من الأصول الفكرية لمعطيات الإيمان أن يكون للحوادث مبررات منطقية وردود مثبتة عقلياً، قريبة من الواقع والتقبل الذهني العام. لا أن تكون الحقائق مبهمة وحكراً لأهل النمط الرفيع بالعقل والتفكير والأفق الواسع (وأعني بهم المؤمنين العارفين)، سيما كون المسألة عقيدة إلهية تناشدُ بأسلوبها تعديل منهجية عموم المسلمين بلا استثناء بعيداً عن الريبة والشك كقضية الإمام الحجة بن الحسن الغائب المنتظر عجل الله فرجه، الذي يكتنف أمره الغموض وجانب عظيم من القدسية في نفس الوقت. فمداخلات وجوده ومبررات غيابه والأدلة على ثبوتهما تعتبر موضوع جدل ونقاش أكثر باحثي ومتطلعي الأمة، لأنه يهدف بالبشرية المحدودة ليطال الجوهر الإنساني والمآل الوجداني، ويحرر الإنسان من الفتك بأخيه الإنسان ويقلب موازين الظلم والمظلمة إلى العدل والحرية والمساواة فكانت دراستنا بطريقة من طرق الاستفهام والإجابة عليها فكانت كما يلي:
السؤال الأول: كيف حصل بقاء الإمام المهدي عليه السلام إلى عمر اکثر من 1170 عام وما الحكمة في ذلك على ضوء العقل والمنطق؟
السؤال الثاني: تقولون إن غياب المهدي حصل نتيجة الخوف عليه من القتل فلماذا لم يمنع عنه الله تعالى ذلك بدل الغيبة والاختفاء سيما وانه مكلف من قبله سبحانه؟.
السؤال الثالث: إذا كان سبب الخوف عليه من الأعداء ظهوره علناً في المجتمع، فلماذا لم يظهر لعموم شيعته فقط سراً لتكون المنفعة منه أعم؟.
السؤال الرابع: هل صحيح أن الإمام يظهر لبعض الناس؟ ولماذا يترك المعاينة للباقين وهو إمامهم؟
السؤال الخامس: هل الرواية وحدها كافية لاثبات وجود الإمام المهدي عليه السلام؟
السؤال السادس: ألا يحتمل أن المهدي يولد في آخر الزمان وتكون شخصيته من مواليد آخر الزمان؟
السؤال السابع: ما هي المصلحة العامة من الغيبة، وما علة وقوعها؟
الجواب
لا يوجد أي تضاد لهذا التفسير عند المختصين في المجالات العلمية لا سيما الطبية والمختبرية منها كما هو شائع ومعروف من قدرة التقنية والعلوم الحديثة أن تبقي بعض خلايا جسم الإنسان ضمن زيادات مسموحة ترفل بالحياة والنشاط، عندها يستخدمون نظام حمية مشددة واتباع نظام خاص بعلم منافع الأعضاء وبرعاية قواعد الحفاظ على الصحة بترتيب تناول نظام غذائي معين. وقد أثبتت التجارب المختبرية ذلك. ومثل هذا التقدم هو حصيلة العلوم المادية، واستطاع العقل البشري القاصر البسيط التحكم في محدودية العمر. فكيف بالخالق البديع الذي كان وراء الخلقة الآدمية، ألا يكون باستطاعته أن يجعلها تعيش لأكثر من المدد المقررة لعلل وأغراض. بل يجعلها لوشاء مخلدة بدون أدنى تأثير على جوانبها الجسدية والنفسية وغيرها.
له نظائر بطول العمر ذكرهم القرآن الكريم والسنة المطهرة والتأريخ أيضاً وأصحاب السير قصصهم مشتهرة ومعروفة بطول الأعمار، كالخضر وإلياس عليهما السلام من أولياء الله يعيشان حيين لحد الآن وعيسى عليه السلام في السماء حياً بعد رفعه إليها ومن أعداء الله إبليس اللعين والأعور الدجال وقد ثبت بقاء كل هؤلاء بالكتاب والسنة.(1)
ونوه التأريخ لغيرهم من( الناس بمثل هذه الحالات الاستثنائية، فعندما تقتضي المشيئة الإلهية فيوجد سبحانه من يشاء لما يشاء.
قضية إلهية كلفه بها الجليل على لسان رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء الأحد عشر من آبائه عليهما السلام، لتكملة نشر الدعوة الإسلامية وتعميمها لشعوب أهل الأرض في الأزمات اللاحقة لأن بها كما يُعلم تنحسر شرائع الدين ويعم الظلم والجور والفوضى والفساد في كل مرافق الأقطار والأمصار. فأستوجب الإبقاء على الإمام بعمر ممتد كعمره الشريف ليعيد القيم والمفاهيم إلى نصابها الصحيح من القسط والعدل كما قال تعالى (وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيء) قال الإمام الصادق عليه السلام هذه الآية نزلت في القائم وأصحابه.(2)
طول الفترة الزمنية تكون كفيلة بإكمال تربية الأجيال بكل النواحي الفكرية والعقائدية والسعي بها نحو التقدم والرقي والصلاح، لتتعاطف مع فكرة الإمام الملحمية اللاحقة، وتستوعب معطياته المبدئية عند ظهوره، لأن من جرائها يتكون منهم اكبر عدد ممكن من الأنصار والمؤيدين المخلصين.
فعلاً حصل ذلك ومنع عنه القتل سبحانه لمرات عديدة، إذ حفظه في بطن أمه ولم يبن لها حمل وعند ولادته أعمى عنه عيون السلطة العباسية وجعل وقت ولادته بعد منتصف الليل في وقت السحر زيادة في احتياطات الأمان وبعدها أمره بالاستتار عن عامة الناس. ويستطيع جل وعلا أن يمنع عنه ذلك، بل ويجعل سيوف وقلوب العالمين وجميع ميول مشاعر الناس وتعاطفهم معه وطوع أمره فأين المصلحة الاعتبارية وجريان الأمور بالمسببات؟ فتلك مفسدة واضحة لا يحسن أن تصدر منه سبحانه لأنها تنافي العلل والأغراض المبدئية في الأرض ومع ذلك لو علم العلي الخبير تحقق المصلحتين العامة والخاصة جراء إظهار المعجزة لما تأخر إطلاقا أن يمنع عنه القتل بمشيئته لأجل تحقق الهدف المراد.
يظهر أن غياب الإمام عليه السلام بهذا الشكل عن عامة الناس وعن أكثر الأولياء والمقربين يكون مستحسنا قطعاً، لأنه تحسب لمنع إفشاء سر الغياب، ولو حصل لهذه الفئة أو لتلك الالتقاء به سراً، لكان احتمال إشاعة نبأ الاجتماع به كبيراً بسبب التحدث فيما بين الأفراد عنه غبطةً وسروراً، فلا يجوز عندئذٍ ضمان عدم تسرب الوشاية به إلى الأعداء. بالإضافة إلى أن الإمام استعمل تلك التقية ليس فقط للخوف على نفسه بل وعلى شيعته أيضاً، إذ لو ظهر إليهم وشوهد من بعض أعدائه أو علم به أحدهم لطولب أوليائه به، فأن فاتهم طلبته لتعرضت شيعته ومواليه لأفدح المكاره والأضرار بسببه وهذا ما لا يرضاه رئيس لأتباعه. وما الأخبار التي تحرم ذكر اسمه والمكان الذي يقطنه على الشيعة إلا من هذا القبيل.
لقد حال الأعداء بين الإمام وبين ظهوره لعامة المسلمين، وحرموا الأمة من فيض علمه ومعرفته وحسن تدبيره لشؤونهم ومباشرته لأعمالهم، فبالرغم من أنه نأى بشخصه عن الأنظار فلن ينقطع منه المدد والفائدة، فقد قيل في الحديث الشريف منفعته المستحصلة في غيبته كمنفعة دخول ضوء الشمس لأهل الأرض عندما يغيبها السحاب.(3) كما نص عليه خبر المعصومين عليهم السلام.
ونحن لا نقطع أنه عليه السلام لا يظهر لجميع أوليائه، لأن أحدنا لا يعلم إلا حال نفسه، فيحتمل منه ذلك لأغلب المخلصين.
نعم كل فرد من حقه أن يعاين الإمام المهدي لأنه إمام كل الأمة ويطلب منه النصح ويستمد منه المعونة. إلا أن المعاينة تلك ترتضخ لضوابط وموازين تطبيق المنهجية الإلهية، ليكون المسلم من الناحيتين الدينية والأخلاقية ناجحاً بصفاتهما الكمالية، وحتمية المداومة عليهما. فقط عندئذٍ يكون العاملون على طريق الاستقامة والاستحقاق للتوجيه والتبرك بالمشاهدة والالتقاء وإن لم يحصل التعارف في كثير من الأحيان، فهي مستويات متفاوتة تخضع لموازين الورع والتقوى وقبول الأعمال والطاعات.
والباقون إذا حصل منهم التقرب استحقوا مثل ذلك بارتفاع الممنوعية عنهم.
إذن فمانع التعرف على الإمام والتشرف بلقاءه، انما هو نحن، وحواجز المظلمة، وأمراض النفوس والتقصير والانحراف، إزاء كل الفروض والوظائف والمستحبات التي يجب القيام بها. ويدعم مقولتنا هذه حديث الإمام الشريف الذي ورد من ناحيته المقدسة بإملائه وخط أحد ثقاته إلى الشيخ المفيد (قدس) قال فيه (ولو ان أشياعنا وفقهم الله لطاعته على الاجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة، وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم).(4)
تواتر الأخبار وتظافرها من العامة والخاصة وتنوع جهاتها وتباين طرقها مع وحدة السند في كثير من الأحيان، وتباعد فترات رواتها الذين عاشوا خلال الحقب والعصور المتعاقبة من زمن دعوة النبي صلى الله عليه وآله لها ولحد هذه اللحظة. كانت من الكثرة ما لا يمكن معها الارتياب والشك.
وأحصي أكثر من ستة آلاف حديث جاءت فقط عن أئمة الهدى عليهم السلام فقط ورد فيها ونحوه أن الإمام الحجة بن الحسن هو المهدي والثاني عشر من ذرية فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب وهو التاسع من صلب الحسين بن علي عليه السلام، سوف يغيب ويظهر وإلى آخره من هذه البينات رغم تحفظهم عليه في حينه (كما نوهن). وقد ورد فقط عن طريق أهل السنة والجماعة أربعمائة حديث، وأن معتمدهم البخاري كان معاصراً للإمام الجواد عليه السلام والإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، ودّون ما ذكروه في صحاحه. فقال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المهدي حق وهو من ولد فاطمة.(5) وأخرج أحاديث كثيرة مثل هذا ونحوه في كتابه فصل الخطاب.
إذن أصبح معلوماً بأننا كما نستدل على كثير من القضايا التشريعية والأحكام المهمة التي ترد عن طريق الأخبار المأثورة كتفاصيل الصلاة والصيام والحج والزكاة، فكذلك نستدل منها أيضاً على صحة ما جاء بخصوص الإمام المهدي عليه السلام بنفس الطريقة والكيفية.
هذا مستحيل لأن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) لن يخيلها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض وبه ينزل الغيث وبه يخرج بركات الأرض وبه....وبه.(6)
وقال الإمام أبو عبد الله عليه السلام لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.(7) راجع مضمون النصوص بهذا المعنى. فهي بالعشرات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الفريقين السنة والشيعة. فهو خليفة لله تعالى في أرضه على خلقه يهديهم ويعلمهم ويرشدهم لئلا تبطل حججه وبيناته عليهم، لأنها لا تقوم إلا بإمام من عنده سبحانه موجود بكل الأوقات يعرفهم الحق من الباطل.
أنظر أبن حجر الهيثمي من علماء أهل السنة فقد أشار في صواعقه المحرقة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وجود ذلك المضمون في أهل بيته، وإنهم أمان لأهل الأرض كما كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) أماناً لهم.(8)
إذا آمنا أن تدبير الله جلت قدرته محض خير ولطف محض وإن لجميع أفعاله في البشر مصلحة خالصة لبني الإنسان ولا يصدر منه سبحانه إلا ما هو صواب، علمنا أن صاحب الأمر (عليه السلام) لم يختف إلا لمتطلبات ظاهرها وباطنها حكمة باهرة بالغة في الأهمية والخطورة، فيها عموم الفائدة والمنفعة وإن كانت حقيقة وجه الغيبة غير ماثلة لنا ولم نعلم عنها إلا في حدود بعض الظواهر.
وأفضل ما نختم به مقالتنا هذه، سنسرد حديث للحجة المهدي عجل الله فرجه يفي بغرض علة وقوع الغيبة، عندما ورد من ناحيته المقدسة توقيعا موجهاً إلى إسحاق بن يعقوب قال فيه (عليه السلام): وأما علة ما وقع من الغيبة فأن الله عز وجل يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) إنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه وإني أخرج حين اخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي..، وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكلا تنفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب، وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء فأغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم ولا تتكلفوا على ما قد كفيتم واكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فأن ذلك فرجكم والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من أتبع الهدى.(9)
المصادر:
1- البيان للحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي ص102
2- المجالس السنية، ص453
3- اعلام الورى، ص452
4- الاحتجاج ج2، ص324
5- التأريخ الكبير ج2، ص314
6- منتخب الأثر ص228
7- أصول الكافي ص179 وفي علل الشرائع ص196
8- الصواعق المحرقة ص233 وص234
9- أعلام الورى ص452
source : .www.rasekhoon.net