ما نفع به مسلما ، أو دفع عنه ضررا(3)
علما بأن التقية لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عز وجل : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ( 4 ) . قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء ( 5)
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبد الله ، قال : إن ميمونا ( 6 ) كان جالسا وعنده رجل من قراء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير .
فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلا وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟ ما كنت فاعلا ؟ قال : كنت أقول : لا . قال : فذاك (7)
على أن الكذب هو ما عقد كذبا ، والتقية إنما تعقد للإحسان ، والإصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : إنما الأعمال بالنيات ، ثم كيف تكون التقية كذبا ! وقد اتقى قومه أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟
تقية أبي هريرة : أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم ( 8) .
وقد صرح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي تبين أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنه كان يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم ، كقوله : ( أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ( 9 ) .
تقية ابن عباس من معاوية : أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنه قال : قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوتر بواحدة ؟ - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس : أصاب معاوية .
هذا في الوقت الذي بين فيه الطحاوي ما يدل على أنكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟ .
قال الطحاوي بعد ذلك : وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : ( أصاب معاوية ) على التقية له ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث (10)
وهذه هي عين التقية ، إذ كيف يستصوب حبر الأمة صلاة حمار !
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الأمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟ ! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لأخبرك (11)
وأخرج أيضا عن قتادة أنه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه . قال الدكتور الهراس في هامشه : يظهر أن سعيدا رحمه الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت (12)
هذا وقد أورد العلامة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (13)
تقية رجاء بن حيوة : قال القرطبي المالكي : وقال إدريس بن يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالأخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه . فقال : يا رجاء ! أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ؟ ! فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلا هو . قال : الله الذي لا إله إلا هو . فأمر الوليد بالجاسوس ، فضرب سبعين سوطا . فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يستسقى المطر وسبعين سوطا في ظهري ! ! فيقول رجاء : سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم (14)
أقول : إن تقية رجاء هنا مضاعفة . أما أولا ، فبإظهاره خلاف الواقع تقية . وأما ثانيا ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضا .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس - صاحب مالك بن أنس - مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلا يطلبه السلطان ، ولما أحضر أنكر ذلك وحلف بأنه ما آواه ولا يعلم له مكانا (15)
تقية واصل بن عطاء : قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفرا في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا .
فقال : كيف تستحلون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لأي شئ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا
مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج - والله - معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا (16)
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي : بعد ثورة إبراهيم بن عبد الله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور - يوما - لعمرو بن عبيد : بلغني أن محمدا بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا قال عمرو : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه . قال : فبم أجبته ؟ قال : أو ليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا ، أني لا أراه ؟ ! قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي ! ! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لأحلفن لك تقية . قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر (17)
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى : أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعت أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟
فقال : مخلوق . فقال : تتوب وإلا أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله . قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق . فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟ قال : يا بني خفت أن يقدم علي فأعطيته التقية(18)
ولعدم جدوى الإكثار من صور التقية القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني - بهذا الصدد - فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره . قال : وزاد الحق غموضا وخفاء أمران : أحدهما : خوف العارفين - مع قلتهم - من علماء السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق . .(19)
المصادر :
1- المحلى / ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409
2- صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس
3- إحياء علوم الدين / الغزالي 3 : 137
4- سورة النحل : 16 / 105 - 106
5- الدر القيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي 5 : 537 - 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين
6- هو ميمون بن مهران التابعي ( ت / 117 ه )
7- الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي الدنيا : 118 / 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1412 ه
8- صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ العلم
9- فتح الباري / ابن حجر العسقلاني 1 : 173
10- شرح معاني الآثار / الطحاوي 1 : 389 ، باب الوتر ، ط 2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1407 ه
11- كتاب الأموال / أبو عبيدة القاسم بن سلام : 567 / 1813
12- كتاب الأموال : 565 / 1801
13- الغدير / العلامة الأميني 1 : 380 ، ط 5 ، دار الكتاب العربي ، بيروت / 1403 ه
14- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 124
15- الجامع لأحكام القرآن 10 : 124
16- كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : 136 ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت / 1405 ه
17- تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي 12 : 168 - 169 / 6652 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي
18- تاريخ بغداد 13 : 379 - 380 / 7297
19- محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط 2 ، دار الفكر ، بيروت / 1398 ه
source : .www.rasekhoon.net