تلكم أبعاد الصورة التي وصلت إلينا عن الأحداث، ولا شك أنّها بقية من ملامح الصورة التي حفظتها ذاكرة الرواة والمؤرخين, وربما سمحت أولم تسمح بها سلطات الحاكمين، كما لا شك بأنّ الصورة أصابها من التلميع والتصنيع، إمعاناً في تضييع التشنيع.
لذلك تبينت الصورة باهتة الألوان أحياناً كثيرة، وربما غير متناسقة الأبعاد، لاختلاف التسجيل تبعاً للأهواء والآراء، لكن الحاسة السادسة _ كما يقولون _ لها عملها في استنطاق الصورة عما محي منها، وما بقي معها من خشخشة ووشوشة.
ولا شك أنّ المسلم الواعي لدينه تصيبه الصدمة حين يقرأ تلك الأحداث المروعة والمفزعة المفجعة، كيف يمكن له أن يصدق أنّ رموز الصحابة الّذين عاصروا النبي(صلى الله عليه وآله)، وعايشوه سفراً وحضراً، هم الّذين قاموا بذلك, كيف لم يمنعهم طول الصحبة، ولا علقة المصاهرة، ولا سابقة الإسلام، عن ارتكاب ما جرى؟
كيف لم يرعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاً ولاذمّة؟ فلم يحترموا قرباه بمودة جعلها الله تعالى أجر رسالته فقال: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}(1).
كيف استطاعوا أن يرتكبوا مأثماً ما له من نظير؟ فأرادوا أن يحرقوا بيت عليّ وفاطمة عليهما وعلى ولديهما ومن فيه، وذلك البيت هو الذي بالأمس القريب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتيه, فيقف عند بابه كلّ صباح طيلة تسعة أشهر ويقرأ قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(2).
كيف صمّت أسماعهم عن صوت نبيهم, وهو لا يزال يرنّ في مسمع الدهر يقول لأصحابه: ((أوصيكم بأهل بيتي خيراً))(3).
وهكذا تتوالى الصدمات كلّما توالت الاستفهامات كيف وكيف، وتزداد عنفاً حين تتوثق الروايات، ويبقى القارئ في حيرة من أمره بين التصديق والتشكيك، كيف جرى ما جرى؟! فالخطب جليل، والرزء عظيم، والذوات صحابة من الرعيل الأول، أضفيت عليهم ابراد القداسة، من نسج الحاكمين والسياسة.
ولعل أشدها عنفاً تلك الصدمة التي تكاد تذهب بلب القارئ دهشة وحيرة، حين يقرأ ما أخرجه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص والسبكي في شفاء الغرام، والأمرتسري في أرجح المطالب(4) فدخل حديث بعضهم في بعض: (انّ عمر بن الخطاب سمع رجلاً يذكر علياً بشر، فقال: ويلك تعرف مَن في هذا القبر؟ _ وأشار إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) _ فسكت الرجل، فقال عمر: محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهذا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب، قبّحك الله فقد آذيت رسول الله في قبره، لا تذكروا علياً إلاّ بالخير، إن تنقّصته آذيت صاحب القبر، إذا آذيت علياً فقد آذيته).
فمن يقرأ هكذا خبراً عن عمر، ألا يصاب بالدهشة والحيرة؟ فيسأل عن عمر أين غاب عنه ذلك الوعي يوم جاء بقبس من نار ليحرق البيت على من فيه؟
وهل ما ذكره من تقبيح في الدعاء على من تنقّص علياً بلسانه، لا يشمل من جاء ليحرق عليه بيته؟ وهل أن إيذاء النبي(صلى الله عليه وآله) يخص من تنقّص علياً بلسانه فحسب، فلا يشمل من آذاه وأخرجه يتلّه بعنف؟ فهل من جواب عند الحساب لمن يقرأ (إنّ السكينة تنطق على لسان عمر)؟ فأين غابت عنه تلك السكينة المزعومة حينما هدّد بإحراق بيت فاطمة فقال له الناس: انّ في الدار فاطمة، وهو يعلم ذلك، وإنما قالوا له ذلك تنبيهاً على عظيم الخطر لو تطاير من البيت الشرر، لكن أبا حفص قال: (وإن) غير مبالٍ بما سيكون.
أو ليس من حق القارئ أن يصارح بأنّ الّذين جاؤوا بالحطب والنار وأرادوا إحراق الباب كانوا معتدين ظالمين, وبايذائهما علياً آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقوله: ((من آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله))(5).
ولقوله في فاطمة: ((فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني))(6).
وأيضاً قوله فيها: ((فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها))(7).
وأنكى من ذلك كلّه ما أحزن وأبكى أن يروي البخاري في صحيحه(8)عن أبي بكر قوله: (ارقبوا محمداً(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته)؟
ثم يرد فيه حديث: ((فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني)).
وليتني أدري هل راقب أبو بكر محمداً في أهل بيته، حين أمر عمر بأن يأتي بيت فاطمة(عليها السلام) ليأتيه بعلي وبمن معه, وقال له: فإن أبوا فقاتلهم، كما سيأتي هذا موثقاً في نصوص يجب أن تقرأ بإمعان, وقد جاء عمر كما أمره أبو بكر، وبيده قبس من نار, ويحمل معه الحطب مَنْ جاء معه من الأتباع والأشياع وأصحاب الأطماع، وهو يريد أن يحرق البيت على من فيه، وفاطمة تقول له: ((يابن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بيتي؟)) فيقول لها بكل صلف: نعم, وذلك أقوى فيما جاء به أبوك. فبكت وصاحت: ((يا أبتاه يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟)).
وسيأتي النص موثقاً في الفصل الثالث في (نصوص يجب أن تقرأ بإمعان).
هذا هو مجمل الأحداث التي أودت بحياة السيد السبط المحسن السقط(عليه السلام)، وهو أول ضحايا العنف في أحداث السقيفة.
ولا أحسب إنساناً مسلماً يقرأ ما جرى ثم يعذر الجناة في أفعالهم، إلاّ من استزلّه الشيطان فبقي على ضلاله في مشايعتهم على ظلمهم وأيذائهم النبي(صلى الله عليه وآله) في أهل بيته.
كما لا أظن أحداً يقرأ النصوص الآتية, ثم يحاول مستكبراً أن ينكر ما حدث، وأنّى له ذلك؟ وما يُجديه الإنكار، والحدث أشهر من أن ينكر، وأكبر من أن يستر، فالمصادر كثيرة والأحداث شهيرة، حتى صارت سنة سيئة يحتج بها عند من لا حريجة له في الدين.
وحسبنا شاهد واحد نتلوه عليك، وذلك ما رواه المسعودي في كتابه مروج الذهب من دفاع عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله لما استحوذ على مكّة وأطراف الحجاز، ودعا الناس إلى بيعته بالقهر والإكراه, استنّ بالخالفين قبله ومنهم جدّه لأمّه أبو بكر، فدعا بني هاشم إلى مبايعته, فأبى عليه ابن عباس وابن الحنفية وبقية بني هاشم، فحبسهم في الشعب، وجمع الحطب ليحرقهم إن لم يبايعوا له, لكن الله تعالى أنجاهم بإغاثة جيش المختار الذي أرسله بقيادة أبي عبد الله الجدلي لتخليصهم، فأدركوهم ولمّا أزفت ساعة الحريق فأخرجوهم سالمين، فعاب الناس فعل ابن الزبير ذلك الفعل الشنيع المريع، وخاضوا في ذلك مما جعل عروة بن الزبير يعتذر عن أخيه بقوله: إنّ عمر بن الخطاب أحضر الحطب ليحرق الدار على من تخلّف عن بيعة أبي بكر.
____________
1- سورة الشورى: 23 وانظر الكشاف للزمخشري 4 : 219, وتفسير مفاتيح الغيب للرازي27: 166, ومستدرك الحاكم 3: 172, تجد أنّ الآية الكريمة نـزلت في (عليّ وفاطمة وابناهما). وروى ابن حجر المكي في صواعقه في الفصل الأول من الباب:11 في تفسير الآية:14 من الآيات التي أوردها في فضل أهل البيت فقال: أخرج أحمد والطبراني والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (صلى الله عليه وآله): ((عليّ وفاطمة وابناهما)).
2- الأحزاب: 33؛ راجع كتاب: (عليّ إمام البررة 1: 371 _ 8 _ 4), تجد أسماء الرواة، وقد ناهزوا العشرين، والمصادر وقد نيفت على المائة، كلّها ذكرت اختصاص الآية بالخمسة الأطهار: النبي وعلي والزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام):.
3- جاء في ذخائر العقبى: 18، قال (صلى الله عليه وآله): ((استوصوا بأهل بيتي خيراً، فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار)). أخرجه أبو سعد والملا في سيرته. وجاء في مسند أحمد من حديث أبي سعيد قال (صلى الله عليه وآله): ((إنّي أوشك أن ادعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا فيما تخلفوني فيهما)). وجاء في صواعق ابن حجر: 89 _ 90, نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر, أنّ آخر ما تكلّم به النبي (صلى الله عليه وآله): ((أخلفوني في أهل بيتي)) وهذه هي الوصية الثالثة التي ابتلعها الرواة في حديث الرزية كما في (موسوعة عبد الله بن عباس).
4- تذكرة الخواص: 49، شفاء الغرام: 207، أرجح المطالب: 515 .
5- راجع كتاب (علي إمام البررة) 1: 134 _ 140، و 2: 125 _ 137.
6- ذخائر العقبى: 37، نقله عن الشيخين والترمذي.
7- المصدر نفسه: 37.
8- صحيح البخاري 5 : 21.
source : www.sibtayn.com