اختلف العلماء في القوة المدركة وهل يقتصر الإدراك على الحس أم يتعداه إلى العقل ليؤمن بالأشياء التي خفيت عليه وقصرت الحواس الخارجية عن إدراكها ؟ أغلب القدماء وحكماء المسلمين جوزوا التأويل على الحس والعقل معاً ، بل قالوا إن البرهان العلمي لا يشمل المحسوس ، وهذا ما يخالف علماء الطبيعة القائلون بالملاحظة والتجربة وإنما تدرك الأشياء عندهم من خلال الحواس ، لذا لا يعتمدون على غيره ، ودللوا على صحة مقولتهم بعدة أدلة منها : قالوا إن العقل كثيراً ما يعتريه الخطأ في التفكير وبالتالي الخطأ في البرهان ، أما الأسلوب الصحيح الذي يعتمده في نتائجه على الملاحظة والإستقراء والتجرية على أن هذا الدليل واه جداً ، لأن العقل إذا كان يخطأ أحياناً فهذا لا يعني تعطيله وعدم الاعتماد عليه مطلقاً ، كما أن الحواس هي الأخرى قد لا تصيب الواقع بالملاحظة والتجربة والقرآن يؤكد لنا هذه الصورة وذلك أن الظمآن يشاهد من بعيد السراب فيحسبه ماء ... وهو توهم وخيال غير قابل الاعتماد ، وهكذا بقية الحواس فلا شك من وقوع الخطأ في تشخيصها الخارجي .
ثم أن موضوع الخطأ والصواب تشترك فيه مقدمات حية ليستنتج منها كليات عقلية قابلة للاحتجاج كالقياس المنطقي لعملية استقراء شامل .
علم الغيب مختص بالله سبحانه ، كما أن مفتاح الغيب وخزائن الغيب هي عند الله تعالى ، قال عز من قائل : ( وعنده مفتاح الغيب لا يعلمها إلا هو ) (1) وقال تعالى : ( ولله خزائن السماوات والأرض ) (2) وقال تعالى : ( عالم الغيب والشهادة ...) (3) .
ثم علمه سبحانه لا يقتصر على الغيب أو الشهادة بل إنه عام كلي يشمل هذا وذاك وغيره قوله تعالى : ( ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) (4) .
لقد أدرك الإنسان الأشياء الشاخصة المحسوسة بقواه وإدراكاته الحسية وما عداها فهي أما غائبة عنه وأما هي غيب وسبحانه قد أحاط علمه بكل هذه الأقسام وقبل ان تقع ، قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (5) .
والغيب قد يكون مطلقاً بحيث لا يمكن معرفته وإنما علمه عند الله سبحانه ، وقد يكون الغيب نسبياً ، وذلك ما غاب عنا ولم تدركه حواسنا الآن كبعض مجاهيل البحار وغرائب مخلوقاته وبعض الحقائق التي ممكن معرفتها فيما لو توفرت لها مقدماتها الخاصة وتهيأت لها الإستعدادات الكاملة .
ثم إن الإنسان المحدود في الأبعاد ، والحواس والإدراك كيف يستطيع أن يدرك المطلق الذي يحده زمان ولا مكان ؟ والإنسان والمخلوق العاجز كيف يستطيع أن يدرك كل ما غاب عنه وخفي ؟
فالغيب شيء خارج عن حد الإنسان . كما أن العلم الذي يكسبه العبد بأي وسيلة كانت ومهما بلغ ، فلا يستطيع أن يحيط بكل العلوم والمعارف الإكتسابية فكيف به أن يحيط بالعلم اللدني ؟! .
أما سبحانه فيعلم الغيب لأنه غير محدود الوجود ، وهو بكل شيء محيط فلا يمتنع شيء عنه فما امتنع علينا فهو غيب لا نعرفه ، ولا يصدق شيء من هذا الامتناع علي الباري ، فلا يكون غيباً بالنسبة إليه ، بل كل شيء قد أحصاء علمه ...
وهذا العلم الذي استأثره الله لنفسه ، قد يظهر بعضه لأنبيائه ورسله ، فالوحي غيب ، وكثيراً ما يخبر الرسول أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور لم تقع أو ستقع في القريب العاجز أو في البعيد الآجل ، فهذا من علم الله الذي استأثره لنفسه وقد أظهر لعبده المختار للنبوة والرسالة وهذا الإظهار نوع كرامة وتأييد بل إنه نوع معجزة للتدليل على صدق الرسول والرسالة ...
قال تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) (6) ، إذاً سبحانه وتعالى يعلم الغيب بالأصالة وأنه يعلم لذاته ، وغيره ـ النبي وسائر المعصومين ـ يعلمون بالتبعية أي أنهم يعلمون بعض ذلك الغيب بتعليم من الله سبحانه .
وشأن العلم هنا يساوق التوفي ويضارعه ، فإن التوفي ينسب إلى الله تعالى أصالة ، قوله سبحانه : ( الله يتوفى الأنفس ) (7) وقوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ) (8) وقوله تعالى : ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ... ) (9) فهذه وغيرها من الآيات صريحة أن التوفي من قبل الله تعالى هو بالأصالة لكن لا ينافي لو نسب التوفي إلى الملائكة إلا أنه على نحو التبعية والتكليف من قبل المولى لكونهم أسباباً متوسطة مسخرة له يعلمون بأمره ولا يحيدون عنه ، قوله تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) (10) وقوله تعالى : ( الذين تتوفاهم الملائكة ) (11) .
وعلى هذا التقرير فإن الأنبياء والرسل والأولياء إذا علموا من الغيب شيئاً فإنما هو على نحو التبعية ، وبتعليم منه تعالى لمن ارتضى من رسول ، والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى : ( قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بكم بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحي إلي ) (12) .
ولا يخفى أن الوحي هو من علم الغيب الذي ينزله الله على أنبيائه ورسله ليكون الوحي جزءاً مهماً من حياة الرسالة الرسول الذي سوف يؤدي إلى تبليغ رسالة السماء العادلة وبها يهتدي المهتدون ويضل من أبى .
فما يخبر بها النبي عن طريق الوحي هو من العلم الذي استأثره الله وبالتالي هو غيب أظهره الله لنبيه قوله تعالى : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) (13) وقوله تعالى : ( فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ) (14) وقوله تعالى : ( فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا ...) (15) .
وهذا المقياس لا يقتصر على النبي بل يدخل فيه الرسول والإمام ... لأنك عرفت أن النبي خارج عن الاستثناء في الآية الشريفة حيث أن النبي ينزل عليه الوحي وينبأه بما يريد سبحانه وهذا من سنخ الغيب أظهره الله لتعليم نبيه والنبي يعلمه بالتبعية لأنه مكلف بأداء الرسالة فهو الوسيط بين الله والناس وأما الرسول فإنه مستثنى بالآية الشريفة : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (16) .
فما كان للنبي ـ معرفته للغيب ـ بالتبعية ، صار إلى الأئمة عليهم السلام بالوراثة فهم عليهم السلام يعلمون الغيب بهذا المقدار . ولا أعني بالوراثة هو تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم فحسب ، بل كل ما ورثوه منه وما نالوه بواسطة المحادثة والنقر في الأسماع والإلهام وغير ذلك (17) .
كتب الإمام الرضا رسالة قال فيها : قال علي بن الحسين عليه السلام أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أمين الله في أرضه فلما قبض محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنا أهل البيت ورثته ونحن أمناء الله في أرضه عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام وأنا لنعرف الرجل إذا رأيناه ، بحقيقة الإيمان وحقيقية النفاق وأن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم أخذ الله علينا وعليهم اليثاق يردون موردنا ويدخلون مدخلنا نحن النجباء وإفراطنا إفارط الانبياء نحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب الله ونحن أولى الناس بالله ومحن أولى الناس بكتاب الله ونحن أولى الناي بدين الله ونحن الذين شرع لنا دينه فقال في كتابه شرع لكم ـ يا آل محمد ـ من الدين ما وصى به نوحاً . وقد وصنا بما أوصى به نوحاً والذي أوحينا إليك ـ يا محمد ـ وما وصينا بما أوصى به نوحاً والذي أوحينا إليك ـ يا محمد ـ وما وصينا به إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى وإسحاق ويعقوب فقد علمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم ، نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أولي العزم من الرسل أن أقيموا الدين ـ يا آل محمد ـ ولا تفرقوا فيه وكونوا على جماعة كبر على المشركين من أشرك بولاية علي ما تدعوهم إليه من ولاية علي أن الله ـ يا محمد ـ يهدي إليه من ينيب من يجيبك إلى ولاية علي عليه السلام . (18) .
صرح الإمام عليه السلام أنهم أهل البيت ورثة النبي وأمناء الله في الأرض وعندهم علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ... وغير ذلك من العلوم التي ورثوها من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والنبي علمه من الوحي من الله الذي علمه بعض الغيب فأظهره له ، فكان يعرفه بالتبعية لا بالأصالة .
وهذا العلم لو انتقل إلى الأئمة المعصومين أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمنائه على دينه لم يكن فيه أي ضير ولا ينافي أصل العقيدة التي أثبتناها قبل قليل ، فأي بدعة فيه ؟!
وهل تعتقد أن ذلك غلو في حق الأئمة عليهم السلام ؟!
بل هم أكثر من ذلك لو عرفنا حقيقتهم ومنزلتهم عند الله سبحانه وتعالى ، وقد أشار الباري جل وعلا فقال : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقتون ) فهم أولى من غيرهم بهداية الناس . وهم أولى من غيرهم بالصبر وهم أولى من غيرهم باليقين في آياته ...
نعم في الغلو لو قلنا أنهم يعلمون الغيب على وجه الإطلاق أو كونه بالأصالة والاستقلالية ، وهذا ما تقره الشيعة الإمامية الإثنا عشرية . والأئمة عليهم السلام نفوا عن أنفسهم هذه المرتبة وأغلظوا على من قال به ممن انتحل التشيع ، وأظهر حبه لهم ، بل ولعنده وأمروا الناس بلعنه . والأخبار في هذا الجانب كثيرة ، منها التوقيع الصادر عن الإمام الحجة ( عجلالله فرجه الشريف) حيث نفى ذلك الاعتقاد وتلك الرتبة التي قال بها الغلاة من الفرق التي أحدثتها السياسة القائمة آنذاك وساعدت الظروف على نموها إذ قال الإمام عليه السلام : إني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول إنا نعلم الغيب ونشاركه في ملكه ...
وكذلك الخبر الوارد عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام لما سأله عن مقالة بعض الغلاة فقال له يقولون : تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب ...
فأجابه الإمام عليه السلام ... والله ما يعلم هذا إلا الله .
وهكذا سنورد بعض الأخبار التي تنتفي عنهم ما كان من مختصات الباري وتثبت بعض ما كان لهم والذي حصلوه عن جدهم بالوراثة كما يرث سائ الناس من آبائهم وأجدادهم مع الفارق حيث يرث الناس الأموال وبعض الذخائر المادية والمعنوية ، أما الأئمة المعصومون ، فإنهم ورثوا العلم والهيبة والوقار والكمالات الروحية والبدنية ...
عن سدير الصيرفي قال : سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه السلام عن قوله عز وجل :( بديع السماوات والأرض ) (19) قال أبو جعفر عليه السلام : إن الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قلبه ، فابتدع السماوات والأرضيين ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : ( وكان عرشه على الماء ) (20) ؟ فقال له حمران : أرأيت قوله جل
ذكره : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ) (21) فقال أبو جعفر عليه السلام : ( إلا من ارتضى من رسول ) ، كان الله محمد ممن ارتضاه ، وأما قوله تعالى : ( عالم الغيب ) فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ، ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يفضيه إلى الملائكة ، فذلك يا حمران ، علم موقوف عنده إليه فيه الشيئة ، فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا يمضيه ، فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلينا (22) .
الإمام سلام الله عليه في حديثه مع حمران يفرق بين العلم الذي استأثره الله لنفسه ، وهو الذي إن شاء يمضيه وإن لم يشاء لن يمضيه . هذا علم خاص به ، وبين العلم الذي قدره وأمضاه ، وهذا قد ينتهي إلى الرسول ومنه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأئمة عليهم السلام .
وعن سدير أيضاً قال : كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه السلام إذا خرج إلينا وهو مغضب ، فلما أخذ مجلسه قال : يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت أي بيوت الدار هي ، قال سدير : فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير ومسير وقلنا له : جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم عملاً كثيراً ، ولا ننسبك إلى علم الغيب ، قال : فقال : يا سدير ، ألم تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قال فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليم كرفك ) (23) قال : قلت جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟ قال : قلت أخبرني به ؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ؟ قال : قلت أخبرني به ؟ قال قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ؟! قال : قلت جعلت فداك ما أقل هذا فقال : يا سدير ما أكثر هذا ، أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به ، يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضاً : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) (24) قال : قلت جعلت فداك ما أقل هذا فقال يا سدير : ما أكثر هذا ، وأن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير ، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضاً : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) (25) قال : فقلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه ؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كله ، قال : فأوما بيده إلى صدره وقال : علم الكتاب والله كله عندنا علم الكتاب والله كله عندنا (26) .
وعن عمار السباطي قال : سألت أبا جعفر عليه السلام يقول : نزل جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم برمانتين من الجنة ، فلقيه علي عليه السلام فقال : ما هاتان الرمانتان اللتان في يدك ؟ فقال : أما هذا فالنبوة ، ليس لك فيها نصيب ، وأما هذا فالعلم ثم فلقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنصفين فأعطاه نصفها وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصفها ثم قال : أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه ، قال : فلم يعلم والله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرفاً مما علمه الله عز وجل إلا وقد علمه علياً ثم انتهى العلم إلينا ، ثم وضع يده على صدره (27) .
يستفاد من الحديث عدة أمور منها :
1 ـ أن النبوة مختصة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس للإمام علي نصيب فيها وهذا خير دليل للرد على من غلا في حق أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين .
2 ـ أن علم الرسول عند الإمام أمير المؤمنين ، وقد صار إليه أما بتعليم وأما بوراثة أو بطريق ما .
3 ـ ما كان عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام انتقل إلى ولده المعصومين وكان الإمام أبي جعفر واحداً منهم حيث أشار إلى صدره .
عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : روينا عن أبي عبد الله عليه السلام أنا قال : إن علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الاسماع ، فقال أما الغابرفما تقدم من علمنا ، وأما المزبور فما يأتينا ، وأما النكت في القلوب فإلهام وأما النقر في الأسماع فامر الملك (28) .
في الحديث إشارة إلى نوع العلم وأقسامه ، وإلى طريق أخذ العلم فنوع العلم قسمان ما كان وما يكون . أما كيفية أخذه فيتم أما بطريق الإلهام ، وأما بطريق أمر الملك .
الطبرسي في الاحتجاج يذكر التوقيع الذي خرج عن صاحب الزمان عليه السلام رداً على الغلاة لكتاب كتبه محمد بن علي بن هلال الكوفي إليه عليه السلام ، قال عليه السلام :
يا محمد بن علي تعالى الله عز وجل عما يصفون سبحانه وبحمده ، ليس نحن شركاؤه في عمله ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) (29) .
وأنا وجميع آبائي من الأولين : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين ومن الآخرين محمد رسول الله وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن مضى من الأئمة صلوات الله عليهم أجميعن ، إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري عبيد الله عز وجل يقول الله عز وجل : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) (30) .
يا محمد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم ، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه ، فأشد الله الذي لا إله إلا هو به شهيداً ، ورسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وملائكته وأنبياءه وأولياءه عليهم السلام وأشهدك وأشهد كل من سمع كتابي هذا أني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول أنا نعلم الغيب ونشاركه في ملكه ، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه الله لنا وخلقنا له ، أو يتعدى بنا عما قد فسرته لك وبيتنه في صدر كتابي .
وأشهدكم : أن كل من نبرأ منه فإن الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه أن لا يكتمه لأحد من موالي وشيعتي ، حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي لعل الله عز وجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق ، وينتهون عما لا يعلمون منتهى أمره ، ولا يبلغ منتهاه ، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته فقد حلت عليه اللعنة من الله وممن ذكرت من عباده الصالحين (31) .
نقل الكشي عن حمدويه قال : حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن ابن المغيرة قال : كنت عند أبي الحسن عليه السلام أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عليه السلام فقال يحيى : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟ فقال سبحان الله ضع يدك على رأسي ، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت .
قال ثم قال : لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (32) .
وبهذا الخبر يتأكد أن علمهم عليهم السلام إنما ورثوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن علم الغيب الذي هو مختص بالله ليس لهم ، بل استأثرهم الله سبحانه بفيوضات وإلهام ، والقرآن الكريم يؤكد ذلك المعنى أو المقدار المستأثر : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول ... ) (33) .
ومما يؤكد الذي قلناه الخبر المروي عن أبي عمرو عن حمدويه قال :
حدثنا يعقوب عن ابن أبي عمير عن شعيب عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام أنهم يقولون ، قال : وما يقولون ؟ قلت يقولون تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب . فرفع يده إلى السماء وقال سبحان الله سبحان الله لا والله ما يعلم هذا إلا الله (34) .
والخبر المروي عن أحمد بن علي القمي السلولي ، قال : حدثني أحمد ابن محمد بن عيسى عن صفوان ، عن عنبسة بن مصعب ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : أي شيء سمعت من أبي الخطاب ؟
قال سعمته يقول : إنك وضعت على صدره وقلت له عه ولا تنس ! وإنك تعلم الغيب وأنك قلت له : هو عيبة علمنا ، وموضع سرنا ، أمين على أحيائنا وأمواتنا .
قال : لا والله ما مس شيء من جسدي إلا يده ، وأما قوله أني قلت أعلم الغيب : فوالله الذي لا إله إلا هو ما أعلم الغيب ، ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنا قلت له ، قال : وقدامه وجويريه سوداء تدرج .
قال : لقد كان مني إلى أم هذه ، أو إلى هذه كخطة القلم فأتتني هذه ، فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني .
ولقد قاسمت مع عبد الله بن الحسن حائطاً بيني وبينه ، فأصابه السهل والشراب وأصابني الجبل ، فلو كنت أعلم الغيب لأصابني السهل والشراب وأصابه الجبل . وأما قوله إني قلت له هو عيبة علمنا ، وموضع سرنا ، أمين على أحيائنا وأمواتنا ، فلا أجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إي كنت قلت له شيء من هذا قط (35) .
بجد فيما تقدم عبارات صريحة منهم عليهم السلام في نفي الغيب الذي كان يتصوره الغلاة في حقهم وهو الغيب الذاتي ، أما العرضي أو الذي يكون بالتبعية من قبيل علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الوصايا وما ورثوه ، فهذا أمر محقق وشيء عادي بالنسبة لهم ، لأن علمهم هذا ليس طويلاً قبال علم الله ، بل إنما هو في العرض يتحقق لهم . وما ورد في الأخبار أنهم يعلموم ما كان وما هو كائن إلى قيام الساعة ، أو أنهم يعلمون أسماء أصحابهم وشيعتهم وهم في الاصلاب ، وكذا يعلمون أسماء أعدائهم ويعلمون متى يموتون وأي شيء يحصل لهم من البلايا والمصائب ، وما أخبروه عن الحوادث التي تقع في المستقبل ، وأنهم يعرفون الإضمار وحديث النفس ، ويعرفون منطق الطير ولغة الحيوانات ... إلى غير ذك من العناوين التي قد يتصورها المخالف أنها من الغلو في حق الأئمة عليهم السلام ، بل وربما بعض المواقف أيضاً يدعيها غلواً فيهم ... فهذا الإدعاء وذاك التصور من المخالفين غير صحيح .وأقول كل ذلك لم يكن من الغلو بشيء بل هي مراتب حقة لهم ، وأنهم عباد مكرمون أكرمهم الله بالعلم واليقين الثابت ، وليس هم أقل شأناً من النبي سليمان عندما أطاعته الريح والحيوانات والجن والطير ، ليس هم أقل شأناً من عيسى الذي كان يحيى الموتى بإذن الله !
نعم إن هؤلاء الأنبياء سلام الله عليهم امتازوا بالنبوة ونزول الوحي عليهم ، والأئمة المعصومون لم يكن لهم ذلك ، وقد ورد عنهم عليهم السلام أنهم قالوا : نزهونا عن الألوهية وقولوا فينا ما شئتم ، وفي بعض الأخبار يستفاد منها تنزيههم عن النبوة كذلك .
ورب سائل يسأل كيف ورثوا هذه العلوم من النبي ؟ وهل علمهم كان فقط بالوراثة ؟ من أن علمهم قد يكون بالوراثة وقد يكون بغيره ، فأما الأول الأخبار والروايات مستفيضة ومتواترة حتى بلغت حد الشهرة ، فإن علومهم ورثوها عن الكتب التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والتي فيها علم كل شيء وما كان وما سيكون ، ومن الأحكام فيها تبيان كل شيء حتى ، وكذلك ورثوا الصحيفة الجامعة ، وورثوا مصحف فاطمة وكتاب الجفر ...
المصادر :
1- سورة الأنعام ، الآية : 59 .
2- سورة المنافقون ، الآية : 7 .
3- سورة الأنعام ، الآية : 73 .
4- سورة الأنعام ، الآية : 59 .
5- سورة الحجر ، الآية : 21 .
6- سورة الجن ، الآية : 26 ـ 27 .
7- سورة الزمر ، الآية : 42 .
8- سورة آل عمران ، الآية : 55 .
9- سورة النحل ، الآية : 70 .
10- سورة السجدة ، الآية : 11 .
11- سورة النحل ، الآية : 28 .
12- سورة الأحقاف ، الآية : 9 .
13- سورة آل عمران ، الآية : 44 .
14- سورة الشعراء ، الآية : 6 .
15- سورة التحريم ، الآية : 3 .
16- سورة السجدة ، الآية : 24 .
17- المرويات التي سنذكرها في ص 145 و 146 .
18- بصائر الدرجات 138 .
19- سورة الأنعام ، الآية : 101 .
20- سورة هود ، الآية : 7 .
21- سورة الجن ، الآية : 26 .
22- أصول الكافي 1 / 256 .
23- سورة النمل ، الآية : 40 .
24- سورة الرعد ، الآية : 43 .
25- سورة الرعد الآية 43 أنظر أصول الكافي 1 / 257 .
26- أصول الكافي 1 / 257 .
27- أصول الكافي 1 / 264 .
28- أصول الكافي 1 / 264
29- سورة النمل ، الآية : 65
30- سورة طه ، الآية : 124 ـ 126
31- الاحتجاج 2 / 474
32- رجال الكشي 4 / 587
33- سورة الجن ، الآية : 26 ـ 27
34- رجال الكشي 2 / 588 .
35- رجال الكشي 4 / 581 .
source : .www.rasekhoon.net